أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية: بين أفق التنوير وصراع الهوية الدينية















المزيد.....


العلمانية: بين أفق التنوير وصراع الهوية الدينية


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8167 - 2024 / 11 / 20 - 07:50
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


منذ ظهورها في سياقات فكرية وثقافية متعددة، شكلت العلمانية حجر الزاوية في بناء الدول الحديثة، إذ جعلت من فصل الدين عن الدولة أحد المبادئ الأساسية التي تحكم تنظيم الحياة العامة. ولكن على الرغم من الأثر العميق الذي تركته العلمانية في تشكيل الهويات السياسية والاجتماعية في المجتمعات الغربية، فإنها لم تخلُ من الانتقادات والتحديات المستمرة التي تراوحت بين القبول الكامل والتقليل من شأنها، بل في بعض الحالات، رفضها بشكل قاطع. إن العلمانية لم تكن مجرد نتيجة لتطور فكري أو استجابة للتنوير، بل كانت رد فعل على الحروب الدينية والصراعات المستمرة بين الدين والدولة في فترات من التاريخ، وخصوصًا في أوروبا.

وبالرغم من النجاحات التي حققتها العلمانية في بناء دول حديثة تحترم التعددية وتحمي حقوق الإنسان، فإنها، في السياقات المختلفة، أصبحت عرضة للانتقادات العميقة، التي تتراوح بين الاتهامات بإقصاء الدين من الحياة العامة، إلى تحميلها مسؤولية تدهور القيم الأخلاقية والانفصال عن الهوية الثقافية والدينية. ففي العديد من الدول الغربية، يُنظر إلى العلمانية على أنها غطاء لفقدان الروحانية والهوية التقليدية، بينما في مجتمعات أخرى، يتم استخدامها كأداة لفرض الهويات الثقافية الغربية على المجتمعات ذات التقاليد الدينية القوية.

تأتي الانتقادات الأبرز من الداعين للعودة إلى الدين كمرشد للحياة العامة، حيث يرون في العلمانية تفتيتًا للهوية المجتمعية وضياعًا للقيم التي تشكل أساسًا للمجتمعات. وفي بعض السياقات غير الغربية، يعتبر البعض أن العلمانية قد فرضت بصورة قسرية من القوى الاستعمارية، مما جعلها بمثابة أداة من أدوات الهيمنة الثقافية والسياسية التي لا تعكس تطلعات الشعوب الأصيلة. وفي هذا السياق، نشأت مناهضات قوية لفرض العلمانية على المجتمعات التي كانت ذات طبيعة دينية عميقة.

إن هذه الانتقادات تطرح تساؤلات عميقة حول مكانة الدين في الحياة العامة: هل العلمانية حقًا هي السبيل الأمثل لتحقيق الحرية والمساواة في عالم متعدد الأديان والمعتقدات؟ أم أنها تظل تقتطع من طبيعة الإنسان وحقه في التعبير عن إيمانه ومعتقداته في المجال العام؟ وهل يمكن للعلمانية أن تتكيف مع المجتمعات غير الغربية التي تتمسك بقوة بتقاليدها الدينية؟ أم أن العلمانية تظل مفهومًا غربيًا في جوهره، لا يمكن تطبيقه بنفس النجاح في مجتمعات أخرى؟

بينما تواصل العلمانية مواجهة هذه التساؤلات الحية والمفتوحة، تظل المسألة الجوهرية التي تواجهها هي كيفية الحفاظ على التوازن بين الحقوق الفردية وحريات التعبير الديني في ظل مجتمع يتسم بالتعددية والتنوع. وتظل هذه الإشكاليات جزءًا من الجدال المستمر حول ماهية العلمانية ودورها في بناء مجتمع يعكس تطلعات الأفراد والمجتمعات على حد سواء.


مفهوم العلمانية

العلمانية (Secularism) هي مبدأ ينادي بفصل الدين عن الشؤون السياسية والمؤسسات الحكومية، بما يضمن حيادية الدولة تجاه جميع الأديان. تهدف العلمانية إلى تحقيق التعايش بين مختلف المعتقدات من خلال إقامة نظام لا يتدخل فيه الدين في القوانين والسياسات العامة، مع ضمان حرية ممارسة الشعائر الدينية.

