أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد المجيد حمدان - تقاطعات بين الأديان 27 إشكاليات الرسل والأنبياء 12 موسى الحلقة الرابعة أخلاقيات















المزيد.....



تقاطعات بين الأديان 27 إشكاليات الرسل والأنبياء 12 موسى الحلقة الرابعة أخلاقيات


عبد المجيد حمدان

الحوار المتمدن-العدد: 8162 - 2024 / 11 / 15 - 04:50
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


تقاطعات بين الأديان
27
إشكاليات الرسل والأنبياء
12
موسى - الحلقة الرابعة


أخلاقيات
هذه الحلقة خارجة ، نوعا ما ، عن سياق الحلقات الثلاث السابقة . بمعنى أنها لا تلتزم بسير ومسار رسالة موسى أولا ، وبأن مادتها تستبعد القرآن ، وتقتصر على التوراة ثانيا ، وبأن وحشية وبربرية العدوان على غزة وأسئلة الاستهجان لِوحشية و بربرية العدوان على غزة هي ما أوجبتها ثالثا .
لفهم دوافع ومنابع هذه الوحشية والبربرية كان لا بد من الغوص في لجج بحر منظومة القيم والأخلاق التي تحكم أطراف هذا العدوان الملعون . بحر التوراة الذي تشكلت ، نمت ونضجت فيه هذه المنظومة التي شرعنت وبررت ، حكمت ووجهت هذه الأفعال البربرية .
اسمحوا لي بداية أن أذكر بأن قيادات إسرائيلية توصف بأنها علمانية ، وعلى رأسها نتنياهو ، دأبت مؤخرا على تدبيج تصريحاتها بوصايا توراتية ، و بنبوءات بعض أنبيائها . ذلك ما حفزني على الخروج على مسار حلقات موسى من جهة ، والعودة للتذكيربِ ، واستعراض بعض القيم والأخلاقيات كما وردت في الأسفار الخمسة الأولى من التوراة ، وهي المعروفة باسم توراة موسى ، أو التوراة الموسوية ، والتي تشكل القواعد الأساسية لمنظومة القيم والأخلاق التي يؤمن ويتصرف بها هؤلاء العلمانيون . ولكم أن تحكموا ما إذا كانت هذه القيم والأخلاقيات التوراتية متجذرة ، راسخة ، عميقة ، أو أنها سطحية عابرة في عقل وضمير هؤلاء العلمانيين من حكام إسرائيل وحكام البلدان الداعمة والمُتبنية لهم . وملحوظة : بعض ، أو ربما الكثير مما سَأورده في هذه الحقلة سبق وعرضته في الحلقات السابقة من حلقات :" إشكاليات الرسل والأنبياء " .
ونبدأ مع :
1
الكذب :
يطالعنا الإصحاح العشرون من سفر الخروج بسرد الوصايا العشر، الوصايا الأكثر شهرة وتداولا ، الأكثر رسوخا وتأثيرا في الضمير والعقل اليهودي والصهيوني المسيحي ، وعلى النحو التالي :
1- [ لا يكن لك آلهة أخرى أمامي 3 ] .
2- [ لا تصنع لك تمثالا منحوتا ولا صورة ما مما في السماء من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض 4 لا تسجد لهن ولا تعبدهن لأني أنا الرب إلهك أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث والرابع من مبغضي 5 وأصنع إحسانا إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي 6 ] .
3- [ لا تنطق باسم الرب إلهك باطلا لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلا 7 ] .
4 - [ اذكر يوم السبت لتقدسه 8 ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك 9 وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك . لا تصنع عملا ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك 10 لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها واستراح في اليوم السابع . لذلك بارك الرب يوم السبت وقدسه 11 ] .
5- [ أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب إلهك 12 ] .
6- [ لا تقتل 13 ] .
7 - [ لا تزن 14 ] .
8 - [ لا تسرق 15 ] .
9- [ لا تشهد على قريبك شهادة زور 16 ] .
10 - [ لا تشته بيت قريبك . لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أمته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئا مما لقريبك 17 ] .
ويعود الإصحاح الخامس من سفر تثنية ليكرر هذه الوصايا في الآيات من 7 إلى 21 دون زيادة كلمة أو نقصان حرف . ولكن ..
لكن يبدو أن موسى وهو يخاطب قومه ، ويسرد عليهم هذه الوصايا ، أراد تذكيرهم بالآتي : [ هذه الكلمات كلم بها الرب كل جماعتكم في الجبل من وسط النار والسحاب والضباب وصوت عظيم ولم يزد وكتبها على لوحين من حجر وأعطاني إياها 22 ] .
ما يثير الانتباه في هذه الوصايا :
أولا : غياب النهي عن الكذب كما النهي عن الربا . وسؤالي : هل غياب النهي عن الكذب في الوصايا العشرة هذه يعني تحريمه في التعامل بين بني إسرائيل وتحليله في التعامل مع الأغيار كما هو الحال مع الربا ؟ وهل يفسر ذلك سيل الأكاذيب التي طالعتنا وَتطالعنا بها تصريحات المسؤولين الإسرائيليين وسائر وسائل إعلامهم في تسويغ المضي في ، وتبرير جرائم عدوانهم البربرية والوحشية على غزة ؟
وثانيا : ألم تضع ، وألا تضع الوَصيتان التاسعة والعاشرة قواعد وأسس العنصرية البغيضة ؟ وألم تؤسس لممارسة جرائم التمييز العنصري ، والتي ابتليت بها البشرية منذ نزول التوراة وإلى يومنا هذا ؟ وألا تفسر انعدام الحساسية بين جماهير القطاع الأوسع من الإسرائيليين اليهود تجاه ممارسة احتلالهم لكل تفاصيل قواعد نظام الفصل العنصري - الأبرتهايد - ضد شعبنا منذ 56 عاما ؟
ولكن مرة أخرى ..
ولكن قد يقول مطلع على الشريعة اليهودية أن الأسئلة السابقة والاستنتاجات المبنية عليها غير صحيحة ، لأنها تنهى عن الكذب ولا تبرره ، والدليل فيما ورد في الآيتين 11 و 12 من الإصحاح التاسع عشر من سفر اللاويين وَنصهما الآتي : [ لا تسرقوا ولا تكذبوا ولا تغدروا أحدكم بصاحبه 11 ولا تحلفوا باسمي للكذب فَتدنس اسم إلهك أنا الرب 12 ] . وأيضا ما ورد في الإصحاح الثالث والعشرون من سفر الخروج وهو التالي : [ لا تقبل خبرا كاذبا . ولا تضع يدك مع المنافق لتكون شاهد ظلم . 1 لا تتبع الكثيرين إلى فعل الشر . ولا تجب في دعوى مائلا وراء الكثيرين للتحريف .2 ولا تحابِ مع المسكين في دعواه . 3 إذا صادفت ثور عدوك أو حماره شاردا ترده إليه 4 إذا رأيت حمار مبغضك واقعا تحت حمله وعدلت عن حله فلا بد أن تحل معه .5 لا تحرف حق فقيرك في دعواه .6 ابتعد عن كلام الكذب ولا تقتل البريء والبار . لأني لا أبرر المذنب 7 ولا تأخذ رشوة لأن الرشوة تعمي المبصرين وتعوج كلام الأبرار . 8 …… ] .
أطلت الاقتباس لأوضح أن هذه التعليمات موجهة للتعامل الداخلي ، أي تعاملات بني إسرائيل مع بعضهم البعض ، وأما مع الأغيار الذين هم نحن الفلسطينيين والمصريين بالأساس ، فالأمر على النقيض تماما . ومن يظن غير ذلك فليتفضل ويعود إلى موضوع التعامل مع الربا .
وأصل إلى السؤال : وماذا عن الغدر وتحليل قتل أطفالنا ، شيوخنا ونسائنا ؟
2
الغدر :
كثيرا ما طالعتنا الإدارات الأمريكية بأن التشارك مع إسرائيل في منظومة القيم والأخلاق هي ما يشكل الرابط الأمْتن والأقوى للتحالف بين الدولتين .ولا يغيب عن معرفة أي منا أن هذه المنظومة مستمدة من التوراة - توراة موسى بالأساس - ، كونها الكتاب المقدس عند الجانبين ، وحيث تشكل الوصايا العشرة عمودها الفقري .
المدهش في تصنيف التوراة لهذه القيم أن الكذب الذي خلت منه الوصايا العشرة ، ووضعته البشرية على رأس قائمة الأفعال المردولة ، وضعته التوراة ، ما دام موجها إلى الآخرين - الأغيار ، على رأس قائمة الفضيلة . والمدهش أكثر أن الغدر ، رذيلة الرذائل ، ينافس الكذب في ذات التصنيف للفضيلة . كيف ؟
يخبرنا سفر التكوين أن الرب حصر نسل إبراهيم في الأسباط ، أبناء يعقوب الذكور الاثني عشر . وكما استثنى الرب إسماعيل وعيسو من هذا النسل استثنى نسل بنات يعقوب . وما يهمنا أن الرب خص الأسباط ونسلهم ، والذي غدا بعدد رمل البحر ، بمنظومة القيم والأخلاق كما فصلتها التوراة . والمدهش مما يلاحظه القارئ على تلك التي تندرج تحت أبواب الرذيلة إن مورست مع القريب ، أنها تنقلب إلى فضيلة في ممارستها مع الغوييم أو الأغيار ؛ كالكذب ، المكر ، الغدر ، الربا .. الخ .
سفر التكوين خص فضيلة الغدر بجزء صغير من الإصحاح الثالث والثلاثين ، كامل الإصحاح الرابع والثلاثين ، وجزء آخر من الإصحاح الخامس وَالثلاثين . ولأن مساحة الحلقة لا تحتمل نقل كامل النص ، و للتسهيل على القارئ سأتبع التكتيك التالي في العرض : السرد بلغتي في الأعم الأغلب ، وتثبيت النص عند الضرورة .
تقول الإصحاحات أن يعقوب الذي غدا اسمه إسرائيل ، بعد عودته من منفاه في فدان آرام ، ومصالحته مع شقيقه التوأم عيسو ، حط رحاله قرب شكيم - نابلس - . اشترى حقلاً أَمامها ونصب خيامه فيه . وفي أحد الأيام خرجت ابنته دينه ، من زوجته ليئة ، للتنزه والتعرف على بنات الأرض . رآها شكيم ابن حَمور الحِوّي - ابن قبيلة الحِويين الكنعانية - رئيس الأرض - ملك شكيم - نابلس - ، فاغتصبها . لكنه بالرغم من ذلك أحبها ، لاطفها ، وطلب من أبيه تزويجه منها .
دينه بعد عودتها حكت لأمها ، وحكى يعقوب - إسرائيل لإخوتها ، بعد عودتهم من المرعى ، ما جرى . تداولوا فيما بينهم ، وأسروا ما اتفقوا على فعله . لكنهم فوجئوا بالملك حمور وابنه والحاشية قد أتوا ليس فقط لِلاعتذار ورد الاعتبار ، وإنما بطلب تصحيح الخطأ الجريمة بالمصاهرة ، فالسلام والاندماج بين الطرفين .
تشاور يعقوب وأبناؤه ، مكروا واتفقوا على حيلة ، إن انطلت يعقبها غدر ، و كما يلي :[ فأجاب بنو يعقوب شكيم وحمور أباه بمكر وتكلموا . لأنه كان قد نجس دينة أختهم 13 فقالوا لهما لا نستطيع أن نفعل هذا الأمر أن نعطي أختنا لرجل أغلف . لأنه عار لنا 14 غير أننا بهذا نواتيكم . إن صرتم مثلنا بختنكم كل ذكر 15 نعطيكم بناتنا ونأخذ بناتكم ونسكن معكم ونصير شعبا واحدا . وإن لم تسمعوا لنا أن تَختتنوا نأخذ ابنتنا ونرحل 17 ] .
وافق حمور وابنه على طلب أبناء يعقوب . كما وحصلا - حمور وابنه - على موافقة أهل المدينة : [ فأتى حمور وشكيم ابنه إلى باب مَدينتهما وكلما أهل مَدينتهما قائلين 20 هؤلاء القوم مسالمون لنا . فَليسكنوا في الأرض وَيتجروا فيها . وهوذا الأرض واسعة الطرفين أمامهم . نأخذ لنا بناتهم زوجات ونعطيهم بناتنا 21 غير أنه بهذا فقط يواتينا القوم على السكن معنا لنصير شعبا واحدا . بِختننا كل ذكر كما هم مَختونون 22] .
( لنقفز هنا عن ملاحظة أن أهل نابلس ، وبالتالي أهل البلاد ، عرضوا على يعقوب وأبنائه الانصهار في مجتمعهم ، أي تبنوا وطبقوا مبدأ المواطنة قبل الثورة الفرنسية بثلاثة آلاف سنة ، ورفضها يعقوب وأبناؤه ، وضعا أسس رفضها للحاخامات في العصر الجديد . ) ونتابع : تجسيدا لحسن النية ووفاء للعهد تم ختن كل ذكور المدينة ، وفي المقدمة منهم حمور وابنه شكيم . وفي اليوم الثالث ، وحين أوصل ألم الختان الذكور إلى مرحلة العجز عن أي فعل ، انتهز شقيقا دينة ، شمعون ولاوي ، الفرصة . أخذا بسيفيهما وَنفذا ما سبق واتفقت عليه العائلة . قَتلا الملك حمور وابنه شكيم ، وَأتبعاهما بقتل كل ذكور المدينة . لم يكتف باقي الأخوة بإكمال المذبحة ، وإنما عمدوا إلى فعل الآتي : [ ثم أتى بنو يعقوب على القتلى ونهبوا المدينة . لأنهم نجسوا أختهم 27 غنمهم و بقرهم وحميرهم وكل ما في المدينة وما في الحقل أخذوه 28 وسبوا ونهبوا كل ثروتهم وكل أطفالهم ونساءهم وكل ما في البيوت 29 ] .
وماذا فعل النبي يعقوب الذي صار اسمه إسرائيل ؟
صحا يعقوب على التحسب من ردة فعل القبائل الشقيقة ، الصديقة والمجاورة ، وهو وعائلته لا قريب لهم ولا حسيب . قال : [ فقال يعقوب لِشمعون ولاوي كَدرتماني بِتكريهكما إياي عند سكان الأرض الكنعانيين والفرزيين وأنا نفر قليل . فيجتمعون عليّ وَيضربونني فَأبيد أنا وكل بيتي 30 فقالا أَنظير زانية يفعل بأختنا 31.] .
الرب هنا سارع لإنقاذ يعقوب وأبنائه ، و الإفلات بجريمتهم . أمر يعقوب وبنيه بالمسارعة إلى الهرب ، كما يطالعنا الإصحاح الخامس والثلاثون . ذهبوا إلى بيت إيل ، وحيث أكمل الرب صنيعهُ بِوقايتهم من غضب الآخرين : [ ثم رحلوا . وكان خوف الله على المدن التي حولهم فلم يسعوا وراء بني يعقوب 5 . ] .
والآن ، ولكي يقف القارئ على حجم ما انطوت عليه وحشية الغدر هذه من جهة ، وتصنيف هذا الغدر كفضيلة ، وتقديسه كقيمة أَخلاقية عليا ، عليه الوقوف مليا وإمعان النظر في معني كل كلمة وردت في هذه النصوص . إن فعل فسيرى كيف أن الغدر الإسرائيلي المقدس هذا يقوم على عدد من الأركان : المغالاة في تعظيم الذات وتقليل شأن الغير، المبالغة في ردات الفعل و جباية الثمن ، المكر ، الدَّهاء ، التحايل ، نقض العهد … ثم الكذب المقدس في المقدمة .
ولأن الشيء بالشيء يذكر أعود لأذكر القارئ بأن الإبن البكر رؤوبين زنا بزوجة أبيه وأن الأب - إسرائيل الذي هو يعقوب - علم وسكت . جاء في الإصحاح 35 من سفر التكوين ، الآية 22 ما يلي [ وحدث إِذ كان إِسرائيل ساكنا في تلك الأرض أنَّ رؤوبين ذهب واضطجع مع بِلْهة سرية أبيه وسمع إسرائيل 22] .
طال صمت إسرائيل - يعقوب - ، ولم يعكر الفعل المشين هذا صفو العلاقات مع أبناء بلهة . لكن الإصحاح التاسع والأربعين يحدثنا أن إسرائيل وهو على فراش الموت طلب أَبناءه لِيباركهم وَليبنبئهم بمستقبلهم . قال : [ اجتمعوا واسمعوا يا بني يعقوب . واصغوا إلى إسرائيل أبيكم . 2 رَؤوبين أنت بكري قوتي وأول قدرتي فضل الرفعة وفضل العز . 3 فائرا كالماء لا تتفضل لأنك صعدت على مضجع أبيك . حينتئذ دنسته . على فراشي صعد 4 ] . الجملة الأخيرة " على فراشي صعد ليست معبرة عن وجع فقط . كانت موجهة لكل الأبناء ، كي يعرفوا فعلة أخيهم ، بمن فهم أبناء بلهة ، إن كانوا لم يعرفوا . ثم كان ذلك كل شيء
هذه الفعلة المشينة لم تقتصر على رأوبين . يهوذا فعل ما يماثلها قبحا . كامل الإصحاح الثامن والثلاثين يسرد قصة زنا يهوذا بأرملة ابنه ثامار . وحملها منه بتوأم . وولادتها له بابنين ، فارص وزارح . هل كان إسرائيل لا يعرف ؟ الجواب كان يعرف بكل تأكيد ، ليس لكونه نبيا فقط ولكن لكونه أبا لأسرة ما زالت صغيرة ومعزولة عن بقية سكان الأرض في حينه . والبديهي أن يعرف عنها وفيها الصغيرة قبل مثل هذه الكبيرة .
المدهش هنا ليس فعل التدنيس ذاته - الزنا - . بل الموقف المؤسس لتمييز عنصري في غاية القبح - دينة وشكيم - ، و لقيمة أخلاقية أشد قبحا رأوبين - بلهة ، و يهوذا - ثَامار . قيمة نزلت من عند الرب الذي لم يبد أي نأمة عتب على هذين النبيين جراء فِعلتيهما القَبيحتين .
ولم تنته المسألة عند هذا الحد . بالعودة إلى الإصحاح التاسع والأربعين ومباركة إسرائيل لأبنائه نقرأ : [ شمعون ولاوي أخوان . آلات ظلم سيوفهما 5 في مَجلسهما لا تدخل نفسي . بجمعهما لا تتحد كرامتي . لأنهما في غضبهما قتلا إنسانا ، وفي رضاهما عرقبا ثورا 6 ملعون غضبهما فإنه شديد وسخطهما فإنه قاسي . أقسمَهما في يعقوب وَأفرقهما في إسرائيل .7 ]
جريمة القتل بالغير - غير بني الجلدة - لم تثلم نبوة هذين النبيين . عدم الرفق بالحيوان - القسوة على الحيوان أيضا لم تثلم نبوة هذي النبيين . منظومة أخلاقية في غاية الجمال .
لكن من هما شمعون ولاوي هذان ؟ هما شقيقا رأوبين من الأم ليئة . والطريف أن الرب اختار لاوي القاتل هذب حسب الآية السالفة ، وشريك شقيقه شمعون في مؤامرة الغدر وتنفيذ مجزرة شكيم - نابلس - ، لأمرين : 1- ليختار أحد حفدتِه ، القاتل موسى نبيا رسولا ومنشئ ديانته 2- وَ لِيحصر كهانة دينه الجديد في نسل لاوي بدءا من هارون شقيق موسى .
ولعلنا نتساءل ترى : هل ورث موسى صفة العنف وارتكاب جريمة القتل ، وعديد الجرائم التي ترتفع الواحدة منها إلى مرتبة المجزرة ، كما سنرى تفصيلا في الحلقة القادمة من جده البعيد لاوي ؟
والمدهش أكثر من كل ما سبق ما ورد في بركة إسرائيل ليهوذا الزاني بأرملة ابنه . يقول إسرائيل في التنبؤ ليهوذا وفي إسباغ بركته عليه : [ يهوذا إياك يحمد إِخوتك . يدك على قفا أعدائك . يسجد لك بنو أبيك .8 يهوذا جرو أسد . من فريسة صعدت يا ابني . جثا وربض كأسد وكلبوة من ينهضه . 9 لا يزول قضيب من يهوذا ومشترع من بين فخذيه حتى يأتي شيلون وله يكون خضوع شعوب . 10 رابطا بالكرمة جحشه وبالجفنة ابن أتانه غسل بالخمر لباسه وبدم العنب ثوبه . 11 مسود العينين من الخمر و مبيض الأَسنان من اللبن 12 ]
وإذاً ، من حق القارئ هنا أن يتساءل: لماذا اختار الرب رفض شعبا اتسمت صفاته ، كما تعرضها آيات الإصحاحَين الرابع والخامس والثلاثين ، بالطيبة ، حسن النية ، التسامح ، الوفاء بالعهد ، البساطة … الخ ، وفضل عليهم قتلة ، مجرمين وَأوغادا ، حصر فيهم نسل شعبه المختار وأيضا حسب منطوق ذات النصوص ؟ ولماذا رفض الرب ومن بعده إسرائيل عرض الدمج بأهل البلاد وتَصييرهم شعبا واحدا ؟ ثم سؤال الأسئلة : كيف يكون الغدر و الزنا بزوجة الأب وأرملة الإبن ، قتل الغير ، و القسوة على الحيوان قيما أخلاقية عليا ، ؟
ثم ماذا عن قتل الأطفال ، النساء ، العجزة والمسنين ، وإيادة الشجر والحجر ؟
3

