أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام موسي - الفعل التمثيلي بين المراقبة والتفسير: دراسة فلسفية وثقافية















المزيد.....

الفعل التمثيلي بين المراقبة والتفسير: دراسة فلسفية وثقافية


حسام موسي
كاتب وباحث وناقد ومؤلف مسرحي مصري


الحوار المتمدن-العدد: 8165 - 2024 / 11 / 18 - 23:41
المحور: الادب والفن
    


يُعد الفعل التمثيلي جوهر الفنون الأدائية والمسرحية، حيث يتجاوز كونه مجرد حركة جسدية أو نطق بالكلمات ليصبح فعلًا مراقبًا ومفسرًا من قبل جمهور يشارك في إعادة إنتاجه وتفسيره ضمن سياق ثقافي معين. هذا التفاعل بين الممثل والجمهور يعكس الديناميكيات الاجتماعية والثقافية، حيث يخضع الفعل التمثيلي لمعايير تتشكل وفق القيم الأخلاقية والفني للمجتمع. تتباين هذه المعايير مع الزمن، إذ لا يقتصر التغيير على التحرر والتقدم، بل قد ينحدر نحو مزيد من القيود والتراجع. إذًا، كيف يساهم الفعل التمثيلي في عكس الثقافة الاجتماعية؟ وكيف تختلف تعريفاته وتأثيراته بناءً على السياق الزمني والمكاني؟

الفعل التمثيلي: من أرسطو إلى التحولات الحديثة
عند أرسطو، يُعرّف الفعل (Praxis) بوصفه نشاطًا إنسانيًا واعيًا ومقصودًا يسعى لتحقيق الخير أو الكمال الأخلاقي. يمثل هذا الفعل جوهر الوجود الإنساني، حيث لا يُقاس بالنتائج المادية بقدر ما يُقاس بالقيمة الأخلاقية والغاية المتحققة من ورائه. في كتابه فن الشعر، يضع أرسطو الفعل في قلب التراجيديا، بوصفه العنصر الأساسي الذي تُبنى حوله الأحداث الدرامية، ويُظهر من خلاله الشخصية الرئيسية قراراتها وأخلاقياتها. الفعل هنا ليس مجرد حركة أو حدث، بل انعكاس لصراع داخلي يدفع الشخصية لاتخاذ قرار يؤدي إلى تغير في مسار الأحداث، مما يُثير مشاعر الشفقة والخوف في الجمهور. الهدف النهائي، وفقًا لأرسطو، هو تحقيق ما أسماه بالتطهير (Katharsis)، وهو عملية نفسية يُنقي من خلالها الجمهور عواطفه من خلال التماهي مع الشخصيات.
يشترط أرسطو أن يكون الفعل التراجيدي متماسكًا وذا علاقة عضوية ببنية الحبكة، فلا يحدث صدفة أو عشوائيًا، بل يجب أن ينبع من طبيعة الشخصية وصراعها مع الظروف المحيطة بها. فعلى سبيل المثال، في مسرحية أوديب ملكاً لسوفوكليس، فإن قرارات أوديب وفعله الأساسي بالبحث عن الحقيقة، رغم نيته النبيلة، يؤدي إلى مصيره المأساوي، مما يعكس مفهوم أرسطو عن العلاقة الحتمية بين الفعل الأخلاقي والنتائج. ولكن هل يظل تعريف أرسطو للفعل التمثيلي مناسبًا في سياقات ثقافية معاصرة تختلف في طبيعتها؟
مع تطور الفكر المسرحي، ظهرت تعريفات جديدة للفعل التمثيلي تتجاوز النظرة الأرسطية التقليدية، لتأخذ في اعتبارها السياقات الاجتماعية والثقافية.

