أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الإنسان بين الجبر والاختيار: قراءة مقارنة في رؤى المعتزلة والأشاعرة















المزيد.....

الإنسان بين الجبر والاختيار: قراءة مقارنة في رؤى المعتزلة والأشاعرة


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8159 - 2024 / 11 / 12 - 08:20
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


إن قضايا الحرية والإرادة والجبر والعقل والنقل تظل من أبرز القضايا الفلسفية والعقدية التي واجهت الأمة الإسلامية منذ القرون الأولى للإسلام، وكانت محط نقاش وجدل فكري بين مختلف الفرق الإسلامية، وخاصة بين المعتزلة والأشاعرة. وقد مثلت هذه القضايا أبعادًا جوهرية لإيمان المسلم، إذ ترتبط بمفهوم العدل الإلهي وحرية الاختيار لدى الإنسان، وما يترتب عليهما من ثواب وعقاب، كما تفتح المجال لفهم أعمق للعلاقة بين الخالق والمخلوق، والمطلق والمحدود.

المعتزلة، التي ظهرت في سياق فكري وسياسي مضطرب، كانت سباقة في طرح رؤية تعتمد على العقل وتضعه في مرتبة عالية، وتقدّم تفسيرات للعقيدة الإسلامية تتسم بالجرأة الفكرية. اعتقدوا أن العقل قادر على استيعاب الحقائق الإيمانية، وأن الإنسان مسؤول بشكل كامل عن أفعاله، مؤكدين على حرية الإرادة البشرية كعنصر أساسي لتحقيق العدل الإلهي. وفي سبيل ذلك، أنكروا الجبرية التي تجعل الإنسان مسيَّرًا، ورأوا أن العدل الإلهي لا يتفق مع فرض أفعال معينة على البشر دون منحهم حرية اختيار حقيقية، وقد دفعهم هذا الموقف إلى الاعتقاد بأن الله لا يجبر الإنسان على أفعاله، بل هو مخيّر ومسؤول عنها.

على الطرف الآخر، جاءت الأشاعرة كرد فعل على التوجه العقلاني للمعتزلة، فحاولت التوفيق بين العقل والنقل، بين حرية الإنسان وإرادة الله. ومن هنا نشأ مفهوم "الكسب"، الذي يعتبر أحد أبرز إسهامات الأشاعرة في الفكر الإسلامي، إذ رأوا أن الإنسان يختار أفعاله، ولكن الله هو الذي يخلقها ويجعلها واقعة. بهذا، يمكن للإنسان أن يُحاسب على أفعاله دون أن يمتلك قدرة الخلق، مما يمنح الله السيادة المطلقة ويحافظ على مسؤوليته الأخلاقية. كان هذا التوجه بمثابة محاولة للتوفيق بين حرية الإنسان، كما تصرّ عليها المعتزلة، وبين القضاء والقدر الإلهيين، مع الحفاظ على التنزيه الكامل لله وعدم إسناد الخلق إلى سواه.

وقد أدى هذا التباين بين المدرستين إلى صدام فكري كبير، امتد لعدة قرون، وأسهم في تشكيل ملامح علم الكلام والعقيدة الإسلامية. وكان لآراء المعتزلة وقع كبير في المجتمع الإسلامي لجرأتها العقلية وفلسفتها العميقة، غير أن مواقفهم جعلتهم عرضة لهجوم مستمر من التيارات التقليدية، التي رأت في توجهاتهم خروجًا عن المسار الديني المألوف وتهديدًا للثوابت العقدية. ومن هنا نشأ هذا الصراع العقلي والفكري، الذي جعل من قضية الحرية والقضاء والقدر حجر الزاوية في تاريخ علم الكلام، وموضوعًا للتأمل والنقد بين أهل السنة والمعتزلة وغيرهم من الفرق.

هذا الصراع لم يكن مجرد خلاف حول مسائل نظرية بحتة، بل كان انعكاسًا لأسئلة وجودية عميقة حول معنى الحرية، وطبيعة العدالة، وحدود العقل، ودور الوحي. لذلك، فإن استقراء الفكر الكلامي الإسلامي في هذا الموضوع يعكس محاولات حثيثة لصياغة فهم أعمق للإيمان، والتساؤل حول القضايا الكبرى التي تجمع بين الإلهي والبشري، في توازن دقيق بين العقل والإيمان، وبين الحرية والقدر، وبين الإرادة الفردية والمشيئة الكونية، وهي قضايا لا تزال تلهم الفلاسفة والمفكرين حتى يومنا هذا.

