أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - محمد السكاكي - الحركة الاحتجاجية للمعلمين بالمغرب: -تمخض الجبل فولد فأرا-















المزيد.....



الحركة الاحتجاجية للمعلمين بالمغرب: -تمخض الجبل فولد فأرا-


محمد السكاكي

الحوار المتمدن-العدد: 8153 - 2024 / 11 / 6 - 13:12
المحور: الحركة العمالية والنقابية
    


مقدمات أولية:
• يشكل قطاع التعليم، مجالا فيه مختلف التناقضات المجتمعية، بما هو مجال لإعادة انتاج علاقات الانتاج القائمة، لصالح التحالف الطبقي المسيطر، كرهان أساسي للدولة، ينفلت في الوقت نفسه، من هذه القاعدة بما هو فضاء للتعلم والمعرفة. حيث تنتج السياسة التعليمية نقيضها بنفسها.
• وهذا ما يجعل المدرسة كمجال للتنشئة الاجتماعية، تسعى الدولة من خلالها، تكريس الاستقرار والسيطرة الطبقيين، تتحول إلى مصدر للاحتجاج ومواجهة سياسة الدولة.
• إن المدرسة، بهذا المعنى، ومن حيث هي فضاء للعلم والمعرفة، فإنها تساهم وعي أبناء الطبقات الشعبية من المتعلمين بحقيقة وضعهم الطبقي، وتمكنهم بالتالي من آليات الصراع والمواجهة.
• الحديث عن الوضع المتردي لقطاع التعليم، في شموليته، سواء تعلق الأمر بالمتعلمين او المعلمين، كون الطرفين معا ضحايا السياسة التعليمية القائمة.
• هذا الوضع المتردي على مختلف الأصعدة، هو ما يشكل سبب الانفجارات التي يعرفها القطاع بشكل متواصل، سواء من جهة المعلمين أو المتعلمين الذين تراجع دورهم في العقود الأخيرة.
• الحديث عن وضعية تردي قطاع التعليم، لا ينفي وجود المستفيدين منه، خصوصا وكلاء الرأسمال الإمبريالي المحليين، الذين يحصدون نتائج الأهداف المخطط لها، في تقاطع للمصالح بينهم وبين الدوائر المالية الإمبريالية.
• رغم ما يعرفه قطاع التعليم، من انفجارات وحركات احتجاجية متواصلة، فإنه لم يفرز بعد، حركة نقابية مناضلة قادرة على توحيد صفوف الشغيلة مطلبيا وتنظيميا، ولم يفرز حركة مناضلة قادرة على الانخراط في النضال الجماهيري العام.
• رغم الطابع الكمي لهذه الاحتجاجات، فإنها لم تستطع أن تستثمر نتائجه في حصيلة تراكمية، قادرة على السير بها نحو آفاق أوسع، فبقيت حبيسة عمل حلقي ضيق يطبعه التكرار ويسير نحو الانكماش والتلاشي.
عرف قطاع التعليم خلال الموسم الدراسي 2023-2024، حركة احتجاجية كبيرة من الناحية الكمية سواء من زاوية عدد المنخرطين فيها أو من جهة طول المدة الزمنية، التي استغرقتها هذه الحركة. فرغم كون منطلقها هو التعبير عن رفض نظام أساسي يهم قطاع التعليم¹ طفت على السطح أيضا مختلف المشاكل التي يعاني منها القطاع، التي تراكمت عبر عقود مضت. إذن ماهي الأسباب التي كانت وراء هذه الحركة الاحتجاجية؟ وماهي ايضا حصيلة هذه الحركة؟ وماهي آفاق النضال التي فتحتها أمام الشغيلة التعليمية؟ وماهي بالتالي آثارها على حركة النضال الجماهيري؟ وماهي آثارها على علاقات القوى القائمة؟
انطلقت حركة احتجاجية، في قطاع التعليم خارج التأطير النقابي، وفي تجاوز واضح لكل الإطارات النقابية، التي انخرطت في جلسات حوار على امتداد سنتين، في سرية وتعتيم تامين، بين وزارة التعليم والنقابات التعليمية التي حازت على نسبة معينة من التمثيلية في انتخابات اللجان الثنائية (ممثلي الموظفين !!!) على امتداد هذه المدة أثمرت هذه الحوارات حصيلة كارثية: "نظام أساسي جديد لقطاع التعليم"، أجهز على ما تبقى من مكتسبات الشغيلة التعليمية، سيرا على قاعدة معروفة، بحيث أن كل قانون جديد يهم القطاع لا يحمل إلا تراجعا وهجوما على مكتسبات سابقة. إنه إقرار وتكريس لانتكاسة جديدة، بالنسبة لشغيلة قطاع التعليم، والسبب يعود أساسا إلى كون التشريعات او القوانين ما هي إلا تعبير عن علاقات القوى في لحظة محددة. فكل تشريع أو قانون يكون تعبير عن هذه العلاقات، فإذا كانت الحركة الجماهيرية