|
البلطة والسنبلة - هل المريون عرب
مهدي بندق
الحوار المتمدن-العدد: 1782 - 2007 / 1 / 1 - 08:04
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
إن تاريخ الثقافات الإنسانية هو تاريخ استعاراتها الثقافية بعضها من بعض إدوار سعيد
لا جرم أن يعد الإسلام، بما هو دين توحيدي، الأساس الذي أقامت علية قبائل وأقوام شبه الجزيرة العربية دولتهم الموحدة الكبرى، تلك الدولة التي امتد فرعها الحضاري، لقرون عديدة، إلى جنوب أوروبا غربا، والى حدود الصين شرقا. الأمر الذي ترتب عليه مشاكل وأزمات خارجية:تمثلت في الحروب المستمرة من جانب العرب، والحروب المضادة من جانب الفرنجة وغيرهم، كما ترتبت عليه أيضا مشكلات داخلية بهيئة حروب أهلية، وانقسامات سياسية، ومنازعات اجتماعية لم تتوقف. بيد أن المشكلة الهيكلية لهذا الفرع الحضاري الذي ازدهر وأثمر رغم هذا كله لم تكن في الحقيقة مشكلة مع الدين، بل الدولة. وآية ذلك أن الدين في حد ذاته معطي يمكن للناس أن يفسروه كدعوة للسلام وللإخوة بين البشر، كما أنهم قد يستخدمونه سلاحا يغالبون به، فيكسرون بسنانه شوكة الآخرين، ويعلنون تحت رايته تفوقهم وتمايزهم.( في هذا السياق تحدث الإمام علي بن أبي طالب بعبارته الحاسمة: القرآن لا يحكم ولكن يحكم به الرجال.) أما الدولة، فكان تأسيسها في مؤتمر السقيفة عام 11 هجري فور وفاة الرسول ـ منذرا بانقسام المسلمين، ذلك الانقسام الذي أدى إلى إشعال الحرب الأهلية، المسماة بالفتنة الكبرى، تجليا للصراع على السلطة بين علىّ وعائشة التي أوقعت آلاف القتلى والجرحى، ثم بين علي ومعاوية في حرب الحجاز والعراق بالضد علي أهل الشام، كذلك الحروب التي قامت بين الأمويين والعباسيين، وبين بقايا هؤلاء والفاطميين، بالتوازي مع الحروب الهامشية بين "الدولة" والثائرين عليها كالقرامطة والزنج والخوارج وجميعها كانت حروبا تستهدف الاستيلاء علي كيان" الدولة" السياسي مناط القوة والهيمنة، حيث الدولة هي الجائزة الكبرى للمتصارعين، وبالطبع فان الانقسامات المذهبية: سنة وشيعة، والفكرية: أشاعرة ومعتزلة وفلاسفة إنما كانت تعبر في مستواها العميق عن ذلك الصراع السياسي علي خلفية التنازع الدائر حول الموارد الهائلة من فيء وخراج وجزية وضرائب،والتي جلبتها الفتوحات العسكرية، حين أخضعت تلك الفتوحات العراق وفارس والشام ومصر، ثم شمال إفريقيا والأندلس، فضلا عما حققته البرجوازية التجارية من ثراء فاحش نتيجة سيطرة الأساطيل العربية علي البحر المتوسط والبحار الشرقية. للتأكيد علي ارتباط الفكر بالنشاط الاقتصادي، يمكن الإشارة إلي أن صعود البرجوازية التجارية العربية في القرن التاسع الميلادي، قد أبرز حاجتها إلي مساحات من الحرية، طالما داعبتها آمال المشاركة في سلطة الدولة، فكان فكر المعتزلة تعبيراً عن ذلك، ومن خلال القناع الديني (قضية خلق القرآن) راح الخياط والنظام والقاضي عبد الجبار والجاحظ ينافحون لإثبات أن "العدل الإلهي يقتضي أن يكون الإنسان مخيراً لا مسيرا. وبالمقابل فان انحسار هذا الفكر إنما كان تعبيراً عن انكماش نشاط البرجوازية العربية بعد فقدان العرب سيطرتهم على البحار الشرقية بسبب القراصنة الهنود، والبحار الغربية بهزيمتهم أمام أساطيل النورمان، مما أدى إلى انكفاء التجارة إلى الداخل وضياع الموارد التي كانت تحققها تجارة الترانسيت. (لمزيد من التفاصيل حول هذه النقطة، راجع د.محمود إسماعيل "سوسيولوجيا الفكر الإسلامي"-دار سينا -الجزء الثالث ط أولى - القاهرة 1992 - ص 139 وأيضاً مهدي بندق - "تفكيك الثقافة العربية"- المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة - 2003. ) ما يهمنا في هذا المقام هو ما حدث لمصر جراء الفتح العربي لها في أربعينيات القرن السابع الميلادي. ولكن قبل أن نمضي قدماً في سبيلنا هذا، لابد من وقفة قصيرة، نؤكد بها أننا لا نعتزم التوسع في نقد الأيديولوجيات التي انبثقت من فهم الفرقاء للدين الإسلامي، معيدين القول بأن الانقسامات الفكرية والمذهبية لم تكن - في رأينا- إلا انعكاسات لنزعة السيطرة التي التحمت بالعقل البشري حال أن ظهرت الملكية الخاصة، حال أن انقسم الناس إلى ملاك ومعدمين، ثم سادة وعبيد، فحكام ومحكومين.. الخ، ربما كان هذا القول موجزاً، لكننا أردناه هنا إيجازاً منهجياً. ذلك أن نقد أيديولوجية ما لابد أن يستدرج الناقد إلى تبني أيديولوجية أخرى. فأما إذا استخدم منهجيات علوم الإنسان، خاصة علم اجتماع الدين. فليس من ضامن له ألا ينزلق إلى نقد تلك الإيديولوجيات جميعاً بمعاييره الحديثة هذه، مما يدفع به إلى إشكالية جديدة يبدو فيها كمن يطلب إلغاء التاريخ الواقعي (بظروفه التي أفرزت تلك الأيديولوجيات) وهو إلغاء ليس له من نتيجة عملية، بل والأكثر من ذلك فإنه سيبدو وكأنه يُشـَيـّدُ تاريخاً مثالياً متصوراً ليس له من وجود واقعي. ومع ذلك، ورغم هذا التحرز المنهجي، فلعلنا نعرج إلى تحليل الأسس المادية لبعض تلك الأيديولوجيات، في سياق العرض التاريخي، حين يكون الكلام متصلا ً بمورثاتها المؤثرة في المصريين المعاصرين، شريطة أن يتجنب هذا التحليل إصدار أية أحكام قيمية Axiological على مسيرة الأحداث الماضية من وجهة نظر معاصرة. *** لم يكن المصريون عرباً بطبيعة الحال، لا قبل ولا بعد تأسيس دولتهم الموحدة حوالي عام 3200 ق.م.، والقول بغير ذلك إنما يدخل في أدبيات التوهم لأغراض التلوين السياسي، ومن قبيل المحاجاة الكلامية غير المستندة إلى توثيق تاريخي علمي، من ذلك الزعم بأن اليهود (أبناء عم العرب) هم الذين بنوا الأهرامات! والقول بأن النبي يوسف القادم من بادية العرب هو من علم المصريين كيفية تخزين الغلال، وأن العرب بقبائلهم جميعاً إنما جاءوا من صلب النبي إسماعيل بن إبراهيم وهاجر المصرية، وعليه يصبح العرب نصف مصريين. وما من شك في أن التوراة -التي كتب بنو إسرائيل معظمها عبر مئات السنين- هي المصدر الرئيس لهذه المحاولات الرامية لدمج مصر المستقلة في منظومة سامية Semitic لليهود فيها النصيب الأكبر، وللعرب فيها نصيب. تحدثنا التوراة فتقول إن مهد الإنسان كان بلاد ما بين النهرين، وأن من أبناء نوح: سام الذي أنجب عيلام وأشور وأرفكشاد ولود وآرام. ومن هذا الأخير وُلد عوص وحول وجاثر وماش، أما أرفكشاد فقد انحدر منه شالح ثم عابر أب العبرانيين. أما حام بن نوح فقد أنجب مصرايم (باني مصر!) (العهد القديم - سفر التكوين - الإصحاح العاشر. ) الذي من أبناءه الذي جاء ملوك مصر الأقدمين. فيترتب على ذلك -وتبعاً للثورة ذاتها- ألا يكون المصريون ساميين، بينما يكون العرب كذلك. لكن الأبحاث العلمية الحديثة تضرب صفحاً عن كل ما تذكره التوراة، مستنتجة أن أسلاف البابليين والأشوريين والكلدانيين والأموريين والآراميين والفينيق والعبرانيين والعرب والأحباش كانوا في وقت ما -قبل تباينهم- شعباً واحداً يعيش في مكان واحد. (فيليب حتى - تاريخ العرب - دار غندور للنشر- ط 7، بيروت 1986، ص 35، 36. ) ولكن وبالرغم من اختلاف هذه الأبحاث الحديثة مع التوراة حول أصل العرب والعبرانيين، إلا أنها لا تختلف معها حول الأصول العرقية المغايرة للمصريين. وهو ما يطرح علينا سؤالين كبيرين، أولهما: من هم العرب؟ وثانيهما: من هم المصريون؟ أولاً: العرب إثنولوجيا ً وثقافيا ً : يعود أصل كلمة العرب إلى اللغة السامية القديمة، حيث عرفوا بلفظة "عمورو" أي أهل الغرب (والمقصود بذلك ساكني غرب الفرات) من بدو وحضر، ثم تحولت اللفظة إلى "عريبي" ثم إلى "عرب". فإذا شئنا أن نعرف من أين بالضبط جاء هؤلاء العرب (في حدود علم الأعراق البشرية Ethnology) لكان علينا أن نبدأ من حيث اختفى أشباه الإنسان، وآخرهم النياندرثاليين Neanderthalian الذين عاشوا في شمال فرنسا وأوروبا عموماً ثم أبادهم الإنسان العاقل Homo-Sapience الذي تطور من أصلابهم منذ ما يقرب من 40000عام، بجانب اختفاء شبه الإنسان الروديسي الذي عاش في أفريقيا (بهيئة تتوسط القرد والإنسان البدائي) مع نهاية العصر الجليدي وبدايات العصر الحجري القديم، حيث صاحب هذا الاختفاء ظهور الإنسان العاقل الزنجي Negra Race جنباً إلى جنب الجنس النوردي في أوروبا والمغولي في آسيا. وتأسيسا ً على الحقائق الجغرافية، وعلى شواهد علم الإحاثة Paleontology الذي يبحث في أشكال الحياة في العصور الجيولوجية متمثلة في المتحجرات الحيوانية والنباتية؛ يستطيع اليوم علماء الأعراق بأدواتهم العلمية -وبعيدا ً عن أسطورة تناسل البشر جميعاً عن رجل واحد وامرأة واحدة- أن يتتبعوا مظاهر الانفصال والتزاوج بين الأجناس، إضافة إلى هجراتهم الجماعية وفقاً لتغير المناخ، أو فراراً من الكوارث مثل الجفاف والطوفانات، أو في مطاردات لا تنتهي لقطعان الماشية، أو بحثا ًعن مناطق تكثر فيها المياه وتخلو أو تكاد من الحيوانات المفترسة، والحمم البركانية، أو نزوحاً اضطرارياً نتيجة للهزائم في الحروب. في هذا السياق التاريخي اللا أسطوري، يجوز القول بأن أسلاف الساميين -مختلطين بعناصر طورانية وأخرى هندو أوربية- إنما جاءوا إلى المنطقة الواقعة بين نهر الفرات والبحر المتوسط، ضمن أمواج من الهجرات المتتالية، مخترقين منطقة العبور البشري الكبير في القوقاز والأقاليم المحيطة ببحر قزوين والبحر الأسود، ومن جهود هؤلاء الناس نشأت الحضارات الأولى في بلاد ما بين النهرين (العراق الآن من شماله إلى جنوبه) وفي الشام لثلاثة آلاف عام قبل الميلاد. وبالتوازي مع هؤلاء اندفعت أقوام إلى الجزيرة العربية، ليلتقوا مع الهجرات القادمة من الصحراء الكبرى في أفريقيا عبر الحبشة واليمن (نظرية جواد علي) بعد أن تحول المناخ فيها من السافانا إلى الجفاف الصحراوي. وربما حدث هذا اللقاء في الألف الثانية قبل الميلاد، حيث ارتضى الفريقان حياة البداوة الرعوية، وتجارة العبور ما بين المناطق الحضرية في الشمال والشرق وبين الجنوب حتى اليمن والحبشة، بتفضيل منهم للحرية على قيود العيش الحضري، مفضلين نظام القبائل المستقلة -وإن تناحرت وتحاربت- على نظام الدولة الواحدة المحجّم للحريات وبساطة العيش ومغامراته. ومحتمل أن عرب الجزيرة لم يظهروا على مسرح التاريخ إلا في القرن التاسع قبل الميلاد حيث يرد ذكرهم لأول مرة في أعمال اسخيلوس Aeschylus (ت 456 ق.م) وفي أحاديث شتى لمعاصره المؤرخ الإغريقي هيرودوت Herodotus حسب ما يبين ذلك لويس عوض ( لويس عوض - مقدمة في فقه اللغة العربية - دار سينا - القاهرة 1980 ص 38. ) لكن ذلك لا يعني أنهم كانوا غير موجودين، فالكائن قد يكون موجوداً وغير معروف في آن، كما أن أسمه قد يتغير من لغة إلى لغة (مثل Plotinus ينطقها العرب أفلاطون، واسم Constantine ينطقها العرب قسطنطين) دون أن يعني ذلك اختلاف الهوية. دعنا إذن نستنتج أن أقواماً من هؤلاء الرعاة البدو -شاسو- ( في المصرية القديمة كلمية هيك تعني ملك، وكلمة شوس تعني البدو، فتصبح الكلمة Hyksos بمعنى ملوك الرعاة. ) هم الذين اندفعوا من جهة الشرق ليغزوا مصر حوالي عام 1720 ق.م وليحكموها لفترة طويلة (153 عاماً).. وتبعاً للمؤرخ الإسرائيلي يوسيفوس (ت 93 ميلادي) الذي نقل عن مانيثون المؤرخ السكندري ( ت 250 ق.م) فإن الهكسوس هم عرب بدو، لم يكفوا قط عن محاربة المصريين بغرض إبادتهم، أو على الأقل احتلال بلادهم وإذلالهم، وقد طردهم المصريون بقيادة أحمس ثالث ملوك الأسرة السابعة عشرة عام 1567 ق.م، بعدها تفرق هؤلاء في أنحاء جزيرة العرب بهيئة قبائل صار منها العرب البائدة: عاد وثمود وطسم وجديس. وصار منهم الأنباط، ودخل بعضهم في مملكة تدمر بين الشام والعراق. وتنوعت منهم قبائل أخرى ظلت قائمة حتى البعث الإسلامي، منها قبيلة قحطان، أي عرب اليمن المعروفة باسم العرب العاربة، وقبيلة عدنان، أي عرب الحجاز المعروفة باسم العرب المستعربة، والتي جاءت منها معد ونزار إلى فهر (=قريش) بجانب مضر وربيعة، وعياض (انقرضت) حيث تفرعت من مضر قبائل سليم وهلال، وغطفان، التي منها عبس وذبيان، وحيث تفرعت من ربيعة عنزة، وعبد قيس، ووائل الذي جاءت منه بكر وتغلب. وأغلب الظن أن هؤلاء الهكسوس الذين عادوا من مصر مطرودين هم من ُأطلق عليهم اسم العماليق، ليس لأنهم كانوا طوال القامة، بل لأنهم جاءوا من بلاد كانت التماثيل فيها ضخمة جداً، فظن سكان بادية الجزيرة أن ملوك مصر القدماء كانوا على هذه الأحجام، وعلى طريقة المجاز المرسل فلقد رأى أناس الجزيرة أن يسموا القادمين منها (الهكسوس) بصفة أهل مصر القدماء ذوي الهيئة الغريبة، ومن هنا نفهم سبب إطلاق الطبري اسم غريب على جد هؤلاء العماليق. أما من زاوية الثقافة، فإن ابن خلدون يرصد أولى وأهم ملامحها عند هؤلاء البدو الرعاة في صفة النشاط العارم، والأنفة من الراحة والدعة، والوثوب إلى تحقيق الأمجاد الحربية، وإنهم ليظلون كذلك إلى أن يخلدوا للترف، فتخل عزائمهم، ويتفشى فيهم الضعف فينكسرون، وذلك بالضبط ما حدث