قضية الحرية والإرادة بين الفرق الإسلامية

قضية الحرية والإرادة كانت موضوعًا هامًا في الفلسفة الإسلامية، حيث ظهرت عدة تيارات ومذاهب فكرية حاولت تفسير هذه المسألة المتشابكة، وطرحت أفكارًا متنوعة حول مدى الحرية الإنسانية أمام الإرادة الإلهية.

1. الأشاعرة:

موقفهم: يرى الأشاعرة أن الله هو الخالق لكل شيء، بما في ذلك أفعال البشر، وأن الإرادة الإلهية مطلقة وشاملة. في نفس الوقت، يؤكدون على ما يُعرف بـ"الكسب"، حيث يُعتبر الإنسان مكتسبًا لأفعاله، مما يعني أنه مسؤول عنها.

الكسب: وفق نظرية "الكسب" عند الأشاعرة، الله يخلق أفعال البشر، لكن الإنسان يختار أداءها بإرادته، وهو اختيار ليس حرية تامة، بل هو شكل من "الكسب" الذي يُحقق معنى المسؤولية دون استقلالية كاملة.

2. المعتزلة:

موقفهم: المعتزلة يؤكدون على حرية الإرادة الإنسانية ويعتبرون أن الإنسان هو الذي يخلق أفعاله بحرية، وهو المسؤول عنها تمامًا. وبهذا، فإنهم يرون أن الله منح الإنسان قدرة كاملة على التصرف، لأنهم يرون أن العدل الإلهي لا يتفق مع فرض أفعال على الإنسان ثم محاسبته عليها.

التبرير: يعتقدون أن حرية الإنسان تساهم في عدالة الله، إذ لا يُعقل، من وجهة نظرهم، أن يُحاسب الله الإنسان على أفعال لم يكن له فيها إرادة حرة، ولهذا ينظرون إلى الإرادة الإنسانية باعتبارها مستقلة عن الإرادة الإلهية.

3. الفلاسفة:

ابن سينا والفارابي: اهتم الفلاسفة المسلمون مثل ابن سينا والفارابي بطرح مفهوم يجمع بين القضاء الإلهي والعقل الإنساني، حيث يرون أن كل ما في الكون يسير وفق ترتيب عقلي محكم، ويُفسرون الإرادة الإنسانية على أنها جزء من هذا الترتيب، وهي خاضعة لقوانين سببية لا تتناقض مع الإرادة الإلهية.

إرادة الإنسان في المنظومة الكونية: يعتبرون أن الأفعال الإنسانية هي جزء من نظام السببية العام في الكون، وأن الله هو المصدر النهائي لكل شيء، لكنهم يؤكدون على أن الإنسان يمتلك قدرة على الاختيار ضمن هذا النظام السببي الذي هو جزء من القضاء الإلهي.

4. الصوفية:

موقفهم: يميل المتصوفة إلى رؤية الأفعال من منظور أن الله هو الفاعل المطلق، وأن الإنسان يصل إلى الحرية الحقيقية عندما يُحقق الفناء في الإرادة الإلهية، حيث تُصبح إرادته جزءًا من الإرادة الإلهية الكبرى.

فلسفة التوكل: ينظر بعض المتصوفة إلى الحرية الحقيقية كإخلاء كامل للذات أمام الله، حيث يتخلى الإنسان عن إرادته الخاصة ليكون خاضعًا تمامًا للإرادة الإلهية، وهو مفهوم يُفسر أحيانًا بفكرة "التوكل" و"التسليم".

5. ابن رشد:

رؤية توفيقية: يرى ابن رشد أن القضاء الإلهي والحرية الإنسانية لا يتعارضان. فهو يقترح أن الله يعلم بما سيحدث لكنه لا يفرض أفعال البشر، حيث يُعطي هذا الفهم الإنسان حرية نسبية في إطار المعرفة الإلهية الشاملة.

السببية والاختيار: يُحاجج ابن رشد بأن الإنسان حر في أفعاله لكن ضمن نظام سببي يُدبره الله. وبهذا، فإن علم الله المسبق لا يُلغي حرية الإرادة، بل هو جزء من المعرفة الإلهية التي تأخذ في الحسبان اختيارات الإنسان الحرة.