قتل الأطفال :
بالرغم من تكرار إجابتي ، ظل الذهول ، الدهشة ، الحيرة ، عدم القدرة على التصديق ، من ألوان وحشية الجرائم الإسرائيلية في غزة ، تلاحق ، تأخذ بخناق من صدق مقولة أن منظومة القيم والأخلاق لمن يوصفون بالعلمانيين في إسرائيل هي غيرها ، وربما نقيضة لتلك التي عند المتدينين الحَريديين .
احيانا كنت أُبادرهم بالسؤال : ألم تلاحظوا أن المسؤولين الإسرائيليين يكررون عبارات من مثل أن الأفعال التي يصنفها العالم أجمع بالوحشية هي مبررة أخلاقيا ، أنها تتفق ، لا تتناقض ، لا تتعارض مع منظومتِهم القيمية والأخلاقية ؟
هنا أعيد القول أن العلماني ، وأضع نفسي مثالا ، لا يخترع منظومة قيم وأخلاق خاصة به . كما لا يستوردها من أمة عالم آخر . هو يتربى على التراث ، الثقافي ، الفكري ، الديني ، العقيدي ، المجتمعي .. لشعبه وأمته . وبعد أن يكبر ، ويتحول إلى علماني ، يدخل في صراع صَعب وَممتد ضد ما رسب في أعماقه من تعاليم ذلك التراث . وبديهي أن لا يخوض الجميع هذا الصراع ، وأن لا تكون شدته وحدته عند من يَخوضونه واحدة ونتائجه كذلك .
هنا اسمحوا لي أن أضيف التالي : ما استخلصته من تكرار مطالعتي لِأسفار توراة موسى ، وَلأسفار عدة لحقتها ، أن علة العلل في منظومة القيم والأخلاق الإسرائيلية تعود إلى ما يوصف بوعد الرب لإبراهيم . منحه هو ونسله أرض فلسطين ملكا أبديا . وما استخلصته أيضا أن وعد بلفور وصك انتداب بريطانيا على فلسطين ، ليس إلا نسخة ملطفة ، تواكب العصر ، لوعد الرب المشؤوم ذاك . لماذا ؟ وكيف ؟
لم يمل الرب ولم يكل ، وهو يكرر الوعد ، وقبل تخليق وتصنيع شعبه المختار ، عن التذكير ، سفرا بعد سفر ، إِصحاحا بعد إصحاح ، وآية في إثر آية ، أن أرض الميعاد كانت وظلت معمورة بأهلها . يعدد قبائلهم : الكنعانيين ، واليبوسيين ، الأموريين ، الجرجاشيين ، الحِويين ، الفرزيين ، الجبعونيين ، بني عناق ، العماليق ، الجَتيين ، الغزيين ، الأشدوديين ، الأشقلونيين ، العِويين ، أهل جازر ، أهل جرار .. الخ .
كما لم يمل ولم يكل عن التأكيد بأن القبائل تلك لم تكن بدوا رحل ، وأن الأرض التي وصفها بأرض اللبن والعسل لم تكن أرضا يبابا ، أو مجرد منابت لِلكلأ طعام الأغنام . فعل ذلك ربما منعا لتعميم صورة الآباء ؛ إبراهيم ، إسحاق ويعقوب الذين تؤكد سيرهم على أنهم كانوا بدوا ورعاة أغنام . وربما لتثبيت قيمة أخلاقية عليا في أذهان أجيال بني إسرائيل بأن استملاك أرض الوعد والثبات فيها وعليها لا يتحققان إلا بتخليصها عنوة من أيدي أصحابها . وترجمة ذلك إبادتهم ، مَحوهم ، وإخراجهم تماما من الوجود .
الملفت للنظر هنا أن الرب ، لأنه الرب ، أراد تعريفنا أنه كان يعرف بانعدام قدرة بني إسرائيل على فعل ذلك ، نظرا لِتجذر أهل البلاد في ترابها من جهة ، وقدرتهم على صد هكذا معتدين من جهة أخرى . لكل ذلك تعهد الرب لشعبه المختار ليس فقط بتفعيل قدراته في خدمتهم ، بل وَبقيادتهم شخصيا ومشاركتهم أفعال القتل ، الإبادة والمحو أيضا .
يعني ، في استخلاص منطقي ، وفيما يتعلق بموضوعنا ، أن الرب ، و كتحصيل حاصل ، تكفل بوضع وصنع منظومة قيم وأخلاق خاصة لشعبه المختار هذا . فكيف كان ذلك ؟
تعالوا بداية نعود إلى التوراة نستقرئ النصوص الخاصة بإغراء قبائل بني إسرائيل البدوية بالاستقرار في أرض تفيض لبنا وعسلا ، ومن ثم تبديل منظومة قيم الرعاة بمنظومة قيم " حضارية ! " .
في توصيف أرض الوعد " فلسطين " يطالعنا الإصحاح السادس من سفر تثنية بالآتي : [ ومتى أتى بك الرب إلهك إلى الأرض التي حلف لِآبائك إبراهيم وإسحق ويعقوب أن يعطيك . إلى مدن عظيمة جيدة لم تبْنها 10 وبيوت مملوءة كل خير لم تملأها وآبار محفورة لم تحفرها وكروم وزيتون لم تغرسها وأكلت وشبعت 11 فاحترس لئلا تنسى الرب الذي أخرجك من أرض مصر من بيت العبودية 12 ] .
ويعود في الإصحاح التاسع ليؤكد على قوله السابق : [ اسمع يا إسرائيل . أنت اليوم عابر الأردن لكي تدخل وتمتلك شعوبا أكبر وأعظم منك ومدنا عظيمة ومحصنة إلى السماء 1 قوما عظاما وَطوالا بني عناق الذين عرفتهم وسمعت من يقف في وجه بني عناق 2 فاعلم اليوم أن الرب إلهك هو العابر أمامك نارا آكلة . هو يبيدهم ويذلهم أمامك فتطردهم وَتهلكهم سريعا كما كلمك الرب 3 ] .
ثم يعود في الإصحاح الحادي عشر ليقول : [ فاحفظوا كل الوصايا التي أنا أوصيكم بها اليوم لكي تَتشددوا وَتدخلوا وَتمتلكوا الأرض التي أنتم عابرون إليها لِتمتلكوها 8 ولكي تطيلوا الأيام على الأرض التي أقسم الرب لآبائكم أن يعطيها لهم وَلنسلهم أرض تفيض لبنا وعسلا 9 لأن الأرض التي أنت داخل إليها لكي تمتلكها ليست مثل أرض مصر التي خرجت منها حيث كنت تزرع زرعك وتسقيه برجلك كبستان بقول 10 بل الأرض التي أنتم عابرون إليها لكي تَمتلكوها هي أرض جبال وبقاع . من مطر السماء تشرب ماء 11 أرض يعتني بها الرب إلهك . عينا الرب إلهك عليها دائما من أول السنة إلى آخرها . 12 ] .
وبعد دخول يشوع لفلسطين وتنفيذ وصايا الرب عبر سلسلة من المجازر الوحشية ، يسارع الرب ، في الإصحاح الرابع والعشرون ، لِتذكير بني إسرائيل بالآتي : [ ثم عبرتم الأردن إلى أريحا . فَحاربكم أصحاب أريحا الأَموريون وَالفرزيون والكنعانيون وَالحثيون وَالجرجاشيون وَالحويون وَاليبوسيون فَدفعتهم بيدكم 11 وأرسلت قدامكم الزنابير وطردتهم من أمامكم أي ملكي الأموريين . لا بسيفك ولا بقوسك 12 وَأعطيتكم أرضا لم تتعبوا عليها ، ومدنا لم تبنوها وَتسكنون بها ومن كُروم وزيتون لم تَغرسوها تأكلون 13 فالآن اخشوا الرب واعبدوه بكمال وأمانة وانزعوا الآلهة الذين عبدهم آباؤكم في عبر النهر وفي مصر واعبدوا الرب 14 ] . ولكن ..

