|
الجهل والحماقة في بنية العقل المجتمعي
حسين علي محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8159 - 2024 / 11 / 12 - 00:47
المحور:
المجتمع المدني
يقول مارتن لوثر كينغ "لا يوجد شيء في العالم أكثر خطورة من الجهل بإخلاص والحماقة بضمير مرتاح" هنا، الكلام يجسد فكرة فلسفية ونقدية عميقة حول تأثير الجهل والحماقة حين يرتبطان بالإخلاص والتسامح الذاتي. إن لدى الإنسان يقين راسخ مضمونه أن الوعي يتأرجح بين حدين فقط، هما العقل والجنون، في حين يشير البعض إلى وجود حد ثالث يقع بينهما، أي بين العقل والجنون، وهو حد الحُمْق الذي قد يندرج تحته معظم البشر، والمقصود بالحُمْق هو أن تكون جاهلا بجهلك، وليس عكس الجهل العلم، فالعلم جهل من نوع آخر، لأنه يقوم على احتقار معرفة الذات. وعكس الجهل الحكمة.
- كيف يكون ذلك؟؟ ▪︎ الجهل بإخلاص : الجهل هنا لا يعني فقط نقص المعرفة، بل يشير أيضا إلى إصرار الشخص الجاهل على أفكاره وقناعاته دون التحقق من صحتها، حتى ولو كانت خاطئة، عندما يكون هذا الجهل مقترنا بالإخلاص (أي أن صاحبه يعتقد بصدق أن ما يفعله أو يؤمن به صحيح)، يصبح هذا الجهل أكثر خطورة، لذا الإنسان الذي يحمل معتقدات خاطئة لكنه مخلص لها تماما يمكن أن يؤذي نفسه والمجتمع ظنا منه أنه يفعل الصواب. يختلف هذا النوع من الجهل عن الجهل المتعمد أو المتحيز قد يكون الشخص في حالة الجهل بإخلاص راغبا في الخير للآخرين أو معتقدا بصدق أن تصرفاته صحيحة، ولكن يفتقر إلى الفهم أو المعلومات الصحيحة التي تمكنه من رؤية الأمور بوضوح. غالبا ما يظهر الشخص الذي يكون جاهلا بإخلاص تصرفات قد تبدو للآخرين غير واعية أو ساذجة، ولكنه قد لا يدرك أنه يفتقد لمعلومات أو رؤية أعمق، وقد تنبع هذه الحالة من التربية، البيئة المحيطة، أو من تأثره بمعتقدات شائعة لم يتبين له مدى صحتها. قد يؤدي الجهل بإخلاص إلى عواقب غير مرغوبة رغم نوايا الشخص الحسنة، فبدون وعي كامل بالأمور، قد يتخذ قرارات أو يتم نشر معلومات قد تضر بالآخرين أو تؤدي إلى سوء فهم.
▪︎ الحماقة بضمير مرتاح : الحماقة هنا تعني التصرفات أو الأفكار غير المنطقية أو السيئة، وتزداد خطورتها عندما يُمارسها الشخص بضمير مرتاح ودون أدنى شك. الإنسان الذي يرتكب أفعالا خاطئة أو يتبنى مواقف غير عقلانية ولكنه مطمئن لسلامة ضميره، لا يتوقف ليسأل عن مدى صحة أفعاله أو آثارها، مما يعني أنه قد يستمر في إيذاء الآخرين وإحداث الضرر لأنه ببساطة لا يشعر بأي ذنب أو مسؤولية. هذا المفهوم له جذور فلسفية ونفسية، إذ أنه يعبر عن النزعة البشرية لتجنب الاعتراف بالأخطاء والانحياز لتصوراتنا الخاصة، مما يسمح له بتبرير التصرفات الخاطئة بطريقة تجعله يشعر بضمير مرتاح. يمكن أن تكون هذه الحالة ناتجة عن عدة عوامل، منها الجهل أو قلة الوعي أو التحيز الفكري، حيث يعتقد الشخص أنه لا حاجة لمراجعة تصرفاته أو الاعتراف بأخطائه لأنه مقتنع تماماً بسلامة موقفه. أحياناً، يكون الدافع وراء هذه التصرفات هو الكبرياء أو عدم القدرة على قبول الانتقاد. يمكن أن نجد "الحماقة بضمير مرتاح" في مجالات مختلفة، سواء على المستوى الشخصي أو الاجتماعي أو السياسي. مثلاً، يمكن لشخص ما اتخاذ قرارات ضارة في العمل أو الحياة الاجتماعية، لكنه لا يعترف بآثارها السلبية. أما في السياسة، فقد يتخذ بعض القادة قرارات استراتيجية أو اقتصادية تؤدي إلى نتائج كارثية، ومع ذلك يستمرون في الدفاع عنها بدون مراجعة نقدية.
- اين تكون الخطورة الكامنة؟؟ تجمع العبارة بين الجهل والإخلاص والحماقة وراحة الضمير، مشيرة إلى أن الجمع بين هذه الصفات يجعل الشخص قادرا على التسبب بأذى كبير لأنه لا يدرك أخطائه أو لا يعترف بها. الأشخاص الذين يجمعون بين هذه الصفات يكونون أحيانا مخلصين جدا لمبادئهم أو أفكارهم أو أيديولوجياتهم، لكنهم لا يلاحظون حجم الضرر الذي قد يلحقونه بالعالم من حولهم. وهذا هو الخطر الأكبر، لأنهم لا يبحثون عن مراجعة أو تغيير لقناعاتهم، فيصبحون كالقنابل الموقوتة في المجتمع. إذن، لابد من تحذير المجتمع من خطورة الأشخاص الذين يملكون معتقدات غير صحيحة لكنهم مخلصون لها ولا يشعرون بأي ذنب تجاه أفعالهم، فالمخلص الجاهل، والحكيم الأحمق بضمير مطمئن، يمكنهما أن يكونا أكثر دمارا من العدو الواعي لأنهما يعملان بدون أي استعداد للتراجع أو التعديل.