للهكسوس في مصر. ومن ناحية أخرى فإن ابن خلدون ينتقد أهل البداوة (الأعراب) لقربهم من التوحش والتعصب، ولجهلهم بأمور السياسة التي لا يقوم العمران إلا بها. من هنا تتجلى مأثرة الإسلام في تهذيب وتشذيب هذه البداوة، بإحلال التحضر محلها، وبتشجيع أصحابها على تأسيس الدولة بقوانينها القائمة على الشريعة الربانية، علاوة على تهذيب معطيات الحياة الاجتماعية برفع مكانة المرأة إلى حد كبير، ونبذ الإحن والتعصب القبلي، والثارات المستمرة، وحث على المساواة بين المسلمين دون تفرقة بين عربي وعجمي، إضافة إلى الحض على الأخذ بمكارم الأخلاق حتى في الحروب، فلا يقتل شيخ أو طفل أو امرأة، ولا يقلع زرع أو نخل، ولا يعذب أسير تعذيباً بدنياً. وهذا كله قد ساعد على نشر العقيدة الإسلامية في البلاد المفتوحة دون قهر أو عنف. وكل ذلك جرى تحت راية الإله الواحد، رب العالمين، الرب الذي ليس له شبيه، وليس له شريك في الملك، فلا هو شيخ قبيلة منحاز إلى شعبه المختار، ولا هو بالمتخذ زوجة أو ولداً، إنما هو تجريد عقلي خالص، يستطيع كل مخلوق أن يتعامل معه بالعقل الكوني، أو بالوجدان الصوفيّ، أو بهما معاً. وعليه فإن علم اللاهوت (=علم الكلام) ليس ضرورياً للمسلم العادي لكي يجد به الاطمئنان اللازم للعقيدة، بل هو شأن من شؤون الفئات المثقفة حسب. بهذه البساطة الثقافية تمكن الإسلام من الوصول إلى شعوب وأمم لم تفتحها الجيوش العربية بالقوة العسكرية. بيد أن هذه البساطة ليست مما تغني عن ملاحقة آثار الفكر والتفلسف الإسلامي حين أصبح الإسلام دولة وحضارة. فعلى مستوى العقلنة العقائدية، ربما واجهتنا إشكالية تنوع الآيات القرآنية بين آيات تنزيه مطلق، وآيات تتصل بالصفات الإلهية التي تشي بالتجسيد والتجسيم. وهنا لابد من وقفة تحدد ازدواجية الثقافة العربية الإسلامية والتي كانت لها -ولا يزال- أكبر الأثر في المنازعات الفكرية والفقهية والمذهبية داخل العالم الإسلامي. تشير الفيزياء الحديثة إلى حقيقة مفادها أن الزمان والمكان مرتبطان تماماً بالكون، ومن ثم فلا يمكن لأحد أن يتصور زماناً أو مكاناً خارج حدود الكون. وبالنسبة للعقل البشري (نكرر كلمة العقل البشري) فهذا الخارج هو عدم محض، وأي وصف لهذا العدم لا مشاحة ينفيه، إذ يستحضره الوجود ولو بالتصور. ومن هنا تأتي الإشارة القرآنية اللطيفة إلى الإله بعبارة "ليس كمثله شيء". ولكن لما كان القرآن يخاطب البشر، وفي المقدمة منهم العرب غير المدربين وقتها على التجريد؛ فلقد كان مطلوباً أن تقرب منهم فكرة الإله الواحد من خلال إضفاء صفات الكمال عليه (على سبيل التشبيه) ولذلك فإن المعتزلة حين تعلمت التفكير المجرد مع الازدهار الثقافي في العصر العباسي، رأت ضرورة تعطيل الصفات البشرية، مقدرين ألا تكون الصفات هي عين الذات، بل معاني ملحقة بها من الجانب البشري. فالبشر حين ينظرون نحو ما يتصورونه الله، فإنهم بالطبع لا يرون شيئاً، إنما يرون نظرتهم هم إلى ما يتصورون. ولعل ابن عربي قد أفاض في هذا أكثر من المعتزلة، مستخدماً لغة الصوفية الشاعرية، ومطلقا ً اسم "البرزخ" على الحد الفاصل بين ما هو إلهي وما هو بشري. وعليه فإن العربي حين يستسلم للثقافة البسيطة لا ريب سيعجز عن فهم مرامي المعتزلة والمتصوفة، بله الفلاسفة (خاصة ابن رشد الذي أُحرقت كتبه) فإنه بهذا العجز يبتعد عن التنزيه، ليقع في أسر التجسيد والتجسيم، دون أن يفطن إلى أن الإجراء التأويلي Hermeneutic للصفات هو وحده الذي يقود إلى حقيقة التوحيد Monotheism بما يعنيه -في مجال التطبيق- من تسامح حقيقي غير مصطنع، يتمثل في الإقرار بنسبية الحقائق البشرية، وفي القبول غير المشروط بالآخر المختلف أياً كانت ديانته أو عقيدته أو جنسه. ولما كان عامة العرب -المحدودين بحدود أوضاعهم سوسيولوجياً وثقافيا- لا يرون إلا ما يرغبون في رؤيته؛ فلقد بادروا جراء حاجتهم إلى التوسع، وفتح الكيان الجيو/مورفولوجي المغلق عليهم داخل الجزيرة، إلى القبول بالإسلام كعقيدة توحيد اجتماعي وسياسي ليس إلا، وإلى التدثر بدثار الفكر الاشعري السني، الذي رفض التأويل بداية (ثم قبل به لصالح السلطة السياسية المركزية فيما بعد) وهكذا اندفع العرب نحو الفتوحات العسكرية، صاعدين بتيارات التزمت إلى قمتها ممثلة في الفقه الحنبلي من ناحية، ومن أخرى في إضفاء صفات شبه إلهية على أولي الأمر، مما عكر على أية إمكانية تستهدف الإصلاح الديني والسياسي، وذلك منذ تأسيس الدولة المركزية وحتى تفككها وانقسامها إلى دويلات أو دول، تحمل جميعها نفس الخصائص، وتدور في نفس الدائرة، حيث راحت تباشر ثقافة الاستعلاء التي انبنت - اقتصادياً - منذ البداية على النفور من العمل الإنتاجي، اكتفاء بامتصاص موارد الآخر. سواء أكان هذا الآخر شعوب بلاد مفتوحة (الخراج) أم كان -داخلياً- طبقات اجتماعية مقهورة (الضرائب والجزية.. الخ) ولكن بقدر ما كانت ثقافة الاستعلاء تلك حافزاً على النجاح في عصر الفتوحات الكبرى؛ بقدر ما صارت حاجزاً -في عصر الهزائم والانكسارات التي مازال ممتدا ً حتى الآن- يحول دون امتلاك القدرة على النقد الذاتي، هذا الذي به وحده يمكن تجاوز أزمة الثقافة العربية. ثانياً: القومية المصرية: يعرف نيتشه الشعب بأنه "جماعة معنوية يشترك أعضاءها في مفاهيمهم عن الخير والشر" وإنه لتعريف دقيق يؤطر بامتياز فكرة القومية Nationality تلك التي اعتمدت أساساً للدول الحديثة منذ توقيع معاهدة وستفاليا 1648 حيث يكتسب الأفراد -بمجرد ميلادهم على أرض محددة- صفة المواطن Citizen لا الرعية التي تحتاج إلى راع يسوقها. فأما المصريون فقد عاشوا هذه الفكرة - بتعريف نيتشه، وقبل تلك المعاهدة الموقعة من الدول الأوروبية، بأكثر من أربعة ألاف عام، مستخلصين عناصرها لا من الدين الواحد، ولا من الدولة الواحدة، بل من التجربة العملية التاريخية، وذلك ما يفسر تماسك النسيج الاجتماعي عند المصريين رغم تعدد دياناتهم عبر العصور: عبادة أوزير، فآمون رع، فآتون، ثم المسيحية فالإسلام. كذلك كان الحال فيما تعلق بالانصهار الجنسي، فالعرب الذين استوطنوا مصر صاروا مصريين، وكذلك أهل النوبة، القبيلة ذات اللغة المختلفة عن المصرية القديمة وعن العربية الحديثة، حيث ساهم موضع مصر (بحد تعبير جمال حمدان) كشبه جزيرة صحراوية في صهر العرب والنوبيين، خاصة بعد انتشار الأخيرين في أقاليم مصر جراء مشاريع الري وخزان أسوان ثم السد العالي، بقدر ما كان الانتشار العربي "أشبه بعملية الانتشار الغشائي الاسموزي عملية تغلغل لا زحزحة". ( جمال حمدان - شخصية مصر - كتاب الهلال - يوليو 1967 ص 35 . ) فمن أين جاء هؤلاء المصريون؟ وكيف تمكنوا من تشذيب فكرة القومية -الراسخة في وجدانهم- بحيث لا تنزلق بهم إلى الفاشية Fascism برغم خضوعهم أغلب الوقت لحكم زعماء ديكتاتوريين يسيطرون على كل شكل من أشكال النشاط القومي؟! عن السؤال الأول يكاد علماء الأجناس المعاصرين أمثال ماسبيرو، وبيتارد، وسميث، ومورجان، وميريت أن يتفقوا على أن السلالات التي سكنت وادي النيل قبيل عشرة آلاف عام قبل الميلاد إنما هي سلالات مولدة من الأحباش والنوبيين والليبيين من ناحية، ومن أخرى من المهاجرين الساميين والأرمن، وأن عملية انصهار تاريخية طويلة هي التي تمخض عنها هذا الشعب المميز، الذي أنشأ حضارته ومدنيته ما بين الألف الرابعة والألف الثالثة قبل الميلاد. وأما نجيب ميخائيل إبراهيم فيحدد ظهور المصريين على مسرح الأحداث ببداية العصر الحجري الحديث حوالي عام 6000 ق.م حيث عرف الإنسان الاستقرار وتوصل للزراعة بعد أن استأنس الحيوان وبنى المساكن، وعرف النحاس الذي راح يصنع منه أدواته. وفي هذا العصر ظهرت "حضارات أولى في ديرتاسا والبداري (الصعيد) والفيوم (مصر الوسطى) ومرمدة بني سلامة وحلون (الوجه البحري) ثم حلوان الثانية والمعادي (جنوب الدلتا) ولا شك أن هذا هو رأي السير فلندرز بيتري، ومعاصره البروفيسير دي مورجان De Morgan الذي توصل إلى نتائجه من خلال دراسته للمقابر في نقاده، ساعدت بتري على وضع طريقه محددة لتنظيم تاريخ ما قبل التاريخ (أي ما قبل التدوين) وهو ما سماه بتري بالتوقيت المتتابع (نجيب ميخائيل إبراهيم - مصر والشرق الأدنى القديم - ط 4 دار المعارق بمصر - 1963 ص 26.) ولا يختلف برستيد H. G. Breasted عــن هــــؤلاء إلا فــــي قولـــه إن المجتمع المصري الذي تألف من عدة ملايين اندمج في أمة واحدة حوالي 4000 ق.م كان من نتيجته تأسيس أقدم حكومة مركزية قوية معتبراً أن هذا هو الاتحاد الأول، تبعه الاتحاد الثاني بتوحيد الجنوب والشمال في دولة واحدة عام 3200 ق.م على يد نرمر/مينا في شكل نظام كامل للحكم والاقتصاد والقيم الاجتماعية، والدين، والعمارة، والفن والأدب لألف عام قادمة، كانت كفيلة بوضع مصر من الناحية الأخلاقية فوق اعتبارات الشحناء والتنازع السياسي والاجتماعي الذي عرفته بابل وسائر الممالك في هذا الوقت. (هنري جيمس بريستيد - فجر الضمير - ترجمة سليم حسن - هـ.ع للكتاب - 1999 ص 30.) فلا خطأ إذن القول بأن المصريين لم يكونوا عرباً منذ ولادتهم كأمة وحتى بلوغهم سن النضج والكهولة، تلك السن التي لا تتأتى بعدها تغييرات جوهرية، نعم قد يغير الرجل ثيابه، مستبدلاً السترة والسروال بالجلباب، ولكنه لا يستطيع أن يغير جلده أو لون عينيه، اللهم إلا بعمليات جراحية معقدة، لا تخدم غير المظهر (مثل ذلك المغني الأمريكي الأسود الذي تحول لأسباب عنصرية ونجومية إلى لون البياض) بينما تظل الجينات الأساسية تفعل فعلها في الكل البيولوجي والفسيولوجي، وفي الجهاز السيكولوجي بالأخص. فإلى أي مدى يمكن أن يعيننا هذا المثال على فهم علاقة المصريين بالعرب؟ ذلك ما سوف نناقشه في موضع لاحق، حيث علينا أن نجيب قبلاً عن السؤال الثاني الذي طرحناه آنفاً، والمتعلق بكيفية عدم انزلاق المصريين - بحكم قوميتهم الواضحة- إلى فاشية عرفتها قوميات عديدة ( والأمثلة على ذلك كثيرة، أبرزها القومية الألمانية، والايطالية، واليابانية، والصربية، فضلاً عن الصهيونية التي يراد بها كافة يهود العالم، ولا يمكن استثناء العرب من ذلك، حيث روجت فكرة "القومية العربية" لمحاولة العراق ابتلاع الكويت، ومن قبل دفعت بالحماس الناصري إلى تقسيم الدول العربية ما بين دول تقدمية، وأخرى رجعية، فضلاً عن الأخطاء التي وقع فيها القوميون العرب، وفي مقدمة هذه الأخطاء مخاصم الديمقراطية، وطمس الفروق الطبقية التي هي حقيقة واقعة في كل المجتمعات العربية أيا كانت درجة تطورها. ) وهو ما يقتضي تعريف الفاشية بداية، فالكلمة Fascism تشير لغوياً إلى مجموعة من العصي مربوطة ببعضها البعض. وأما فلسفتها فتقوم على محاولة متعسفة للوصول إلى مرّكب الزمان/المكان الذي يقبع فيه العقل الجمعي بحيث يكون الأفراد بالنسبة إليه مجرد تجليات. ويتطلب ذلك وجود قيادة عليا لهؤلاء الأفراد، تتماهي الجماعة معها (نموذج هتلر وموسوليني) بشعار تمجيد الدولة، والعرق Race، وبموجب السيطرة على شكل من أشكال النشاط القومي لصالح حزب الدولة (بالقمع لكل حزب آخر، وبالإرهاب الحقيقي لكل جماعة معارضة) وعليه فالنزعة الفاشية لا تبرز إلا في المجتمعات المتعددة المصالح والطبقات، لا سيما المجتمعات الصناعية الحديثة. بالنسبة للمصريين، فإن تاريخهم الطويل، وطبائعهم الوديعة (السنبلة رمزها) هما ما أبعدا شبح الفاشية عن التسلل إلى المكون الفلسفي والثقافي لديهم، ففي مرحلة المشترك القروي، كانت ملكية الأرض تحت التصرف المعنوي لمجلس الحكماء (سراة القرية) وما كانت ثمة حاجة للتصارع على ريعها بفضل حكمة هؤلاء السراة. أما حين انتقلت تلك الملكية إلى الدولة، فقد انقسم المجتمع المصري إلى طبقتين: الحكام والمحكومين، ساد بينهما نوع من التوافق المجتمعي (إذعاناً أو بالرضا الظاهري) كان حرياً بألا يقسم الناس إلى سادة (=لوردات) وعبيد. وظل هذا هو الحال حتى العصر الحديث، حيث بقى الناس ينظرون إلى الدولة باعتبارها الأم الرؤوم، وإلى الحاكم - أميراً أو ملكاً أو رئيساً- نظرتهم إلى الأب المحبوب والمرهوب في آن، دون حاجة إلى فلسفة تستهدف الوصول إلى مّركب للزمان/المكان يتجلى فيه العقل الجمعي من خلال زعيم أوحد أو حزب ذي تشكيل إرهابي. وعلى حين أسهمت المسيحية الأرثوذكسية في إقرار فصل الدين عن الدولة (دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله) فإن انتفاء صفة الكهنوت عن النظام الإسلامي، أسهم بدوره في إبعاد النشاط الاجتماعي (على الأقل) عن السيطرة المطلقة للنخب الإسلامية الحاكمة. والمثال الأوضح على ذلك انصراف المصريين عن المذهب الشيعي، رغم خضوعهم سياسياً لحكم الفاطميين لمائتي عام، ثم استمرارهم في حب آل البيت حتى بعد زوال دولة الفاطميين. وهكذا فإن تعريف الشعب، الذي ذكره نيتشه بأنه "جماعة معنوية يشترك أعضاؤها في مفاهيمهم للخير والشر" لا ريب منطبق على المصريين تمام الانطباق، في تأكيد واضح