تحولات الحداثة: من التحليل الفكري إلى التجربة الحسية
مع تطور الفكر المسرحي، ظهر اتجاهان رئيسيان يعيدان تعريف الفعل التمثيلي:
1. بيرتولت بريشت: الفعل كتحليل فكري
عند عالم المسرح الألماني بيرتولت بريشت، يتحول الفعل التمثيلي من مجرد وسيلة لإثارة المشاعر إلى أداة للتحليل الفكري. بريشت، الذي يُعتبر أحد أعمدة المسرح الملحمي، يرى أن الفعل التمثيلي يجب أن يُحدث وعيًا نقديًا لدى الجمهور، مما يدفعهم للتفكير في المشكلات الاجتماعية والسياسية بدلاً من الاندماج العاطفي. لتحقيق ذلك، طوّر بريشت تقنية "التغريب" (Verfremdungseffekt)، وهي كسر الإيهام المسرحي من خلال استخدام تقنيات مثل التعليق المباشر على الأحداث، أو تسليط الضوء على أساليب الأداء، مما يجعل الجمهور يدرك أنه يشاهد تمثيلًا وليس واقعًا. فعلى سبيل المثال، في مسرحيته الأم شجاعة وأبناؤها، تُعرض شخصية الأم كمزيج من التعاطف والأنانية، مما يجبر الجمهور على التفكير في المعاني الرمزية للفعل التمثيلي وعلاقته بالواقع.

2. أنتونان آرتو: الفعل كتجربة حسية شاملة
في المقابل، ينظر أنتونان آرتو، رائد مسرح القسوة (Theatre of Cruelty)، إلى الفعل التمثيلي بوصفه شعيرة طقسية تهدف إلى الوصول إلى أعمق مستويات الوعي البشري. بالنسبة لآرتو، الفعل التمثيلي ليس مجرد انعكاس للواقع أو أداة للتفكير، بل هو تجربة حسية شاملة تستخدم الجسد والصوت والإضاءة لإحداث تأثير قوي ومباشر على المتلقي. المسرح عند آرتو وسيلة لإحداث صدمة عاطفية وفكرية تُحرر الجمهور من القيود الثقافية والنفسية. كيف يمكن أن تسهم الفوارق بين التحليل الفكري لبريشت والتجربة الحسية لآرتو في فهمنا للفعل التمثيلي؟
بين بريشت وآرتو، تتضح الفوارق الجوهرية بين التحليل الفكري والتجربة الحسية، مما يُبرز أبعادًا متعددة للفعل التمثيلي.

ريتشارد ششنر: الفعل التمثيلي كأداء اجتماعي
تُظهر التعريفات الحديثة للفعل التمثيلي، كما في نظريات ريتشارد ششنر، أن الفعل المسرحي يتجاوز خشبة المسرح ليشمل جميع أشكال الأداء البشري. يرى ششنر أن كل فعل اجتماعي يحمل جانبًا أدائيًا، سواء كان ذلك في السياسة أو الطقوس أو حتى الحياة اليومية. بناءً على هذا المفهوم، فإن الفعل التمثيلي لا ينحصر في إنتاج مسرحي، بل يمكن أن يعبر عن قيم ثقافية وأخلاقية من خلال طقوس وعروض تعكس هوية المجتمعات.