بصفة عامة وضمنها حركة الشغيلة التعليمية، في موقع يسمح لها بتحصين المكتسبات وانتزاع الحقوق، فإن التشريعات ستعكس هذه الوضعية بالضرورة، وستتضمن حقوق الشغيلة وستضع الآليات القانونية لضمانها، أما حين تختل هذه العلاقة لصالح المخزن، فإنه سيغتنم الفرصة لتصفية المكتسبات السابقة، وتضييق دائرة الحقوق التي تهم الشغيلة. مادامت كل التشريعات تعبيرات عن علاقات القوى في مرحلة معينة، فإنها أيضا غير ثابتة بشكل دائم، وقابلة للتغير باستمرار بتغير هذه العلاقات. ويمكن أن نأخذ مثالا في قطاع التعليم يعود إلى سنة 2011،حين اتسعت مساحة الاحتجاجات التي عرفها المغرب (ما يعرف ب 20 فبراير)،في سياق احتجاجات أقوى على المستوى المغاربي والعربي. فأمام ضغط هذه الأحداث استجابت الدولة لبعض المطالب الجزئية لفئات معينة، وعقدت اتفاقا مع النقابات التعليمية تضمن الاستجابة لبعض المطالب (اتفاق ابريل 2011) لضمان عزل مجموعات الاحتجاج بعضها عن بعض، والتخفيف من حدته لتهدئة الوضع واستعادة المبادرة، للتحكم في زمام الأمور. وهكذا، بعد تراجع قوة هذه الحركة الاحتجاجية وتعقدها على المستوى المغاربي والعربي، وتحولها في بعض البلدان العربية والمغاربية، إلى مواجهات مسلحة غير واضحة الآفاق، بدأت تفقد موجة التعاطف والحماس اللذان حضيت بهما في البداية. وبدأت الدولة تستعيد زمام المبادرة والتحكم في الوضع بشكل كبير، باصطفاف العديد من الأطراف (أحزاب المعارضة البرلمانية، القيادات النقابية البيروقراطية، الصحف والمنابر الإعلامية التي بمختلف انواعها...) وراء المخزن، لأداء مهمة الدفاع عن الوضع القائم، بعد فرز واضح حيث التحق كل طرف بموقعه الطبيعي ليبقى الشعب وحيدا في المعركة، وجها لوجه مع المخزن، وعرضة لمختلف أشكال الدعاية والتضليل، والقمع والترهيب. آنذاك لم تتنكر لكل الاتفاقات، وتتنصل من كل مسؤولية فقط، كمن انحنى لمرور العاصفة لتجنب آثارها، بل تجاوزت ذلك إلى الهجوم على مكتسبات سابقة، على رأسها تصفية قطاع الوظيفة العمومية، وإقرار نظام العمل بالعقدة في قطاع التعليم، كمرحلة أولى، لتعميمه على باقي القطاعات العمومية الأخرى، والهجوم على الصندوق المغربي للتقاعد، برفع سن التقاعد، سواء لحد السن أو النسبي، رفع مبالغ الاشتراكات والاقتطاعات، تخفيض التعويضات. وتفعيل قانون الاقتطاع من أجرة المضربين، بإدراجها للإضراب ضمن "التغيب غير المشروع عن العمل" للموظفين، في أفق تجريمه (غاية مشروع القانون التنظيمي للإضراب).
إذا كان صدور النظام الاساسي، منطلقا لهذه الحركة الاحتجاجية، التي عرفها قطاع التعليم، فإنه لم يعد أن يكون، سببا مباشرا في إشعال فتيل الاحتجاجات بما شكله من انتكاسة جديدة على مستوى مكاسب وحقوق الشغيلة التعليمية؛ لأن وضع قطاع التعليم، راكم من الاخفاقات ما جعله يعرف انفجارات من حين لآخر، منذ بداية الستينيات من القرن الماضي، حيث كانت انتفاضة 23 مارس 1965 أبرزها، بما شكلته من فضح لحقيقة السياسة التعليمية، وما شكلته كذلك من رفض ومواجهة لها في التحام عضوي بين ابناء الطبقات الشعبية من المتعلمين وغير المتعلمين، كما شكلت محطة أخرى عرَّت حقيقة الاستبداد المخزني، بما قوبلت به من أساليب الاعتقال والإعدام الجماعي في شوارع الدار البيضاء، بعد مجزرة إيكوفيون التي استهدفت المقاومة في جنوب المغرب 1958، ومجزرة الريف 1959.