4


لكن ولأن النصوص تشي ، وبوضوح كبير، أن بني إسرائيل الخارجين من مصر لم يكونوا لا على علم و لا على معرفة بآبائهم ، ولا بوعد الرب لهؤلاء الآباء ، إبراهيم ، إسحق ، ويعقوب ، كما ولا بطبيعة وحال فلسطين ، فإن الرب ، بلسان موسى وهارون ، وقد فعل كل ما يمكن فعله لتعريفهم بالأمرين ، وقدم لهم من الإغراءات الكثير ، رأى أن لا يكتفي بالكلام ، وأن يدفعهم للتأكد من صحته بأنفسهم كيف ؟
الإِصحاحان الثالث عشر والرابع عشر من سفر عدد يُنبئاننا أن الرب أمر رؤساء بني إسرائيل بإرسال ممثلين لهم ، واحد من كل سبط ، يجوسون أرض كنعان من أدناها إلى أقصاها ، يتحسسون أحوالها ويعودون بالمعلومات المجيبة على التالي حسب الإصحاح الثالث عشر : [ فأَرسلهم موسى ليتجسسوا أرض كنعان وقال لهم اصعدوا من هنا إلى الجنوب واطلعوا إلى الجبل 17 وانظروا الأرض ما هي . والشعب الساكن فيها أقوي هو أم ضعيف . قليل أم كثير 18 وكيف هي الأرض التي هو ساكن فيها أَجيدة أم رَدية . وما هي المدن التي هو ساكن فيها أَمخيمات أم حصون .19 وكيف هي الأرض أَسمينة أم هزيلة . أَفيها شجر أم لا وتشددوا فخذوا من ثمر الأرض . وأما الأيام فكانت أيام بواكير العنب 20 ] .
ذهب الجواسيس الإِثنا عشر . استغرقت رحلتهم أربعين يوما . عادوا ومعهم زرجونة بعنقود عنب واحد - شعار السياحة في إسرائيل - وشيء من الرمان والتين .
انعقد مجلس رؤساء إسرائيل واستمع لتقرير الجواسيس . أكد الإثناعشر أن الأرض فعلا تفيض لبنا وعسلا والدليل ثمارها هذه . كما أجمعوا على أن [ الشعب الساكن في الأرض معتز والمدن حصينة وَعظيمة جدا وأيضا قد رأينا بني عناق هناك 28 العمالقة ساكنون في أرض الجنوب . وَالحثيون وَاليبوسيون وَالأموريون ساكنون في الجبل والكنعانيون ساكنون عند البحر وعلى جانب الأردن 29 ] . واختلف الجواسيس في تقدير إمكانية غزو البلاد وامتلاكها . عشرة منهم قالوا بعدم إمكانية ذلك لأن الشعب الساكن هناك أشد منا و[ الأرض التي مررنا بها لِنتجسسها هي أرض تأكل سكانها . وجميع الشعب الذي رأينا فيها هم أناس طوال القامة 32 وقد رأينا هناك الجبابرة بني عناق من الجبابرة فكنا في أعيننا كالجراد وكذلك كنا في أعينهم 33 ] .
اثنان من بعثة التجسس هذه هما يشوع بن نون ، خليفة موسى فيما بعد ، وكالب بن يفنة ، قالا بإمكانية الغزو والتغلب على أهل البلاد ، اعتمادا على مساندة الرب .
يحكي الإصحاح الرابع عشر أن المجلس والجماعة أخذوا برأي العشرة الذين قالوا بعدم وجود فرصة للتغلب على أهل البلاد وامتلاكها . صرخوا وطالبوا بالعودة لمصر . وفوق ذلك طلبوا رجم الإثنين اللذين قالا بإمكانية الغزو والنصر بالحجارة .
ظهر الرب وحمي غضبه على الجماعة لأنها خرجت على وعده . هدد موسى بإبادة كل بني إسرائيل ، باستثناء الإثنين ؛ يشوع بن نون وكالب بن يفنة ، عن طريق ضربهم بِالوبأ واستبدالهم بشعب من صلب موسى . [ وقال الرب لموسى حتى متى يهينني هذا الشعب . وحتى متى لا يُصدقونني بجميع الآيات التي عملت في وسطهم 11 إني أضربهم بِالوبأ وَأصيرك شعبا أكبر وأعظم منهم 12 ] .
اعترض موسى على حكم الرب هذا . وبعد عتاب اِسترحامي طويل ، تراجع الرب وعدل الحكم . استبدله بقتل العشرة بِالوبأ - تم التنفيذ أمام أعين الجماعة - ، والتيه لبني إسرائيل في سيناء أربعين سنة . سنة مقابل كل يوم من أيام بعثة التجسس . لماذا ؟
[ قل لهم حي أنا يقول الرب لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني 28 في هذا القفر تسقط جثثكم جميع المعدودين منكم حسب عددكم من ابن عشرين سنة فصاعدا الذين تذمروا عليّ 29 لن تدخلوا الأرض التي رفعت يدي لَأُسكننكم فيها ما عدا كالب بن يفنة ويشوع بن نون 30 وأما أطفالكم الذين قلتم يكونون غنيمة فإني سأُدخلهم فيعرفون الأرض التي احْتقرتموها 31 فَجثثكم أنتم تسقط في هذا القفر 32 وَبنوكم يكونون رعاة في القفر أربعين سنة ويحملون فُجوركم حتى تفنى جثثكم في القفر 33 ] .
ليست هذه المرة الأولى التي تظهر فيها صفات هذا الرب : نزق ، غضوب ، انفعالي ، متهور ، دموي .. الخ . والأدهى من كل ذلك ظهور الرسولين إبراهيم وموسى أمتن من الرب أعصابا . أرشد وأبلغ منه حكمة . يهدئان من غضبه وَيساعدانه على العودة عن حكم متهور وقاسي إلى ما هو أقل تهورا وقسوة . والسؤال الذي يطالعنا بمناسبة صفاته هذه : إذا كانت هكذا أحكامه مع شعبه المختار ، شعبه الذي تحمل مشقة تكوينه من الصفر ، وتكلف حمايته ورعايته حتى وصل به إلى أعتاب الأرض التي وعده بِانتزاعها من أصحابها ومنحه إياها ملكا أبديا ، فكيف بالتالي ستكون تعاليم هذا الرب للتعامل مع أصحاب الأرض هؤلاء ؟ أصحاب الأرض الذين بلغت كراهيته لهم حد رفضه البات أن يكونوا عبيدا من عباده ؟
في محاولة الإجابة سأقول : بالرغم من أن آيات التعاليم متعددة وفيها تكرار ، فقد رأيت أن أثقل عليك عزيزي القارئ ، بنقلها جميعا ، لترى كم هو هذا الرب الذي هو رب إسرائيل ، إلههم القومي ، لا يعرف للعدل سبيلا ، و يجافي الرحمة جفاءًً مطلقا .
يطالعنا الإصحاح الثالث والعشرون من سفر الخروج بالتالي : [ فإن ملاكي يسير أمامك ويجيء بك إلى الأموريين والحثيين والفرزيين والكنعانيين والحويين واليبوسيين فَأبيدهم 23 لا تسجد لآلهتهم ولا تعبدها ولا تعمل كَأعمالهم بل تبيدهم وتكسر أَنصابهم 24 ] . و [ …..فإني أدفع أمامك سكان الأرض فتطردهم من أمامك 31 لا تقطع معهم ولا مع آلهتهم عهدا 32 لا يسكنوا في أرضك لئلا يجعلوك تخطئ إلي 33] .
وفي الإصحاح الرابع والثلاثون : [ احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض التي أنت آت إليها لئلا يصيروا فخا في وسطك 12 ] وَ [ احترز من أن تقطع عهدا مع سكان الأرض . فَيزنون وراء آلهتهم و يذبحون لآلهتهم فَيدعونك وتأكل من ذبيحتهم 15 وتأخذ من بناتهم لبنيك . فتزني بناتهم وراء آلهتهنَّ ويجعلن بنيك يزنون وراء آلهتهن 16 ] .
وفي الإصحاح الثالث والثلاثون من سفر عدد جاء : [ وكلم الرب موسى في عربات موآب على أردن أريحا قائلا 50 كلم بني إسرائيل وقل لهم إنكم عابرون الأردن إلى أرض كنعان 51 فَتطردون كل سكان الأرض من أمامكم وَتمحون جميع تَصاويرهم وَتبيدون كل أصنامهم المسبوكة وتَخربون كل مُرتفعاتهم 52 ……وإن لم تطردوا سكان الأرض من أمامكم يكون الذين تَستبقون منهم أشواكا في أعينكم ومناخيس في جوانبكم وَيضايقونكم على الأرض التي أنتم ساكنون فيها 55 فيكون أني أفعل بكم كما هممت أن أفعل بهم 56 ] .
وقد يقول قارئ حصيف بعد قراءة هذه الآيات أن التعاليم قائمة على التعميم . إذ قد لا تعني أوامر الإبادة إبادة الكل بمن فيهم الأطفال والنساء ، وربما تقتصر على الرجال . كما قد لا يعني الطرد فعلي الإبادة والمحو . فهل هناك آيات بتفاصيل أدق؟ آيات تهجر التعميم إلى التخصيص ؟ والجواب نعم هناك مثل هذه الآيات .
إذاُ ،تعالوا نطالع سفر التثنية ، حيث يفاجئنا الإصحاح الثاني ، وعلى لسان موسى بالتالي : [ وقال الرب لي ، أُنظر . قد ابتدأت أدفعُ أَمامك سيحون وأرضه . ابتدئ تملك حتى تمتلك أَرضه 21 فخرج سيحون للقائنا هو وجميع قومه للحرب إلى ياهص 22 فدفعه الرب إِلهنا أمامنا فضربناه وبنيه وجميع قومه 23 وأخذنا كل مدنه في ذلك الوقت . وحرمنا من كل مدينة الرجال والنساء والأطفال . لم نبق شاردا 24 لكن البهائم أخذناها لأنفسنا وغنيمة المدن التي أَخذنا 25 ] .
وفي الإصحاح الثالث : [ ثم تحولنا وصعدنا في طريق باشان . فخرج عوج ملك باشان هو وجميع قومه للحرب في إِذرعي 1 فقال لي الرب لا تخف منه لأني دفعته إلى يدك وجميع قومه وأرضه . فتفعل به كما فعلت بسيحون ملك الأموريين الذي كان ساكنا في حشبون 2 فدفع الرب إلهنا إلى أيدينا عوج أيضا ملك باشان وجميع قومه فَضربناه حتى لم يبق له شارد 3 وأخذنا كل مدنه في ذلك الوقت . لم تكن قرية لم نأخذها منهم . ستون مدينة كل كورة أَرجوب مملكة عوج في باشان 4 كل هذه كانت مدنا محصنة بأسوار شامخة وأبواب و مزاليج سوى قرى الصحراء الكثيرة جدا 5 فَحرمناها كما فعلنا بسيحون ملك حشبون محرمين كل مدينة الرجال والنساء والأطفال 6 لكن كل البهائم وغنيمة المدن نَهبناها لِأنقسنا ] .
وفي باقي السفر ، وسفر يشوع تتكرر الأمثلة ، التعاليم وتطبيقاتها هائلة الوحشية . ونخلص إلى سؤال : ألا تفسر هذه الآيات كل هذه الوحشية ، هذه الجرائم البربرية ، عمليات الإبادة الممنهجة الجارية الآن لغزة الإنسان ، الشجر والحجر ؟
هذا السؤال يفرز سؤالاً يتطلب جوابا أعمق . هل صحيح أن الرب ، الله الواحد الأحد ، الرحمن الرحيم ، قد سبق ومنح بني إسرائيل فلسطين ملكا أبديا ؟
. 5
أس البلاء وعد الرب
جواب السؤال ،استنادا لنصوص التوراة هو لا قاطعة . لكن ، واستنادا لذات النصوص ، نعم رب إبراهيم فعل ذلك . كيف ؟
