|
الاستشراق الجديد: قراءة نقدية في خطاب الهيمنة الثقافية
حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8155 - 2024 / 11 / 8 - 00:02
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
يعد موضوع الاستشراق الجديد من القضايا التي تثير اهتمامًا واسعًا في الأوساط الفكرية والأكاديمية العربية والغربية على حد سواء، نظرًا لما ينطوي عليه من أبعاد ثقافية، وسياسية، واجتماعية. فبينما كان الاستشراق التقليدي، الذي ظهر منذ القرون الوسطى واستمر في هيمنة أكاديمية طيلة عصور النهضة والاستعمار، يعتمد على دراسة العالم الشرقي (العالم العربي والإسلامي) من منظور استكشافي استعلائي يتعامل مع الشرق كموضوع للدراسة والتحليل، جاء الاستشراق الجديد ليتخذ أشكالًا وأبعادًا أخرى أكثر تعقيدًا وعمقًا، وينطوي على أهداف تتجاوز المعرفة الأكاديمية البحتة لتخدم سياسات وأجندات فكرية واقتصادية وسياسية في آن واحد.
الاستشراق الجديد لا يسعى فقط إلى فهم الشرق، بل يمتد تأثيره إلى محاولة تشكيله وإعادة إنتاجه ضمن قالب يناسب الرؤية الغربية للعالم؛ هذه الرؤية التي ترتكز على قيم العولمة والنظام الرأسمالي و"الحداثة" الغربية. من هنا، نجد أن الاستشراق الجديد يستفيد من أدواته الحديثة، مثل وسائل الإعلام، ومراكز البحوث، والمؤسسات الثقافية، وحتى المناهج التعليمية في الجامعات، لترويج صورة محددة عن الشرق، غالبًا ما تكون نمطية وسلبية، تصور الشرق كمكان للأزمات والتوترات، وتفرض عليه هوية "الآخر" الدوني والمتأخر الذي يحتاج إلى الإصلاح أو التحديث على يد الغرب.
هذا السياق دفع العديد من المفكرين العرب والنخب الثقافية إلى التفكير نقديًا في هذا المفهوم، حيث أصبحت هذه النخبة تدرك أن ما يعرضه الاستشراق الجديد لا يعكس الواقع الفعلي للعالم العربي والإسلامي، بل يسهم في تعزيز الهيمنة الثقافية والتبعية الفكرية للغرب، كما يحاول أن يمحو ملامح الهوية الثقافية والتاريخية للشعوب الشرقية لصالح نموذج غربي عالمي. وبالتالي، يطرح الاستشراق الجديد أمام المجتمعات العربية والإسلامية تحديات عميقة تتطلب وعيًا ثقافيًا وسياسيًا، وقدرة على النقد الذاتي، وأيضًا إعادة بناء الهوية على أسس تنموية تضمن استمرارية الأصالة والانفتاح المتوازن.
وفي هذا السياق، تبرز عدة محاور رئيسية لتناول هذا الموضوع، منها: تحليل أهداف الاستشراق الجديد، والوقوف على استراتيجياته وآلياته التي يستخدمها لتحقيق هذه الأهداف، كما يتطلب فهم موقف النخبة المثقفة العربية التي تقف في مفترق طرق بين نقد هذا الاستشراق الجديد والتفاعل معه، ومقاومة تأثيراته السلبية عبر تطوير خطابات ثقافية وفكرية مستقلة وقادرة على تقديم بدائل معرفية.
