أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية والديمقراطية في العالم العربي: جدلية الحداثة والخصوصية الثقافية















المزيد.....


العلمانية والديمقراطية في العالم العربي: جدلية الحداثة والخصوصية الثقافية


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8166 - 2024 / 11 / 19 - 07:54
المحور: السياسة والعلاقات الدولية
    


العلمانية والديمقراطية في العالم العربي هما من أكثر الموضوعات التي تثير الجدل وتفتح بابًا واسعًا للنقاشات العميقة حول مستقبل الحكم وإدارة شؤون المجتمع. في سياق تشكله قرون من التداخل بين الدين والسياسة، يصبح السؤال حول إمكانية الفصل بينهما وضرورة ذلك مطلبًا ملحًا ومعقدًا في آنٍ واحد. فالواقع العربي يتميز بتشابك قوي بين هويات الشعوب الدينية والثقافية، وبين إرث فكري وسياسي يخلط بين السلطة الزمنية والتشريع الديني، مما يجعل الحديث عن تطبيق العلمانية، بمفهومها الكلاسيكي الغربي، موضوعًا يواجه تحديات كبرى، ويفتح بابًا على مصاعب جديدة ترتبط بالهوية والانتماء.

تجربة العالم العربي في التعامل مع العلمانية تختلف عن التجربة الغربية التي نشأت فيها العلمانية كرد فعل على تسلط الكنيسة وأثرها الكبير على الحكم. بينما تسعى العلمانية إلى إقامة نظام حكم يتسم بالحياد تجاه جميع الأديان، بحيث تنحصر مهام الدولة في إدارة الشأن العام بعيدًا عن الانحياز الديني، يتطلب هذا التحول في العالم العربي إعادة النظر في التوازن القائم بين القيم الدينية والدولة المدنية. وهنا تتجسد المعضلة: كيف يمكن بناء نموذج علماني يلائم المجتمعات العربية والإسلامية، التي يُعد فيها الدين مكونًا رئيسيًا للهوية والمجتمع؟

أما الديمقراطية، فهي بدورها طموحٌ يبحث عن مكانه في العالم العربي، ويواجه عقبات جمّة، سواء بسبب صراعات القوى الداخلية، أو تحديات التطرف والعنف، أو حتى مقاومة بعض الأنظمة التي ترى في الديمقراطية تهديدًا لسلطتها واستقرارها. الديمقراطية في جوهرها تقتضي الحرية والمساواة واحترام التعددية، إلا أن تطبيقها في العالم العربي ليس بالأمر السهل، إذ تتطلب تحولات ثقافية وسياسية عميقة، وبناءً مؤسساتيًا جادًا يضمن تفعيلها بصورة عادلة. كذلك، فإن قضايا مثل حقوق الإنسان، واحترام التنوع، وحماية الحريات، تظل قضايا إشكالية تتقاطع فيها العلمانية والديمقراطية، حيث تثير أسئلة حول كيفية إقرار العدالة والحرية في مجتمع يؤمن بالمرجعيات الدينية التقليدية.

في ظل هذه التحديات، تنبثق أسئلة جوهرية حول مستقبل الدولة العربية، وهل يمكن للعالم العربي أن يبني نموذجًا يتسق مع قيمه الثقافية والدينية، ويحقق في ذات الوقت حرية التعبير وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية. فهل يمكن التوفيق بين العلمانية والديمقراطية في مجتمع يقدس تراثه الديني؟ وهل تستطيع الأنظمة السياسية العربية تبني نموذج علماني ديمقراطي دون المساس بهويتها؟ وهل يمكن الوصول إلى نظام يحقق التوازن بين الانفتاح على العلمانية واحترام الخصوصية الثقافية؟ وكيف تنظر النخب الحاكمة في العالم العربي إلى العلمانية كنظام للحكم؟ هذه الأسئلة، وغيرها، تستدعي التفكير بعمق في الخيارات المتاحة، والتأمل في مستقبل النظم السياسية العربية بين العلمانية والديمقراطية، وما يرافقها من تحديات وآمال.