يروي لنا سفر التكوين سيرة إبراهيم في أربعة عشر إِصحاحا . من الحادي عشر إلى الخامس والعشرين . يبدأ الإصحاح الحادي عشر بالتعريف على نسب إبراهيم الذي كان اسمه أبرام بأنه الابن الأكبر في أسرة مكونة من الأب تارح ، أخ أوسط اسمه ناحور وأصغر اسمه هاران . الأخوة الثلاثة متزوجون . أبرام من امرأة عاقر اسمها ساراي ، وناحور من امرأة اسمها مِلكة ، وأما هاران فقد مات مبكرا وتاركا ابنا اسمه لوط ، والجميع ولدوا ، عاشوا وكبروا في مدينة اسمها أور الكلدانيين ، عاصمة الامبراطورية الكلدانية الأولى ، في أرض ما بين النهرين جنوب العراق الحالية ، وفي زمن قريب من زمن الملك حمورابي . وتفاجئنا السيرة بأن الأب تارح هو من قرر الرحيل بأسرته من أور الكلدانيين والتوجه إلى أرض كنعان - فلسطين - . لماذا ؟ لا تفسير ولا جواب . حمل تارح معه أبرام وزوجته ساراي العاقر ، وحفيده لوط ، ودون ذكر لمكان استقرار ناحور . وأول ما يلفت الانتباه أن الإصحاح لا يقول شيئا عن الأسباب التي دفعت تارح للرحيل ، أو عن مبررات هذا الرحيل ، أو دور أبرام - إبراهيم - فيه . أخيرا تخبرنا نهاية الإصحاح ومقدمة الإصحاح التالي أن الأسرة حطت رحالها في حاران ، في الجزيرة الفراتية شمال غرب العراق ، وشمال شرق سوريا . مكثت الأسرة بضع سنوات في حاران ، حيث حصل أفرادها على مقتنيات ؛ مواشي وعبيد . مات الأب تارح ودفن فيها . ثم …
ثم ، تفاجئنا مقدمة الإصحاح التالي ، الثاني عشر ، بالرب يأمر أبرام بترك أرضه ، عشيرته ، بيت أبيه في حاران والتوجه إلى أرض كنعان أو : [ …..الأرض التي أريك ] حسب الآية 1 . ملحقا إياها بعدة وعود [ فأجعلك أمة عظيمة وأُباركك وأعظم اسمك .وتكون بركة 2 وأبارك مباركيك ولاعنك ألعنه . وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض 3 ] .
القارئ الفطن هنا لا بد أن يتساءل : هل كان لِأبرام دور ديني ما في مسقط رأسه أُور ، فَعلاقة خاصة بالرب كي يبادر الرب إلى هذا التوجيه ؟ ثم إذا كان هناك دور ، فماذا كان وكيف كان هذا الدور ؟ و الأهم : من هو هذا الرب ؟ ما اسمه ؟ وما صفاته ؟ ولكن ..
لكن ، ولسوء حظ هذا القارئ الفطن ، الحصيف ، المدقق ، المتمعن لا يعثر في أي من الإِصحاحات الأربعة عشر التي تعتني بسيرة أبرام - إبراهيم - وتلك التي تليها وتعتني بسير إسحق ، يعقوب ويوسف ، على جواب شاف أو نصف شافي لأي من هذه الأسئلة . وفقط في الإصحاح العشرين ، وفي الآية 7 يخبرنا الرب بأن أبرام الذي صار اسمه إبراهيم هو نبي . فقط نبي . فيما كان الإصحاح الرابع عشر ، وفي سياق حكاية من حكايات إبراهيم الكثيرة ، قد أخبرنا عرضا أن الرب هو الله العلي ، وكالتالي : [ فخرج ملك سدوم لاستقباله بعد رجوعه من كسرة كَدرْلَعومر والملوك الذين معه إلى عمق شوى الذي هو عمق الملك 17 وملكي صادق ملك شاليم أخرجَ خبزا وخمرا .وكان كاهنا لله العلي 18 وباركه وقال مبارك أَبرام من الله العلي مالك السموات والأرض 19 ومبارك الله العلي الذي أسلم أعداءك في يدك 20 ] . وفي إصحاح آخر السابع عشر ، يصف الرب نفسه بِأنه الله القدير . ولكن من جديد ..
لكن لأن الله العلي والله القدير هي ألقاب معروفة لأهل البلاد ، ملكي صادق مثالا ، كألقاب لكبار مجمعات الآلهة ، ولِلآلهة المتنفذين ، كَإيل و بعل عند الكنعانيين ، مردوخ وانليل عند الكلدانيين …الخ ، ونظرا لقرائن عدة أخرى في سير إسحق ، يعقوب ويوسف ، يعود السؤال من جديد : هل كان الرب الذي يتواتر ذكره في سيرة إبراهيم هو إله هذه العائلة ؟ أم كان هذا الإله ، والعائلة منحدرة من أور الكلدانيين ، إلها بابلياً كبير الشبهِ بِالإلهين إيل وبعل ؟ في كامل سفر التكوين ، وفي كامل أسفار التوراة ، لا جواب شافي لهذا السؤال .
إذاً ، وبالعودة لبداية الإصحاح الثاني عشر نقرأ امتثال أبرام لأمر الرب بالرحيل ، متبوعا بصدور وعد الرب الأول بتمليك فلسطين لِنسله : [ فأَخذ أَبرام ساراي امْرأته ولوطا ابن أخيه وكل مُقتنياتهما التي اقْتنيا والنفوس التي امتلكا في حاران . وخرجوا ليذهبوا إلى أرض كنعان . فأتوا إلى أرض كنعان 5 واجتاز أبرام في الأرض إلى مكان شكيم إلى بلوطة مورة وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض 6 وظهر الرب لأَبرام وقال لنسلك أعطي هذه الأرض . فبنى هناك مذبحا للرب الذي ظهر له . 7 ثم نقل من هناك إلى الجبل شرقي بيت إيل ونصب خيمته .وله بيت إيل من المغرب وعاي من المشرق . فبنى هناك مذبحا للرب ودعا باسم الرب 8 ثم ارتحل أبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب .9 ] .
ويتكرر الوعد مرة بعد أخرى في الإِصحاحات التالية كالآتي : في الإصحاح الثالث عشر خاطب الرب أبرام قائلا : [ وقال الرب لِأبرام بعد اعتزال لوط عنه . ارفع عينيك وانظر من الموضع الذي أنت فيه شمالا وجنوبا وشرقا وغربا 14 لأن جميع الأرض التي أنت ترى لك أعطيها ولنسلك إلى الأبد 15 وأجعل نسلك كتراب الأرض . حتى إذا استطاع أحد أن يعد تراب الأرض فنسلك يُعد 16 قم امش في الأرض طولها وعرضها لأني لك أعطيها 17 ] .
وفي الإصحاح الخامس عشر : [ في ذلك اليوم قطع الرب مع أَبرام ميثاقا قائلا . لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير نهر الفرات 18 القينيين والقَنزيين والقدمونيين 19 والحثيين والفرزيين و الرفائيين 20 والكنعانيين والجرجاشيين واليبوسيين 21 ] .
وفي الإصحاح السابع عشر : [ ولما كان أبرام ابن تسع وتسعين سنة ظهر الرب لِأبرام وقال له أنا الله القدير . سر أمامي وكن كاملا 1 فأجعل عهدي بيني وبينك وَأكثرك كثيرا جدا 2 فسقط ابرام على وجهه . وتكلم الله معه قائلا 3 أما أنا فهوذا عهدي معك وتكون أبا لجمهور من الأمم 4 فلا يدعى اسمك بعد أبرام بل يكون اسمك إبراهيم . لأني أجعلك أبا لجمهور من الأمم 5 وأُثمرك كثيرا جدا وأجعلك أمما . وملوكٌ منك يخرجون 6 وأقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك في أَجيالهم عهدا أبديا . لأكون إلها لك ولنسلك من بعدك 7 وأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكا أبديا . وأكون إلههم 8 ] .
ثم : [ وقال الله لإبراهيم ساراي امرأتك لا تدعو اسمها ساراي بل اسمها سارة 15 وأُباركها وأعطيك أيضا منها ابنا . أُباركها فتكون أمما وملوك شعوب منها يكونون 16 فسقط إبراهيم على وجهه وضحك . وقال في قلبه هل يولد لابن مئة سنة وهل تلد سارة وهي بنت تسعين سنة 17 ] .
ويتكرر ذات الوعد مرات ومرات في سبر إسحق ، يعقوب وفي أسفار توراة موسى . ولكن ..
لكن القارئ الفطن والمدقق في هذه الآيات يكتشف ويتعرف على الآتي :
أن الوعد صدر لنسل إبراهيم حين لم يكن لإبراهيم نسل . وحين أصبح له نسل ، ممثلا في إسماعيل ، حصل تعديل يقصره على نسل سارة .
وأنه ، ومنذ البدء رفض الرب فكرة اندماج إبراهيم ونسله، هذا الآرامي التائه ، مع أهل البلاد ، بالرغم من كل كرم الضيافة ، الاحتضان والتسامح التي أبداها أهل البلاد لهم . أكثر من ذلك ، تم إخراج من قبل بفكرة الاندماج ، من خلال الزواج ، من النسل ومن الوعد ، عيسو مثالا .
وأن إبراهيم ، حين أبلغه الرب بأنه سيعطيه ابنا من سارة العاقر ، وصاحبة السيرة الطويلة التي سنتوقف عندها لاحقا ، سقط على وجهه وضحك غير مصدق ، أو ربما هازئا أو مستغربا ساخرا .
أن الرب يُعرف إبراهيم ، ولأول مرة ، على أنه هو الله القدير . ومن هذا التعريف يفهم القارئ أن الله القدير هذا لم يكن على علاقة بِأبرام - إبراهيم - في موطنه الأصلي ، أور الكلدانيين . وعليه لم يكن إبراهيم مكلفا برسالة آنذاك ، وهو غير مكلف بمثلها في أرض كنعان . ذلك يفسر لماذا وكيف أن أيا من إبراهيم ، إسحق ويعقوب ، كما تبين الأسفار بإصحاحاتها المتعددة ، لم ينطق ببنت شفة لأي من تعاليم الرب مع أهل أرض كنعان الأصليين . بما يعني أن أيا منهم لم يكن صاحب رساله . لم يكون رسولا حتى لأبنائه . والدلائل على ذلك كثيرة ، وبِنصوص التوراة ذاتها .
و أن الرب ، وبعد التعريف الجديد ؛ ألله ،الله القدير ، الله العلي ، وإن كان معروفا لِأهل البلاد ، كان غير معروف لبني إسرائيل في مصر . والأخطر أن هذا الرب كان قد عانده الحظ ، أو ربما لم تسمح له منافسة الآلهة الآخرين ، بأن يحظى بشعب من شعوب المنطقة ، من ما بين النهرين إلى مصر ، يكونون له عبيدا ويكون لهم إلها . هكذا نراه محبطا ، يائسا غيورا شديد الغيرة ، يتحرق غيظا ، ولا يجد مناصا من أن يعمل على إنشاء شعب ، تصنيع شعب ، تخليق وتشكيل شعب بمواصفات خاصة ، وعلامة خاصة - قطع الغرلة ، أو الختان - فيكون لهم إلها خاصا ويكونون عنده شعبا مختارا وفوق كل الشعوب الرافضة لهذا الإله والذين تفيض نفس هذا الإله كرها وبغضا لهم ، غضبا منهم وعليهم .
ولأن الأرض كانت قد عمرت وامتلأت بالشعوب البغيضة والمكروهة ، ولأن الشعب المنوي تخليقه لا يملك أرضا خاصة به يستقر عليها ، كان البحث من هذا الرب عن شعب صغير وضعيف ، قياسا بالشعوب والأمم المجاورة التي أقامت وتدير امبراطوريات ، شعب صغير وضعيف يمكن طرده أو محوه وتسكين الشعب المختار الجاري تخليقه مكانه . وكان أن وقع خيار هذا الرب على أرض كنعان والقبائل التي تسكنها ، والتي لا يمل الرب عن تعدادها مرة بعد مرات .
ثم كان البديهي عند هذا الرب أن يختار لشعب يعمل على تخليقهِ بمواصفات خاصة ، أبا وأما لهما بذات المواصفات الخاصة . وكان ، كما توضح لنا الآيات ، أن وجد هذا الرب الغضوب الغيور ضالته في إبراهيم وسارة اللَذين كانا يملكان تلك المواصفات المطلوبة . فكيف كان ذلك ؟
6


