كتب
العراق وعبد الناصر
مناقشات نقدية في مذكرات امين هويدي من اجل الكشف عن حقائق جديدة
أ?. د. سّيار الجميل ( مؤرخ عراقي وخبير دولي )
الحلقة الاخيرة
خصوصيات العراق الصعبة
واتمنى على الاخ امين هويدي ان يتفق معي ، ولو لمرة واحدة فلا مصر نجحت في جعل العراق ناصريا كاقليم شرقي من الجمهورية العربية المتحدة ولا العراق نجح في ان يعالج مشكلاته المعقدة ، وكان بأمس الحاجة وقت ذاك للانطلاق نحو آفاق رحبة ضمن اصلاحات سياسية وثورة تحديثية وتعايشات اقليمية وركائز دستورية وتضامنيات داخلية لشعب متنوع في ثقافاته والوانه ومرجعياته وبيئاته وتعددياته ! فالعراق له خصوصياته التي لم يدركها العرب حتى اليوم بعد مضي قرابة قرن كامل على ولادة الاتصالات الحديثة وما ولد بمعيتها من افكار وممارسات وتجارب فاشلة للقومية العربية ! والعراق هو غير مصر بكل تأكيد كما توضّح ذلك للعالم كله عند نهايات القرن العشرين بشكل فاضح ، في حين أكد العديد من رجالات السياسة العراقيين على هذا المنحى على امتداد عهود سياسية متعددة ، وكان ان اتهموا شتى الاتهامات الشنيعة باعتبارهم من الشعوبيين او الانفصاليين او الرجعيين .. الخ انني واثق تمام الثقة بأن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان يدرك ادراكا حقيقيا حجم مشكلات العراق الاقليمية والداخلية ، وان العراق له حدود صعبة بكل تواريخها المعقدة مع كل من ايران وتركيا .. وان المجتمع العراقي على اشد حالات التنوع والتعددية الاثنية والمذهبية والطائفية والدينية والثقافية والطبقية .. وان اي قسر ايديولوجي عربي بمعزل عن رسوخ الوطنية العراقية سيولد حالات صعبة من عدم الاستقرار في الدواخل كما شهدنا على ايدي الحكومات والاحزاب القومية .
ومن حقنا ان نتساءل ونحن في طور الاستنتاجات : هل كانت العلاقات الدوبلوماسية بين مصر وبقية الدول العربية قد وصلت الى وضع مشابه لما كانت قد وصلت اليه بين مصر والعراق ؟ وقد عرفنا من الاخ امين هويدي حجم الانفلات في الاعراف الدبلوماسية والبروتوكولية بين الطرفين ! ونسأل ايضا : هل كانت تدخلات الرئيس عبد الناصر في الشؤون العربية تشابه ما حدث من تدخلات له في العراق ؟ وهل باستطاعة احد من الاخوة المصريين او العراقيين ان ينكر حدوث مثل تلك التدخلات ؟ وهل باستطاعتهم تسويغها تحت حجج وتبريرات لا معقولة ؟؟ واذا كان هناك جملة اختلافات بين الذي كان قبل اربعين سنة وبين الذي هو حاصل اليوم .. فبماذا يعزى ذلك ؟ وهل كانت تلك الاحوال سليمة ونظيفة اوصلت الطرفين الى نتائج طيبة .. ام خلفّت من ورائها مواريث سلبية وافتقدت روح الثقة بين الطرفين .. والانكى من ذلك كله : حصول كل تلك الموبقات بغياب المؤسسات الدستورية والتشريعية وعدم اخذ رأي الشعب بما هو حاصل !
الهراطقة المؤدلجون لا ينفعون العراق !