لهويتهم، حتى وإن اتصلوا ثقافياً بغيرهم من الشعوب، وفي مقدمة هؤلاء الشعوب: العرب. ثالثاً: مصر والتعريب: حين دخل عمرو بن العاص مصر فاتحاً عام 640 ميلادي، لم يقاتله المصريون، بل تلقوه بالترحاب، ناظرين إليه كمخلص لهم من حكم البيزنطيين المتعسف. فكان استسلام الإسكندرية مقبولاً من الشعب، ارتضاءً بالشروط المعتادة والمفروضة من الجانب العربي: سداد المسيحيين واليهود الجزية مقابل توفير الحماية لهم. وعلى حين انتقلت السلطة من الوالي البيزنطي إلى الوالي العربي؛ ظل أهل مصر - كما كانوا دائماً- في موضع المحكومين. غير أن عاملاً جديداً كان قد بدأ يظهر وبقوة، ذلك هو دين الإسلام، الذي اكتشف فيه الكثيرون عنصراً تحريرياً، فالذي يعتنق الإسلام تسقط عنه الجزية، (في عام 77 هـ وفي عهد عبد الملك ابن مروان دخل الإسلام 24000 قبطي دفعة واحدة. ) والأكثر أنه يكتسب صفة "الأخوة" مع العربي الفاتح، فلا غرو أن يسعى المصري إلى تأكيد هذه الصفة المنبثقة عن وحدة الدين بشواهد أخرى إثنولوجية وتاريخية ولغوية. ولما كانت هذه القرائن مصطنعة Artificial فلقد ظهرت الحاجة إلى "الأيديولوجيا" بحسبانها الإطار الفكري المحقق لمصالح الجماعة، والمحدد لطريقة رؤيتها للعالم ولنفسها. وآية ذلك أن المصريين المنحدرين أصلاً من الجنس الحامي، صاروا يتفاخرون بعد تزاوجهم مع الفاتحين بأنهم "أولاد العرب". وكما حدث للمصريين بشأن اعتناق الإسلام بالحوافز المقررة، انطلقت عملية تعريب اللسان بحوافز تبوّءِ المناصب وشغل الوظائف في الدولة، فما أن أمر الخليفة الأموي مروان بن عبد الملك عام 705 ميلادي (= 87 هـ) بقصر التعامل في دواوين الحكومة على اللغة العربية، حتى اندفع المصريون إلى تعلم العربية، بل وبدأ مثقفوها في ترجمة الإنجيل وغيره من الكتب الهامة إلى اللغة العربية، بالتوازي مع ما جرى-جيومورفولوجيا- من نقل قبائل عربية بأكملها في عملية استيطان واسعة لمصر، ومع اضطرار هذه القبائل للعمل بالزراعة أسوة بالمصريين، فإن علاقات الجوار والمصاهرات والتزاوج، ما لبثت حتى أثمرت أعلى درجات الانصهار، إلى درجة اشتراك الأقباط والعرب المستوطنين في انتفاضات متعددة بالضد على دولة الخلافة، اعتراضاً على فداحة الخراج على المزارعين، وكانت آخر تلك الانتفاضات تلك التي قمعها الخليفة المأمون بنفسه عام 831 ميلادي (=216 هـ) وأجرى فيها دماء الآلاف من هؤلاء وأولئك. ( راجع ابن تغري بردي - النجوم الزاهرة في ملوك مصر بالقاهرة - الجزء الثاني ص 216 . طبعة مصورة من دار الكتب. ) فهل أصبح المصريون عرباً بهذا الانصهار؟ أم أن ما جرى هو العكس من ذلك؟ وقبلاً ماذا كان للإسلام من دور في هذا التعريب المزعوم؟ فيما يتعلق بالإسلام، فلا أحد يماري في أن الإسلام دين وليس ثقافة، فالدين يُعتنق -أو يـُبدل- بإرادة الأفراد، بينما الثقافة هي موروث اجتماعي يستحيل التخلي عنه بقرار من أحد. وعن هذا المعنى يعبر واحد من فقهاء الإسلام، هو ربيعة الرأي ( هو ربيعة بن ابي عبد الرحمن فروح (ت 136 هـ) وكان استاذاً للإمام مالك. ) إذ يقول :"رأيتهم في العراق يحرمون حلالنا، ويحللون حرامنا، وهم مسلمون ونحن مسلمون" ولقد دخل الإسلام واستقر بفارس والهند واندونيسيا، وتركيا (آسيا الصغرى) والبلقان، ومع ذلك فإن أهل هذه البلاد لم يصبحوا عرباً، وظلت ثقافتهم القومية قائمة حتى اليوم. لكن قرينة تغير اللسان المصري هي التي أوحت بعروبة لمصر (والأولى أن يقال تعريب اللغة الرسمية) حتى أن كثيراً من المثقفين المصريين - ربما بتأثير أيديولوجيا القومية العربية، وهي أيديولوجيا حديثة- راحوا يتبنون فكرة أن مصر عربية. فبينما تقرر سيدة إسماعيل الكاشف أن العرب المستوطنين الذين انصهروا مع أهل مصر، "قد فقدوا تميزهم كفاتحين منذ اشتغالهم بالزراعة والتجارة والحرف". ( راجع سيدة إسماعيل الكاشف - مجتمع الإسكندرية عبر العصور - كتاب كلية الآداب جامعة الإسكندرية 1973- ص202.) فإنها بدلاً من أن تستنتج حقيقة تحول العرب المستوطنين إلى مصريين (وقد ذكرت في هذا نصف جملة) راحت تسعى لإثبات عروبة مصر. تقرر قاعدة "نصل اوكام Ocam Razor" انه في كل مجموعة من التصورات فإن أقربها إلى الحقيقة هو أبسطها -وتبعاً لهذه القاعدة المستعارة من عالم الفيزياء- فإن تمصر العرب الفاتحين أو المستوطنين، هو بالضبط ما حدث، وهو عينه ما استقر عليه وعي الدولة المركزية في بغداد، حيث تم التعاطي مع "الحقيقة المصرية" سواء من جانبها أو من جانب الولاة: إخشيديين، طولونيين، أيوبيين، مماليك، حتى وإن أعلنوا الولاء الاسمي للخلافة الإسلامية القابعة في بغداد، أو في الأستانة بعدها. لم يكن الإسلام إذن هو منشئ التصور لعروبة مصر، ولكن المنشئ الحقيقي لهذا التصور إنما كان اللغة من ناحية، والأيديولوجيا من ناحية أخرى. فأما اللغة فلقد ظهرت -كإشكالية- بالعبارة القائلة بأن المصريين يتكلمون الآن بالعربية، وهي مفارقة Paradox توهم بالصحة بينما هي متناقضة. ذلك لأن المصريين -وحتى المثقفين منهم- لا يتكلمون في حياتهم اليومية بالعربية الفصحى، بل بالعامية المصرية، في حين يستخدمون العربية كلغة للكتابة حسب، أو للأحاديث الرسمية وشبه الرسمية القريبة من لغة الكتابة. وآية ذلك أن الأطفال الذين فاتهم التعليم في المدارس لا يكادون يفقهون شيئاً من الفصحـــى الكتابيـــة. أولاً لأنهـــا ليســــت لسان الأم Mother Tongue، وثانياً لأن مواضيع الفصحى هي الفكر والأدب الرسميين، والعامة بطبعها لا تشغل البال بالفكر، ولا تستوعب إلا الأدب الشعبي المنطوق بالعامية. ومن هنا كان حرص السينمائيين على إدارة حوار أفلامهم بالعامية الشائعة، وكذلك عمد الكثيرون من مؤلفي المسرح إلى تلك العامية للتواصل مع الناس العاديين. ولقد أصر فرديناند دي سوسير على التمييز بين اللغة Language (كأجرومية) وبين الكلام Parol من حيث هو شفاهي. وحتى في سياق المقارنة بين العربية الفصحى وبين عامية المصريين، فإننا نلحظ أن البناء النحوي مختلف. فالمصريون يقولون -في صيغة النفي مثلاً- (ما روحتش، ما أكلتش..الخ) فعلامة النفي هنا هي حرف الشين الذي يأتي في آخر الفعل، بينما في العربية تأتي العلامة في بدايته: (لم أذهب، لم آكل..