المواصفات الخاصة :

إثر العثور على إبراهيم وسارة باشر الرب عملية التخليق التي احتاجت خمسة قرون وبِضعة عقود . يفاجئنا الإصحاح الثاني عشر من سفر التكوين ، دون مقدمات تمهيدية ، بحكاية عجيبة ، كأنما أراد الرب من إيرادها ، تعريفنا بالعناوين البارزة لمنظومة الصفات الخاصة التي أراد الرب زرعها في شعبه المختار . ذلك أن بداية الإصحاح حكت عن وصول أبرام ، ساراي ، ولوط مع مُقتنياتهم من الماشية والعبيد إلى أرض كنعان ، وعن تواصل ترحالهم فيها ، من شمالها إلى جنوبها ، دون إخبار عن استقرار مستديم لهم .
فجأة ينقلنا الإصحاح إلى الحكاية التالية : [ وحدث جوع في الأرض . فانحدر أبرام إلى مصر ليتغرب هناك . لأن الجوع في الأرض كان شديدا 10 وحدث لما قرب أن يدخل مصر أنه قال لساراي امرأته إني قد علمت أنك امرأة حسنة المنظر 11 فيكون إذا رآك المصريون أنهم يقولون هذه امرأته . فَيقتلونني ويستبقونك 12 قولي إنك أختي ليكون لي خير بسببك وتحيا نفسي من أجلك 13 ] .
وقبل متابعة الحكاية ، وقبل أن تنفك عقدة اللسان من أثر الدهشة ، والأدق من أثر الصدمة التي يحدثها هكذا سلوك صادر عن نبي ، يحتل كل هذا التقديس والإجلال في النفوس ، تعالوا نذهب إلى الإصحاح العشرين ، إلى ما هو أكثر إدهاشا و إثارة للصدمة . الإصحاح حدثنا عن تكرار ذات الحكاية ، لكن ليس في مصر هذه المرة وإنما في فلسطين ، وبعد طول معرفة ، و مراكمة خبرة عند هذا النبي بطبائع ، تقاليد ، أَعراف ، عادات وأخلاقيات أهلها . ماذا ؟
تخبرنا الآيَتان 12 و 13 / الإصحاح العشرون بحديث اتفاق بين أبرام وَساراي وقع عند بدء رحلة الخروج من أور الكلدانيين يقول : [ وبالحقيقة هي أختي ابنة أبي . غير أنها ليست ابنة أمي . فصارت لي زوجة 12 وحدث لما أَتاهني الله من بيت أبي أني قلت لها هذا معروفك الذي تصنعين إلي . في كل مكان نأتي إليه قولي عني هو أخي 13 ] .
لكن ، وقبل الخضوع لاستفزاز غواية التعليق ، نعود للإصحاح الثاني عشر واستكمال الحكاية في مصر : [ فحدث لما دخل أبرام إلى مصر أن المصريين رأوا المرأة أنها حسنة جدا 14 ورآها رؤساء فرعون ومدحوها لدى فرعون . فأخذت المرأة إلى بيت فرعون . 15 فصنع إلى أَبرام خيرا بسببها . وصار له غنم وبقر وحمير وعبيد وإماء وأُتن وجمال 16 فضرب الرب فرعون وبيته ضربات عظيمة بسبب ساراي امرأة أبرام . 17 فدعا فرعون أبرام وقال ما هذا الذي صنعت بي . لماذا لم تخبرني أنها امرأتك 18 لماذا قلت هي أُختي حتى أخذتها لي لتكون زوجتي . والآن هوذا امرأتك . خذها واذهب 19 فأوصى عليه فرعون رجالا فشيعوه وامرأته وكل ما كان له 20 ] .
ومن جديد ، وقبل الخضوع لسلطان استفزاز الغواية بالتعليق ، والحديث عن الثروة ؛ المواشي والفضة والذهب ، التي جناها أبرام من بيع جسد زوجته ، تعالوا ننتقل إلى الإصحاح العشرين ، وحكاية البيع الثانية .
يطالعنا الإصحاح بالتالي : [ وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض الجنوب وسكن بين قادش وشور وتغرب في جرار 1 وقال إبراهيم عن سارة امرأته هي أختي . فأرسل أبيمالك ملك جرار وأخذ سارة 2 فجاء الله إلى أَبيمالك في حلم الليل وقال له ها أنت ميت من أجل المرأة التي أخذتها فإنها متزوجة ببعل 3 ولكن لم يكن أبيمالك قد اقترب إليها . فقال يا سيد أَأُمة بارة تقتل 4 ألم يقل هو لي إنها أختي وهي أيضا نفسها قالت هو أخي . بسلامة قلبي ونقاوة يدي فعلت هذا 5 فقال الله له في الحلم أنا أيضا علمت أنه بسلامة قلبك فعلت هذا . وأنا أيضا أمسكتك عن أن تخطئ إلي . لذلك لم أدعك تمسها 6 فالآن رد امرأة الرجل فإنه نبي فيصلي لأجلك فتحيا . وإن كنت لست تردها فاعلم أنك موتا تموت أَنت وكل من لك 7 ] .
وقبل أن نلاحظ هنا أن الرب لم يكن غريبا على أبيمالك الوثني ، لأن المرء إن حلم يحلم بَآلهته وليس بآلهة غيره ، تعالوا نتابع السرد حيث نرى أن رجال المدينة أيضا ، أحرار وعبيد كانوا أيضا على معرفة بهذا الرب الذي هو أحد آلهتهم : [ فبكر أبيمالك في الغد ودعا جميع عبيده وتكلم بكل هذا الكلام في مسامعهم فخاف الرجال جدا 8 ثم دعا أبيمالك إبراهيم وقال له ماذا فعلت بنا وبماذا أخطأت معك حتى جلبت علي وعلى مملكتي خطية عظيمة . أعمالا لا تُعمل عملت بي 9 وقال أبيمالك لإبراهيم ماذا رأيتَ حتى عملتَ هذا الشيء 10 فقال إبراهيم إني قلت ليس في هذا الموضع خوف الله البتة . فَيقتلونني لأجل امرأتي 11 وبالحقيقة أيضا هي أختي ابنة أبي . غير أنها ليست ابنة أمي . فصارت لي زوجة 12 وحدث لما أَتاهني الله من بيت أبي أني قلت لها هذا معروفك الذي تصنعين إلي . في كل مكان نأتي إليه قولي عني هو أخي 13 ] .
وقبل أن تسأل ، عزيزي القارئ : بماذا رد وكيف تصرف أبيمالك ،ملك جرار الفلسطيني مع شخص حاول الاتجار بعرض زوجته ، عليك أن تسأل : كم كانت المدة التي قضتها سارة في حضن هذا الملك ؟ هل كانت قصيرة ، ليلة أو بعض ليلة كما توحي آيات تدخل الله ومنع مسها ، أم كانت مدة طالت فَاقتضت تدخل الله ؟
للإجابة تعالوا نَستكمل الحكاية : [ فأخذ أَبيمالك غنما وبقرا وعبيدا وإماء وأعطاها لإبراهيم .ورد إليه سارة امرأته 14 وقال أبيمالك هوذا أرضي قدامك . اسكن فيما حَسُنَ في عينيك 15 وقال لسارة إني قد أعطيت أخاك ألفا من الفضة . ها هو لك غطاء عين من جهة كل ما عندك وعند كل واحد فأُنصفت 16 فصلى إبراهيم إلى الله . فشفى الله أَبيمالك وامرأته وجواريه فَولدن 17 لأن الرب كان قد أغلق كل رحم لبيت أَبيمالك بسبب سارة امرأة إبراهيم 18 ] .
إذاً ، الإقامة كانت قد طالت والمس حصل ، بالرغم من نفي الآيات ، وكرم أخلاق أبيمالك لم يصبه عطب اسْتقباحه لفعل إبراهيم .ولكن ..
لكن الحكاية لم تنته عند هذا الحد ، إذ يبلغنا الإصحاح السادس والعشرون أن إسحق عاد وكرر فعلة أبيه وأمه ، وبذات التفاصيل . هي تربية وأخلاق تربى عليها الابن ، كما كانت قد تربت عليها زوجته ، ودليل على كونها جزءً أصيلاً من منظومة الأخلاق لهؤلاء الآباء المؤسسين . كيف ؟
يفاجئنا الإصحاح بالقول أنه عاد وحدث جوع في الأرض ، مثل ذاك الذي حدث في عهد إبراهيم . عزم إسحق على الرحيل . ظهر له الرب وأمره أن يتغرب في فلسطين وأن لا يذهب إلى مصر . كرر عليه الوعد بإعطائه الأرض له و لنسله الذي سيُكثره كعدد نجوم السماء . نزل إسحق عند أبيمالك ملك جرار الفلسطيني ، وهو غير أبيمالك الأول : [ وسأله أهل المكان عن امرأته . فقال هي أختي . لأنه خاف أن يقول امرأتي لعل أهل المكان يقتلونني من أَجل رفقة لِأنها كانت حسنة المنظر 7 وحدث إِذ طالت له الأَيام هناك أَن أَبيمالك ملك الفلسطينيين أَشرف من الكوة ونظر وإذا إِسحق يلاعب رفقة امرأته 8 فدعا أبيمالك إسحق وقال إنما هي امرأتك . فكيف قلت هي أختي . فقال إسحق لأني قلت لعلي أموت بسببها 9 فقال أَبيمالك ما هذا الذي صنعت بنا . لولا قليل لاضطجع أَحد الشعب مع امرأتك فجلبت علينا ذنبا 10 فأوصى أبيمالك جميع الشعب قائلا الذي يمس هذا الرجل أو امرأته موتا يموت 11 ] .
باقي الآيات تحكي كيف بارك الرب إسحق ، تعاظمت ثروته ، أثارت حسد الفلسطينيين ، فتم طرده وأسرته من المدينة .
بهذا ، وقبل وبعد هذا ، نصل إلى حالة الاستسلام فَالوقوع في غواية التعقيب .
أول ما يتبادر إلى الذهن ، إثر قراءة اتفاق إبراهيم مع سارة ، في حال التعرض لخطر الاغتصاب في رحلة الخروج ، على التعريف بأنها أخته ، هو السؤال التالي : هل كان هذا السلوك من إبراهيم ، ثم من سارة ولوط ، تقليدا ، عادة ، عرفا غير مرذول ، مقبولا ومكرما في بلد المنشأ ، أور الكلدانيين ، وبلاد ما بين النهرين ؟ وعليه كان مقبولا على الرب الذي لم يحاول ، ليس فقط ثني إبراهيم واسحق عنه ، ولا حتى عِتابهما عليه ؟
لا تسعفنا النصوص بجواب شافٍ أو غير شافي .
وأما ثاني ما يتبادر للذهن فهو السؤال : لماذا لجأ الرب للتدخل بضرب فرعون وبيته ، بعد شبع فرعون منها ، وتهديد أبيمالك في الحلم ، وفي ذات الوقت استنكف عن ردع إبراهيم ، كما إسحق ، عن هكذا سلوك مشين ، وعن قبول ثمن البيع لجسدي سارة ورفقة ؟ ولماذا واصل مُباركتهما ، تأكيد عهده لهما ، عدم الحط من قَدرهما ، بالرغم من ما شاهد منهما من خسة ونذالة ؟
وثالث ما يتبادر للذهن هو كيف ولماذا رأى فرعون ، أبيمالك الأول ، أبيمالك الثاني ، في سلوك إبراهيم وإسحق من الخسة والدناءة ، ما يُوجب طردهم من البلاد ، ولم يروا ذلك في سلوك سارة ورفقة اللتين مارستا المهنة برضى وحرفية ، فلم يَغمطوهما حقوقَهما ، وحيث دفعوا الأتعاب كاملة غير منقوصة ؟ وأكثر من ذلك ، لماذا حرص أبيمالك الأول على إبلاغ سارة مباشرة بدفع أتعابها لزوحها إبراهيم ؟ هل أراد النص إِفهامنا أن ذمة إبراهيم قد يكون بها عَطب ما ؟ .
ورابع ما يتبادر إلى الذهن هو كيف ولماذا نهض الرب لحماية عرض سارة مرتين وتقاعس عن فعل ذلك مع رفقة ؟ وأكثر من ذلك ، وبدل أن يعتب على إسحق الذي تربى على سلوك أبيه وأمه ، بارك فعله ، وأحل بركته على أتعاب رفقة ، بأن أثمر أرض أتعابها مائة ضعف ، لا ضعفا أو ضعفين ، كما تمنح خصوبة الأرض وظروف المناخ المواتية . وزاد من تعاظم إسحق وتعاظم مواشيه وعبيده ، حتى حسده الفلسطينيون ودفعوا إلى طرده ، كما تقول الآيات 12 ، 13 ، 14 من ذات الإصحاح .
وخامسا وأخيرا ، ولأن سارة ورفقة حازتا تخصص امتاع الملوك ، بما يدر هذا التخصص من عوائد مجزية ، فَولاية للنعمة وتعاظم لِلنفوذ على الزوجين ، كان أن سارة هي من أقصر حدود النسل في وعد الرب على نسلها هي ، ثم جاءت رفقة لِتقصره على ابنها المحبوب يعقوب . والمدهش أن الرب انصاع لِإملائهما ذاك .
7