هل تتفق فكرة العلمانية مع الديمقراطية؟
إن موضوع العلمانية ومدى انسجامها أو تعارضها مع الديمقراطية من أهم النقاشات الفلسفية والسياسية التي استمرت على مدى قرون. يثير هذا الموضوع تساؤلات حول كيفية تنظيم العلاقة بين الدين والسياسة، وتأثير ذلك على حقوق الأفراد والمجتمع ككل. تتطلب الإجابة الشاملة النظر في التعريفات، السياقات التاريخية، الممارسات في الدول المختلفة، والأبعاد النظرية.

أولاً: تعريف العلمانية والديمقراطية

العلمانية هي مبدأ فصل الدين عن شؤون الدولة، بحيث لا يتم تسيير شؤون الدولة بناءً على معتقدات دينية أو مواقف دينية. تهدف العلمانية إلى حماية حقوق الأفراد في الاعتقاد أو عدم الاعتقاد، وضمان الحياد الديني في المؤسسات العامة.

الديمقراطية هي نظام حكم يستند إلى سيادة الشعب، ويقوم على مبادئ مثل حرية التعبير، حكم القانون، وحق الانتخاب. يُنظر للديمقراطية كوسيلة لتحقيق المشاركة الشعبية في صناعة القرارات وتجنب الحكم الاستبدادي.

ثانياً: أوجه الالتقاء بين العلمانية والديمقراطية

الحرية الفردية: تهدف العلمانية إلى ضمان الحريات الدينية والفكرية لجميع الأفراد دون تمييز. هذا يتماشى مع الديمقراطية التي تُشجع على الحريات الفردية وحق المواطن في اختيار معتقداته دون ضغط من السلطات.

التعددية: تمثل التعددية قيمة أساسية في الديمقراطية، حيث يتعايش الناس باختلافاتهم الفكرية والدينية والسياسية. العلمانية بدورها تهيئ بيئة تسمح بالتعددية من خلال تأكيد حياد الدولة تجاه جميع الأديان والمعتقدات.

حماية حقوق الأقليات: توفر العلمانية حماية لحقوق الأقليات من تدخل الدولة الديني، مما يتماشى مع الديمقراطية التي تُعلي من شأن حقوق الإنسان وتسعى لحماية حقوق الأقلية من تسلط الأغلبية.

ثالثاً: أوجه التعارض المفترضة بين العلمانية والديمقراطية

التدخل في الشؤون الدينية: يرى البعض أن العلمانية تُجرد المجتمع من أبعاده الدينية، في حين يرى آخرون أن الديمقراطية يجب أن تتيح للأفراد حرية التعبير عن آرائهم الدينية في المجال العام. هذا قد يُعتبر تناقضاً، خاصة إذا تضمنت القوانين العلمانية قيوداً على الرموز الدينية في المجال العام.

التعددية الدينية: في المجتمعات التي تكون فيها الدين مكوناً أساسياً للهوية الثقافية والسياسية، قد يُنظر إلى العلمانية كأداة لتهميش الدين، وبالتالي تضييق مجال الديمقراطية. فالتطبيق الصارم للعلمانية قد يؤدي إلى استبعاد الجماعات الدينية من الحياة السياسية العامة، مما قد يُعتبر انتهاكاً لمبادئ الديمقراطية في بعض السياقات.

مشكلة السيادة: من الإشكالات الجوهرية تتعلق بمفهوم "السيادة" في الديمقراطية، حيث يرى بعض الدينيين أن "السيادة لله" وحده، وليس للشعب أو مؤسسات الدولة. وبهذا الفهم، يرون أن الديمقراطية قد تكون غير متوافقة مع العقائد التي تضع السيادة لله.