إن تسليط الضوء على الاستشراق الجديد يعدّ خطوة مهمة لفهم العلاقات المعقدة بين الشرق والغرب في عصر العولمة، وأيضًا لاستيعاب الأبعاد المختلفة لهذه العلاقات التي لا يمكن حصرها في مجرد تفاعل ثقافي أو اقتصادي. بل هي شبكة متداخلة من المصالح والتحولات التي تؤثر على هوية المجتمعات وتوجهات الأفراد، وتستدعي يقظة فكرية وسياسية تتجاوز الاستجابات التقليدية. الاستشراق الجديد :التعريف، الأهداف، التوجهات
الاستشراق الجديد هو مفهوم حديث يسعى لفهم علاقة الغرب بالشرق في سياق العولمة والنظام الدولي الجديد، ويشمل أبعادًا ثقافية، سياسية، واقتصادية. لفهمه بعمق، يمكننا تسليط الضوء على الموضوع من الجوانب التالية: 1. تعريف الاستشراق الجديد وأهدافه الاستشراق الجديد يختلف عن الاستشراق التقليدي؛ فبينما ركّز الأخير على دراسة الشرق بشكل أكاديمي بحثي، يتمحور الاستشراق الجديد حول السيطرة الثقافية والفكرية باستخدام أدوات أكثر تعقيدًا كالإعلام والمناهج الدراسية والسياسات العامة. الأهداف الرئيسة هي تشكيل رؤية عن الشرق كفضاء يجب "تحديثه" أو "تنميطه" وفقًا للمعايير الغربية، ما يمهد للسيطرة الثقافية والاقتصادية والسياسية. 2. التوجهات الفكرية للاستشراق الجديد يمكن القول بأن الاستشراق الجديد ينطلق من نظريات ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار، ويقوم على فكرة "الآخرية" أو "الغيرية" التي تجعل الشرق مختلفًا ودونيًّا، لكنه أيضًا قابل للتكيف مع النماذج الغربية. المفكرين المؤثرين، مثل إدوارد سعيد، ناقشوا هذه الأفكار في إطار نقدي، مؤكدين أن الاستشراق الجديد يتجاوز دراسة الشرق إلى محاولة تغييره واستيعابه. 3. آليات الاستشراق الجديد الإعلام: يعتمد الاستشراق الجديد على تصوير الشرق في الإعلام بطريقة تشدد على سلبياته، مما يرسخ صورة نمطية سلبية في أذهان المتلقي الغربي. السياسات الدولية: تستخدم بعض الدول الغربية هذه الأفكار لتبرير تدخلاتها في الشرق الأوسط تحت ذرائع نشر الديمقراطية أو حقوق الإنسان. التعليم والثقافة: يتم دمج بعض الأفكار في المناهج الدراسية الغربية، لتمكين الأجيال من رؤية الشرق كفضاء مليء بالصراعات والتهديدات. 4. الأثر على العالم العربي والإسلامي الهوية الثقافية: يعد الاستشراق الجديد تحديًا للهوية الثقافية للعالم العربي والإسلامي، إذ يعزز شعورًا بالنقص تجاه النموذج الغربي. التنمية المستقلة: يؤثر في مفهوم التنمية الذاتية للدول العربية، مما يكرس التبعية الفكرية والاقتصادية للغرب. التدخلات السياسية: يغذي الاستشراق الجديد العديد من التوجهات السياسية في الشرق، خاصةً تلك المتعلقة بالإصلاحات أو التطبيع مع الغرب. 5. مستقبل الاستشراق الجديد مع بروز الصين ودول أخرى كقوى جديدة، تتغير أسس الاستشراق الجديد ليصبح أكثر تعقيدًا، مما يدفع الغرب للبحث عن طرق مختلفة لإعادة تعريف علاقته بالشرق. هناك أيضًا اتجاه في بعض الدول العربية لتطوير رؤى نقدية محلية تتجاوز هذه الأطر، والتركيز على تأسيس ثقافة معرفية تتفاعل مع العالم دون الوقوع تحت تأثير الاستشراق الجديد. وفي المجمل، فإن الاستشراق الجديد يمثل استمرارًا للاستشراق القديم، لكن بأساليب أكثر تعقيدًا وتأثيرًا. التعامل معه يستلزم وعيًا بالأدوات المستخدمة، وتطوير منظومة معرفية مستقلة قادرة على تقديم الذات الشرقية بموضوعية وفعالية في الفضاء الدولي.