في عرضي للحكايات الثلاث ، في حلقات إشكاليات الرسل والأنبياء المنشورة على الحوار المتمدن ، هاجمني شخص اسمه سيمون دانيال ، باعتباري كمسلم مسكون بهواجس الجنس ، فهمت الحكايات بمنطقها الظاهر وغفلت عن منطقها الباطن المستتر . رددت عليه متسائلا ، إن كان في ظنه أن الرب استخدم فرجي سارة ورفقة ، ونذالة إبراهيم وإسحق وسائل إيضاح لِلمعنى المستتر الذي أراده في الحكايات الثلاث .
هجوم سيمون ذاك حفزني لمعاودة قراءة النصوص مرة ومرات ،علني أصل لبعض هذا المستتر والحكمة التي أرادها الرب . وكان أن وصلت إلى تأكيد الاتفاق الكامل مع علماء الآثار ، والقائل بأن هذه الحكايات وغيرها ، لا أساس لها في الواقع . وهي محض خيال شعبي ، أريد منه التدليل على منظومة القيم والأخلاق التي تحكم هؤلاء الناس لا غير . كيف ؟
سبق وأشرنا في حلقة سابقة إلى تحديد الإصحاح السابع عشر ، والآية 17 لعمر إبراهيم وسارة بأنه مئة عام لإبراهيم وتسعين لسارة . ذلك يعني أن إبراهيم كان يكبرها بعشر سنين . وعليه ولأن الإصحاح الثاني عشر ، في الآية 4 كان قد أبلغنا أن إبراهيم دخل أرض كنعان وعمره 75 ، ليكون عمر سارة 65 . والسؤال هل تكون ابنة ال65 ، مهما عظم جمالها مَطمعا للرجال ؟ مطمعا يهدد حياة زوجها بالقتل ؟
وحدثت حكاية مصر بعد ذلك ببضع سنين ، أي وعمر سارة قد تجاوز السبعين ، فهل يمكن أن تكون مطمعا لفرعون ، أو من هو أدنى من فرعون ؟ ألم يكن في مصر ، ومصر أم بلاد جمال النساء ، صبايا دون العشرين لهن من الجمال ما يغني عن جمال مسنة بعمر سارة ؟ أم أن غرض الرب من كل هذه الحكاية الملفقة إخبار عبيده وغير عبيده ، بتلك الصفات المحببة لقلبه ، فزرعها ، أنبتها وأنماها في شعبه المختار .
وحدثت حكاية سارة مع أبيمالك بعد ذلك ببضع سنين أخرى ، أي بعد أن تجاوزت سارة الثمانين . فهل نفهم أن الرب من البداية صنع معجزة إبقاء نضارة الصبا لعجوزة طاعنة في الثمانين ؟ أم أن حساب الرب للسنين آنذاك كان غير ما نعرفه اليوم ؟ أم كانت سنة الرب في التوراة أقل بكثير من نصف سنتنا الآن ؟ .
المسألة كلها مسألة أسطورة ، هدفت ، كما قلنا ، إلى التعريف بمنظومة القيم والأخلاق التي ارتكز إليها شعب الله المختار ، فهل يجوز لنا الآن أن يستغرب أحد منا تشدق بن غفير و سموترش بأن حرب الإبادة لغزة ، وخطط التهجير والنكبة الثانية هي عادلة ، صحيحة ، إنسانية وأخلاقية ؟
8
الخيانة :
ومرة أخرى ولأن الشيء بالشيء يذكر ، تعالوا نسترجع حكاية يوسف و امرأة فوطيفار خصي فرعون و رئيس شرطته، حسب التوراة ، أو زوجة العزيز - عزيز مصر - حِسب القرآن . و نعاود التذكير : لأن الموضوع يتعلق بأسس منظومة القيم والأخلاق التي يتميز بها شعب الله المختار ، يكون من تحصيل الحاصل انتفاء الحاجة للاستعانة بما ورد عن الحكاية في القرآن . ذلك لأن أبناء هذا الشعب ، اليهود ، لا يقيمون وزنا لنصوص القرآن ، بل ، مثلهم مثل كل أتباع الديانات التوحيدية ، يعادون الكتاب المقدس للدين الآخر معاداة شديدة .
تنطوي الرواية على سلسلة من المتناقضات التي تلقي بالقارئ في متاهة . أي تجعل من محاولة الفهم أمرا يقرب من الاستحالة . الحكاية تدور عن خيانة بطلاها أم وابنها بالتبني . من هو الخائن ؟ الأم التي تدلهت عشقا محرما لابنها ؟ أم الابن الذي لم يجد مجالا لتصريف فوران رجولته غير فرج أمه ؟ وفوق كل هذا الأم سيدة قصر والابن عبد . والحيرة تأتي من تغييب الحقيقة . هل وصلها طفلا تربى في حضنها ، أم شابا كانت عبوديته سبب أمومتها له ؟ فض سر المتاهة في معرفة عمر يوسف وقت بدء عبوديته .
التوراة هي من تعمد صنع المتاهة بخصوص عمر يوسف وقت تركه في الجب وبدء رحلة عبوديته . أخذ آية والبناء عليها يوقع الباحث في مصيدة ، كما حدث لي في الحلقة الخاصة بيوسف . تلك الآية التي تحكي عن ذهاب يوسف وحيدا وماشيا من الخليل إلى نابلس جعلتني أَستنتج أنه كان شابا يافعا ، ابن 17 سنة ، وقت بدء عبوديته ، فيما يقول القرآن أنه كان طفلا ، غدت له زوجة العزيز فوطيفار أما . ثم كان القرآن أيضا قد أوقعنا في متاهة حول علاقة هذه الأم بابنها من خلال اكتشاف جمال رجولته فجأة والوقوع في دباديب عشقه ، ما أدى إلى الحادثة . ولكن ..
لكن متاهة التوراة يمكن فضها بالقليل من الصبر والقراءة المتأنية لِعديد الآيات ذات الصلة . وعليه لنبدأ من البداية .
الآية 25 من الإصحاح 29 سفر التكوين تبين لنا أن لابان الذي لجأ إليه يعقوب ، بحكم شراكة الدم ، في حاران هاربا من توأمه عيسو ، خدع يعقوب بأن زوجه ابنته الكبيرة ليئة ، ضعيفة النظر وغير الجميلة ، لقاء عمله سبع سنوات ، بديلا للمحبوبة راحيل . خدم يعقوب لابان سبع سنوات أخرى وتزوج راحيل . في السنوات السبع هذه ولدت ليئة ليعقوب أبناءَه ؛ رأوبين ، شَمعون ، لَاوي ، ويهوذا . ثم توقفت عن الولادة . أما راحيل فكانت عاقرا .
راحيل ، ولكي يغدو لها ابنا ، قامت بتزويج يعقوب من خادمتها بلهة التي ولدت ليعقوب ابنا أسمته راحيل دان . حملت بلهة ثانية وولدت ابنا ثانيا اسمته راحيل نفتالي . اشتعلت الغيرة في قلب ليئة من أختها راحيل ، بسبب أبناء بلهة ، فكان أن زوَّجت يعقوب من خادمتها زلفة التي أنجبت له جادا ثم أشير . بعد كل ذلك عاود رحم ليئة وانفتح لِتلد ليعقوب يساكر ثم زبولون وأخيرا ابنتهم دينة .
أخير انفكت عقدة راحيل وولدت يوسف ، تلته ببنيامين الذي ماتت وهي تلده .
بحساب سني الحمل فولادات الأبناء هؤلاء يمكننا القول بثقة أن رأوبين يكبر يوسف بأكثر من 15 سنة . ويكبر يهوذا يوسف بأكثر من 10 سنوات . ولأنهم جميعا كانوا فتية يرعون غنم أبيهم حينما باعوا يوسف للتجار الإسماعيليين - العرب - أو المديانيين بعشرين من الفضة ، التجار الذين باعوه لرئيس شرط فرعون فيما بعد . هكذا يكون منطقيا أن يوسف كان طفلا بعمر ما بين الأربع والخمس سنوات . ولكن …
لكن الإصحاح السابع والثلاثون يقول غير ذلك . يقول : [ وسكن يعقوب في أرض غربة أبيه ، في أرض كنعان .1 هذه مواليد يعقوب . يوسف إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع إِخوته الغنم وهو غلام عند بني بلهة وبني زلفة امرأتي أبيه . وأتى يوسف بنميمتهم الرديئة إِلى أبيهم . 2 أما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته . فصنع له قميصا ملونا . 3 ……ومضى إخوته لِيرعوا غنم أبيهم عند شكيم . 12 فقال إسرائيل ليوسف أليس إخوتك يرعون عند شكيم . تعال فَأرسلك إليهم . فقال هأنذا . 13 فقال له اذهب انظر سلامة إخوتك وسلامة الغنم ورد لي خبراً . فأرسله من وطاء حبرون فأتى إلى شكيم . 14 ……. فلما أَبصروه من بعيد قبلما اقترب إليهم احتالوا له لِيميتوه .18 فقال بعضهم لبعض هوذا هذا صاحب الأحلام قادم . 19 فالآن هلم نقتله ونطرحه في إحدى الآبار ونقول وحش رديء أكله . فنرى ماذا تكون أحلامه . 20 ……..فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه القميص الملون الذي عليه .23 وأخذوه وطرحوه في البئر . وأما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء . 24 ثم جلسوا ليأكلوا طعاما . فرفعوا عيونهم ونظروا وإذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد وجمالهم حاملة كُثيراء وبلساناً ولاذناً ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر . 25 فقال يهوذا لإخوته ما الفائدة أن نقتل أخانا ونخفي دمه . 26 تعالوا فَنبيعه للإسماعيليين ولا تكن أَيدينا عليه لأنه أخونا ولحمنا . فسمع له إِخوته . 27 واجتاز رجال مديانيون تجار . فَسحبوا يوسف وَأصعدوه من البئر وباعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة . فأتوا بيوسف إلى مصر 28 ….وأما المديانيون فباعوه في مصر لفوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط . 36 ] .
أول ما يلفت الانتباه في هذه الرواية حملها للكثير من التناقضات ، والتي يطول شرحها وتوضيحها . لذلك سأكتفي بالوقوف عند أهمها وفي نقاط .
1- يحار القارئ في فهم المغزى من القول بأن يوسف الغلام رعى الغنم عند ، وليس مع ، بني بلهة وبني زلفة ، خادمتي أمه وخالته ليئة ، ويوسف هو الأثير عند أبيه يعقوب ، إلا إذا كان الغرض لفت الانتباه لأن الأب أراد تنشئة محبوبه على فضيلة النميمة ، كما تفصح الآية .
2- إذا سلمنا بأن عمر يوسف كان 17 سنة عندما أرسله يعقوب لتفقد أحوال إخوته الذين يرعون غنم أبيهم قرب نابلس - شكيم - ، وأن عبوديته ابتدأت في هذا السن ، وبالتالي لم تربه العائلة المصرية ابنا لها ، ولم تلعب زوجة فوطيفار دور الأم له ، وهو لم يكن الابن لها ، يتوجب علينا التفكر بالتالي : أ - أن يعقوب يكون ، وهو النبي المكشوفة له حجب الغيب ، كما تشير كل سيرته ، قد أرسل يوسف إلى حتفه ، إن لم يكن من غيرة وحسد إخوته ، فمن مخاطر الطريق . نحن أبناء فلسطين نعرف المسافة بين الخليل ونابلس لمن يريد قطعها ماشيا . وحتى أوائل خمسينات القرن الماضي لم تكن في الريف الفلسطيني طرق مفتوحة وواضحة . وكان السير فيها للفرد بلا سلاح شديد الخطر ، و بالأساس بسبب الوحوش المفترسة أولا ، وقطاع الطرق ثانيا . فما بالنا بولد مدلل مثل يوسف وقبل ثلاثة آلاف سنة يقطع طريقا غير معلمة بمثل هذه المسافة الطويلة . ب - أن أصغر أخوته يكون قد تجاوز العشرين من العمر ، وأن رأوبين وشمعون قد تجاوزا الثلاثين . ذلك يعني أن الكل قد تزوجوا وأنجبوا ، وأن أسرهم ترافقهم ومشاغلها لا بد قد أطفأت الكثير من نيران الغيرة والحسد التي أوقدها أبوهم في صدورهم فتيانا وأطفالا تجاه أخيهم يوسف . وبالتالي تكون حوافز اجتماع رأيهم ، فَإقدامهم على ارتكاب مثل هذه الجريمة ، شبه معدومة . ج - يضاف إلى ذلك أن أحدا منهم ، وهم عشرة أنبياء ، لم يتعرف على يوسف عندما التقوهُ في مصر ، لا في المرة الأولى ولا في المرات التالية ، وهو المستحيل لو أن الجريمة وقعت وهو في سن ال17 . لم تكن المدة طويلة بين وقوع جريمتهم ببيعه عبدا ، وذهابهم إلى مصر للاتجار . عشرة وعشرين سنة لا تمحو ملامح أخ تركهم وهو ابن 17 ، وهو من عرفهم واحدا واحدا . لكن ذلك ممكن ، وأكثر من الممكن ، لو أن جريمة البيع حدثت ويوسف طفلا صغيرا . الملامح تتغير عندما يكبر ، وذاكرة الصغير لا تنسى وجوه إخوته وما فعلوه . أما ذاكرة الكبار ، بالرغم من كونهم أنبياء ، قد تخونهم أفرادا وجماعة . د - أغلب الظن أن هذه الرواية بما فيها من ضعف وتناقضات هي واحدة من الروايات التي أدخلت على التوراة في المراحل المتعاقبة . ذلك أن الغرض واضح . طمس علاقة الابن بأمه و علاقة الأم بابنها ، لإخفاء الكثير من وجوه بشاعة جريمة اشتهاء الابن لأمه ، وعشق الأم لابنها . كيف ؟
9
الإجابة في رواية حدث الخيانة وَالإصحاح التاسع والثلاثون ، بالرغم من أن السرد يدفع بالقارئ إلى المتاهة من جديد . يبدأ الإصحاح السرد بالتالي : [ وأما يوسف فَأنزل إلى مصر واشتراه فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط رجل مصري من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك . 1 وكان الرب مع يوسف فكان رجلا ناجحا . وكان في بيت سيده المصري . 2 ] . يسمي الإصحاح التجار الذين اشتروا يوسف من إخوته وحملوه إلى مصر بِالاسماعيليين ، أي العرب ، والمديانيين مرة أخرى وفي نفس الآية .
ينقلنا الإصحاح إلى القول بأن سيد يوسف - فوطيفار - لاحظ نبوغه وبراعته في العمل ، وأن كل شيء ينجح وينمو بين يديه لأن يد الرب معه . فما كان من فوطيفار إلا أن سلمه المسؤولية كاملة عن كل ماله ، بيته ، بساتينه ومزارعه .. الخ . وبات سيد البيت لا يعرف شيئا غير الخبز الذي يأكله . ثم يباغتنا الإصحاح ، في تمهيد للحكاية وإدانة امرأة فوطيفار ، بالقول [ … وكان يوسف حسن الصورة وحسن المنظر . 6 ]
لا تقول الآيات شيئا عن تربية الطفل يوسف ، أو الشاب يوسف ، في بيت فوطيفار . ولا شيء عن علاقة زوجة فوطيفار به ، وما إذا كانت ربته هي كابن لها وهي التي بلا ولد من زوجها الخصي . ولا حتى عن ملاحظتها جمال الطفل وحسن صورته ومتابعته وهو يكبر حتى سن البلوغ . أو عن ملاحظة شاب بجمال يوسف وحسن صورته يدخل ويخرج من البيت شهورا ولا نقول سنوات قبل وبعد أن أوكل له زوجها كل شؤونه . لا شيء من ذلك . إذ يقفز بنا الإصحاح إلى التالي : [ وحدث بعد هذه الأمور أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف وقالت اضطجع معي . 7 فأتى وقال لامرأة سيده هوذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت وكل ماله قد دفعه إلى يدي . 8 ليس هو في هذا البيت أَعظم مني . ولم يمسك عني شيئا غيرك لأنك امرأته . فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله . 9 وكان إذ كلمت يوسف يوما فيوما أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها . 9 ] .
الآيات تقول بأن امرأة السيد المصري فوجئت بوجود هذا العبد ، الرجل الجميل ، مكتمل الرجولة في بيتها . أغواها جماله الرجولي ، أو تدفق فحولته ، فأخذت تحاول إغواءه مرة بعد مرة بعد مرة وهو ممتنع عليها ، الأمر الذي لا يتفق مع أبسط وأضعف منطق .
ونعود إلى الإصحاح والسرد : [ ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله ولم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت . 11 فأمسكته بثوبه قائلة اضطجع معي . فترك ثوبه في يدها وهرب وخرج إلى خارج . 12 وكان لما رأت أنه ترك ثوبه في يدها وهرب إلى خارج . 13 أنها نادت أهل بيتها وكلمتهم قائلة انظروا قد جاء إِلينا برجل عبراني لِيداعبنا . . دخل إليَّ ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم . 14 وكان لما سمع أنّي رفعت صوتي وصرخت أنه ترك ثوبه بجانبي وهرب وخرج إلى خارج . 15 فوضعت ثوبه بجانبها حتى أتى سيده إلى بيته . 16 فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة دخل علي العبد العبراني الذي جئت به إلينا لِيداعبني . 17 فكان لما رفعت صوتي وصرخت أَنه ترك ثوبه بجانبي وهرب إلى خارج .18 ] . بقية الآيات تقول أن فوطيفار غضب وزج بِيوسف في السجن الذي كان أسرى فرعون محبوسين فيه .
ظاهر الآيات يقول أن سيدة البيت هي الخاطئة . لكن باطنها يقول غير ذلك . المرأة المُدلهة عشقا لا تفعل ما تقوله الآيات . الآيات تقول أن سيدته حين أمسكت بثوبه تركه في يدها وفر هاربا . ولأنه فر هاربا يئست ففضحته صارخة . فكيف يكون ذلك ؟ لا تستطيع المرأة ، أي امرأة كانت من تكون ، نزع ثوب رجل عنه عنوة ، إلا في حال أن كانت قامتها أطول من قامته ، وبنيتها أقوى من بنيته ، وأنها أمسكت بقبة ثوبه ، الأمر الذي أتاح له الانسلال منه وتركه في يدها . غير ذلك كان عليها أن تمزق ذلك الثوب حتى تتمكن من نزعه عنه . رأى الزوج الثوب غير ممزق ، بما عنى له ، وهو رئيس الشرط ، أن صاحبه نزعه راغبا . وذلك ما وفر له الدليل على ثبوت التهمة عليه ، وزجه في السجن وهو العبد بدل أن يقتله كما تقضي قوانين العبودية . فما الذي حدث ؟
الذي حدث أن الاثنين فوجئا بعودة سكان البيت وهما على وشك مباشرة فعل المداعبة - همت به وهم بها - . خافا من الإمساك بهما متلبسين . ولم يجدا مخرجا غير فراره عاريا من ثوبه وصراخها مدعية البراءة .
المعضلة في هذه المشكلة أنها كانت بين الأم وابنها بالتبني . يوسف الصديق ، حسب منطوق الآيات ارتكب فعل الخيانة . كان على وشك الزنا بأمه - أو بسيدته إن صدقنا أنه دخل بيتها في عمر السابعة عشر وهي في مقام الأم حسب تقاليد تلك الأيام - ، لولا أن رأى برهان ربه - قدوم سكان البيت - ما أتاح له أن يفر عاريا . والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن : ألم يُمارسا هذا الفعل قبل ذلك ، والرغبة المتبادلة كانت تحرقهما طوال الوقت ، وقد أتيحت لهما الفرصة مرات ومرات كما تنطق الآيات ؟ المحزن أن الإثنين ، هي وهو كانا وما زالا ، و سيبقيان مقدسين ، في تأكيد لكون دوافع الفعل ، مؤشراته وتوابعه ، مكون أصيل من مكونات منظومة القيم والأخلاق العظيمة لهذا الشعب المختار .
10
نكران :
" ما جزاء الإحسان إلا الإحسان " مقولة تعبر عن قيمة عليا عند كل أهل الأرض عدا شعب الله المختار . عندهم " ما جزاء الإحسان إلا الخسران والأحزان " ، أو " تِعْمَللو معروف تِلقى منو - منه - متلوف " ، حسب التعبير الشعبي الفلسطيني الدارج . لماذا وكيف ؟
يطالعنا سفر عدد في الإصحاحات : الثاني والعشرون ، الثالث والعشرون ، الرابع والعشرون ، والخامس والعشرون ، بسرد حكاية رجل الله بلعام بن يَعُور الموآبي مع موسى وبني إسرائيل ، ومصيره على أيديهم . تقول الحكاية أن أهل مملكة موآب - محافظة البلقاء في الأردن - فوجئوا بحشود بني إسرائيل الخارجين من مصر ، العابرين جبال الشراة ، في طريقهم إلى الأرض الموعودة ، أرض كنعان ، يقتربون منهم . خاف أهل موآب أن يفعل بهم موسى ما فعله بأهل ذلك الجزء من مديان التي مر منها ، من قتل وإبادة ، ومن محو للشجر والحجر ، وبلغة التوراة "كما يلحس الثور الحقل ". تشاوروا واستقر رأيهم على : حيث أن لا قدرة لنا على مواجهة هذه الحشود الهائلة فعلينا الذهاب لرجل الله بلعام بن يَعور نطلب عونه . وهكذا كان .
يطالعنا الإصحاح الثاني والعشرون بالتالي : [ ….وكان بالاق بن صفور ملكاً لِموآب في ذلك الزمان . 4 فأرسل رسلا إلى بلعام بن يَعور إلى فَتور التي على النهر في أرض بني شعبه ليدعوه قائلا . هوذا شعب قد خرج من مصر هوذا قد غَشي وجه الأرض وهو مقيم مقابلي . 5 فالآن تعال والعن لي هذا الشعب لأنه أعظم مني . لعله يمكننا أن نكسره فَأطرده من الأرض . لأني عرفت أن الذي تباركه مبارك والذي تلعنه ملعون . 6 ] .
ذهبت رسل بالاق إلى بلعام . أبلغوه الرسالة . طلب منهم المبيت عنده تلك الليلة ليبلغهم جوابه في الصباح . جاءه الله وَكلمه بالتالي :[ فأتى الله إلى بلعام وقال من هم هؤلاء الرجال الذين عندك . 9 ] رد بلعام بأنهم رسل بالاق بن صفور ملك موآب ، وقص الرسالة . [ فقال الله لبلعام لا تذهب معهم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك . 12 ] . أبلغ بلعام الرسل بهذا الرد في الصباح . عادوا لبالاق خائبين . لم يقبل بالاق بالجواب . عاود إرسال رسل أعظم من السابقين ومعهم وعود بإكراميات عظيمة . [ فأجاب بلعام وقال لعبيد بالاق . ولو أعطاني بالاق ملء بيته فضة وذهبا لا أقدر أن أتجاوز قول الرب إلهي لأعمل صغيرا أو كبيرا . 18 ] . طلب إليهم المبيت عنده إذ قد يعود الله ويكلمه . [ فأتى الله لبلعام ليلا وقال له إن أتى الرجال لِيدعوك فقم اذهب معهم . إنما تعمل الأمر الذي أُكلمك به فقط . 20 ] في الصباح ركب أتانه وانطلق معهم . لكن الله غضب بسبب ذلك . وكان أن وقعت الحادثة الطريفة الآتية :-