رابعاً: تطبيقات عملية للعلمانية والديمقراطية

النموذج الفرنسي: فرنسا تمثل نموذجًا صارمًا للعلمانية، حيث يُحظر إظهار الرموز الدينية في المدارس والمؤسسات الحكومية، حفاظًا على حيادية الدولة. ومع ذلك، تواجه فرنسا انتقادات من جماعات حقوق الإنسان وبعض الأقليات الدينية، حيث يُعتبر ذلك تضييقًا على حرية التعبير والاعتقاد.

النموذج الأمريكي: الولايات المتحدة تتبع نموذجًا ليبراليًا، يسمح بحرية ممارسة الدين، مع التأكيد على عدم تدخل الحكومة في الشؤون الدينية. يتم التعامل مع العلمانية على أنها تحمي حقوق الأفراد والمؤسسات في التعبير الديني، بما يتوافق مع مبادئ الديمقراطية في التعبير والمشاركة.

النماذج في الدول الإسلامية: في بعض الدول الإسلامية مثل تركيا (قبل التحولات الأخيرة)، كان هناك فصل بين الدين والدولة. ولكن بسبب الطبيعة الثقافية للمجتمع، يتم الإبقاء على مرونة معينة تسمح للمواطنين بالتعبير عن هويتهم الدينية، وفي نفس الوقت الحفاظ على الطابع العلماني للدولة.

خامساً: العلمانية والديمقراطية في السياقات الإسلامية

يثير الحديث عن العلمانية في الدول الإسلامية تساؤلات إضافية حول مدى توافق هذا النموذج مع القيم الإسلامية. فالبعض يرى أن الدين الإسلامي يتضمن منظومة تشريعية شاملة تغطي مختلف جوانب الحياة، وبالتالي فإن أي تطبيق للعلمانية سيعتبره البعض مساسًا بالشريعة. لكن في المقابل، هناك من يرى أن الإسلام لا يتعارض مع الديمقراطية، وأن هناك إمكانية لدمج القيم الديمقراطية مع المبادئ الإسلامية، بما يسمح بالتعددية وحرية الاعتقاد في سياق إسلامي.

سادساً: ختاماً - العلمانية والديمقراطية: تكامل أم تنافر؟

لا يمكن القول إن العلمانية تتعارض بشكل قاطع مع الديمقراطية، بل يمكن اعتبارهما متكاملتين إذا ما تم فهمهما ضمن سياقات مجتمعية مرنة، حيث يمكن للعلمانية أن تضمن الحياد الديني للدولة، بينما تؤكد الديمقراطية على حق الأفراد في التعبير والمشاركة. ومع ذلك، يعتمد هذا التكامل على كيفية تطبيق العلمانية وتفسيرها في كل سياق على حدة، وما إذا كانت الدولة تُحترم حقوق الأفراد ومعتقداتهم أو تُقيِّدهم تحت مسمى العلمانية.

وفي المجمل، تظل هذه المسألة قابلة للنقاش، وتتطلب معالجة دقيقة تراعي خصوصية كل مجتمع، وتأخذ في الاعتبار أهمية تحقيق التوازن بين حرية الاعتقاد الديني من جهة، وضرورة وجود إطار تشريعي يحافظ على حقوق الجميع بشكل عادل ومحايد من جهة أخرى.

الانتقادات الموجهة للعلمانية في الأوساط الفكرية العربية

العلمانية تواجه انتقادات حادة في الأوساط الفكرية العربية لأسباب تتعلق بارتباطها بالتراث الفكري والسياسي الغربي، وبتحديها لمكانة الدين في الحياة العامة. هذه الانتقادات تستند إلى جوانب تاريخية، ثقافية، دينية، وأحيانًا سياسية، إذ يراها بعض المفكرين بمثابة تهديد للهوية الإسلامية والثقافية للعالم العربي. هنا أبرز الانتقادات الموجهة للعلمانية في الأوساط الفكرية العربية:

1. المسألة الدينية: التناقض مع القيم الإسلامية

ينظر العديد من المفكرين الإسلاميين إلى العلمانية على أنها مفهوم يتعارض مع الإسلام، إذ يرون أن الدين في الإسلام ليس مسألة شخصية فقط بل هو نظام شامل يشمل جميع جوانب الحياة، بما فيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. من هذا المنطلق، يُعتبر فصل الدين عن الدولة انتهاكًا لهذا المبدأ الأساسي، وتغييبًا لما يرونه دستورًا إلهيًا شاملًا يجب أن يحكم جميع جوانب الحياة.