وإجمالاً، حاولت الفلسفة الإسلامية التوفيق بين حرية الإنسان وبين القضاء والقدر من خلال نماذج فكرية مختلفة، منها مفهوم الكسب عند الأشاعرة، واستقلالية الإرادة عند المعتزلة، والسببية عند الفلاسفة، والتوكل والفناء عند المتصوفة. وبينما تختلف المذاهب في درجة الحرية التي تمنحها للإنسان، فإنها تتفق على أن حرية الإنسان جزء من النظام الكوني الذي يسيره الله، وتبقى الإرادة الإنسانية مرتبطة بشكل أو بآخر بالإرادة الإلهية الشاملة.

مقارنة بين رؤية المعتزلة والاشاعرة

لدى المعتزلة والأشاعرة رؤيتان متباينتان لقضية حرية الاختيار والقضاء والقدر، وقد أثرت هاتان المدرستان في الفكر الإسلامي بتوجهاتهما الفلسفية والعقائدية. فيما يلي مقارنة بين رؤية كل منهما لهذه القضية:

1. الحرية الإنسانية في أفعال البشر:

المعتزلة: يؤمن المعتزلة بحرية الإرادة الإنسانية الكاملة، ويرون أن الإنسان يخلق أفعاله بنفسه ويختارها بحرية تامة. من هذا المنطلق، يعتقدون أن الإنسان مسؤول بشكل كامل عن أفعاله، ويُحاسب عليها يوم القيامة.
تبريرهم العقلي لهذا الموقف ينبع من عقيدتهم في "العدل الإلهي"، إذ لا يُعقل، في نظرهم، أن يُحاسب الله الإنسان على أفعال لم يكن له فيها إرادة حرة.

الأشاعرة: في المقابل، الأشاعرة يؤمنون بأن الله هو خالق كل شيء، بما في ذلك أفعال البشر. ومع ذلك، لا ينكرون دور الإنسان، حيث طوروا مفهوم "الكسب"؛ فالإنسان "يكتسب" أفعاله، ولكنه لا يخلقها. بمعنى آخر، الله يخلق الفعل والإنسان يختاره، ولكنه ليس حرًا بشكل كامل كما تقول المعتزلة.
هذا الموقف يعطي الإنسان نوعًا من الحرية المحدودة، لكنه لا يضع على عاتقه مسؤولية خلق أفعاله.

2. القضاء والقدر:

المعتزلة: ينظر المعتزلة إلى القضاء والقدر على أنهما علم الله السابق بالأشياء دون تدخل مباشر في خلق أفعال البشر. فالله يعلم ما سيفعله الإنسان ولكنه لا يُجبره على القيام بها، لأن ذلك سيكون، وفق رأيهم، ظلمًا من الله، وهذا لا يتفق مع صفته كإله عادل.
بتعبير آخر، يعتقدون أن القضاء والقدر هما ضمن إطار علم الله بالأشياء، وليس ضمن إجبار الإنسان على أفعاله.

الأشاعرة: الأشاعرة يؤمنون بأن القضاء والقدر يشملان علم الله المسبق بكل شيء وخلقه لأفعال البشر. فهم يرون أن الله قدّر كل شيء بإرادته المطلقة، وأن أفعال الإنسان تقع ضمن هذه المشيئة.

بالنسبة للأشاعرة، الفعل الإنساني مكتسب، لكن الله هو من خلقه وكتبه. وبالتالي، لا يستطيع الإنسان الخروج عن قدر الله، لكنه مع ذلك يظل مسؤولًا أمامه بفضل اختياره للأفعال ضمن القدرة التي أُعطيت له.

3. العدل الإلهي:

المعتزلة: يعتبر "العدل" ركنًا أساسيًا من عقيدة المعتزلة، فهم يعتقدون أن العدل يقتضي أن يُحاسب الإنسان على أفعاله الحرة التي اختارها بنفسه. من هذا المنطلق، يعتبرون أن أي تدخل مباشر من الله في إرادة الإنسان يُخل بمفهوم العدل.
لهذا، ينفون أي فرض من الله على أفعال البشر، ويعتبرون أن الإنسان هو الذي يصنع مصيره بقراراته.

الأشاعرة: بينما يؤمن الأشاعرة بأن الله عادل، إلا أنهم يرون أن العدل لا يتعارض مع كون الله خالقًا لأفعال البشر. ففي مفهومهم، العدل الإلهي يعني أن الله لا يظلم أحدًا، لكنه يملك الحق المطلق في التصرف بخلقه.
الأشاعرة يرون أن الله يحاسب الناس بناءً على اختيارهم لأفعالهم، مع إدراكهم أن الأفعال مكتسبة، لا مخلوقة منهم.