11

[ فحمي غضب الله لأنه منطلق ووقف ملاك الرب في الطريق لِيقاومه وهو على أتانه و غلاماه معه . 22 فأبصرت الأتان ملاك الرب واقفا في الطريق وسيفه مسلول في يده . فمالت الأتان عن الطريق ومشت في الحقل . فضرب بلعام الأتان ليردها إلى الطريق . 23 ثم وقف ملاك الرب في خندق للكروم له حائط من هنا وحائط من هناك .24 فلما أبصرت الأتان ملاك الرب زحمت الحائط وضربت رجل بلعام بالحائط فضربها أيضا .25 ثم اجتاز ملاك الرب أيضا ووقف في مكان ضيق حيث ليس سبيل للنكوب يمينا أو شمالا . 26 فلما أبصرتِ الأتان ملاك الرب ربضت تحت بلعام . فحمي غضب وضرب الأتان بالقضيب . 27 ففتح الرب فم الأتانِ فقالت لبلعام . ماذا صنعت بك حتى ضربتني الآن ثلاث دفعات .28 فقال بلعام للأتان لأنك ازدريت بي . لو كان بيدي سيف لكنت الآن قد قتلتك . 29 فقالت الأَتان لبلعام ألست أَنا أَتانك التي ركبت عليها منذ وجودك إِلى هذا اليوم . هل تعودت أن أفعل بك هكذا . قال لا .30 ] .
هنا كشف الله عن عيني بلعام فأبصر ملاك الرب واقفا في الطريق وسيفه مسلول بيده فخر ساجدا أمامه . عاتبه الملاك على ضربه للأتان . ورد بَلعام :[ فقال بلعام لملاك الرب أخطأت . إني لم أعلم أنك واقف بالطريق . والأن إن قبح في عينيك فإني أرجع . 34 ] . أمره ملاك الرب بالذهاب مع الرجال على أن يقول ما يملى عليه .
فرح الملك بالاق بقدوم رجل الله بلعام . أعد له استقبالا فاخرا ، وأكرمه أيما إكرام . وفي الصباح أخذه الملك بالاق إلى مرتفعات بعل وأراه جموع بني إسرائيل التي احتشدت على مد البصر .عند العودة طلب بلعام من بالاق الملك ، حسب الإصحاح الثالث والعشرون ، بناء سبعة مذابح ، وتهيئة سبعة ثيران وسبعة كباش لرفعها محرقات إلى الرب . ترك بلعام بالاق والرؤساء عند المحرقات وذهب إلى رابية لملاقاة الله . وافاه الله هناك ووضع الكلام في فمه . عاد لِبالاق والرؤساء وقال لهم : طلبتم مني أن ألعن يعقوب وأن أشتم إسرائيل : [ كيف ألعن من لم يلعنه الله وكيف أشتم من لم يشتمه الرب . 8 إني من رأس الصخور أراه ومن الآكام أبصره . هوذا شعب يسكن وحده وبين الشعوب لا يحسب . 9 من أحصى تراب يعقوب وربع إسرائيل بعدد . لتمت نفسي موت الأبرار ولتكن آخرتي كآخرتهم . 10 ]
غضب بالاق لأن بلعام بارك بني إسرائيل بدل أن يلعنهم . أخذه إلى مكان آخر كي يرى جانبا آخر من حشود بني إسرائيل فَيقتنع بلعنهم . ونزولا على طلب بلعام كرر ما فعله في المكان الأول من بناء المذابح وَإصعاد المحرقات . نزل الله وَكلم بلعام . عاد إلى بالاق والرؤساء وقال لهم : [ … قم يا بالاق واسمع . أصغ إلي يا ابن صِفُّور . 18 ليس الله إنسانا فيكذب . ولا ابن إنسان فيندم . هل يقول ولا يفعل . أو يتكلم ولا يفي . 19 إني أمرت أن أبارك . فإنه بارك ولن أرده . 20 لم يبصر إثما في يعقوب . ولا رأى تعبا في إسرائيل . . الرب إلهه معه . وهناك ملك فيه . 21 الله أخرجه من مصر . له مثل سرعة الرِّيم . 22 إنه ليس عيافة على يعقوب ولا عرافة على إسرائيل . في الوقت يقال عن يعقوب وعن إسرائيل ما فعل الله . 23 هوذا شعب يقوم كلبوة ويرتفع كأسد . لا ينام حتى يأكل فريسة ويشرب دم قتلى . 24. ] .
لم ييأس بالاق الملك . أخذ بلعام لمكان ثالث عله يرى ويقتنع بالخطر القادم ويفعل ما طلبه منه . لكن بلعام لم يذهب إلى مرتفع . وجه وجهه نحو البرية ورأى إسرائيل حسب أسباطه . وكان عليه روح الله هذه المرة ، حسب الإصحاح الرابع والعشرون ، دون أن ينزل لمقابلته ، فقال : [ .. … ما أحسن خيامك يا يعقوب مساكنك يا إسرائيل . 5 كأَودية ممتدة كجنات على نهر كَشجرات عود عرسها الرب . كَأرزات على مياه . 6 يجري ماء من دِلائه ويكون زرعه على مياه غزيرة ويتسامى ملكه على أجاج وترتفع مملكته . 7 الله أخرجه من مصر . له مثل سرعة الرِّيم . يأكل أمما مُضايقيه ويقضم عظامهم ويحطم سهامه . 8 جثم كأسد ربض كلبوة . من يقيمه . مُباركك مبارك ولاعنك ملعون . 9 ] .
غضب بالاق من مباركة بلعام لإسرائيل بدل لعنهم كما طلب منه . أوضح بلعام لبالاق عدم قدرته على مخالفة كلام الرب حتى لو أعطاه بالاق ملء بيته فضة وذهبا . وقبل أن ينفصلا ويعود كل منهما إلى مكانه سرد بلعام على بالاق كل ما تنبأ به للشعوب التي تسكن مسار بني إسرائيل إلى عربات أريحا فَالدخول إلى أرض الميعاد ، أرض كنعان . مصير الإبادة والمحو لها كلها . تفرقا وعاد كل منهما ، أي بلعام وبالاق ، إلى مسكنه .
ونصل إلى السؤال : بعد كل هذا الجميل ، هذا الإحسان ، هذا المعروف الذي عمله بلعام لبني إسرائيل ، خارجا على طلبات ملكه ، غير آبه بمصير شعبه ، بماذا وكيف كان رد الرب ، رد موسى ورد بني إسرائيل لبلعام ؟ الجواب قدمه الإصحاح الخامس والعشرون في كلمتين ، و بالآتي : استأنف بنو إسرائيل مسيرتهم . أكملوا عبور مديان وداسوا أرض مرآب . أبادوا الزرع والضرع . قتلوا ، سبوا ، غنموا و استعبدوا كل ما ومن وقع في طريقهم . وفي كل ذلك يغيب مصير بلعام ، لِيفاجئنا الإصحاح الحادي والثلاثون بالآتي : [ وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم . أوِيَ وراقم وصور وحور ورابع . خمسة ملوك مديان . وبلعام بن بعور قتلوه بالسيف . 8 ] . لماذا قتلوا ملوك و أبادوا كل أهل مديان ؟ المبررات نُرحلها إلى الفقرة التالية . أما لماذا قتلوا بلعام ، ولماذا نبرة التشفي والفخر في الإعلان عن قتله ، فذلك لأن بالاق ملك موآب حاول استئجاره كي يلعن إسرائيل ، حسب الآية 4 ، الإصحاح الثالث والعشرون من سفر تثنية . [ …. لأنهم استأجروا عليك بلعام بن بعور كي يلعنك … ] . ولماذا إبادة أهل موآب ، بالرغم من أن الآية 6 من الإصحاح الثاني ، سفر تثنية تنهى عن معاداة موآب : [ فقال الرب لا تعاد موآب ولا تثر عليهم حربا لأني لا أعطيك من أرضهم ميراثا لأني لبني لوط أعطيت عار ميراثا ] ، فذلك [ من أجل أنهم لم يُلاقوكم بالخبز والماء في الطريق عند خُروجكم من مصر ولأنهم استأجروا عليك بلعام بن بعور من فتور آرام النهرين لكي يلعنك . 4 ولكن لم يشأ الرب إلهك أن يسمع لبلعام فحول إلهك اللعنة إلى بركة لأن الرب إلهك قد أحبك . 5 لا تلتمس سلامهم ولا خيرهم كل أيامك إلى الأبد . 6 ] سفر تَثنية الإصحاح الثالث والعشرون . . والسؤال الآن : هل هناك نكران للجميل أكثر سوءا و أشد فظاظة من هذا النكران ؟ إذاً هي منظومة القيم والأخلاق لشعب الله : مقابلة الإحسان بِالخذلان والخسران . المعروف بِالمتلوف . ولكن ..
لكن ، وغير ما سبق ، أكثر ما يلفت النظر في سيرة بلعام إيمانه بالله الذي هو رب إسرائيل ، ونزول الله هذا مرة بعد مرة لمقابلة بلعام ، وتبليغه تعاليمه برفض طلبات بني قومه ومباركة إسرائيل . وغير ذلك تطبيق بلعام لمناسك دين موسى : بناء المذبح و إصعاد المحرقات . ويلفت الانتباه أكثر قبول الموآبيين لتنفيذ طلبات بلعام هذه بدون نقاش . إما بسبب معرفتهم بهذا الدين وقبوله ، أو بسبب التسامح الديني الذي تميزت به شعوب المنطقة قبل أن يهل عليها هذا الدين الجديد كل ذلك لم يشفع لهم عند رب موسى ، والذي من المفترض أن يكون ربهم أيضا ، قبل أن يكون عِند موسى وبني إسرائيل . هكذا كان أيضا حكم الرب على مديان وغيرها التي لم تبسط أرضها ، زرعها و ضرعها طريقا ممهدا لعبور بني إسرائيل إلى أرض كنعان التي وعدهم الرب بها . فكان أن نالهم الدهس ، الإبادة والمحو ، السبي والعبودية جزاء وفاقا لعدم الاستجابة لأمر الرب الذي لم يصلهم بلاغه .