يكون الجهل في ثلاثة أنواع مختلفة : - الجهل الفعلي (غياب المعرفة ببعض الحقائق) - الجهل الموضوعي (عدم الإلمام ببعض الأشياء) - الجهل التقني (غياب المعرفة بكيفية القيام بشيء ما) .
- ألم يحن الوقت كي نثق بالمعرفة ونمنحها إخلاصنا؟؟ بالتأكيد، هناك حاجة ملحة للثقة بالمعرفة وتقديرها والالتزام بإخلاص نحوها. نحن نعيش في عصر مليء بالمعلومات والأفكار، لكن ليس كل ما يتم تداوله يستند إلى حقائق ومعرفة راسخة، لذا، يتطلب الأمر أن نعطي المعرفة الحقيقية، التي تبنى على الدليل والتحقيق المنهجي، مكانة عالية في حياتنا. لكن الثقة بالمعرفة لا تعني القبول الأعمى لها، بل تتطلب الوعي والقدرة على التفكير النقدي. المعرفة الحقيقية هي التي تظل مرنة، تقبل المراجعة، وتدفعنا للبحث الدائم عن الحقيقة. الإخلاص هنا ليس مجرد الإيمان بأي معرفة دون تمحيص، بل هو الإخلاص للبحث عن الحقيقة والسعي للتطوير المستمر. لذا، ربما يكون من الضروري أن نجعل من المعرفة مبدأ أساسياً، ونمنحها الإخلاص الذي تستحقه، ليس فقط بالاعتماد عليها، بل بتقديرها وممارستها بشكل واعٍ، وتوظيفها في سبيل تحسين حياتنا وحياة الآخرين.
هناك سؤال يطرح نفسه .. - هل تشير سيرتنا الحياتية نحن البشر المتحضرون إلى بلوغنا أم إلى جهلنا؟؟ في سيرتنا الحياتية كمجتمعات بشرية متحضرة، قد تعكس عدة جوانب من اهمها : البلوغ والجهل. ان التقدم الحضاري والإنجازات العلمية والثقافية التي حققناها عبر التاريخ تشهد على بلوغنا مستويات عالية من الفهم والتطور، إذ تمكننا من السيطرة على بعض قوى الطبيعة، وتطوير نظم تعليمية، وابتكار تقنيات تسهم في تحسين حياة الإنسان. في المقابل، يظهر الجهل في بعض التصرفات الاجتماعية، والأنظمة الظالمة، والصراعات التي تقوم على التعصب أو العنصرية أو الأيديولوجيات المتشددة، ويمكن أن يكون التناقض بين المعرفة والجهل واضحا في قرارات سياسية، وفي إدارة الموارد البيئية، وكذلك في تجاهل التحديات الاجتماعية مثل الفقر أو التمييز. إذن، يمكن القول إن مسيرة الإنسان تعكس كلاً من البلوغ في بعض الجوانب، والجهل في جوانب أخرى.
#حسين_علي_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الرد الايراني وفوز ترامب
-
كيف سيكون شكل الساحة الدولية بعد فوز ترامب بالانتخابات الرئا
...
-
أيديولوجية مصادرة العقول وغسيل الدماغ
-
عيد الهالوين او عيد الرعب
-
المشهداني رئيسا للبرلمان العراقي مرة أخرى
-
التناقض بين الحقيقة واليأس في المنظور الواقعي
-
عرفان صديق سفيرا استتراتيجيا في العراق
-
التشجيع السلبي والغلو الرياضي
-
اغتيال السنوار .. وما هي تحديات المرحلة القادمة؟؟
-
فيلم Black Death
-
انهيار الحضارات وفشلها في التأقلم مع التحديات
-
فلسفة التغيير تبدأ من خارج الصندوق
-
الإلهاء والتخادمات في الفكر السياسي
-
قوة الدولة واللا دولة
-
إسرائيل وإيران بين الحرب الشاملة وضربات الردع الستراتيجية
-
ثقافة الإلغاء نتاج منظومة القطيع
-
المواطن المستقر
-
العيد الوطني العراقي
-
ماذا بعد اغتيال نصر الله
-
التسرب المدرسي وإفرازاته الخطيرة في المجتمع
المزيد.....
-
ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر
...
-
الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج
...
-
مفوضية شؤون اللاجئين: 427 ألف نازح في الصومال بسبب الصراع وا
...
-
اكثر من 130 شهيدا بغارات استهدفت النازحين بغزة خلال الساعات
...
-
اعتقال رجل من فلوريدا بتهمة التخطيط لتفجير بورصة نيويورك
-
ايران ترفض القرار المسيّس الذي تبنته كندا حول حقوق الانسان ف
...
-
مايك ميلروي لـ-الحرة-: المجاعة في غزة وصلت مرحلة الخطر
-
الأمم المتحدة: 9.8 ملايين طفل يمني بحاجة لمساعدة إنسانية
-
تونس: توجيه تهمة تصل عقوبتها إلى الإعدام إلى عبير موسي رئيسة
...
-
هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست
...
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|