4. النتيجة النهائية للمسؤولية الأخلاقية:
المعتزلة: بالنسبة للمعتزلة، المسؤولية الأخلاقية للإنسان واضحة وكاملة لأنه مختار تمامًا في أفعاله. وبالتالي، يُعتبر الإنسان مسؤولًا تمامًا عن كل فعل يفعله، ويستحق الثواب أو العقاب بناءً على ذلك.

الأشاعرة: الأشاعرة يرون أن المسؤولية الأخلاقية تقع على عاتق الإنسان بناءً على "كسبه" للأفعال، لكنه ليس مسؤولًا عن خلقها. يُحاسب الإنسان لأنه اختار الفعل، لكن القدرة المطلقة في خلق الأفعال تعود إلى الله.

وفي المجمل، فإن المعتزلة يمنحون الإنسان حرية إرادة كاملة، ويعتقدون أن الله عادل بترك الإنسان يختار أفعاله. بينما الأشاعرة يؤمنون بوجود حرية محدودة في إطار مفهوم الكسب، حيث إن الله هو خالق الأفعال، لكن الإنسان يختار "اكتسابها"، وهذا الاختيار يجعله مسؤولًا أخلاقيًا أمام الله.

لماذا تعرضت المعتزلة لهجوم من الفرق الإسلامية الأخرى؟
تعرضت المعتزلة لهجوم شديد من الفرق الإسلامية الأخرى لعدة أسباب تتعلق بنظرتهم العقلانية وقضاياهم العقائدية، التي اعتُبرت من قِبَل كثير من الفِرَق خروجًا عن المفاهيم التقليدية. وفيما يلي بعض الأسباب الرئيسية للهجوم عليهم:

1. العقل مقابل النقل:

تقديم العقل على النص: كانت المعتزلة مدرسة عقلانية، حيث رفعوا من شأن العقل واعتبروه وسيلة أساسية للوصول إلى الحقائق الدينية. وقدَّموا العقل على النصوص الدينية في بعض الأحيان، ما جعلهم يفسرون القرآن والأحاديث النبوية بشكل عقلاني مختلف عن الفهم التقليدي.

موقفهم من المعجزات والغيبيات: رأى بعض الفرق الأخرى أن تفسير المعتزلة للمعجزات والغيبيات باستخدام المنطق والعقل يعتبر انتقاصًا من عظمة هذه المعجزات، وبالتالي اعتبروا موقف المعتزلة تقليلًا من شأن الأمور الإلهية.

2. مفهوم العدل الإلهي:

إنكار الجبر: تبنّت المعتزلة مفهوم "العدل الإلهي" الذي ينفي الجبر، أي أن الله لا يجبر العباد على أفعالهم، بل يتركهم يختارونها بحرية. كان هذا الرأي يتعارض مع المدارس الأخرى التي تبنّت نوعًا من الجبرية أو أشكال القدرية، حيث اعتُبر رأي المعتزلة انتقاصًا من قدرة الله المطلقة على الخلق.

أثر ذلك على العقائد: هذا الفهم للعدل الإلهي جعل المعتزلة يؤكدون على حرية الإنسان ومسؤوليته عن أفعاله، ما دفعهم إلى تفسير العذاب والثواب من منظور عادل، لكن هذا الرأي اعتبره الخصوم إنكارًا للقضاء والقدر كما فُهم تقليديًا.

3. خلق القرآن:
موقفهم من القرآن: اعتقدت المعتزلة أن القرآن "مخلوق" وليس "غير مخلوق" كما تؤمن بذلك باقي الفرق التقليدية، وبالخصوص أهل السنة والجماعة. رأوا أن القول بأن القرآن غير مخلوق يترتب عليه تأكيد أزلية كلام الله، وهو ما يتناقض في نظرهم مع وحدانية الله.

الصدام السياسي والديني: تبنّى بعض الخلفاء العباسيين موقف المعتزلة بشأن خلق القرآن، مما أدى إلى ما يُعرف بـ"محنة خلق القرآن" التي تعرض فيها فقهاء ومفكرون للاضطهاد، مثل الإمام أحمد بن حنبل، بسبب معارضتهم لهذا القول. كان لهذه المحنة دور كبير في زيادة الانتقاد والعداء ضد المعتزلة.