12
الجحود :-
هرب موسى ، بعد افتضاح جريمة قتله لرجل مصري ، إلى سيناء التي كانت آنذاك جزءا من أرض مديان . كان موسى الطريدُ البائس في حاجة ماسة لملاذ آمن . تَوفر له باحتضانه من قبل كاهن مديان ، حسب الإصحاح الثاني من سفر الخروج ، وعلى النحو التالي : [ ثم خرج في اليوم التالي - للجريمة - وإذا رجلان عِبرانيان يتخاصمان . فقال للمذنب لماذا تضرب صاحبك . 13 فقال من جعلك رئيسا وقاضيا علينا . أمُفتكر أنت بقتلي كما قتلت المصري . فخاف موسى وقال حقا قد عرف الأمر . 14 فسمع فرعون هذا الأمر فطلب أن يقتل موسى . فهرب موسى من وجه فرعون وسكن في أرض مديان وجلس عند البئر . 15 ] .
وتصادف أن بنات رعوئيل كاهن مديان ، و اسمه يثرون ، وكن سبع بنات ، إلى ذات البئر ليسقين غنم أبيهن . حال تزاحم الرعاة المديانيين بينهن وبين سقاية غنمهن . انتهز موسى الفرصة . بقوته الجسدية أزاح الرعاة وسقى غنم البنات اللواتي لم يكن عارفا بنسبهن . البنات عُدن للبيت مُبكرات على غير العادة . تساءل الأب عن سبب العودة المبكرة [ فقلن رجل مصري أنقذنا من أيدي الرعاة وإنه استقى لنا أيضا وسقى الغنم . فقال لبناته وأين هو . لماذا تركتن الرجل أُدعونه لِيأكل طعاما .19 ] .
عادت البنات ليجدن موسى باقيا عند البئر . أبلغنهُ دعوة أَبيهن . بعد الطعام استفسر الأب حال موسى . وبعد جوابه ، وفر لموسى الملاذ والحماية ، وحيث أوكل له رعاية الغنم . وبعد بعض الوقت زوجه ابنته صفورة التي ولدت له ابنا اسماه جرشوم .
مرت سنين .مات الفرعون ، وانقضى أجل الملاحقة بالجريمة . وتلقى موسى الرسالة وأمْر الرب بإخراج بني إسرائيل من مصر . رجع موسى لحميه يثرون يخبره بأمر انقضاء الأجل والعودة لمصر . لكن حدث من موسى أول رد بالكذب على جمايل حميهِ ، حسب الإصحاح الرابع من سفر الخروج ، وكالتالي : [ فمضى موسى ورجع إلى يثرون حميه وقال له أنا أذهب وأرجع إلى إخوتي الذين في مصر لأرى هل هم بعد أحياء . فقال يثرون إذهب بسلام . 18 ] . تساءلت وأنا أقرأ هذه الآية ، ولا أظن إلا ويتساءل أي قارئ لها : هل من موجب لِلتُقْية عند موسى ، يلزمه بإخفاء الأمر ، فقول هذه الكذبة لحميه ؟ ثم [ فأخذ موسى امرأته وبنيه و أركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر . وأخذ موسى عصا الله في يده . 20 ] ، وحيث يفاجأ القارئ في سفر العدد بأن موسى كان قد أعادهم لسيناء ، وربما لم يأخذهم من الأصل ، وتركهم في رعاية وإعالة يثرون . كيف ؟
بعد نجاح موسى في إخراج بني إسرائيل ، وتعدادهم يزيد على المليونين ونصف المليون ، بِمواشيهم ودوابهم ذات الأعداد الهائلة ، ومزاحمة المديانيين على عشب ومياه ينابيع سيناء الشحيحة ، سمع يثرون كاهن مديان وحمو موسى بنزول موسى وبني إسرائيل في سيناء ، فما كان منه إلا أن عمل التالي ، حسب الإصحاح الثالث عشر : [ فسمع يثرون كاهن مديان وحمو موسى كل ما صنع الله إلى موسى وإلى إسرائيل شعبه . أن الرب أخرج إسرائيل من مصر . 1 فأخذ يثرون حمو موسى صفورة امرأة موسى بعد صرفها . 2 وابنيها اللذين اسم الواحد جرشوم لأنه قال لأني كنت نازلا في أرض غريبة . 3 واسم الآخر أليعازر لأنه قال إله أبي كان عوني وأنقذني من سيف فرعون . 4 وأتى يثرون حمو موسى وابناه وامرأته إلى موسى إلى البرية حيث كان نازلا عند جبل الله . 5 فقال لموسى أنا حموك يثرون آت إليك وامرأتك وابناها معها . 6 فخرج موسى لاستقبال حميه وسجد وقبله . وسأل كل واحد صاحبه عن سلامته . ثم دخلا إلى الخيمة . 7 ] .
13
لم يكتف يثرون بابداء الفرحة والتهليل لنجاح موسى في إنجاز مهمته وسلامة بني إسرائيل بالخروج والوصول لأرض شعبه ، شعب مديان ، واتخاذها ملاذا آمنا . ألحق ذلك بدعوة موسى ، هارون ، وشيوخ إسرائيل ، على عزومة فاخرة . [ فأخذ يثرون حمو موسى محرقة وذبائح لله . وجاء هارون وجميع شيوخ إسرائيل ليأكلوا طعاما مع حمي موسى أمام الله . 12 ] . وحيث على القارئ هما أن يلاحظ أن طعام المديانيين كان حلالا على بني إسرائيل .
لم تتوقف جمايل يثرون عند حماية موسى وكفالة ، إطعام ورعاية زوجته وابنيه ، والتي يبدو أنها كانت واجبا من واجبات الأب والجد آنذاك ، كما هي في كثير من بقاع الأرض هذه الأيام . أضاف يثرون مساعدة موسى بتعليمه فنون إدارة شؤون الشعب ، وحل قضاياه ، وتذليل عقبات ومشكلات ، تواجه وتعترض بني إسرائيل . كيف ؟
يخبرنا ذات الإصحاح بالتالي : [ وحدث في الغد أن موسى جلس ليقضي للشعب . فوقف الشعب عند موسى من الصباح إلى المساء . 13 فلما رأى حمو موسى كل ما هو صانع للشعب قال ما هذا الأمر الذي أنت صانع للشعب . ما بالك جالساً وحدك وجميع الشعب واقف عندك من الصباح إلى المساء .14 فقال موسى لحميهِ إن الشعب يأتي إلي ليسأل الله . 15 إذا كان لهم دعوى يأتون إلي فأقضي بين الرجل وصاحبه وأعرفهم فرائض الله وشرائعه . 16 فقال حمو موسى له ليس جيدا الأمر الذي أنت صانع . 17 إنك تكِلُّ وهذا الشعب الذي معك جميعا . لأن الأمر أعظم منك . لا تستطيع أن تصنعه وحدك . 18 الآن اسمعْ لصوتي فأنصحك . فليكن الله معك . كن أنت للشعب أمام الله . وقدم أنت الدعاوي إلى الله . 19 وَعلمهم الفرائض والشرائع وعرفهم الطريق الذي يسلكونه والعمل الذي يعملونه . 20 وأنت تنظر من جميع الشعب ذوي قدرة خائفين الله أمناء مبغضين الرشوة وتُقيمهم عليهم رؤساء ألوف ورؤساء مئات ورؤساء خماسين ورؤساء عشرات . 21 فَيقضون للشعب كل حين . ويكون أن كل الدعاوي الكبيرة يجيئون بها إليك . وكل الدعاوي الصغيرة يقضون هم فيها . وخفف عن نفسك فهم يحملون معك . 22 إن فعلت هذا الأمر وأوصاك الله تستطيع القيام . وكل هذا الشعب يأتي إلى مكانه بالسلام . 23 فسمع موسى لصوت حميه وفعل كل ما قال .23
بعد هذه الجمايل ، كل هذا الإحسان ، كل هذا المعروف ، يغيب ذكر المديانيين ، ليعود ويطل علينا في الإصحاح العاشر من سفر العدد ، وذلك إثر انتقال بني إسرائيل لجزء آخر من أرض مديان وهو جنوب الأردن الحالي وعلى النحو التالي : [ وقال موسى لِحوباب بن رعوئيل المِدياني حمي موسى إننا راحلون إلى المكان الذي قال الرب أعطيكم إياه . اذهب معنا فنحسنُ إليك لأن الرب قد تكلم عن إسرائيل بالإحسان . 29 فقال له لا أذهب بل إلى أرضي وإلى عشيرتي أمضي . 30 فقال له لا تتركنا لأنه بما أنك تعرف منازلنا في البرية تكون لنا كعيون . 31 وإن ذهبت معنا فبنفس الإحسان الذي يحسن الرب إلينا نحسن نحن إليك . 32 ] . وفيما بعد سيُفاجأ القارئ بأن رفض حوباب الاستجابة لطلب موسى كان خطيئة محت كل ما سبقها من إحسان المديانيين من جهة ، وبأنها لا تقبل الغفران وتوجب أقسى العقاب من جهة أخرى .
إذ يفاجئنا الإصحاح الخامس والعشرون بحكاية مربكة للقارئ . حكاية مؤداها أن رجال بني إسرائيل ، أثناء حط رحالهم في موقع يقال له شطيم ، تعلقوا وعاشروا بنات موآب ، وأنهن أغوينهم فارتدوا عن دينهم وتعلقوا بِإلههن وهو بعل فغور . أصابهم وبأ الردة هذا ، إذ حمي غضب الرب عليهم فأمر موسى بقتل كل رؤوس الشعب ، والقضاة بقتل كل الرجال الذين تعلقوا ببعل فغور .
في حمى هذا الوَبأ ، وتواصل قتل المرتدين ، يفاجئنا الإصحاح بالتالي : [ وإذا رجل من بني إسرائيل جاء وقدم إلى إخوته - امرأته - المِديانية أمام عيني موسى وأعين كل جماعة بني إسرائيل وهم باكون لدى باب خيمة الاجتماع . 6 فلما رأى ذلك فينحاس بن العازار بن هرون الكاهن قام من وسط الجماعة وأخذ رمحا بيده . 7 ودخل وراء الرجل الإسرائيلي إلى القبة وطعن كليهما الرجل الإسرائيلي والمرأة في بطنها . فامتنع الوَبأ عن بني إسرائيل . 8 وكان الذين ماتوا بالوبأ أربعة وعشرين ألفا . 9 ] .
14
لكن ، وقبل القول أن هذه الواقعة - زواج إسرائيلي من امرأة مديانية - شكلت ثالثة الأثافي في خطايا المديانيين مع بني إسرائيل ، وبما يوجب محو ، ليس فقط كل ما سبق وقدموه لهم من إحسان ومعروف ، وبما يوجب رد الجمايل الِمديانية بعقوبات القتل ، الإبادة ، السبي والغنائم ، قبل كل هذا تعالوا نستذكر واقعتين . 1- أن موسى نفسه تزوج من صفورة ابنة يثرون كاهن مديان ، وأنجب منها إِبنين هما جرشوم و إليعازر . 2- وأن يوسف كان قد سبق الكل وتزوج من مصرية ، وأكثر من ذلك حاز يوسف نفسه على اسم مِصري هو صفنات فَعنج . إذ ورد في الإصحاح الحادي والأربعون التالي : [ ودعا فرعون اسم يوسف صفنات فعنج . وأعطاه أسنات بنت فوطي فارع كاهن أون زوجة . 45 ] ومعروف أن يوسف ، أو صفنات فعنج ، أنجب من زوجته أسنات ابنين هما منسى وأَفرايم . ولم يغضب الرب لا من يوسف ولا من موسى ولم يضرب أحدا بأي وبأ . فما الذي عدا على ما بدا مع هذه المرأة المِديانية ؟
المهم في الأمر هو التالي : [ وكان اسم الرجل الإسرائيلي المقتول الذي قُتل مع المديانية زمري بن سالو رئيس بيت أبٍ من الشمعونيين . 14 واسم المرأة المديانية المقتولة كُزبي بنت صور . هو رئيس قبائل بيت أبٍ في مديان . 15 ]
لم يكتف الرب بهذا العقاب الذي كان أصغر كثيرا من أن يطفئ غضبه ، بالرغم من أنه أوقف الوبأ . لذلك أصدر الرب الحكم التالي : [ ثم كلم الرب موسى قائلا 16 ضايقوا المديانيين واضربوهم 17 لأنهم ضايقوكم بِمكايدهم التي كادوكم بها في أمر فغور وأمر كُزبي أختهم بنت رئيسِ لِمديان التي قُتلث يوم الوبأ بسبب فغور .17 ] . فكيف كان تنفيذ أمر الرب هذا ؟
أتى الإصحاح الحادي والثلاثون بخبر التنفيذ ، وبالتالي : [ وكلم الرب موسى قائلا 1 انتقم نقمة لبني إسرائيل من المديانيين ثم انضم إلى قومك .2 فكلم موسى الشعب قائلا . جردوا منكم رجالا للجند فيكونوا على مديان ليجعلوا نقمة الرب على مديان . 3 ………فَتجندوا على مديان كما أمر الرب . وقتلوا كل ذكر . 7 وملوك مديان قتلوهم فوق قتلاهم . أَوِيَ وراقمَ وصورَ وحورَ ورابعَ . خمسة ملوك مديان . وبلعام بن بعور قتلوه بالسيف .8 وسبى بنو إسرائيل نساء مديان وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم وجميع مواشيهم وكل أملاكهم . 9 وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار . 10 وأخذوا كل الغنيمة وكل النهب من الناس والبهائم . 11 وأتوا إلى موسى وأَلِعازار الكاهن وإلى جماعة بني إسرائيل بالسبي والنهب والغنيمة إلى المحلة إلى عربات موآب التي على أردن أريحا .12]
وبعد . لا بد وأن السؤال يعاجل القارئ : هل يعقل أن يكون هناك رب يغلي صدره وعقله بكل هذا الحقد على بشر هو خالقهم ؟ وهل يعقل أن يكون رسول نبي على هذا القدر ، ليس فقط من نكران الجميل ومن انعدام الوفاء ، لا وبل من انعدام الضمير ومن الجحود لتتجلى أفعاله عن كل هذه الوحشية ، كل هذا الإجرام مع من أحسنوا له أيما إحسان ؟ نعم هناك رب كهذا هو رب إسرائيل , ونبي رسول هو موسى . وأنبياء وشعب جرى تفصيله على مقاسهم تماما . ‘نه شعب الله المختار .
15

وخاتمة
لكن لم يكن كل ما سبق هو كل انعدام الوفاء وكل الجحود . ذلك أن الإصحاح السالف يكمل حكاية الجحود بالتالي : [ فخرج موسى والعازار الكاهن وكل رؤساء الجماعة لاستقبالهم إلى خارج المحلة . 13 فسخط موسى على وكلاء الجيش رؤساء الألُوف ورؤساء المئات القادمين من جند الحرب . 14 وقال لهم موسى هل أبقيتم كل أنثى حية . 15 إن هؤلاء كن لبني إسرائيل حسب كلام بلعام سبب خيانة الربِ في أمرِ فغور فكان الوبَأ في جماعة إسرائيل . 16 فالآن اقتلوا كل كل ذكر من الأطفال . وكل أنثى عرفت رجلا بمضاجعة رجل اقتلوها .17 لكن جميع الأطفال من النساء اللواتي لم يعرفن ذكر ابقوهن لكم حيات . 18 وأما أنتم فانزلوا خارج المحلة سبعة أيام . وتطهروا كل من قتل نفسا وكل من مس قتيلا في اليوم الثالث وفي السابع أنتم وَسبيكم . 19 وكل ثوب وكل متاع من جلد وكل مصنوع من شعر معز وكل متاع من خشب تُطهرونه . 20 ]
لكن فعل هذه السبيكة من انعدام الوفاء ، من الجحود ، من الغل ، من الحقد ، من انعدام الضمير من الوحشية ، لم يقتصر على أعداء بني إسرائيل فقط . ذلك أن من يتحلى بمثل هذه الأخلاق ، يتمنطق بمثل هذه الأفعال ، لا بد وأن يكتوي بنارها . أن يكون جزاؤه من جنس عمله . هكذا كان أن غضب الرب طال موسى ذاته وصدر حكم الرب بِمجازاته بجنس عمله . فكيف كان ذلك ؟
كان الرب قد حكم على موسى برؤية أرض الوعد ، أرض كنعان من بعيد وبعدم دخلوها . علل الحكم بسبب ما جرى أمام بعل فغور . لم يوضح الحكم ذلك الذي جرى من موسى ساعتها تجاه الرجل الإسرائيلي وامرأته المديانية ، كما سلف في الآيات السابقة . إذ يبدو أن موسى ليس فقط لم يقابل الرجل وامرأته بمثل الغضب الذي قابلته به الجماعة ، بل ربما ظهر عليه شيء من التعاطف كونه هو شخصيا متزوج من امرأة كنعانية . موسى ترك فينحاس بن اليعازر يقتل الإثنين ، دون أن يبدي انفعالا ما ، الأمر الذي استحق عليه غضب الرب وصدور الحكم بحرمانه دخول الأرض الموعودة والموت في القفر .
لكن بدا أن موسى لم يستسغ الحكم . إذ ذهب إلى استعطاف الرب بإلغائه أو تغييره ، وذلك حسب النص التالي من الإصحاح الثالث سفر تثنية ، وبلسانه : [ وتضرعتُ إلى الرب في ذلك الوقت قائلا 23 يا سيد الرب أنت قد ابتدأت تُري عبدك عظمتك ويدك الشديدة . فإنه أي إله في السماء وعلى الأرض يعمل كَأعمالك وكَجبروتك . 24 دعني أعبر وأرى الأرض الجيدة التي في عبر الأردن هذا الجبل الجيد ولبنان .25 لكن الرب غضب عليَّ بسببكم ولم يسمع لي بل قال لي الرب كفاك . لا تعد تكلمني أيضا في هذا الأمر .26 اصعد إلى رأس الفسحة وارفع عينيك إلى الغرب والشمال والجنوب والشرق وانظر بعينيك ولكن لا تعبر هذا الأردن .26 ] .
إذاً ، هل جاء أخيرا هذا الحكم على موسى كجزاء من جنس العمل ؟ ربما كذلك وربما لا . لكن كان أن موسى انصاع لحكم الرب ، وطبقه على النحو التالي ، حسب الإصحاح الرابع والثلاثون / سفر تثنية : [ وصعد موسى من عربات موآب إلى جبل نبو إلى رأس الفسَحة الذي قبالة أريحا فأراه الرب جميع الأرض من جلعاد إلى دان .1 وجميع نفتالي وأرض أفرايم ومنسى وجميع أرض يهوذا إلى البحر الغربي .2 والجنوب والدائرة بقعة أريحا مدينة النخل إلى صوغر .3 وقال له الرب هذه هي الأرض التي أقسمت لإبراهيم وإسحق ويعقوب قائلا لنسلك أعطيها . قد أريتك إياها بعينيك ولكنك إلى هناك لا تعبر . 4 فمات هناك موسى عبد الرب في أرض موآب حسب قول الرب . 5 ودفنه في الجواء في أرض موآب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم .6 ]
وبعد . مثل منظومة الأخلاق السالف بعضها هنا لا تليق بشعب إلا بشعب "أصيل مصنصل " كشعب الله المختار. أصالة نقلتها جينات أمهات تقلَّبن في أحضان ملوك ، وجينات آباء أتقنوا مهنة قبض المعلوم من تعب تينك الأمهات . هذا الشعب ولا شعب آخر غير أشقائه الأمريكيين ، الكنديين ، الأستراليين ، والنيوزيلنديين .



#عبد_المجيد_حمدان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تقاطعات بين الأديان 26 إشكاليات الرسل والأنبياء 11 موسى الحل ...
- تقاطعات بين الأديان 25 إشكاليات الرسل والأنبياء 10 موسى الحل ...
- تقاطعات بين الأديان 24 إشكاليات الرسل والأنبياء 9 موسى
- تقاطعات بين الأديان 23 إشكاليات الرسل والأنبياء 7 يوسف
- تقاطعات بين الأديان 22 إشكاليات الرسل والأنبياء 7 الأسباط
- تقاطعات بين الأديان 21 إشكاليات الرسل والأنبياء 6 يعقوب
- تقاطعات بين الأديان 20 غشكاليات الرسل والأنبياء 5 إسحق
- تقاطعات بين الأديان 19 إشكاليات الرسل والأنبياء 4 لوط
- تقاطعات بين الأديان 18 ، إشكاليات الرسل والأنبياء 3 إبراهيم
- تقاطعات بين الأديان 17 إشكاليات الرسل والأنبياء 2
- تقاطعات بين الأديان 16 إشكاليات الرسل والأنبياء 1
- يا مثقفي التنوير اتحدوا
- تقاطعات بين الأديان 15 الحكمة والحكماء
- تقاطعات بين الأديان 14العادل المعذب ....صبر أيوب
- تقاطعات بين الأديان 13 الصعود إلى السماء
- تقاطعات بين الأديان 12 الروح والموت
- تقاطعات بين الأديان 11 المرأة في روايات الخلق
- تقاطعات بين الأديان 10 غايات الآلهة من خلق الإنسان
- تقاطعات بين الأديان 9 خلق الإنسان
- تقاطعات بين الأديان 8 قراءة في رواية حلق الكون القرآنية


المزيد.....




- افرحوا ماما جابت بيبي..تردد قناة طيور الجنة بيبي على نايل سا ...
- المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف تجمعات لقوات الاحتلال بين ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف قاعدة شراغا (المقر الإدار ...
- “سنجوبة كتير صغيورة” استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي ع ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف تجمعا لقوات الإحتلال الإس ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تستهدف تجمعا لقوات الإحتلال الإس ...
- المقاومة الإسلامية في لبنان تعلن انها أصدرت 32 بيانا عسكريا ...
- الإمارات والأردن تؤكدان ضرورة البناء على مخرجات القمة العربي ...
- “سنجوبة كتير صغيورة” استقبل الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي ع ...
- عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام في ايران محسن رضائي: على الدول ا ...


المزيد.....

- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل
- الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5 / جدو جبريل


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبد المجيد حمدان - تقاطعات بين الأديان 27 إشكاليات الرسل والأنبياء 12 موسى الحلقة الرابعة أخلاقيات