اما بالنسبة للعراق والعراقيين ، فهل باستطاعتهم اليوم ان يقوموا بمراجعة عقلانية هادئة لكل ما حدث في النصف الثاني من القرن العشرين ، بمعزل عن عواطفهم الساخنة واهوائهم المستعجلة وعصبياتهم المتوقدة وايديولوجياتهم الراحلة .. هل يمكنهم ان يجيبوا على تساؤلات لا مواربة ولا مزايدة ولا مفاضلة فيها : من الذي اعطى الحق للعسكريين العراقيين في التدخلات السياسية برغم كل العفونات التي كانت عليها احوال العراق ؟ وهل نجح العسكريون في اصلاح ما افسده السياسيون العراقيون سواء كانوا من المخضرمين ام من الجدد ؟ ما الذي كسبه العراق والعراقيين من كل هذا الخلل والاضطراب ؟ لماذا ضاع العراقيون اكثر من غيرهم في خضم موجات متكهربة من الايديولوجيات التي استشاطوا لها بشكل لا يقاوم من العنف السياسي المقيت ؟ لماذا ضاعت الهوية الوطنية تحت لافتات وشعارات لا تمت بصلة لا الى الواقع ولا الى المثال ؟ لماذا تركبت تلك الازدواجية وبحر من التناقضات المتصادمة بين الوطنية العراقية والقومية العربية ؟ ولما يزل الكثير من العراقيين يلوكون هذا التناقض بمنتهى القرف من دون ان يعتمد احادية ثابتة في الطرح المسؤول ؟ لماذا قدّم عبد الناصر على زعماء عراقيين آخرين – مع اعتزازنا بمكانة الرئيس عبد الناصر – ومن قبل العراقيين انفسهم فلم يرضوا يوما على زعيم واحد من زعمائهم ؟ لقد كان العراق مسرحا لصراعات الهراطقة السياسيين الذين قولبتهم تنظيماتهم على نمط معين من التفكير ، وجعلتهم لا يتقبلون الا انفسهم من دون سماع آراء الاخرين . وكانوا وما زالوا يقتاتون على نفس ما كانوا يلوكونه منذ عشرات السنين !
هل تنفعنا دروس التاريخ ؟
وكنت اذكر منذ ثلاثين سنة لجملة من اصدقائي المخلصين الذين اثق برجاحة عقولهم او حتى بهوس اذهانهم بأن مشكلة العراق في حكمه !! ولكن توارث الاخطاء السياسية على امتداد القرن العشرين هو الذي انتج ظاهرة تاريخية عراقية صعبة جدا اسمها " صدام حسين " ، فالاخير هو نتاج كل الموبقات التي حصلت في بلاد وادي الرافدين والتي لا يتحمل مسؤوليتها الحكام والدولة والسلطات ، بل يشارك في تحمل المسؤولية التاريخية عموم ابناء الشعب العراقي قاطبة ! هل ينكر الدارسون والباحثون والمؤرخون وكل المثقفين والساسة العراقيين بأن الاربعين سنة الاخيرة من حكم العراق 1963 – 2003 كانت من نصيب فئات معينة من الناس الذين تتوضح بيئاتهم الوسيطة والمعينة على حساب الاكثرية ؟ هل يمكننا ان ننكر الاحصائيات والارقام التي تتضمنها الوثائق الرسمية بأن العراق لم يعرف المواثيق الدستورية ولا تكافؤ الفرص ولا المساواة في الحقوق والواجبات منذ ازمان بعيدة وعلى امتداد عهود العسكريين ! لقد وصل الامر نتيجة تلك الاختناقات التاريخية المريرة ان يقوم عريف في الجيش العراقي ومعه ثلة من الجنود بحركة انقلاب عسكري .. ربما كانوا وطنيين في مقاصدهم ، ولكن مثل هذا الانتاج بمعزل حتى عن الاحزاب انما يعبّر عن افلاس العراق سياسيا على ايدي زعمائه العسكريين الذين لم يعرفوا جميعهم فن ادارة الحكم ، وغدوا مع جملة من معاونيهم وطواقهمم العوبة بايدي سفراء معينين او اهواء نفر معين من متعصبين او سحرة او مجانين او طوائف من القرويين او عناصر من اولاد الشوارع التافهين او اناس شوفينيين قوميين مهوسيين بشعارات وخيالات وطموحات ضباط انقلابيين من اجل السلطة .. كلها انتجت مشكلات العراق السياسية .. وهل لنا ان نسأل ايضا سواء رضي العراقيين عمّا اقول ام لم يرضوا ، اقول : بأي حق يرث الحكم في العراق اخ لأخيه ؟ وما هي الميزات القيادية التي تحّلى بها الرئيس الاسبق عبد الرحمن عارف – مع احترامي لمكانته وشيخوخته اليوم - ؟ ما هي الصفات الكاريزمية لزعيم نصّبوه على حكم العراق وهو يجلس في قصره يعد الساعات نهارا من اجل ان يغادر مكتبه الى بيته عند الساعة الثانية بعد الظهر وهو فرح بذلك كون الدوام قد انتهى ؟ وهل يستطيع الاخ هويدي او اي مثقف سياسي مصري يحمل درجة من العقل ان يقنعني بغايات عبد الناصر في تنصيب عبد الرحمن عارف بعد رحيل اخيه عبد السلام ؟؟ وما سبب اصرار عبد الناصر وجهاز مخابراته على محاولات الانقلاب الناصرية الفاشلة التي كانوا يعدون لها في القاهرة ؟ ولابد لي ان أسأل وربما ستظهر الايام لاحقا بعد سنين عن اسرار مصرع عبد السلام عارف ؟ ومن الذي اخبر عبد الناصر بالخبر ، فكان اول من عرف بذلك ؟ وما معنى وصول عارف عبد الرزاق بغداد بعد مقتل عبد السلام مباشرة وبمثل تلك السرعة من اجل ان يتولى الحكم في ظل غياب الشرعية ؟ هل ثمة وثائق دامغة ومعلومات مؤكدة تجيبني والاخوة العراقيين معي على هكذا تساؤلات خطيرة من اجل معرفة الحقيقة الغائبة ؟
وأخيرا
وأخيرا ادعو كل العراقيين ان يتعلموا كثيرا من تجارب القرن العشرين الساخنة ولابد لهم ان يقارنوا تاريخيا بين طبيعة العهود السياسية التي عاشها العراق في عهدية الملكي والجمهوري بمعزل عن تأثير ما خلفته تلك العهود ، وبمعزل عن اجندة ما انتجته التيارات والاتجاهات السياسية العربية ، وبمعزل عن تأثير التدخلات الخارجية والعربية في الشأن العراقي .. ولابد ان يتعرف اخواننا العرب على ما حدث للعراق المعاصر نتيجة تصادم خصوصياته مع عموميات الاخرين التي لا تستقيم واياها ابدا . والمطلوب ان يبدأ العراق تاريخا جديدا على ضوء الدروس التي تعلمها العراقيون من منتجات القرن العشرين .. ولابد للعراقيين من رجال حكماء يتساموا فوق كل الانتماءات من اجل مستقبل بلادهم الجميلة واجيالهم الجديدة التي اريدها ان تكون بمنأى عن كل امراض القرن العشرين وبقاياه .. ان العراقيين بحاجة ماسة الى ان يعتمدوا على انفسهم بعيدا عن العواطف الساخنة والتمجيدات الزائفة والشعارات السقيمة .. انهم بحاجة الى عقلية واقعية وذهنية براغماتية تتقبل كل التنوعات والتناقضات الداخلية بعيدا عن التطهير العرقي والاستئصال الطائفي والقسر الايديولوجي والقمع السياسي والعاطفة القومية والحكم الفاشي ..
ان الدرس الذي يعلمنا اياه هذا البحث الذي ناقشنا فيه معلومات وافكار وآراء ومواقف في العلاقات العراقية المصرية من خلال محور ذكريات رجل كان له دوره في صميم الاحداث ، انما يمكن توظيفه من اجل المستقبل .. وليعترف كل من كان له دوره في تلك العلاقات غير المتكافئة ولا المتوازنة ولا المحترمة .. بكل موبقات ما جرى فعله تحت يافطة سياسة المد القومي العربي وبعيدا عن اية حبكة اجتماعية من نقاء العروبة التي توارثناها جيلا بعد اخر .. اتمنى ان يكون الدرس التاريخي الذي خرجنا به من تفكيك نصوص امين هويدي قد افاد كثيرا كل المهتمين والباحثين والمؤرخين والسياسيين ..