أسس العلمانية

فصل الدين عن الدولة: بحيث لا تكون هناك سلطة دينية تتحكم في القرارات السياسية.
المساواة الدينية: جميع الأديان والطوائف تتمتع بنفس الحقوق والاحترام.
حرية الفكر والمعتقد: حماية حق الفرد في الإيمان أو عدم الإيمان.

اختلاف تطبيق العلمانية بين المجتمعات

تختلف العلمانية في تطبيقها بناءً على السياقات التاريخية والثقافية لكل مجتمع. هناك نماذج متنوعة تشمل:

العلمانية المتشددة (اللائكية):

أبرز مثال: فرنسا.
- تقوم على الفصل الصارم بين الدين والدولة، بحيث يمنع أي تعبير ديني في المجال العام (مثل المدارس والمؤسسات الحكومية).
- تتبنى نهجًا حازمًا للحفاظ على الحياد تجاه جميع الأديان.

العلمانية التوافقية:

أبرز مثال: الولايات المتحدة.
- تعتمد على مبدأ الحرية الدينية دون تدخل الدولة في تنظيم شؤون الدين، مع السماح بحرية التعبير الديني في المجال العام.
- تُعطي أهمية كبيرة للتوازن بين احترام المعتقدات الدينية وحماية القوانين المدنية.

العلمانية المرنة:

أبرز مثال: الهند.
- الدولة علمانية، لكنها تتعامل بمرونة مع القضايا الدينية، فتسمح للقوانين الدينية الخاصة بالجماعات المختلفة بالاستمرار، مثل قوانين الأحوال الشخصية للمسلمين والهندوس.

العلمانية الجزئية:

أبرز مثال: دول عربية وإسلامية.
- يتم فيها المزج بين الأحكام الشرعية والقوانين المدنية.
- قد تعلن بعض الدول علمانيتها رسميًا، لكنها تعتمد على الدين كجزء من الهوية الثقافية والقانونية.

التحديات في تطبيق العلمانية

في المجتمعات الغربية:

- تصاعد الإسلاموفوبيا والتوترات حول الحجاب والرموز الدينية.
- الجدل حول حدود الحرية الدينية.

في المجتمعات العربية والإسلامية:

- الخلاف بين التيارات الإسلامية والعلمانية حول مشروعية تطبيق الشريعة.
- مقاومة المجتمعات التقليدية لفكرة الفصل بين الدين والدولة.
زفي المجمل، فإن العلمانية ليست مفهومًا موحدًا، بل هي إطار عام يتكيف مع الظروف السياسية والاجتماعية لكل مجتمع. نجاحها يعتمد على قدرتها في تحقيق التوازن بين احترام الأديان وضمان الحقوق المدنية لجميع الأفراد دون تمييز.

مساهمة العلمانية في إعادة تشكيل المجتمعات الأوروبية

العلمانية كانت إحدى الدعائم الرئيسية التي ساهمت في صياغة أوروبا الحديثة بعد صراعات دينية وسياسية استمرت قروناً، مثل الحروب الدينية بين الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر. من خلال فصل الدين عن الدولة، أحدثت العلمانية تحولات كبيرة على المستويين السياسي والاجتماعي.

أولاً: التأثير السياسي

نهاية الصراعات الدينية:

- قبل ظهور العلمانية، كانت الحروب والصراعات الدينية تهدد استقرار المجتمعات الأوروبية.
- العلمانية ساعدت في تقليل النفوذ السياسي للكنيسة، مما أدى إلى استقرار نسبي بين الطوائف المختلفة.

إنشاء الدولة القومية:

- عززت العلمانية مفهوم الدولة القومية (Nation-State) التي تستند إلى القوانين المدنية لا الدينية.
- أصبح الولاء للدولة بدلاً من الولاء للمؤسسات الدينية.

ترسيخ الديمقراطية:

- العلمانية وضعت أسسًا لدول حديثة تعتمد على المشاركة السياسية، حيث أصبحت القوانين والتشريعات نتاجًا للإرادة الشعبية بدلاً من النصوص الدينية.
- ساعدت على بناء أنظمة حكم قائمة على حقوق الإنسان والمواطنة بدلاً من التمييز الديني.

تحرير التشريع:

- فتحت المجال أمام تشريعات تتجاوز القيود الدينية، مثل قوانين الطلاق، والمساواة بين الجنسين، وحقوق الأقليات.