4. التهجم على بعض الصحابة:

الحديث عن الصحابة: رغم عدم اتفاق كل المعتزلة على هذا الأمر، إلا أن بعضهم انتقد بعض الصحابة واتهمهم بأخطاء معينة، مما جعلهم في موضع عداء مع فرق إسلامية تعتبر الصحابة جميعهم عدولاً ولا يجوز التعرض لهم بأي انتقاد.

رفض التقليد: رفض المعتزلة تقليد الصحابة بشكل أعمى، وفضلوا استخدام العقل والتحليل، مما عرّضهم لانتقادات من الفرق التقليدية التي تعتبر الصحابة قدوة يجب اتباعها بلا نقاش.

5. التعقيدات الفلسفية:

مدخل الفلسفة في العقائد: استخدم المعتزلة الفلسفة وعلم الكلام لتحليل وتفسير المسائل العقدية، مثل الذات والصفات الإلهية، وحرية الإرادة، والمعاد. رأى بعض العلماء أن إدخال المعتزلة لهذه المسائل الفلسفية قد يفسد عقائد المسلمين البسطاء، وقد يفتح بابًا للجدل والفتن الفكرية.

تعقيد قضايا العقيدة: بالنسبة لكثير من الفرق، كانت طروحات المعتزلة معقدة وصعبة الفهم، خاصة فيما يتعلق بقضايا الذات الإلهية وصفاته. كان هذا التعقيد سببًا في تردد الناس في قبول أفكارهم، حيث شعروا أن المعتزلة يحوّلون العقيدة الإسلامية إلى علم جافٍ بعيد عن الإيمان البسيط.

6. الاختلاف مع أهل الحديث:

رفض الأحاديث غير المتواترة: المعتزلة تميل إلى الأخذ بالأحاديث المتواترة فقط، ورفضت الكثير من الأحاديث الآحاد التي يستند إليها أهل الحديث وأهل السنة. كان هذا الموقف سببًا في زيادة العداء بينهم وبين أهل الحديث، خاصة أن الأحاديث الآحاد كانت تعتبر مصدرًا مهمًا للعديد من المسائل العقائدية.

الصدام الفكري مع أهل السنة: أسس أهل الحديث موقفهم على النقل والتقليد، بينما كان للمعتزلة موقف متقدم تجاه قضايا العقلانية والتجديد في فهم النصوص، مما جعل الصراع الفكري بينهما حادًا.

وبشكل عام، تعرضت المعتزلة للهجوم من الفرق الإسلامية الأخرى لأنها خالفت التفسيرات التقليدية للإسلام واعتمدت على العقل في قضايا حساسة كالقضاء والقدر، خلق القرآن، وعدل الله. كما أثار موقفهم من بعض الأحاديث والصحابة، واعتمادهم على الفلسفة، غضبَ بعض الفرق، وخصوصًا أهل السنة والجماعة الذين رأوا في المعتزلة تهديدًا للتقاليد الدينية المتوارثة.

في ختام هذا الموضوع، يظهر لنا بوضوح أن قضية الحرية والقدر لم تكن مجرد مسألة فلسفية أو كلامية عابرة في الفكر الإسلامي، بل كانت محورًا لرؤية الإنسان للوجود ومعنى وجوده، وتعبيرًا عميقًا عن تفاعل العقل مع النص في محاولة للفهم والإدراك. إنّ الصراع بين المعتزلة والأشاعرة حول حرية الإرادة والقضاء والقدر لم يكن مجرد نزاع بين مدرستين فكريتين، بل كان تجسيدًا لعمق التساؤل الإنساني حول جوهر العدل الإلهي ومعنى المسؤولية الأخلاقية.

المعتزلة، بفكرهم العقلاني، قدموا نموذجًا للتأكيد على حرية الإنسان واستقلاله في أفعاله، إيمانًا منهم بأن العدل الإلهي لا يكتمل إلا بإرادة حرة تقود إلى المسؤولية الحقيقية. بينما جاء الأشاعرة بمفهوم "الكسب" ليوازنوا بين حرية الإنسان ومشيئة الله المطلقة، محاولين الجمع بين العقل والإيمان، بحيث يكون الإنسان مختارًا ضمن حدود إرادة الله وحكمته.