الفعل التمثيلي عبر العصور: مرآة للتغير الثقافي
بين الطقوس الإغريقية والمسرح الديني:
يتأثر الفعل التمثيلي بعمق بطبيعة المجتمع الذي يُعرض فيه، حيث يعكس القيم الأخلاقية والفنية والسياسية السائدة. كل مجتمع يضفي على الفعل التمثيلي طابعه الخاص الذي ينسجم مع تطلعاته وتحدياته، مما يجعل المسرح مرآةً لتلك المجتمعات عبر العصور. فإلى أي مدى تعكس تحولات الفعل التمثيلي تطور الديناميكيات الاجتماعية؟
في المسرح الإغريقي القديم، كان الفعل التمثيلي مرتبطًا بطقوس دينية وشعائر مقدسة موجهة لعبادة الآلهة، وخاصة ديونيسوس، إله الخمر والخصوبة. الأعمال التراجيدية لأمثال أيسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس كانت تعكس القيم الاجتماعية والسياسية للمجتمع الأثيني. مسرحية أجاممنون لأيسخيلوس، على سبيل المثال، تقدم صراعات السلطة والمصير في إطار يبرز القيم الأخلاقية والدينية مثل الالتزام بالعائلة واحترام الآلهة. هذه الأعمال، رغم طابعها الأسطوري، كانت تعكس هموم المجتمع الأثيني بشأن الديمقراطية والحرب والسلام. كما رأينا في المسرح الإغريقي، فإن الفعل التمثيلي يعكس القيم الاجتماعية السائدة. هل ينطبق هذا التحليل على سياقات معاصرة؟ وكيف تختلف هذه التفسيرات اليوم في ظل تطور التكنولوجيا وتأثير العولمة.
في العصور الوسطى الأوروبية، خضع الفعل التمثيلي لهيمنة الكنيسة، حيث كانت المسرحيات الدينية تسعى إلى تعزيز الإيمان المسيحي ونشر القيم الكنسية. تمثلت هذه الأفعال في مسرحيات الأسرار والأخلاق التي كانت تقدم قصصًا مستوحاة من الكتاب المقدس وأمثلة على الصراع بين الفضيلة والخطيئة. هذه المسرحيات، مثل كل إنسان Everyman، كانت خاضعة لرقابة صارمة، تعكس قوة الكنيسة ودورها المهيمن في تشكيل القيم الاجتماعية.

عصر النهضة وما بعدها
مع دخول عصر النهضة، تطور المسرح ليعبر عن الفردية والصراعات الإنسانية بشكل أكثر تحررًا. أعمال شكسبير، مثل هاملت وماكبث، عكست هذا الانفتاح الفكري، حيث أصبح الفعل التمثيلي وسيلة للتعبير عن التعقيدات النفسية والقرارات الأخلاقية للشخصيات. هذه الأعمال، التي تجاوزت الحدود الدينية والسياسية، وضعت الأساس لفهم أوسع للفعل التمثيلي بوصفه انعكاسًا للإنسانية في كل مظاهرها.

في القرن العشرين، وفي ظل هيمنة الأنظمة الاشتراكية في دول الاتحاد السوفيتي، خضع الفعل التمثيلي لمعايير صارمة تعكس الأيديولوجيا الاشتراكية. كان على المسرح أن يُظهر الشخصيات العاملة والطبقة الكادحة بوصفها قوى إيجابية في مواجهة الاستغلال. مثال على ذلك، مسرحيات ماكسيم جوركي، مثل الأم، التي قدمت الشخصيات في ضوء يعزز القيم الاشتراكية. ورغم أن هذه المسرحيات كانت تخدم الأيديولوجيا، فإنها قيدت حرية التعبير الفني وجعلت الفعل التمثيلي وسيلة دعائية أكثر منه إبداعًا حرًا.
في المقابل، نجد في مسرح ما بعد الحداثة انفتاحًا غير مسبوق على الحرية الإبداعية. أصبح الفعل التمثيلي وسيلة للتعبير عن تفكيك الهويات والقيم التقليدية. في أعمال صمويل بيكيت، مثل في انتظار غودو، تخلّى المسرح عن الحبكة التقليدية وركز على عبثية الحياة وعدم جدواها. أثارت هذه الأعمال تساؤلات عميقة حول المعنى والهدف من الفعل البشري في سياق مجتمعات تعيش أزمات الهوية والتقدم.