التأثيرات والأبعاد المرتبطة بمفهوم "الاستشراق الجديد"
لفهم مفهوم "الاستشراق الجديد" بعمق، يمكننا تقسيم الموضوع إلى عدة جوانب رئيسية تتكامل لتوضيح مختلف التأثيرات والأبعاد المرتبطة بهذه الظاهرة في سياق العولمة والنظام الدولي الجديد، ومنها: 1. البعد الثقافي: يتميز الاستشراق الجديد بتركيز أكبر على تصدير وترويج القيم والمعايير الثقافية الغربية إلى الشرق، مما يسهم في تشكيل أنماط استهلاك وسلوك تتماشى مع المصالح الغربية. يتجاوز هذا البعد المستوى التقليدي للاستشراق الذي كان يتمحور حول دراسة ثقافات الشرق وفهمها، ليصبح نوعًا من الهيمنة الثقافية التي تسعى لتغيير الهوية الثقافية للشرق وفرض الأنماط الغربية عليه. يتم ذلك من خلال وسائل الإعلام، والأدب، والفنون، بالإضافة إلى دور هوليوود ووسائل التواصل الاجتماعي، التي تعمل على صياغة صورة معينة للشرق غالبًا ما تتسم بالسطحية أو التصورات النمطية. 2. البعد السياسي: الاستشراق الجديد يتجلى أيضًا في دعم سياسات تدخلية تهدف إلى إعادة تشكيل الهياكل السياسية في دول الشرق بما يتماشى مع الأجندات الغربية. ويسعى الغرب من خلال ذلك إلى نشر مفاهيم الديمقراطية وحقوق الإنسان حسب نمطه، مع تجاهل الخصوصيات السياسية والاجتماعية والثقافية لتلك الدول. يتم هذا من خلال التدخلات العسكرية، والعقوبات الاقتصادية، والدعم السياسي لأنظمة أو حركات محددة. كل هذا يؤكد على الرغبة في إبقاء الشرق تحت مظلة الهيمنة الغربية، وهو امتداد للاستشراق التقليدي ولكن بوسائل أكثر مباشرة ومؤثرة. 3. البعد الاقتصادي: يلعب الاقتصاد دورًا كبيرًا في الاستشراق الجديد من خلال سياسات العولمة التي تفرضها المؤسسات الاقتصادية الدولية (مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) على دول الشرق، والتي تهدف إلى دمج اقتصاداتها ضمن النظام الاقتصادي العالمي القائم على الليبرالية الاقتصادية. يتمثل هذا البعد في التبعية الاقتصادية التي تُجبر بعض دول الشرق على فتح أسواقها أمام الشركات الغربية الكبرى، مما يؤدي إلى إضعاف اقتصاداتها المحلية وزيادة اعتمادها على الاستثمارات الأجنبية والقروض الدولية. وهذا البعد يؤكد على استمرار الغرب في ممارسة سيطرته الاقتصادية على الشرق، ولكن بأساليب حديثة تتجاوز الشكل التقليدي للاستعمار. 4. البعد الاجتماعي والتعليمي: من خلال فرض معايير تعليمية معينة وبرامج تدريبية، يسعى الغرب إلى بناء طبقة من النخب المثقفة في الشرق تتبنى قيمه وأفكاره، مما يعزز النفوذ الغربي في المنطقة. هذه البرامج التعليمية غالبًا ما تكون مدعومة من مؤسسات غربية وتتضمن منحًا دراسية وتبادلًا أكاديميًا بهدف تشكيل جيل جديد يتبنى الرؤية الغربية للعالم. كما أن الترويج لمفاهيم معينة مثل الفردانية على حساب الهوية الجماعية أو الدينية يشكل جزءًا من هذه المنظومة، حيث تسعى هذه الأنماط إلى تحويل الأفراد في المجتمعات الشرقية تدريجيًا نحو تبني نمط الحياة الغربي. 5. البعد الإعلامي: يلعب الإعلام دورًا محوريًا في نشر الأفكار الغربية وتقديمها كحقائق مُسلّم بها، حيث يتم تصوير القيم الغربية على أنها نموذج عالمي يصلح لكل الثقافات، مما يؤدي إلى تهميش التجارب والتصورات المحلية. تستفيد القوى الغربية من وسائل الإعلام للوصول إلى الجماهير في الشرق، وتسويق أفكارها ومواقفها من خلال أخبار وتحليلات توجه الرأي العام بشكل يخدم مصالحها. بهذه الطريقة، يظهر الاستشراق الجديد كتوجه شامل يستخدم وسائل متعددة للهيمنة، ليس فقط كدراسة أو اهتمام أكاديمي بثقافات الشرق، بل كأداة سياسية وثقافية واقتصادية تهدف إلى إخضاع الشرق لرؤية الغرب، مع تعزيز التبعية في مختلف المجالات.