كما يعتبر بعض المفكرين أن العلمانية تستند إلى مبدأ "السيادة المطلقة" للشعب أو الدولة، ما يراه البعض تعارضًا مع "السيادة الإلهية" التي يؤمنون بها. هذا النقد يظهر بوضوح في الطروحات الإسلامية التي ترى أن الشريعة الإسلامية يجب أن تكون المرجع الأول للقوانين والتشريعات.

2. الرفض الثقافي: اعتقاد بأنها "مستوردة" من الغرب

يرى الكثير من المفكرين العرب أن العلمانية تمثل نموذجًا غربيًا غريبًا عن القيم العربية والإسلامية. يعتبرونها "مستوردة" من تجربة أوروبية، حيث تم فصل الدين عن الدولة بعد صراعات دموية بين الكنيسة والسلطة، وهو سياق يختلف عن التاريخ العربي والإسلامي. من هذا المنطلق، يُعتبر فرض العلمانية على المجتمعات العربية إعادة إنتاج لتجربة ثقافية لا تتماشى مع الواقع العربي.

هذا النقد يتطرق أيضًا إلى اتهام العلمانية بأنها تمثل "استعمارًا فكريًا" يهدف إلى استبدال الهوية الثقافية والدينية العربية بقيم غربية تفتقر إلى الروحانية وتؤدي إلى التغريب والانحلال الأخلاقي.

3. المخاوف الأخلاقية والاجتماعية: رؤية العلمانية كخطر على القيم الاجتماعية

يُتهم النظام العلماني بأنه يدعم الفردانية ويضعف القيم الجماعية والعائلية التي تتمتع بها المجتمعات العربية، مما يؤدي إلى انحلال الأخلاق وتفكك الأسرة، حسب رأي بعض المفكرين. فالعلمانية ترتكز على الحرية الفردية، التي يعتبرها البعض أداة لتعزيز السلوكيات التي لا تتفق مع الثقافة العربية التقليدية، مثل دعم حقوق المثليين أو تعزيز الحريات الشخصية بطرق قد يراها المجتمع العربي مرفوضة.

بالإضافة إلى ذلك، يُنظر إلى العلمانية على أنها تحرر الفرد من القيود الدينية، ما يؤدي إلى انتشار النمط الاستهلاكي المادي ويبعد الناس عن القيم الروحية والدينية التي تعتبر جزءًا من الهوية العربية.

4. فقدان الهوية العربية والإسلامية

تُعتبر العلمانية من قِبل منتقديها تهديدًا للهوية العربية والإسلامية، إذ يتم تصويرها كأداة لتحييد دور الدين في تشكيل هوية المجتمع. يعتقد بعض المفكرين أن العلمانية إذا طُبقت، ستُضعف القيم الإسلامية وسيُستبدل النظام القيمي المستمد من الدين بنظام قيمي مختلف وغربي.

كما يرى منتقدو العلمانية أن الهوية العربية والإسلامية لا تتطلب فصل الدين عن الدولة، بل إن الدين هو جزء أساسي من الهوية الثقافية والحضارية للأمة العربية، وبالتالي، فإن أي محاولة لتطبيق العلمانية ستؤدي إلى فقدان هذه الهوية.