الفعل التمثيلي في التراث العربي
بين الحكواتي وخيال الظل:
في التراث العربي، كان الفعل التمثيلي يتجسد في أشكال شعبية مثل الحكواتي والسامر. هذه الأشكال كانت تقدم أفعالًا درامية تتماشى مع القيم المجتمعية، حيث يروي الحكواتي قصصًا تعزز القيم الجماعية وتنقل الحكم الشعبية. مثال آخر هو عروض خيال الظل التي قدمها ابن دانيال في مصر في العصر المملوكي، والتي مزجت بين الفكاهة والنقد الاجتماعي، مما يعكس دور الفعل التمثيلي كأداة لنقل القيم وتحفيز النقاش الثقافي.

أمثلة معاصرة
في المسرح العربي الحديث، برزت أعمال تناولت القضايا الراهنة بأساليب مبتكرة، فجاءت كمساحات للتفكير والنقاش المجتمعي.
في تونس، قدم فاضل الجعايبي وجليلة بكار مسرحيات مثل "الخوف" و*"عرب"*، التي جمعت بين التراجيديا الرمزية وتناول قضايا الحرية والقمع السياسي والاجتماعي، ما أسهم في إعادة تعريف التمثيل كأداة حيوية لتحدي السائد.
في لبنان، استخدم زياد الرحباني الكوميديا السوداء والنقد الساخر في أعماله مثل "بالنسبة لبكرا شو؟" و*"فيلم أميركي طويل"*، ليعكس تناقضات المجتمع والصراع بين الفرد والسلطة، واضعًا الحرب الأهلية اللبنانية والفساد السياسي في بؤرة النقاش. وجاءت مسرحية "حكي نسوان" لتروي شهادات حقيقية عن التحرش والعنف الأسري، معتمدة على السرد الحي والمسرح الوثائقي لتوصيل صوت المرأة وتحفيز التغيير.
في مصر، حملت أعمال أحمد العطار، كـ*"قبل الثورة"*, رؤية تجريبية عبر حركة الجسد والحوار المتقطع، لتوثيق أجواء ما قبل ثورة 2011، رابطًا بين المسرح واللحظات التاريخية.

أبعاد الفعل التمثيلي في المسرح العربي الحديث:
الأثر الثقافي: ساعدت هذه الأعمال في كسر التابوهات المرتبطة بالحريات والمساواة والعنف السياسي، مما عزز دور المسرح كمنصة للحوار والتغيير.
الرابط بالسياق التاريخي: جسدت أعمال كـ*"قبل الثورة"* أجواء الاحتقان الاجتماعي في مصر، بينما كانت أعمال زياد الرحباني مرآة للحرب الأهلية اللبنانية وتداعياتها.

الفعل التمثيلي في سياقات عالمية:
في الأنظمة القمعية كألمانيا النازية، كان التمثيل وسيلة دعاية سياسية، تخدم أيديولوجيا الدولة وتقيّد الإبداع. أما في العصر الحديث، فقد تحرر المسرح في بعض المناطق، كما في The Laramie Project، الذي فتح حوارًا حول الهوية الجنسية وحقوق الإنسان.

التحديات في العالم العربي:
لا تزال قيود كثيرة تحول دون تناول المسرح لقضايا حساسة في بعض المجتمعات العربية، مما يعكس صراعًا مستمرًا بين حرية التعبير والضغوط الثقافية والسياسية.
المسرح مرآةً للمجتمع، يتغير مع الزمن، متسائلًا: هل يظل انعكاسًا للواقع أم يتحول إلى أداة لتغييره؟

الفعل التمثيلي اليوم: تطور وتعقيد
يتضح أن الفعل التمثيلي يتطور مع الزمن ليعكس التحولات الثقافية والاجتماعية. من الأخلاقيات الفردية عند أرسطو إلى النقد الاجتماعي عند بريشت والتجربة الحسية عند آرتو، أصبح الفعل التمثيلي متعدد الأبعاد، يعكس تعقيدات الإنسان والمجتمع.
في ظل تطور التكنولوجيا والعولمة، يمكن استكشاف دور التقنيات الحديثة مثل الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي في إعادة تعريف الفعل التمثيلي، مما يفتح آفاقًا جديدة لفهمه كوسيلة لطرح الأسئلة الإنسانية الكبرى.