ثانياً: التأثير الاجتماعي

تحرير الفرد:

- العلمانية أعطت الأفراد حرية اختيار معتقداتهم الدينية أو عدم الإيمان دون خوف من اضطهاد أو تمييز.
- حررت الإنسان الأوروبي من هيمنة الكنيسة، التي كانت تتحكم في الحياة الاجتماعية والسياسية.
تعزيز التعليم:

مع تراجع النفوذ الكنسي، تطور نظام تعليم علماني يعتمد على العلم والتجربة بدلاً من التعليم الديني التقليدي.
أدى ذلك إلى نمو العلوم والمعرفة وساهم في عصر النهضة والتنوير.
تمكين المرأة:

ساعدت العلمانية في الحد من القيود الدينية التي كانت تُفرض على المرأة، مما أتاح لها حقوقًا مثل التعليم، والعمل، والمشاركة السياسية.
تعزيز التعددية:

- بفضل العلمانية، أصبحت المجتمعات الأوروبية أكثر انفتاحًا على تعددية الأديان والمعتقدات.
- انتقلت الهوية الاجتماعية من الدين كعامل أساسي إلى عوامل أخرى مثل القومية، والثقافة، والاقتصاد.

أمثلة على التحولات

الثورة الفرنسية (1789):
فصلت بين الدين والدولة وأرست نموذجًا للجمهوريات العلمانية، حيث تم تجريد الكنيسة من امتيازاتها السياسية.
الثورة الصناعية:

- بتشجيع من النهج العلماني، تطور العلم والتكنولوجيا بسرعة، ما أدى إلى تغيير هيكل المجتمع الأوروبي من زراعي إلى صناعي.

الإصلاحات القانونية في القرن العشرين:

- قوانين مثل إلغاء التمييز ضد المرأة، تشريعات حماية الأقليات، وقوانين المساواة الدينية.
وبالتالي،ساهمت العلمانية في أوروبا بشكل كبير في إعادة تشكيل المجتمعات من كيانات دينية تقليدية إلى دول حديثة تقوم على القوانين المدنية، الحريات الفردية، والمساواة. وقد مهد هذا التحول الطريق لبناء مجتمعات أكثر انفتاحًا وديمقراطية، مما ساعد في دفع عجلة التقدم العلمي والاجتماعي والسياسي.

الفرق بين العلمانية الأوروبية والعلمانية في السياقات غير الأوروبية

رغم أن العلمانية تستند إلى فكرة فصل الدين عن الدولة، إلا أن تطبيقها ومفهومها يختلف بشكل كبير بين أوروبا والسياقات غير الأوروبية بسبب اختلاف التاريخ، الثقافة، البنية الاجتماعية، والعلاقة بين الدين والسياسة.

أولاً: العلمانية الأوروبية
السياق التاريخي
تطورت العلمانية الأوروبية كرد فعل على الصراعات الدينية الدموية بين الطوائف المسيحية، مثل الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت في القرن السادس عشر.
- كانت جزءًا من حركة التنوير التي ركزت على تحرير العقل من هيمنة الكنيسة.
- ظهرت بقوة خلال الثورة الفرنسية التي أسست مفهوم الدولة المدنية.
السمات الرئيسية
- فصل صارم بين الدين والدولة:
- في الدول مثل فرنسا، الدولة لا تدعم أو تمول المؤسسات الدينية، ولا تسمح بأي تدخل ديني في السياسة.
الحرية الدينية:
يُسمح بحرية الاعتقاد وممارسة الشعائر الدينية بشرط عدم تعارضها مع قوانين الدولة.
حيادية الدولة تجاه الأديان:
- الدولة تتعامل مع جميع الأديان على قدم المساواة، مثلما يحدث في بريطانيا وألمانيا، لكن بمرونة أكثر مقارنة بفرنسا.
التحديات:
- توتر العلاقة مع الأقليات الدينية، خاصة المسلمين، بسبب سياسات منع الرموز الدينية في الأماكن العامة (مثل الحجاب في فرنسا).
- تحديات التعامل مع العلمانية في ظل ازدياد التعددية الثقافية والدينية.