أبرز الانتقادات الموجهة إلى مفهوم الاستشراق الجديد
تعددت الانتقادات الموجهة لمفهوم الاستشراق الجديد من جوانب فكرية وثقافية وسياسية. فيما يلي أبرز هذه الانتقادات: 1. الهيمنة الثقافية والتشويه المتعمد يرى المنتقدون أن الاستشراق الجديد يسعى لفرض هيمنة ثقافية على الشرق، محاولًا تشكيله وفق رؤية غربية تتجاهل خصوصياته الثقافية والتاريخية. يتم توجيه النقد إلى الطريقة التي يصور بها الإعلام الغربي المجتمعات الشرقية، حيث يركز على سلبياتها، مثل الصراعات والتخلف، مما يعزز صورة نمطية مشوهة للمجتمع الشرقي في أذهان المتلقين. 2. إغفال التنوع والتعميم المفرط أحد الانتقادات الأساسية للاستشراق الجديد هو التعميم المفرط الذي يتعامل مع "الشرق" ككيان واحد، في حين أن الواقع أكثر تنوعًا وتعقيدًا. يغفل هذا التوجه التنوع الكبير في الثقافات والتقاليد داخل العالم الشرقي، مما يؤدي إلى تفسير مشوه وغير دقيق للواقع، ويعزز الأفكار النمطية ويعمق الفجوة بين الشرق والغرب. 3. التدخلات السياسية بذريعة الإصلاح الانتقاد هنا يركز على أن الاستشراق الجديد يُستخدم كذريعة للتدخل السياسي تحت مظلة "نشر الديمقراطية" أو "حقوق الإنسان". يستخدم هذا الخطاب في تبرير التدخلات العسكرية أو الضغوط الاقتصادية على دول الشرق الأوسط، دون الأخذ في الاعتبار إرادة الشعوب المحلية أو خصوصياتها الثقافية والسياسية. 4. الاستغلال الاقتصادي وتعميق التبعية يشير بعض المفكرين إلى أن الاستشراق الجديد يسعى إلى تعزيز التبعية الاقتصادية للغرب، عبر تشجيع استهلاك المنتجات الغربية وفرض نماذج اقتصادية تعتمد على الفكر النيوليبرالي. هذه التبعية تؤدي إلى تهميش المشاريع التنموية المستقلة وتقويض قدرة دول الشرق على تحقيق التنمية الذاتية المستدامة. 5. تحجيم الهوية الثقافية للشرق يُنتقد الاستشراق الجديد على أنه يسعى لطمس الهوية الثقافية للمجتمعات الشرقية، إذ يشجع على تبني قيم وأنماط غربية على حساب القيم المحلية. هذا الأمر يؤدي إلى خلق فجوة بين الأجيال داخل المجتمعات الشرقية، حيث يشعر الشباب بضغط التحول إلى النموذج الغربي في ظل تراجع تأثير الثقافة المحلية. 6. التجاهل المتعمد للرؤى الشرقية والنقدية الانتقادات تشير إلى أن الاستشراق الجديد يتجاهل بشكل متعمد الرؤى النقدية القادمة من الشرق، والتي قد تقدم تفسيرات بديلة للتاريخ والمجتمع والسياسة. يتم غالبًا استبعاد الأعمال الفكرية والأدبية من الشرق من دائرة الاهتمام الأكاديمي الغربي، مما يرسخ الأفكار النمطية عن الشرق ويهمش الأصوات الشرقية التي تسعى لتقديم صورة أكثر توازنًا وعمقًا. 7. التناقض في دعوات الانفتاح والتسامح ينتقد البعض الاستشراق الجديد باعتباره متناقضًا؛ إذ يدعو إلى الانفتاح والتسامح، لكنه في الوقت ذاته يمارس أنواعًا من التحيز والتعصب ضد الثقافات الشرقية. يُروج لقيم الحداثة والانفتاح، ولكنه يعتبر أن تحقيق هذه القيم يجب أن يكون وفق الرؤية الغربية، مما يعكس عدم احترامه لتنوع الثقافات والمفاهيم. 8. إنتاج معرفة غير محايدة يرى النقاد أن المعرفة التي يُنتجها الاستشراق الجديد غير محايدة، بل تخدم مصالح سياسية واستراتيجية، حيث تُستخدم لتشكيل سياسات دولية تخدم الدول الغربية. هذه المعرفة تتجاهل الاعتبارات الثقافية والاجتماعية للشرق، وتعمل على فرض رؤى تخدم القوى الغربية أكثر من سعيها للفهم الحقيقي والتفاهم المتبادل.