5. الخوف من الاستبداد باسم العلمانية

يشير بعض المفكرين العرب إلى تجارب دول علمانية اتسمت بأنظمة استبدادية، حيث استُخدمت العلمانية كذريعة لقمع الحريات الدينية والسياسية. على سبيل المثال، في تركيا خلال عهد كمال أتاتورك، وفي بعض الدول العربية التي شهدت سياسات علمانية، تم فرض العلمانية بطريقة قسرية على الناس، وتم تقييد حرياتهم الدينية، ما خلق ردود فعل شعبية قوية ضد العلمانية.

يشير هؤلاء النقاد إلى أن العلمانية في العالم العربي قد تُستخدم كذريعة للقمع والاستبداد، وذلك تحت شعار "فصل الدين عن الدولة". ومن ثم، يرون أن العلمانية ليست بالضرورة مرادفًا للحرية والديمقراطية.

6. الازدواجية الثقافية والنخبوية

بعض المفكرين العرب يرون أن الترويج للعلمانية يأتي غالبًا من النخب الثقافية التي تلقت تعليمًا غربيًا، وتعيش بشكل منعزل عن مشكلات الطبقات الشعبية. هذا التصور يجعل العلمانية تبدو وكأنها "فكرة نخبوية" لا تمت بصلة إلى الواقع اليومي للشعوب. ينتقد هؤلاء النقاد انقطاع النخب الداعية للعلمانية عن قضايا المجتمع، واهتمامها بمفاهيم تبدو بالنسبة للجماهير مستوردة ومعقدة، ولا تمس القضايا الحياتية الملحة.

7. التعارض مع الديمقراطية في السياق العربي

يشير بعض النقاد إلى أن تطبيق العلمانية في المجتمعات العربية قد يتعارض مع الديمقراطية، وذلك لعدة أسباب. أولاً، يرون أن العلمانية قد تُفرض في بعض الدول دون توافق مجتمعي حقيقي، مما يُعتبر انتهاكًا لإرادة الشعب. ثانيًا، يرى هؤلاء النقاد أن بعض العلمانيين يقفون ضد الديمقراطية في حال جاءت نتائج الانتخابات لصالح أحزاب إسلامية، كما حدث في حالات عدة بعد الربيع العربي، ما يُظهر العلمانية كأنها توجه يقف ضد رغبات الشعوب حين تتعارض مع مشروعها.

وبشكل عام، تتعدد الانتقادات للعلمانية في الأوساط الفكرية العربية، بين مخاوف دينية، ثقافية، وأخلاقية، وكذلك سياسية. يرى البعض أن العلمانية غير ملائمة للواقع العربي، حيث تتعارض مع القيم الدينية والثقافية وتُمثل خطرًا على الهوية الاجتماعية. بالنسبة لهؤلاء النقاد، فالتحدي الحقيقي يكمن في إيجاد حلول سياسية واجتماعية تتماشى مع القيم المحلية، وتعتمد على حوار حقيقي يأخذ في الاعتبار المخاوف التي أثارتها هذه الانتقادات.

كيف تنظر النخب الحاكمة في العالم العربي إلى العلمانية كنظام للحكم؟

النخب الحاكمة في العالم العربي تتبنى مواقف متباينة تجاه العلمانية كنظام للحكم، تختلف وفق السياق السياسي، والخلفية الاجتماعية والدينية لكل دولة. غالبًا ما تتراوح مواقفها بين الرفض الجزئي أو الكلي للعلمانية وبين القبول ببعض جوانبها في سياقات معينة. إليك كيف تنظر النخب الحاكمة إلى العلمانية في العالم العربي:

1. النخب الحاكمة التقليدية - التحفظ على العلمانية الكاملة

في العديد من الدول العربية ذات الطابع الديني القوي، تُبدي النخب الحاكمة تحفظات واضحة تجاه تطبيق العلمانية كليًا، إذ تعتبرها تهديدًا لمكانة الدين كمصدر للشرعية السياسية والاجتماعية. فالدين، خاصة في الدول ذات الأنظمة الملكية، يُعتبر أحد ركائز الحكم وأساسًا لتماسك المجتمع. في هذه الدول، يتبنى الحكام توجهات تُبقي على الطابع الديني للدولة، وتروج للتقاليد الدينية كجزء من هوية الأمة.