ثانيًا: العلمانية في السياقات غير الأوروبية

السياق التاريخي
- ظهرت العلمانية في كثير من الدول غير الأوروبية نتيجة الاستعمار أو التأثر بالفكر الغربي.
- غالبًا لم تكن العلمانية نابعة من تطور داخلي كما في أوروبا، بل فرضت أو اُستوردت للتعامل مع التعدد الديني أو لتحقيق أهداف سياسية.

السمات الرئيسية

- العلمانية الجزئية أو التوفيقية:
في دول مثل الهند، يتم الحفاظ على طابع علماني للدولة مع السماح باستمرار القوانين المستمدة من الأديان المختلفة، مثل قوانين الأحوال الشخصية.

دمج الدين في الهوية الوطنية:

- في كثير من الدول الإسلامية، مثل تركيا أو مصر، العلمانية لم تؤدِ إلى فصل كامل بين الدين والدولة.
- تُستخدم الرموز والمفاهيم الدينية كجزء من الهوية الوطنية.

التوظيف السياسي للدين:

- في بعض الحالات، مثل تركيا في ظل أتاتورك، استخدمت العلمانية كوسيلة لفرض الحداثة وتقويض التيارات الإسلامية.

التحديات:

- مقاومة المجتمعات التقليدية التي ترى العلمانية تهديدًا لقيمها الدينية.
- ظهور العلمانية على شكل إقصاء أو تضييق على الدين، كما حدث في بعض الدول، مما أدى إلى توترات سياسية واجتماعية.

وهكذا، فإن العلمانية الأوروبية تطورت تدريجيًا ضمن سياقاتها الخاصة، مما جعلها أكثر رسوخًا وانسجامًا مع مجتمعاتها. في المقابل، العلمانية في السياقات غير الأوروبية تواجه تحديات أكبر لأنها غالبًا ما ظهرت نتيجة تأثير خارجي أو ضمن مشاريع تحديث قسرية، مما جعلها أقل قبولًا شعبيًا وأكثر عرضة للتوترات الدينية والسياسية.

هل كانت العلمانية نتيجة حتمية للتنوير أم أنها تطورت بشكل منفصل؟
العلمانية والتنوير مرتبطان بشكل وثيق، لكنهما ليسا نفس الشيء. بينما ساهمت أفكار التنوير بشكل كبير في تطور العلمانية، فإن العلمانية لم تكن بالضرورة نتيجة حتمية للتنوير، بل كانت جزءًا من عملية تاريخية أوسع تأثرت بعوامل متعددة.

العلمانية والتنوير: علاقة تفاعلية

التنوير وأفكار العقلانية:

- التنوير (القرن السابع عشر والثامن عشر) كان حركة فكرية فلسفية دعت إلى الاعتماد على العقل والعلوم كأدوات لفهم العالم، ورفضت الطغيان الديني والخرافي.
- التنوير دعا إلى فصل الدين عن السياسة وركز على مفاهيم مثل الحرية الفردية، المساواة، و الحقوق الطبيعية. من هنا، يمكن القول إن بعض مبادئ - - العلمانية كانت نتيجة أفكار التنوير التي أكدت على الحاجة إلى دولة غير دينية.

الفكر السياسي والفلسفي:

- فلاسفة مثل جون لوك و فولتير دعوا إلى حرية الدين والفصل بين الدين والدولة. ففي مؤلفاته، مثل "رسالة في التسامح"، دعم لوك فكرة أن الحرية الدينية جزء أساسي من حقوق الإنسان.
- فولتير من جانبه كان منتقدًا شديدًا للتدخل الديني في الحياة العامة، وأصر على أن الحكومة يجب أن تكون محايدة تجاه الأديان.

تأثير الثورة الفرنسية:

- الثورة الفرنسية (1789) كانت لحظة فارقة، حيث دفعت العديد من الأفكار العلمانية إلى الأمام، خاصة مع إلغاء الامتيازات الدينية و تأسيس جمهورية علمانية.
- قد تكون هذه الثورة إحدى أبرز المظاهر العملية لفكر التنوير العلماني.

العلمانية كعملية تاريخية منفصلة

تأثير الصراعات الدينية:

- في أوروبا، كانت الحروب الدينية (مثل الحروب بين الكاثوليك والبروتستانت) من العوامل المهمة التي دفعت نحو العلمانية.
- بعد قرون من الصراع بين الدين والدولة، كان هنالك رغبة متزايدة في فصل الدين عن السياسة لضمان السلام الاجتماعي.
- هذه الصراعات دعت إلى إلغاء سلطة الكنيسة الكاثوليكية في السياسة.