الخ). وعليه فلا يمكن اعتبار العامية المصرية مجرد لهجة منحطة متفرعة من الفصحى، بل هي لغة موازية لها، وإن جاء انحطاطها نتاجاً لتاريخ الانحطاط الذاتي الذي انتقل من الديموطيقية إلى القبطية إلى العامية الحديثة لأسباب سياسية واجتماعية كثيرة ومعقدة. والأمر نفسه يمكن تطبيقه على الفصحى العربية، فلغة القرآن الكريم الراقية السامية، لغة الشعر العربي الرائع عند المتنبي وأبي فراس، والمعري ليست هي الآن لغة الصحافة والإذاعيات والتلفزيونات العربية. والحاصل أن فرض اللغة العربية على المصريين منذ العصر الأموي وحتى اليوم، إنما أورثهم ازدواجية لغوية، كان من نتائجها السلبية الفصل ما بين لغة المثقفين وبين لغة الحياة اليومية. فالمثقف المصري تراه يحرص على التفكير -ولو هنيهات- قبل أن ينطق بجملة في المحافل وفي الندوات، أو في أحاديث الميديا خشية أن يخطئ في نحو أو صرف، أو أن يلحن في كلمة من الكلمات فتضيع هيبته عند أقرانه، الأمر الذي يباطئ من تفكيره. وبالمقابل فإن الرجل العادي الذي لا يعرف إلا العامية، يقر لديه بأنه مغترب في دنيا الفكر، والثقافة (بمعناها المهني) فينصرف ابتداء عن كل ممارسة فكرية، مكتفياً بالحياة المعيشية من طعام وشراب وملبس ومسكن وتزاوج، دون أدنى عناية بتأصيل هذه الممارسات على المستوى الثقافي، بمعنى النظر والتأمل واستخلاص القوانين الحاكمة لعمليات التفكير. ولقد يثور سؤال عن هوية المغرب العربي الواقع غرب مصر وحتى المحيط الأطلنطي. هنا يختلف الأمر كثيراً. فالواقع الجيبولوتيكي لهذا المغرب العربي لم يعرف حضارات ذات عمق وامتداد تاريخيين كالذين عرفتهما مصر، وعليه فإن استيطان العرب في هذه البلاد إنما وجد فراغاً نسبياً، استطاع بفضله أن يعرب معظم قبائلها (البربر) فإنتقلت من الوثنية والنصرانية إلى الإسلام، ومن اللغة الأمازيغية إلى العربية. بالنسبة للعامل الثاني في إظهار التوهم بعروبة مصر، لا ريب يعود إلى الأيديولوجيا السياسية، تلك التي أرسى نصارى الشام أسسها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بغرض التخلص من الحكم العثماني القائم على رابطة الدين، مستبدلين به ما أسموه بالرابطة القومية التي تجمع بين العرب المسلمين والمسيحيين لمواجهة المصير المشترك، والحق أن هذا الكفاح الأيدلوجي السياسي لم يخرج من معركته صفر اليدين، خصوصاً وأن دول الغرب ذات الصلة (انجلترا وفرنسا) قد دعمتاه لمصلحتهما في الإجهاز على رجل أوروبا المريض. لكن سقف هذا الدعم كان مشروطاً باستقلال تلك الدول العربية، كل دولة عن الأخرى، فظهر هذا واضحاً في ميثاق الجامعة العربية التي أنشئت بعد الحرب العالمية والثانية. ولم يكن ممكناً لمصر، وهي في موقع القلب بين المشرق العربي والمغرب العربي ألا تكون عضواً مؤسساً لهذه الجامعة. ولقد كان لضياع فلسطين أثره في ازدياد حاجة الكل إلى أيديولوجية قومية، تواجه بها الصهيونية المنتصرة عسكرياً الداعية إلى قومية توسعية تهدف إلى جلب يهود العالم إلى المنطقة، فكان أن نهض القوميون العرب: ناصريون وبعثيون إلى هذه المجابهة الضرورية. وبالطبع فإن أحداً لا يماري في أن الصهيونية -الداعية إلى قومية لليهود- إنما تقوم على التعصب Fanaticism (الجذر اللاتيني للكلمة Fanum أي المعبد) والاصطناعية، وهذا هو ما أدى بكارل بوبر إلى رفض أي زعم بهوية ثقافية يهودية واحدة. فماذا عن أيديولوجية القومية العربية؟ أتراها تقوم على وحدة ثقافية متجانسة.. أم على دواع ٍ محض سياسية؟ للإجابة عن هذا السؤال لن نكتفي بالتذكير بمقولة "ربيعة الرأي" التي سقناها، بل نضيف إليها شواهد الواقع التي تثبت أن ثقافة الماء مغايرة لثقافة الصحراء، وثقافة المشرق العربي غير ثقافة المغرب العربي -حسب محمد عابد الجابري- وحتى في الموقف من الدين الواحد ترى فروقاً جوهرية بين ثقافة السنة، وثقافة الشيعة داخل العالم العربي، وحتى في تفسير الدين داخل كل من المذهبين الكبيرين، هناك التفسير الثقافي الوهابي، والتفسير المصري المعتدل (ربما قبل تأثر المصريين به لهجرة الكثيرين منهم إلى السعودية جلباً للمال) فضلاً عن المغايرات الهائلة بين مذاهب الشيعة ما بين زيدية إمامية، وإسماعيلية، وغلاة. ورغم ذلك فإن مثقفة مصرية كبيرة هي د.يمنى طريف الخولي، راحت تحيي المفكر اليهودي ارنست جومبريش، مطلقة عليه صفة "النبيل" لموافقته كارل بوبر في رفض القومية اليهودية، وفي نفس الوقت تعود لتنتقد بوبر حين عمم نقده لفكرة القومية بإطلاق، متهمة إياه بالعجز عن فهم معنى القومية العربية، التي تراها هي ثقافة لا سياسة Non-Political Culture، وهذا بالطبع كلام غامض من حيث هو تعريف بالسلب، فضلاً عن مناقضته للواقع السياسي. (في حديث هاتفي للكاتب مع د. يمنى لمناقشتها فيما أوردته من آراء بمقدمتها الكتاب كارل بوبر "أسطورة الإطار" قالت إنها لا تستطيع أن تدين أفعال بن لادن والزرقاوي الإرهابية، في الوقت الذي يواجهان فيه الهيمنة الأمريكية الباغية، مؤكدة أنها تفعل ذلك انطلاقاً من موقف قومي عربي وإسلامي. فهل تكون القومية العربية بهذا الفهم (بتحالفها مع الإسلام السياسي) مجرد ثقافة لا سياسية؟ ) والحق أن أيديولوجية القومية العربية، استطاعت في وقت ما أن تروج لنفسها (أي للحكام الذين تبنوها) بين الجماهير، لكنها شأن كل فكرة فوقية، لم تكن لتسمح لهذه الجماهير أن تدخل معها في حوار حر، شرطه وجود تنظيمات شعبية لا وصاية عليها، فكان إفصاح هذه الإيديولوجية عن وجه التعصب هو ما قادها إلى العصف بكل فكر مغاير (ماركسي، ليبرالي، إسلامي.. الخ) والتنكيل بكل من به شبهة معارضة. ولأن التعصب يولد التعصب المضاد، تمت الإطاحة بدولة الوحدة المصرية/السورية، وأفشلت كل الاتحادات العربية التالية، مما انتهى إلى عزل الناصرية القومية عن الحكم في مصر، وسقوط البعث القومي في العراق، ومحاصرة سلطة البعث القومي في سوريا، أما قلعة القومية الصاخبة في ليبيا، فما لبثت حتى أعلنت الكفر بالقومية العربية جملة وتفصيلاً، بحثاً عن هوية أفريقية تكون بديلاً عن الحلم الوحدوي العربي المجهض. أما بالنسبة لمصر، فلقد بـــات جلياً أنها تعـــمل الآن لا لقيـــادة الــــدول العربية نحو وحــــدة سياسيـــة (تخلى عنهــــا لجميــــع إلا فــــي الخطــــب والأشعار) بـــل لتحـــــمي ذاتها كـــدولة مستقــــلة، في وقـــت لم يعــد فيه الاستقـلال -بالمعنى الكـــلاسيكي- متاحاً، وذلك بمقتضى معطيات العولمة، وتراجع مفهوم سيادة الدول عملياً على الأقل. رابعاً: الحصاد التاريخي للمثاقفة المصرية العربية: فإذا لم يكن المصريون عرباً، فهل يتشكك أحد في أن مثاقفة Acculuration -بمعنى الأخذ والعطاء الثقافيين- قد قامت بين هؤلاء وأولئك عبر هذا التاريخ الممتد لأكثر من أربعة عشر قرناً؟ من جانب العرب، فلقد أفادت النخب المثقفة لديهم من الطرح المصري الآريوسي (نسبة إلى الراهب آريوس الذي بنى مذهبه على إنكار إلوهية يسوع المسيح. وقد اغتاله أتباع أنبا الإسكندرية أثناسيوس الشهير عام 336 ميلادي. ففر تلامذته مهاجرين إلى الحبشة، فاليمن، فالجزيرة العربية حيث نشروا فكرته عن بشرية يسوع. ) للعلاقة بين اللاهوت والناسوت، في تثبيت العقيدة القرآنية حول طبيعة المسيح، الأمر الذي مهد بالمناقشات العقلية لميلاد علم الكلام فالفلسفة فيما بعد. إضافة إلى الأثر الثقافي المصري (اخناتون) في إشاعة مقدمات فكرة التوحيد في عقول البشر.كما أفاد البناءون العرب من طرز العمارة المصرية في تشييد المساجد ذات المآذن والقباب، ومنها إلى القصور والمنازل، والساحات متعددة الأغراض. وذلك في نقلة نوعية -أساسها العلاقة الجدلية بين المكان وشاغليه- أنتجت واقعاً متحضراً راح يحل يوماً بعد يوم محل مجتمع البداوة، حتى بلغ قمته في مدينة بغداد عاصمة الخلافة الإسلامية لأكثر من خمسة قرون، وإحدى عواصم الأدب والفن والفكر حتى اليوم، رغم مآسي الاحتلال والحرب الأهلية. وبالمقابل، فقد أعطى العرب لمصر: الإسلام.. تاج الديانات طراً، بدعوته العالمية إلى عبادة رب واحد، يتساوى أمامه البشر بغير تمييز عرقي أو جنسي أو لغوي. وكما بَينـّا في بداية هذا الفصل فإن الإسلام الذي يحض على مكارم الأخلاق، والذي ما جاءت رسالته السماوية إلا عبر نبي هو رحمة للعالمين (للعالمين وليس للمسلمين حسب) لا يمكن أن يعد مسئولا ً عن أفعال المنتسبين إليه، سواء أكانوا عرباً أو غير عرب. أما عرب الجزيرة الذين اندفعوا إلى الفتوحات الخارجية، تحت راية الإسلام! لأغراض دنيوية بحتة، فقد انتهجوا في مصر (كما في غيرها) نهج القهر الرامي إلى استلاب الناس، وهاهو ذا ابن خلدون يكتب مقرراً هذه الحقيقة قائلاً : "وسياسة الملك والسلطان تقتضي أن يكون السائس وازعاً بالقهر، وإلا لم تستقم سياسته، وأيضاً فإن من طبيعة العرب اخذ ما في أيدي الناس.. فإذا ملكوا أمة، جعلوا غاية ملكهم الانتفاع بما في ايديهم، وتركوا ما سوى ذلك من الاحكام بينهم، وربما جعلوا العقوبات على المفاسد في الأموال حرصاً على تكثير الجبايات، وتحصيل الفوائد فلا يكون ذلك وازعاً، بل ربما يكون باعثاً بحسب الأغراض الباعثة على المفاسد واستهانة ً بما يعطي من ماله في جانب فرده، فتنمو المفاسد ويقع تخريب العمران... فبعدت طباع العرب لذلك كله عن سياسة الملك. (عبد الرحمن بن خلدون - المقدمة - دار القلم - بيروت - لبنان - ط 4 - 1981 ص 151، ) بيد أن ابن خلدون (ت 1406 ميلادي =805 هـ) لم يفصل في كتابه "العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر" ما أوجزه من سياسة العرب في "المقدمة" وأثر تلك السياسة على أحوال مصر الاقتصادية والاجتماعية، في حين انبرى في هذه المهمة تلميذه النابغة المقريزي (ت 1445 ميلادي = 845 هـ) راصداً سوء إدارة الحكم العربي -بعسكره وتجاره- لمصر بتوالي النكبات من قحط ومجاعات وأوبئة ونهب لأقوات الناس (راجع تفاصيل الأزمة المستنصرية في العصر الفاطمي بكتاب "إغاثة الأمة بكشف الغمة"- كتاب الهلال - ابريل 1990. ) فضلاً عن تجريف موارد الفلاحين لصالح الخلفاء والولاة والجباة، وهو ما وجد انعكاسه على تدهور أحوال المصريين، بل وتناقصهم الرهيب من حوالي عشرين مليون نسمة عام الفتح 641 ميلادي إلى مليونين ونصف مليون عام 1800 ميلادي. (راجع في ذلك ابن عبد الحكم في كتابه فتوح مصر وأخبارها صفحة 156، وكذلك كتاب النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة ج أول ص 231 لابن تغري بردي لتتبين تعداد المصريين خلال الأعوام السبعين الأولى من الفتح العربي من خلال عملية حسابية بسيطة لمن كان عليهم سداد الجزية (خمسة مليون نسمة). وبافتراض أن كل شخص منهم كان يعول زوجة وثلاثة أولاد، فإن عدد المصريين لابد واصل إلى عشرين مليون نسمة. وبالنسبة لتعداد المصريين على أيام الحملة الفرنسية، راجع إسماعيل حسن عبد الباري- الديموجرافيا الاجتماعية- دار المعارف- القاهرة 1983 ص 233.) ومع ذلك، فمن الإنصاف القول بأن وارثي حكم البداوة العربي لمصر -الأكراد الأيوبيين، فالمماليك، ثم العثمانيين- قد دفعوا بعملية "لتجريف" هذه خطوات للأمام، ولكن يظل صحيحاً أن البداوة الحاكمة العربية هي التي استدعت هؤلاء، وهم مثلها من أصول بدوية تفتقر إلى العمق التاريخي الحضاري، ومثلها أيضاً مجبولون على القوة والعنف والإرهاب (ترميزاً بالبلطة) مما سوف يسرب للمصريين شيئاً من مظاهر البلطجة فيما بعد، نتيجة التأثر اللاواعي، الذي يظل كامناً حتى يجد الظروف الملائمة فيتبدى. على أن النزوع إلى الإرهاب الفكري الذي تسلل إلى العقل الجمعي المصري في العقود الحالية، إنما هو صناعة عربية لا غش فيها. وتفصيل ذلك أن الإرهاب الفكري لا مشاحة يعتمد على نزعة أصولية Fundamental trend تنهج للتعامل مع الوجود من منطلق التمركز حول شخص، أو حدث (واقعي أو متوهم) تتخذه معيارا ً للمعرفة، ومقياساً للحقائق (مذهب الأصولية Fundamentalism هو مذهب العصمة، فالكتاب المقدس معصوم من الخطأ، ليس فحسب في قضايا العقيدة والأخلاق، بل فيما يتعلق أيضاً بنشأة الكون والحياة والتاريخ، وعليه نتائج علم الفيزياء والبيولوجيا والأنثروبولوجيا -وكذلك مناهجها في البث- مرفوضة من جانب الأصوليين. ) ومن ثم فلا مجال لاختبار صواب أو خطأ المعتقد، بل تثبيته بكل الوسائل بما فيها استخدام القوة. وذلك بالضبــط مــــا أرسى دعائمـــــه الخليفـــة القـــائم (1040 ميلادي = 433هـ) بتقنينه ما أسماه أبوه الخليفة القادر "العقيدة الصحيحة"، (أورد أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "المنتظم في تاريخ الملوك والأمم" نص هذه العقدة القادرية، وملخصها: ( أ) كلام الله قديم (ب) أفعال الإنسان مقدرة سلفاً (ج) تارك الصلاة بغير عذر كافر (د) تقديم علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر كفر صريح (هـ) التقول على عائشة خروج عن الملة (و) من يجحد معاوية لا يسمى مسلماً. ) وبهذا صار المعتزلة والشيعة والفلاسفة كفاراً بنظر الدولة، فصار القتل والتعذيب والنفي أمراً شرعياً وقانونياً منذئذ وحتى سقوط الخلافة العباسية ذاتها عام 1258 ميلادي (=656 هـ) هذا السقوط الذي شكل الجمودُ الفكري بنزعته الأصولية جانباً من أسبابه. غير أن الأصولية ما لبثت حتى وجدت نصيراً لها في فكر الفقيه تقي الدين ابن تيمية الدمشقي المولد (ت 1328 = 710هـ).