وبشكل عام، فإن الانتقادات الموجهة للاستشراق الجديد تعكس اعتراضًا على استمرارية خطاب استعلائي يطمح لتشكيل الشرق وفق الرؤية الغربية، متجاهلًا التعدد الثقافي وحق المجتمعات الشرقية في التنمية والاستقلال الفكري والسياسي. يطالب النقاد بضرورة إعادة النظر في هذا التوجه من خلال تعزيز التفاهم المتبادل وإعطاء الشرق مساحة أوسع للتعبير عن هويته.
موقف النخبة المثقفة العربية تجاه الاستشراق الجديد
موقف النخبة المثقفة العربية تجاه الاستشراق الجديد يتسم بالتنوع، ويتراوح بين النقد الشديد، والدعوة إلى وعي نقدي وتفاعل موضوعي مع الغرب، وإعادة النظر في دور الثقافة المحلية. يمكن توضيح موقف النخبة المثقفة العربية من خلال النقاط التالية: 1. نقد التحيزات الاستشراقية العديد من المثقفين العرب ينتقدون التحيزات الكامنة في الاستشراق الجديد، الذي يرى الشرق بشكل سلبي أو أقل تطورًا، ويفرض صورة نمطية سلبية تعززها وسائل الإعلام الغربية. هؤلاء المثقفون يشيرون إلى أن هذا التوجه يرسخ الهيمنة الغربية ويعمل على تكريس فكرة "الأفضلية" الثقافية للغرب. يرون أن هذا التوجه يتجاهل التجارب الذاتية لشعوب المنطقة وقدرتها على النمو وتطوير نماذجها الخاصة. 2. الدعوة إلى قراءة نقدية وواعية بعض المثقفين العرب يرون أهمية التعامل النقدي والواعي مع الدراسات الاستشراقية الجديدة، معتبرين أنها توفر أحيانًا مدخلًا لفهم طرق التفكير الغربية والتعرف على مواقف وسياسات الغرب تجاه المنطقة. يعتبر هؤلاء المثقفون أن الاستشراق الجديد يمكن أن يكون فرصة لتطوير خطاب نقدي محلي يقابل هذه الصور النمطية ويعرض رؤية أكثر شمولية للمجتمعات العربية والإسلامية، مما يعزز من قوة الخطاب الثقافي العربي. 3. تعزيز الهوية الثقافية العربية والإسلامية النخبة المثقفة العربية تركز أيضًا على ضرورة تعزيز الهوية الثقافية المستقلة كوسيلة لمواجهة الهيمنة الفكرية للاستشراق الجديد. يدعون إلى تعميق المعرفة بالتراث المحلي وإعادة تقديمه بطرق حديثة تتماشى مع العصر، بهدف مواجهة التأثيرات الثقافية التي يسعى الاستشراق الجديد إلى فرضها على المجتمعات العربية. 4. التأكيد على أهمية التبادل الثقافي المتوازن بعض المثقفين العرب يطالبون بتبني موقف وسطي يدعم التبادل الثقافي بين الشرق والغرب بشكل متوازن، دون الوقوع في فخ التبعية الفكرية أو الانعزال الثقافي. يعتبرون أن الانفتاح على الفكر الغربي يجب أن يتم دون تمييع للهوية المحلية، وأن يكون تفاعلًا قائمًا على الاحترام المتبادل وتقدير التنوع الثقافي، بعيدًا عن الاستعلاء. 5. تطوير خطاب فكري مستقل وموجه للغرب يشدد بعض المثقفين العرب على أهمية تطوير خطاب فكري مستقل يخاطب الغرب مباشرة ويعرض الرؤى العربية في قضايا عديدة كالحداثة، وحقوق الإنسان، والديمقراطية. يرون أن هذا الخطاب يمكن أن يكشف عن التحيزات والنقائص في رؤية الاستشراق الجديد للشرق، ويوضح أن المجتمعات العربية ليست مجرد كتل متجانسة أو تعاني من التخلف، بل هي مجتمعات متنوعة تتمتع بتجارب وحضارات عريقة. 