الاستعمار والتحديث:

في بعض الدول غير الأوروبية، مثل تركيا و إيران، كان الاستعمار الأوروبي عاملًا محفزًا نحو العلمانية، حيث فرض الغرب نماذج سياسية علمانية خلال فترات السيطرة الاستعمارية.

بعض الدول الحديثة التي تأثرت بالفكر الغربي، مثل تركيا تحت حكم مصطفى كمال أتاتورك، بدأت في تطبيق العلمانية كجزء من مشروع تحديث سياسي كان يهدف إلى تقليص النفوذ الديني في السياسة.
التطور التدريجي داخل الكنائس نفسها:

في بعض الحالات، تم تطوير العلمانية بشكل تدريجي من داخل الكنائس المسيحية نفسها. فالبابا غريغوري السابع في العصور الوسطى حاول الحد من النفوذ السياسي للكنيسة، وهو ما تم البناء عليه لاحقًا.

وفي المجمل، العلمانية ليست نتاجًا حتميًا للتنوير، ولكنها تطورت جنبًا إلى جنب مع أفكار التنوير التي دعت إلى العقلانية وحرية المعتقد والفصل بين الدين والدولة. في حين أن التنوير قدم الأسس الفكرية للعلمانية، فقد كانت هذه الأخيرة أيضًا نتيجة لمجموعة من العوامل التاريخية، الاجتماعية، والدينية التي لم تكن بالضرورة مرتبطة فقط بأفكار التنوير.

تظل العلمانية، رغم كونها حجر الزاوية في بناء الدول الحديثة، موضوعًا معقدًا ومثيرًا للجدل على مر العصور. فقد أسهمت في رسم معالم مجتمعات ديمقراطية تقوم على فصل الدين عن الدولة، لكنها في الوقت نفسه أصبحت محط انتقادات كبيرة، خاصة في السياقات المختلفة التي تطبق فيها. وعلى الرغم من نجاح العلمانية في ضمان حقوق الإنسان والحرية الدينية في بعض الدول الغربية، فإنها لم تكن خالية من العيوب والتحديات التي واجهتها في مواجهة الواقع الاجتماعي والسياسي المتنوع.

في أوروبا، حيث نشأت العلمانية كنتيجة مباشرة لصراعات دينية مريرة، يُنظر إليها في بعض الأحيان كأداة لتقليص تأثير الدين في الحياة العامة، مما يعكس، في نظر المنتقدين، انفصالًا عن الجذور الروحية والثقافية للأفراد والمجتمعات. يراها البعض مجرد رد فعل مبالغ فيه على الهيمنة الدينية، واتهامها بإلغاء دور الدين في تشكيل القيم الأخلاقية والاجتماعية، مما يساهم في نشر النزعة المادية والفردانية على حساب الروحانية والتضامن الاجتماعي.

أما في السياقات غير الغربية، فقد واجهت العلمانية انتقادات شديدة، حيث اتهمت بأنها أداة استعمارية مفروضة من القوى الغربية على المجتمعات التي تتمسك بتقاليد دينية وثقافية عميقة. في هذه السياقات، يُنظر إليها كأيديولوجية أجنبية لا تعكس طبيعة المجتمعات المحلية، بل تُفرض لتقويض الهوية الثقافية والدينية، مما يزيد من حدة الانقسامات والصراعات داخل المجتمعات نفسها.

من ناحية أخرى، تظهر الانتقادات الحديثة في بعض الدول الإسلامية والآسيوية التي تعارض العلمانية باعتبارها تهديدًا للقيم الدينية التي تعد أساسًا للهوية الوطنية. حيث يُرى أن العلمانية في هذه المجتمعات قد تؤدي إلى تهميش الدين كمرشد أخلاقي للمجتمع، وتؤدي إلى تحول الدولة إلى كيان عاري من القيم الروحية التي تُعتبر ضرورية لضمان العدالة الاجتماعية والمساواة.