يعتبر الحكام في هذه الدول أن العلمانية قد تؤدي إلى إضعاف دور الدين في المجتمع وتفكيك الشرعية الدينية للنظام، لذلك ينظرون إليها بريبة ويفضلون الابتعاد عنها.

2. الأنظمة العسكرية وبعض الجمهوريات - العلمانية كوسيلة لتحقيق الاستقرار والسيطرة

بعض النخب الحاكمة، خصوصًا في الدول ذات الأنظمة العسكرية أو الجمهوريات، تتبنى نهجًا انتقائيًا تجاه العلمانية، حيث تستخدمها كوسيلة لتحقيق استقرار النظام وتثبيت السلطة، وليس كقناعة حقيقية بفصل الدين عن الدولة. تعتمد هذه الأنظمة على العلمانية لتحييد نفوذ القوى الدينية المعارضة، ومنع الحركات الإسلامية من الاستفادة من الدين في الحشد السياسي.

من أمثلة ذلك، أنظمة الحكم في بعض الجمهوريات العربية التي فرضت أنماطًا علمانية إلى حد ما، مثل مصر في فترة حكم جمال عبد الناصر، أو سوريا في ظل حزب البعث. هذه الأنظمة لجأت إلى العلمانية جزئيًا لمنع الحركات الإسلامية من الوصول إلى السلطة، وتبنت سياسات تهدف إلى تقليص التأثير الديني على الحياة السياسية.

3. النخب العلمانية - الدعوة إلى علمانية انتقائية تتماشى مع السياق العربي

توجد فئة من النخب الحاكمة التي تتبنى خطابًا علمانيًا لكنها تدعو لعلمانية "مرنة" أو "جزئية" تتلاءم مع الخصوصية الثقافية والدينية للمجتمع العربي. هذه النخب غالبًا ما تكون نخبوية ومنفتحة على الغرب، وتحاول دمج بعض جوانب العلمانية مثل حرية المعتقدات واحترام حقوق الأفراد، دون أن تفصل الدين تمامًا عن الدولة.

قد تدعم هذه النخب الحاكمة إصلاحات في التعليم أو قضايا حقوق الإنسان، لكن تظل حذرة من أي نهج علماني شامل قد يُنظر إليه على أنه معادٍ للدين أو مخالف للهوية العربية والإسلامية. يرى هؤلاء أن العلمانية الجزئية قد تساعد في تنظيم الحياة السياسية وتحديث الدولة، مع احترام الأطر الدينية والثقافية.

4. النخب الحاكمة ذات التوجه الإسلامي - رفض العلمانية كليًا

في بعض الدول العربية، حيث تلعب الأحزاب الإسلامية دورًا رئيسيًا في الحكم، تُرفض العلمانية بشكل كامل. ترى هذه النخب الحاكمة أن العلمانية تتناقض مع الشريعة الإسلامية وتفصل الدين عن الحياة العامة، ما يعني تهميش القيم الدينية الإسلامية وإقصاءها عن صنع القرار. بالنسبة لهذه النخب، الإسلام يمثل نظامًا شاملاً يغطي جوانب الحياة المختلفة، وبالتالي يجب أن يكون الدين جزءًا من نظام الحكم.

بعض النماذج لهذا الموقف تتمثل في دول مثل السودان في فترات حكم الإسلاميين، حيث سعت النخب الحاكمة لفرض الشريعة الإسلامية كأساس للدولة، واعتبرت العلمانية مشروعًا غربيًا لا يتماشى مع القيم الإسلامية.