تحولات الفعل التمثيلي بين الحرية والتقييد
يبقى السؤال الملح: هل يمكن اعتبار تحولات الفعل التمثيلي دليلًا على تقدم دائم نحو الحرية، أم أنها تعكس دورات متأرجحة بين التحرر والتقييد؟

المسرح بين التجدد والصراع
الفعل التمثيلي، باعتباره أحد أعمق أشكال التعبير الإنساني، يتميز بقدرته الفريدة على التجدد ومخاطبة الوجدان الجمعي. ومع ذلك، فإن مساره ليس دائمًا خطيًا نحو التحرر. فالمسرح يتأثر بالسياقات السياسية والاجتماعية والثقافية التي قد تجعله أحيانًا أداة للتحرر والإبداع، وفي أحيان أخرى وسيلة للتقييد وترسيخ القمع. هذا التوتر المستمر بين الحرية والتقييد يجعل المسرح مرآة تعكس صراعات المجتمع، بل ويشارك في صياغة ملامحها.

نموذج التحرر: الحركة النسوية في المسرح الحديث
شهد المسرح في العقود الأخيرة تحولًا جذريًا تحت تأثير الحركة النسوية، التي سعت إلى تفكيك الصور النمطية وإبراز التحديات التي تواجهها النساء. في الغرب، تعد الكاتبة الأمريكية سوزان لوري باركس نموذجًا لهذا الاتجاه، حيث تناولت في مسرحيتها Topdog/Underdog قضايا العنصرية والهوية الجندرية، مسلطة الضوء على ديناميكيات السلطة والعلاقات الإنسانية غير المتكافئة.
أما في العالم العربي، فقد شهد المسرح النسوي إسهامات بارزة مثل مسرحية أفول للكاتبة السعودية ملحة عبدالله، التي عالجت التقاليد المقيدة لدور المرأة في المجتمع. كما شكلت أعمال نوال السعداوي مثل أحببتك طاغية صرخة مدوية لتحرير المرأة من قيود القمع المجتمعي والسياسي. هذه الأعمال حولت خشبة المسرح إلى منصة لإعلاء صوت النساء وإعادة صياغة الواقع الاجتماعي.

نموذج التقييد: المسرح في الأنظمة الاستبدادية
على الجانب الآخر، يظهر استخدام الفعل التمثيلي في الأنظمة الاستبدادية كوسيلة لترسيخ السيطرة السياسية. في الحقبة النازية بألمانيا، تم تطويع المسرح لخدمة الأيديولوجيا العنصرية، حيث خضعت النصوص لرقابة صارمة مجدت القومية وخدمة النظام.
وفي كوريا الشمالية، يتحكم النظام في الإنتاج المسرحي بشكل كامل، مما يحول الفعل التمثيلي إلى أداة تمجيد للزعيم وتكريس للسيطرة. هذه الأمثلة توضح كيف يمكن للمسرح، حين يخضع للرقابة، أن يفقد جوهره الإبداعي ويصبح مجرد وسيلة دعائية تقيد الفكر وتكرس القمع.

تحولات الفعل التمثيلي في العالم العربي
شهد المسرح العربي تقلبات بين الحرية والتقييد. ففي الستينيات والسبعينيات، كان المسرح وسيلة للتعبير عن تطلعات التحرر، كما في أعمال سعد الله ونوس التي ناقشت قضايا اجتماعية وسياسية عميقة مثل مسرحية الملك هو الملك. لكن في فترات أخرى، خضع المسرح للرقابة الصارمة وأصبح أداة لترويج الخطاب الرسمي، مما أفقده حيويته كوسيلة للتغيير. هذه التحولات تعكس صراعًا دائمًا بين إمكانات التحرر وضغوط التقييد التي تمارسها الأنظمة السياسية.