وقد انعكست هذه الخلافات الفكرية في التراث الإسلامي، حيث تركت بصمة في كيفية تناول قضايا الإيمان والعقل والعقاب والثواب، وأسهمت في إرساء مفاهيم أكثر عمقًا عن العلاقة بين الإنسان وخالقه. إنّ هذا التباين بين مدرستي المعتزلة والأشاعرة يذكرنا بأهمية التنوع الفكري في إثراء الحضارة الإسلامية، ويعكس سعي العقل الإسلامي للبحث عن توازن دقيق بين حرية الإنسان وعدالة الله وقدرته.

وختامًا، يبقى الجدل حول الحرية والقضاء والقدر حيًّا، ليستمر في إثراء الفكر الإنساني والديني، متجاوزًا الزمان والمكان، ليتناول أسئلة وجودية ما زالت تراود الإنسان المعاصر: إلى أي مدى نحن أحرار؟ وما مدى ارتباط أفعالنا بقدرة عليا تدبّر الكون؟ وهل يمكن حقًا الجمع بين المسؤولية الإنسانية ومشيئة الله؟ إن هذه الأسئلة ليست حكرًا على زمان أو عقيدة، بل هي جزء من الإرث الفلسفي العميق للبشرية في بحثها المستمر عن المعنى والحقيقة.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسفة النسوية في العالم العربي: جدلية التحرر والتحديات الث ...
- فلسفة ما بعد الحداثة: من التفكيك إلى إعادة تعريف العقل والحق ...
- الليبرالية عبر العصور: فلسفة الحرية وتحديات التطبيق
- صراع الهوية والمصير: جدلية التوجهات القومية والإسلامية في ال ...
- الهوية العربية على مفترق الطرق: تحديات الحاضر وآمال المستقبل
- نحو حكم رشيد: تحديات الديمقراطية في العالم العربي
- الخضوع الطوعي للسلطة: دراسة فلسفية في العبودية الذاتية
- الاستشراق الجديد: قراءة نقدية في خطاب الهيمنة الثقافية
- إحياء الذات والأمة: فلسفة محمد إقبال في التحدي والتجديد
- السياسة بين الدين والفلسفة: قراءة معمقة في النظريات السياسية ...
- أزمة المعنى في الواقع العربي المعاصر: بحث في الهوية والقيم و ...
- الصمت كوسيلة للاعتراض: دراسة في عمق السياسة العربية
- الوعي العربي في مواجهة أزماته الوجودية: قراءة فلسفية
- الليبرالية الأوربية على مفترق الطرق - صراع القيم ومستقبل الأ ...
- الذكورية السياسية في الفكر الفلسفي: نقد للسلطة الجندرية وآفا ...
- الاتجاهات الجنينية في الفلسفة المعاصرة: الأخلاق والوعي والهو ...
- الاتجاهات الجنينية في الفلسفة المعاصرة: الأخلاق والوعي والهو ...
- حرب المصالح : بحر الصين الجنوبي بين الطموحات الصينية والتحال ...
- اتفاقية عنتيبي وجدلية الصراع بين دول المنبع والمصب ... المسا ...
- الصوابية السياسية من منظور فلسفي – جدلية الحرية والأخلاق في ...


المزيد.....




- سفير أمريكا الجديد لإسرائيل يدعو لـ-إعادة ضبط كاملة- للعلاقا ...
- بعد -Gladiator II-.. دينزل واشنطن يعلن عن أدواره الأخيرة قبل ...
- لماذا يحدّ موقع بومبي الأثري في إيطاليا من عدد زواره اليومي؟ ...
- -لا يوجد شيء اسمه فلسطيني-.. شاهد ما قاله السفير الأمريكي ال ...
- مراسلنا: مقتل 11 فلسطينيا بغارات إسرائيلية على مناطق عدة في ...
- إيلون ماسك رسميًا في البيت الأبيض.. ترامب يفي بوعده للمليارد ...
- الهروب من الحرب.. الجسد في القاهرة والقلب في غزة
- دور الإجهاد الذهني في خلق شخصية -عدوانية وغير متعاونة-
- الجيش الإسرائيلي يعلن مهاجمة أكثر من 120 هدفا لـ-حماس- و-حزب ...
- تايوان تسلم أوكرانيا دفعة جديدة من منظومات Hawk التكتيكية لل ...


المزيد.....

- معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية / زهير الخويلدي
- الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا ... / قاسم المحبشي
- الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا ... / غازي الصوراني
- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - حمدي سيد محمد محمود - الإنسان بين الجبر والاختيار: قراءة مقارنة في رؤى المعتزلة والأشاعرة