5. التطبيقات العملية للعلمانية - تناقض بين الخطاب والممارسة

في بعض الدول العربية، تُستخدم العلمانية بشكل انتقائي لتحقيق أهداف سياسية أو لتعزيز صورة الدولة أمام المجتمع الدولي، خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحقوق المرأة. بعض الأنظمة العربية تروج للعناصر العلمانية من خلال قوانين مدنية أو إصلاحات اجتماعية تهدف لتحسين صورة الدولة كدولة حديثة أمام الغرب، لكنها لا تطبق العلمانية بشكل حقيقي.

في هذه الحالات، قد تتبنى الدولة قوانين تسمح بحرية العقيدة إلى حد ما، أو تدعم حقوق النساء، لكن هذه الإجراءات تظل سطحية ولا تمس الطبيعة الدينية للنظام أو الطابع الثقافي السائد.

6. العلمانية كأداة لمحاربة التطرف الديني

في بعض الحالات، تنظر النخب الحاكمة إلى العلمانية كوسيلة لمكافحة التطرف الديني، حيث تستخدم الدولة مبدأ "حيادية الدولة" تجاه الأديان لمواجهة الجماعات المتطرفة التي تسعى لاستخدام الدين للوصول إلى السلطة. هذا التوجه يُعد دفاعًا عن النظام أكثر من كونه التزامًا علمانيًا حقيقيًا، لكنه يستخدم العلمانية لضبط المجال الديني والتحكم فيه.

بعض الدول التي شهدت صراعات مع جماعات متطرفة تجد في العلمانية وسيلة لإبعاد تأثير الدين عن السياسة وحماية استقرار النظام، دون أن تتبنى علمانية شاملة أو حقيقية.

في العموم، تتبنى النخب الحاكمة في العالم العربي مواقف مختلفة تجاه العلمانية، بناءً على طبيعة النظام السياسي والسياق الاجتماعي والديني لكل دولة. تتنوع هذه المواقف بين الرفض الكامل، وبين العلمانية الجزئية أو المرنة التي تسمح ببعض الحريات الدينية وتخفيف سيطرة الدين على المجال العام، إلى الاستفادة الانتقائية من العلمانية كأداة سياسية. و على الرغم من التباينات، تظل النخب الحاكمة في معظم الحالات حذرة من العلمانية الكاملة، نظراً لمخاوفها من فقدان الشرعية، أو من ردود فعل شعبية رافضة. أما العلمانية الجزئية والمرنة، فتجد بعض القبول كحل وسط يتماشى مع الخصوصية الثقافية للعالم العربي.

ختامًا، يبقى الحديث عن العلمانية والديمقراطية في العالم العربي حديثًا ذا أبعاد متعددة ومعقدة، يتشابك فيها البعد السياسي بالاجتماعي، والديني بالثقافي. إن المجتمعات العربية، التي تشكلت هويتها عبر قرون من التفاعل الوثيق مع الدين والثقافة الإسلامية، تقف اليوم أمام تحدٍّ عظيم: كيف تحقق تنمية سياسية واجتماعية تواكب العصر دون أن تتخلى عن عمقها الروحي وتقاليدها الثقافية.

إن بناء نموذج عربي يجمع بين الديمقراطية والاعتراف بالقيم الدينية والثقافية ليس مجرد حلم، بل هو ضرورة تفرضها الخصوصية التاريخية لهذه المجتمعات. فلا يمكن أن تترسخ الديمقراطية في تربة عربية إذا ما تعارضت مع أسس الهوية ومعاني الانتماء، بل يجب أن تتكامل مع هذه الأسس وتستمد منها الشرعية والقبول الشعبي.