وكان من فقهاء الحنابلة المتأخرين، فشدد النكير على الشيعة واعتبرهم مارقين وعارض البدع في كل أمر من أمور الدين والدنيا، ودعا إلى الأخذ بمرجعية النص القرآني، والسنة حسب. وقد ظل فكره هذا قابعاً في الكتب، ولدى المريدين والأتباع حتى قيد له أن يجد جماعة سياسية تروج له، وسلطة Power تتبناه، حيث وقع ذلك بالتحالف بين محمد بن عبد الوهاب من شيوخ نجد، وبين زعيم من زعماء أواسط الجزيرة العربية: محمد بن سعود (ت 1865 ميلادي) فكان أن ظهر "التيار الوهابي" وبقي قائماً حتى الآن، رغم انكسار شوكته العسكرية، بهزيمته أمام الجيش المصري بقيادة إبراهيم باشا ابن محمد علي في حملته على الجزيرة العربية بين عامي 1816، 1818. بالمقابل فإن هزيمة الجيش المصري أمام إسرائيل عام 1967 كانت فرصة للتيار الوهابي لاختراق العقل المصري، فيما يشبه الثأر الثقافي، ومن ثم فلقد قامت الأصولية بكل ما تعنيه من تزمت وتعصب وتحبيذ للعنف إزاء المخالفين للرأي بغزوات ناجحة لمصر، لا سيما أن الأزمات السياسية والاقتصادية التي ضربت المصريين بعد هزيمة دولتهم في حرب حزيران أفضت إلى اعتماد مصر ماليا على السعودية في مسألة إعادة بناء القوات المسلحة (مؤتمر قمة الخرطوم 1967) بموجب صفقة قبل عبد الناصر بمقتضاها سحب القوات المصرية من اليمن، ورضي بتصعيد السادات (الأصولي النزعة) ليصبح بعد عامين اثنين نائباً للرئيس، ثم رئيساً للجمهورية عام 1970. أما المصريون الفقراء، فقد تسابقوا للعمل بالمملكة العربية السعودية تحت وطأة الحاجة الشديدة، فكان شرط بقائهم في وظائفهم أن يقبلوا بثقافة الوهابيين، وأن يتعايشوا معها إلى درجة التبني. وحال عودة العائدين منهم إلى مصر، لم يكن أمامهم من سبيل يشجعهم على الانسلاخ مما اكتسبوه هناك، لا سيما وأن الدولة المدنية في مصر كانت قد بدأت هي الأخرى في التآكل لحساب "الأصولية" إسلامية مستقرة ً كانت أو "أمريكية" وافدة. وهكذا انفتح الباب أمام رياح العنف المادي والفكري كي تقتلع السنبلة المصرية من تربتها ولكي تغرس بدلاً منها ثقافة "البلطة" التي تبحث عن رأس تشجه. الناتج إذن أنه لا يوجد غراء بيولوجي يلصق المصريين بالعرب، كذلك فإن الإسلام كدين عالمي لم يدع إلى دمج شعوبه المؤمنة به في هوية عربية مركزها مكة أو يثرب أو دمشق أو بغداد، والدليل هو إسلام بغير عروبة في إيران وتركيا وباكستان واندونيسيا وماليزيا، كما أن اللغة -بفرض تعميمها- ليست عنصراً مؤسساً للتطابق الماهوي Identification ، فالأمريكيون والاستراليون، رغم لغتهم الانجليزية ليسوا انجليزاً، والكنديون والأفارقة "الفرانكوفونيون" ليسوا فرنسيين برغم لغتهم الفرنسية، ولم يغد المكسيكيون والفلبينيون أسباناً لأنه متكلمو الأسبانية.. وهكذا بالنسبة للأيديولوجية، فلقد فرقت في الحاصل الأخير، بين الأقطار "العربية" بأكثر مما وحدت، والجامعة العربية خير شاهد بميثاقها - الذي فصله لها الاستعمار - حيث يعطي هذا الميثاق لكل عضو حق إبطال القرارات (لصالح إجماع متوهم) مما يرسم المنظمة نادياً لتبادل الآراء وليس أكثر. ودع عنك سياسات هذه الدول الأعضاء التي تتناقض فيما بينها إلى درجة خوض الحروب الساخنة (مصر والسعودية على أرض اليمن في الستينات الماضية، ثم مصر وليبيا في عهد السادات، فالعراق والكويت في التسعينات) والحروب الباردة ومثالها اليوم سوريا ولبنان، فضلاً عن الحروب الأهلية في الجزائر والسودان والعراق والتي تهدد حتى فلسطين المحتلة. ومع ذلك كله، فمن الممكن القول بأن مصر قد "ثاقفت" بالفعل مع العروبة، عبر تاريخ مشترك طويل، الأمر الذي يجعل القول بأن "مصر عربية الثقافة" صحيحاً إلى حد كبير، ولكن بقدر ما يقال إن فرنسا وإيطاليا واليونان وهولندا ولكسمبورج شعوب تنتمي إلى ثقافة أوروبية مشتركة، دون أن يعني هذا تطابقاً في الهوية أو إلغاء للون المحلي بالمعنى الذي قصد إليه هيجل نفسه، والذي اتخذ منه الرومانسيون الأوربيون حقلاً لزرع أدبياتهم بديلاً عن كلاسيكية ثبت إخفاقها في رسم صورة مثالية لـ"إنسان عام"، بينما تؤكد شواهد الحال على الفروق الدقيقة بين شعب وشعب، ولغة ولغة، وأيديولوجية وأخرى، مما لا تفلح إزاءه التشنجات الرامية إلى إيجاد وحدة ما عن طريق القسر، أو الدعاية السياسية المؤدلجة.
#مهدي_بندق (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ثقافة الإرهاب تمهد لضرب الوحدة الوطنية
-
*نورا العربية لا تغادر بيت الدمية
-
*الطابع المزدوج للثقافتين الأوروبية والعربية
-
*الشعر يمحو باليد الأخرى
-
إعدام الشاعر عماد الدين النسيمي
-
مسرح شعري في مصر الفرعونية ؟!-الفصل الثاني
-
قراءة تجريبية في دراسات المسرح الشعري - الفصل الأول
-
الطريق إلى المسرح الشعري - مقدمة منهجية
-
* الكتابة على سِفْر الاختيار
-
* المدخلُ إلى علم الإهانة
-
*قراءة سوسيولوجية للوحة العشاء الأخير- شفرة دافنشي الأخرى
-
*الحرية بين العلم والدين والفلسفة
-
المسرح الشعري ..الغايات والوسائل
-
مكابدات الحداثة في المسرح الشعري
-
الطابع المزدوج للثقافتين الأوروبية والعربية
-
2 البلطة والسنبلة .. التراث الفرعوني ومساءلة الأساس
-
لا أنت غيثٌ ولا القومُ يستنكرون الظمأ - قصيدة
-
البلطة والسنبلة.. إطلالة على تحولات المصريين1
-
مشروع الإسلام السياسي وثقافة الأساطير
المزيد.....
-
صدق أو لا تصدق.. العثور على زعيم -كارتيل- مكسيكي وكيف يعيش ب
...
-
لفهم خطورة الأمر.. إليكم عدد الرؤوس النووية الروسية الممكن ح
...
-
الشرطة تنفذ تفجيراً متحكما به خارج السفارة الأمريكية في لندن
...
-
المليارديريان إيلون ماسك وجيف بيزوس يتنازعان علنًا بشأن ترام
...
-
كرملين روستوف.. تحفة معمارية روسية من قصص الخيال! (صور)
-
إيران تنوي تشغيل أجهزة طرد مركزي جديدة رداً على انتقادات لوك
...
-
العراق.. توجيه عاجل بإخلاء بناية حكومية في البصرة بعد العثور
...
-
الجيش الإسرائيلي يصدر تحذيرا استعدادا لضرب منطقة جديدة في ضا
...
-
-أحسن رد من بوتين على تعنّت الغرب-.. صدى صاروخ -أوريشنيك- يص
...
-
درونات -تشيرنيكا-2- الروسية تثبت جدارتها في المعارك
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|