نموذج آخر للتحرر: مسرح ما بعد الحداثة
في المسرح الغربي الحديث، أطلق أوجستو بوال تجربة جديدة من خلال مسرح المضطهدين، الذي حول الجمهور من متلقٍ سلبي إلى مشارك فعّال في إعادة صياغة الأحداث. هذا النوع من المسرح جعل الفعل التمثيلي أداة لتحرير العقول وتحفيز الوعي الجمعي، مما يعكس قوة المسرح في تحدي الواقع القائم وخلق رؤى جديدة.

بين التقدم والتراجع
الفعل التمثيلي ليس كيانًا محايدًا، بل هو انعكاس للتوتر المستمر بين قوى التحرر والتقييد. حين يُترك حرًا، يصبح المسرح فضاءً للتعبير عن القضايا الإنسانية الكبرى وتعزيز قيم الحرية والمساواة. أما حين يخضع للسيطرة، فإنه يتحول إلى أداة لتقييد الخيال وإبقاء الفكر تحت السيطرة.

دراسة التحولات: رؤية مستقبلية
إن دراسة تحولات الفعل التمثيلي بين الحرية والتقييد تكشف الدور الحيوي للمسرح في تشكيل وعي المجتمعات. هذا الفهم يعزز قدرتنا على مقاومة الأنظمة القمعية ودعم الحركات التحررية. ويبقى السؤال مفتوحًا: هل يمكن اعتبار التحولات في الفعل التمثيلي علامات تقدم دائم، أم أنها مجرد انعكاس لدورات أزلية بين التحرر والتقييد؟
يتضح مما سبق أن الفعل التمثيلي يُشكل مرآة تعكس التطورات الاجتماعية والثقافية. من أرسطو إلى ششنر، ومن المسرح الملحمي إلى مسرح القسوة، تكشف التنظيرات المتنوعة للفعل التمثيلي عن قدرته على التكيف مع السياقات الزمنية والمكانية المختلفة. يبرز الفعل التمثيلي في مسرح بريشت كبعد فكري يدعو إلى الوعي النقدي، بينما يتحول مع آرتو إلى تجربة حسية صادمة. أما ششنر فيرى الفعل التمثيلي انعكاسًا للطقوس والقيم الاجتماعية.

في ختام هذه الدراسة، يتبين أن الفعل التمثيلي يتجاوز كونه مجرد أداة فنية ليصبح وسيطًا فلسفيًا وثقافيًا يعكس تحولات المجتمعات وتحدياتها. من أرسطو الذي وضع أسس الفع االأخلاقي والدرامي، مرورًا ببريشت الذي حمّله مسؤولية التحليل الاجتماعي، وصولًا إلى آرتو وششنر اللذين وسّعا مفهومه ليشمل التجارب الحسية والأداء الاجتماعي، نجد أن الفعل التمثيلي مرآة تعكس تطور الفكر الإنساني وصراعاته.
وفي السياقات المعاصرة، يُظهر الفعل التمثيلي قدرته على مواكبة التغيرات التقنية والسياسية والثقافية، مما يجعله أداة فعالة لاستكشاف القضايا الراهنة وتعقيدات الهويات المتشابكة. يبقى السؤال: هل يستطيع الفعل التمثيلي، بكل تحولاته، أن يحافظ على جوهره الإنساني في ظل تحديات العولمة والتكنولوجيا، أم سيُعاد تعريفه ليواكب عصرًا يزداد فيه الانفصال بين الفنون والجمهور؟ هذا السؤال يفتح آفاقًا جديدة للبحث والتأمل في مستقبل المسرح وفلسفته.