ربما يكون الحل الحقيقي في صياغة رؤية جديدة تجعل من الدين قوة ملهمة للقيم الإنسانية والأخلاقية، ومن الديمقراطية وسيلة لتعزيز العدالة والكرامة، بحيث يكون النظام السياسي معبرًا عن روح الأمة، وليس مجرد نسخة من نماذج غريبة عنها. بهذا فقط، قد تجد الشعوب العربية طريقها نحو التقدم، محتفظة بجوهرها ومحققة لمكانتها في عالم يتسع للجميع.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- العلمانية: بين أفق التنوير وصراع الهوية الدينية
- الله خالق كل شيء: مقاربة فكرية لأحد أهم الإشكاليات الكلامية ...
- السينما النسوية المتطرفة: كسر الصمت وإعادة صياغة السرديات
- الخلود في الفضاء الرقمي: إعادة صياغة مفهوم الموت والذاكرة
- معضلة الشر: قراءة فلسفية في عدل الله وحريّة الإنسان
- أزمة ما بعد الحداثة: بين سطوة الواقع الفائق وشبكات السلطة ال ...
- أزمة ما بعد الحداثة: بين سطوة الواقع الفائق وشبكات السلطة ال ...
- الدولة بين النظرية والواقع: تحليل فلسفي للرؤية الماركسية
- الأمن القومي العربي: تحديات العصر وفرص التحول الاستراتيجي
- اليسار في العالم العربي: قراءة نقدية لتراجع المشروع الاشتراك ...
- دور الفلسفة في تفسير التاريخ: من بن خلدون إلى هيجل وماركس
- موت الإله: جدلية الفراغ والمعنى في الفكر الأوروبي والإسلامي
- إشكالية الصلب والفداء: مقاربة فلسفية للعلاقة بين المسؤولية ا ...
- فلسفة التاريخ: أسئلة حول الزمن ومعنى الوجود الإنساني
- الإنسان بين الجبر والاختيار: قراءة مقارنة في رؤى المعتزلة وا ...
- الفلسفة النسوية في العالم العربي: جدلية التحرر والتحديات الث ...
- فلسفة ما بعد الحداثة: من التفكيك إلى إعادة تعريف العقل والحق ...
- الليبرالية عبر العصور: فلسفة الحرية وتحديات التطبيق
- صراع الهوية والمصير: جدلية التوجهات القومية والإسلامية في ال ...
- الهوية العربية على مفترق الطرق: تحديات الحاضر وآمال المستقبل


المزيد.....




- وسط تصاعد العنف والتهديدات... أطباء بلا حدود تعلق عملياتها ف ...
- جنوب لبنان.. معارك بين الجيش الإسرائيلي وحزب الله في الخيام  ...
- -مؤامرة التسميم-: الكشف عن تفاصيل خطة اغتيال الرئيس البرازيل ...
- ممثل أمريكي يرفض الترويج لـ-ستاربكس- خلال حدث برعايتها (فيدي ...
- -بلومبرغ-: ترامب قد يبدأ المفاوضات مع روسيا مع الأخذ في الاع ...
- هوكستين: لن أتحدث علنا عن نتيجة المفاوضات وسأتوجه إلى إسرائي ...
- مدير مشفى كمال عدوان: نناشد العالم نعاني من حصار مطبق والمشه ...
- الروس على رأس القائمة.. ارتفاع عدد السياح في مصر
- ضربة صاروخية تستهدف فرقة تكتيكية للقوات الأوكرانية في مقاطعة ...
- الدفاع الروسية: تصفية مجموعة قوات أوكرانية محاصرة في كورسك


المزيد.....

- افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار ... / حاتم الجوهرى
- الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن / مرزوق الحلالي
- أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا ... / مجدى عبد الهادى
- الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال ... / ياسر سعد السلوم
- التّعاون وضبط النفس  من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة ... / حامد فضل الله
- إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية / حامد فضل الله
- دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل ... / بشار سلوت
- أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث / الاء ناصر باكير
- اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم / علاء هادي الحطاب
- اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد ... / علاء هادي الحطاب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - السياسة والعلاقات الدولية - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية والديمقراطية في العالم العربي: جدلية الحداثة والخصوصية الثقافية