تظل هذه الانتقادات تطرح تساؤلات جوهرية حول مكانة الدين في الحياة العامة، وماذا يعني أن يعيش المجتمع في عالم متعدد الديانات والمعتقدات. هل يمكن تحقيق التوازن بين احترام حرية الدين وحماية الحقوق الفردية في دولة علمانية؟ وهل العلمانية حقًا هي الحل الأمثل لبناء مجتمعات تحترم التنوع وتحقق العدالة، أم أنها فكرة غربية تتطلب إعادة النظر والتكيف في السياقات الثقافية المختلفة؟

في النهاية، تظل العلمانية، رغم الانتقادات المتعددة، دعوة إلى التفكير في شكل الدولة والمجتمع الذي يحترم التعددية ويوفر مساحة للحريات الفردية. إنها ليست مجرد فصل بين الدين والدولة، بل هي خيار أساسي لتحقيق التوازن بين الحقوق والواجبات، بين الهوية الفردية والمصلحة العامة. ومع ذلك، فإن التحدي الأكبر يبقى في كيفية التوفيق بين هذه المبادئ والقيم في عالم متغير، حيث يستمر الجدل حول مكانة الدين في الحياة العامة، وحول كيفية بناء مجتمعات تتسع للجميع دون إقصاء أو هيمنة.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الله خالق كل شيء: مقاربة فكرية لأحد أهم الإشكاليات الكلامية ...
- السينما النسوية المتطرفة: كسر الصمت وإعادة صياغة السرديات
- الخلود في الفضاء الرقمي: إعادة صياغة مفهوم الموت والذاكرة
- معضلة الشر: قراءة فلسفية في عدل الله وحريّة الإنسان
- أزمة ما بعد الحداثة: بين سطوة الواقع الفائق وشبكات السلطة ال ...
- أزمة ما بعد الحداثة: بين سطوة الواقع الفائق وشبكات السلطة ال ...
- الدولة بين النظرية والواقع: تحليل فلسفي للرؤية الماركسية
- الأمن القومي العربي: تحديات العصر وفرص التحول الاستراتيجي
- اليسار في العالم العربي: قراءة نقدية لتراجع المشروع الاشتراك ...
- دور الفلسفة في تفسير التاريخ: من بن خلدون إلى هيجل وماركس
- موت الإله: جدلية الفراغ والمعنى في الفكر الأوروبي والإسلامي
- إشكالية الصلب والفداء: مقاربة فلسفية للعلاقة بين المسؤولية ا ...
- فلسفة التاريخ: أسئلة حول الزمن ومعنى الوجود الإنساني
- الإنسان بين الجبر والاختيار: قراءة مقارنة في رؤى المعتزلة وا ...
- الفلسفة النسوية في العالم العربي: جدلية التحرر والتحديات الث ...
- فلسفة ما بعد الحداثة: من التفكيك إلى إعادة تعريف العقل والحق ...
- الليبرالية عبر العصور: فلسفة الحرية وتحديات التطبيق
- صراع الهوية والمصير: جدلية التوجهات القومية والإسلامية في ال ...
- الهوية العربية على مفترق الطرق: تحديات الحاضر وآمال المستقبل
- نحو حكم رشيد: تحديات الديمقراطية في العالم العربي


المزيد.....




- شاهد لحظة هبوط معزز -ستارشيب- في خليج المكسيك بعد إلغاء التق ...
- هل سيبصر مشروع السكك الحديدية عالي السرعة ببريطانيا النور؟
- علقوا لساعات.. فيديو يظهر تعطّل لعبة ملاهي على ركابها في اله ...
- أم وابنتاها يقدمن مأكولات أردنية بلمسة عصرية في قلب دبي
- -سي إن إن-: بعض الدول الغربية بدأت في تغيير نهجها تجاه العلا ...
- أمريكي يقتل والده أمام أقاربه ويلوذ بالفرار
- الجيش الإسرائيلي يعلن حصيلة قتلاه منذ بدء الحرب
- روسيا.. ابتكار تقنية لتحديد حدود الأورام في الدماغ
- ارتفاع عدد سكان -منطقة الحظر- الإشعاعي بتشيرنوبل الأوكرانية ...
- روسيا.. العلماء يرصدون 8 توهجات شمسية قوية


المزيد.....

- كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج / زهير الخويلدي
- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية: بين أفق التنوير وصراع الهوية الدينية