6. التركيز على دور البحث الأكاديمي والتأليف النقدي يدعو العديد من المثقفين إلى تشجيع البحث الأكاديمي المستقل الذي يتناول قضايا الاستشراق الجديد من زاوية نقدية، سواء عبر نشر دراسات متعمقة، أو من خلال إنتاج أعمال أدبية وفكرية تبرز الرؤى العربية وتعيد تقديمها في صورة حضارية للعالم. يعتبر هذا التوجه جزءًا من مواجهة تأثيرات الاستشراق الجديد، حيث يسهم في تقديم صورة أكثر تنوعًا وعمقًا للمجتمعات العربية ويبرز رؤيتها لمشاكلها وللتحديات التي تواجهها. 7. رفض التبعية الثقافية والسياسية هناك تيار بين المثقفين العرب يرفض أي شكل من أشكال التبعية الفكرية أو الثقافية للغرب، ويرى أن الاستشراق الجديد هو امتداد لاستراتيجيات الهيمنة الاستعمارية التي تهدف إلى التحكم في مسارات التطور المحلي. يدعو هذا التيار إلى تطوير نماذج تنموية وفكرية عربية مستقلة تمامًا، تشكل بدائل حقيقية للنماذج الغربية وتتناسب مع خصوصيات المجتمعات العربية والإسلامية. بصفة عامة، تتسم مواقف النخبة المثقفة العربية تجاه الاستشراق الجديد بأنها نقدية ورافضة في معظمها، مع توجه قوي نحو تطوير خطاب ثقافي مستقل يعكس الهوية والتنوع الحضاري للمنطقة العربية. هذا الخطاب يسعى إلى تحقيق توازن بين الانفتاح على العالم ومواجهة التأثيرات السلبية للاستشراق الجديد، عبر تعزيز البحث الأكاديمي والتأليف، وتطوير ثقافة نقدية واعية بأبعاد الاستشراق الجديد ودوافعه.
في ختام هذا الموضوع حول الاستشراق الجديد، يمكن القول إن هذا المفهوم يمثل تحديًا متجددًا للعالم العربي والإسلامي، حيث يعكس استمرارًا لصراع ثقافي وحضاري قديم، ولكنه بات اليوم أكثر تعقيدًا وخطورة. فالاستشراق الجديد لا يكتفي بنقل صورة نمطية عن الشرق، بل يسعى إلى التأثير العميق في وعي الشعوب وهوياتها، ويعمل على خلق واقع مفروض يخدم مصالح القوى العالمية، مهددًا بذلك الخصوصية الثقافية والاستقلال الفكري لمجتمعات الشرق. إنه مشروع متعدد الأوجه، يحمل بين طياته مساعي لتقويض الثوابت وإعادة تشكيل وعي الأجيال الناشئة بما يتماشى مع رؤية الغرب ومصالحه.
أمام هذا الواقع، تجد النخبة المثقفة العربية نفسها في مواجهة مسؤولية تاريخية، تتطلب منها اليقظة والوعي النقدي والعمل على بناء خطاب ثقافي مقاوم وقادر على مواجهة هذا المد الفكري. لا يقتصر هذا الدور على النقد والرفض، بل يمتد ليشمل تأسيس هوية فكرية عميقة، تتفاعل مع العصر وتستفيد من أدواته، دون أن تذوب في خطاب الآخر أو تتبنى روايته. إن المجتمعات القادرة على الحفاظ على هويتها، وفي ذات الوقت منفتحة على التطور والتفاعل الإيجابي مع العالم، هي وحدها التي تستطيع أن تصمد أمام محاولات الطمس والهيمنة.