المراجع:
1. أرسطو طاليس. فن الشعر. ترجمة عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية ، القاهرة، ١٩٥٣.
2. بيرتولت بريشت. نظرية المسرح الملحمي. ترجمة جميل نصيف، عالم المعرفة، بيروت، ١٩٨٠.
٣ رونالد جراي، بريخت.. رجل المسرح، ترجمة نسيم مجلي، المركز القومي للترجمة ، القاهرة، ٢٠٢١..
٤. أنتونان آرتو. المسرح وقرينه. ترجمة سامية احمد اسعد، دار النهضة العربية، القاهرة ، ١٩٧٣.
5. ابن دانيال. مسرحيات خيال الظل. تحقيق جمال الغيطاني، الهيئة العامة لقصور الثقافة، القاهرة، 1998.
٦. بيرتولت بريشت. الأعمال المسرحية الكاملة. ترجمة فاروق عبد القادر، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة.
٧. Schechner, Richard. Performance Studies: An Introduction. Routledge, 2013.



#حسام_موسي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- القوالب الفنية في أوبريت العشرة الطيبة لسيد درويش
- تحديات مسرح الشارع في الفضاء العام: بين الصناعة والتلقي
- مساعدو الإخراج في المسرح: أدوار محورية في الظل
- فن الصمت في التمثيل: قوته، تأثيره، ودور المخرج في توجيهه
- الكوميديا الهزلية (الفارس): دراسة معمقة حول أحد أقدم أشكال ا ...
- الأنانية لدي الممثل: بين تحديات الفردية والتزام الجماعة
- التطوع في المهرجانات الفنية
- استلهام التراث في المسرح: بين التجديد والحفاظ على الهوية
- سمات ممثل مسرح الشارع: الفن في قلب الأماكن العامة
- جريمة بيضاء : استكشاف الصراع بين الظاهر والباطن علي خشبة الم ...
- -مرايا إليكترا: عرض مسرحي يتجاوز التوقعات-
- بين الصرامة والحب: رحلة تحول الأب في - العيال فهمت -
- الحياة حلم) بين انتقادات الكلاسيكية الجديدة و الواقعية و احت ...
- -النقطة العميا- دعوة لتأمل الذات ومراجعة الضمير
- - النقطة العميا- دعوة لمعرفة الذات
- دنيس ديدرو والابن الطببعي
- كالديرون دي لاباركا والمسرح الباروكي


المزيد.....




- ليلة مرصعة بالنجوم في الرياض ونجوم القاهرة السينمائي يتوشحون ...
- (المدى) تناقش مع السفيرة الأمريكية تعزيز التعليم والشراكة ال ...
- المفكر الصادق الفقيه: على العرب استكشاف إستراتيجيات للتغلب ع ...
- رجل لا يتحدث اللغة يفوز ببطولة العالم الإسبانية للكلمات المت ...
- -إعادة العرض-: لوحات فنية ترصد مأساة العراق
- جائزة الأدب العربي لعام 2024 : أميرة غنيم تفوز بالجائزة الفر ...
- -الرواية تموت أم تترنح؟-... كتاب لكمال رياحي يضم مقاربات نقد ...
- (المدى) تناقش مع السفيرة الأمريكية تعزيز التعليم والشراكة ال ...
- كوبا تختتم فعاليات -المواسم الروسية-
- لأطفال كلها هتفرح.. تردد قناة ميكي الجديد 2024 على نايل سات ...


المزيد.....

- مداخل أوليّة إلى عوالم السيد حافظ السرديّة / د. أمل درويش
- التلاحم الدلالي والبلاغي في معلقة امريء القيس والأرض اليباب ... / حسين علوان حسين
- التجريب في الرواية والمسرح عند السيد حافظ في عيون كتاب ونقا ... / نواف يونس وآخرون
- دلالة المفارقات الموضوعاتية في أعمال السيد حافظ الروائية - و ... / نادية سعدوني
- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الادب والفن - حسام موسي - الفعل التمثيلي بين المراقبة والتفسير: دراسة فلسفية وثقافية