من هنا، تصبح المعركة الحقيقية ليست فقط في مواجهة الاستشراق الجديد ونقده، بل في تقديم نموذج حضاري مستقل، يجسد تطلعات المجتمعات العربية والإسلامية نحو التنمية والاستقلالية، ويعبر بصدق عن ثقافتها وتاريخها، مستفيدًا من الأدوات الحديثة لإيصال صوتها إلى العالم. إن هذه المعركة ليست سهلة، لكنها ممكنة، وتتطلب رؤية شاملة ونخبة مثقفة واعية، قادرة على بناء مستقبل يلبي طموحات المجتمعات الشرقية ويستعيد كرامتها ومكانتها في عالم اليوم.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إحياء الذات والأمة: فلسفة محمد إقبال في التحدي والتجديد
-
السياسة بين الدين والفلسفة: قراءة معمقة في النظريات السياسية
...
-
أزمة المعنى في الواقع العربي المعاصر: بحث في الهوية والقيم و
...
-
الصمت كوسيلة للاعتراض: دراسة في عمق السياسة العربية
-
الوعي العربي في مواجهة أزماته الوجودية: قراءة فلسفية
-
الليبرالية الأوربية على مفترق الطرق - صراع القيم ومستقبل الأ
...
-
الذكورية السياسية في الفكر الفلسفي: نقد للسلطة الجندرية وآفا
...
-
الاتجاهات الجنينية في الفلسفة المعاصرة: الأخلاق والوعي والهو
...
-
الاتجاهات الجنينية في الفلسفة المعاصرة: الأخلاق والوعي والهو
...
-
حرب المصالح : بحر الصين الجنوبي بين الطموحات الصينية والتحال
...
-
اتفاقية عنتيبي وجدلية الصراع بين دول المنبع والمصب ... المسا
...
-
الصوابية السياسية من منظور فلسفي – جدلية الحرية والأخلاق في
...
-
تحديات إدارة الأزمات في المؤسسات الحكومية: نحو استجابة فعّال
...
-
القوة والإرادة: جدلية العقل والإيمان بين الفلسفة الأوروبية و
...
-
صراع القيم وتحرير الإنسان: قراءة في العلاقة الفلسفية بين مار
...
-
من الاقتصاد التقليدي إلى الاقتصاد الأخلاقي: مسار التغيير في
...
-
صحافة المواطن في العصر الرقمي: التحديات والفرص نحو مستقبل جد
...
-
الإلحاد الإبستمولوجي بين النقد الفلسفي وآفاق الفكر الحديث
-
من النظرية إلى التطبيق: كيف يمكن تحقيق الاشتراكية العلمية؟
-
عوامل نجاح الدور الصيني في إفريقيا
المزيد.....
-
الجيش الأوكراني يتهم روسيا بشن هجوم بصاروخ باليستي عابر للقا
...
-
شاهد.. رجل يربط مئات العناكب والحشرات حول جسده لتهريبها
-
استبعاد نجم منتخب فرنسا ستالوارت ألدرت من الاختبار أمام الأر
...
-
لبنان يريد -دولة عربية-.. لماذا تشكّل -آلية المراقبة- عقبة أ
...
-
ملك وملكة إسبانيا يعودان إلى تشيفا: من الغضب إلى الترحيب
-
قصف إسرائيلي في شمال غزة يسفر عن عشرات القتلى بينهم نساء وأط
...
-
رشوة بملايين الدولارات.. ماذا تكشف الاتهامات الأمريكية ضد مج
...
-
-حزب الله- يعلن استهداف تجمعات للجيش الإسرائيلي
-
قائد الجيش اللبناني: لا نزال منتشرين في الجنوب ولن نتركه
-
استخبارات كييف وأجهزتها العسكرية تتدرب على جمع -أدلة الهجوم
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|