وبذلك يتبين أن الاختلال رافق السياسة التعليمية منذ البدء، إذ تم تفصيلها على مقاس غايات بعيدة عن مصلحة ابناء الفئات الشعبية، من المتعلمين والمعلمين، الذين وجدوا انفسهم في مواجهة متواصلة مع الدولة، بحيث تحولت الساحة التعليمية إلى حلبة لمنازلة الأحلام والاختيارات السياسية، والايديولوجية بعضها البعض، بين السياسة التعليمية كجزء من سياسة المخزن العامة وإحدى واجهاتها الأساسية، وبين طموح ابناء الفئات الشعبية وحلمهم بحقهم في التعليم. وهكذا بدأت تتبلور مواقف وأطروحات متجذرة، ماركسية بالتحديد، دفعت نظام المخزن إلى الاستعانة بقلاع ورموز الفكر الرجعي، فعمل على وضع برامج دراسية تحت الطلب لتطويقها، كلف لإنجازها محترفي الاتجار بالحروف (تكليف علي سامي النشار لإنجاز برنامج تدريس الفلسفة، ضدا على برنامج الوزارة السابق الذي أعده كل من محمد عابد الجابري، مصطفى العمري، احمد السطاتي)، لإنتاجها، كما اضاف مواد وشعب دراسية، دون فائدة علمية، هدفها تفريخ جحافل الفكر الرجعي رغبة في مواجهة المد التقدمي الذي بدأت قاعدته تتسع وسط المؤسسات التعليمية بين المعلمين والمتعلمين، حيث تحولت المدرسة إلى واجهة للصراع الطبقي، على المستوى الايديولجي والمعرفي، وبدأ الالتحام العضوي بين ابناء الفئات الشعبية من المتعلمين، ومختلف الحركات الجماهيرية، معززين في ذلك بما كانت تعج به الساحة الفكرية من أطروحات جديدة، من الادوار الطلائعية التي يمكن تلعبها فئات المهمشين، والشباب وطلاب المدارس، مع هيربرت ماركيور، أو لأثر "نظرية البؤرة"² لريجيس دوبريه، أو "معذبو الأرض"³، لفرانتز فانون.
ومعززين كذلك، بالمخاض السياسي والتنظيمي في صفوف الحركة التقدمية، إذ بدأ صعود فئات جديدة (خاصة الطلاب) لعبت أدوارا طلائعية، في الصراع ضد الرأسمال الإمبريالي وامتداداته الاستعمارية، ووكلائه المحليين، وما بصمت به الساحة السياسية، بشكل عام. من خلال ما يعرف بثورة الطلاب في فرنسا ماي 1968، او القواعد الحمراء في بريطانيا، وغيرها من الحركات المناضلة في صفوف طلاب المدارس، سواء في المغرب او البلدان المغاربية (نموذج تونس ) او العربية، في كل من مصر والعراق، أو أصداء الثورة الثقافية في الصين، أو التحول الجذري الذي عرفته حركة القوميين العرب، نحو الماركسية ،بعد استنفاذ قدرتها على مواجهة الاحتلال الصهيوني(وميلاد الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، الحزب الاشتراكي اليمني، جبهة تحرير ضفار، الجبهة الشعبية البحرينية، منظمة العمل الثوري في لبنان...).
إذا كانت انتفاضة 23 مارس 1965، محاكمة للسياسة التعليمية، فإنها سمحت كذلك بفهم حقيقة السياسة المخزنية وتوجهها الطبقي للمدرسة منذ 1956، رغم كونه غير معلن عنه بشكل رسمي، بالنظر لما عرف ب"المبادئ الأربعة": التعميم، التعريب، التوحيد، المغربة. إن هذه المبادئ لم تعد كونها شعارات عامة ذات شحنة عاطفية تسعى لامتصاص الغضب ومجاراة الشعور العام لدى المغاربة، وحلمهم بتعلم أبناءهم لتهدئة حس المقاومة الذي لم يهدأ بعد.
إذا كان شعار المغربة واضحا، فإن محدوديته ستتضح، عند تعويض بعض الموظفين الأجانب – الذين استمروا في قطاع التعليم مدة طويلة - لا غير. فإن التعريب لم يكن أكثر من شعار ايديولوجي واضح، يبحث المخزن من خلاله عن موارد ثقافية لتحقيق التوازن بين التيارات الفكرية القادمة من أروبا الليبرالية والماركسية على الخصوص، فالحديث عن التعريب هو بحث عن شحنة ايديولوجية إضافية ( اللغة العربية، لقدرتها على الانفتاح على التراث، للاستفادة من مضامينه الماضوية والرجعية) لتقوية مواقع الفكر الرجعي. ولهذا السبب لم يكن توحيد الانماط التعليمية ممكنا، بل كان الإبقاء على التعدد ضروريا، واستمر قطاع التعليم يتوزعه نمط تعليمي عصري من الناحية الشكلية، ونمط تعليمي تقليدي (ما يسمى بالتعليم الأصيل) حضي باهتمام وتشجيع كبيرين. أما مبدأ التعميم، فلم يكن أكثر من محاولة إرضاء الاتجاه العام للشعب الذي طالما حلم بالاستقلال وطالما حلم بحق ابناءه في التعليم، كسبيل للارتقاء في السلم الاجتماعي، الذي اتضح بعده الدعائي والتضليلي منذ البدء، إذ كانت انتفاضة 23 مارس 1965، محاكمة له، وللسياسة التعليمية في شموليتها.
إن هذا الوضع المتوتر باستمرار، والذي يغذيه هجوم المخزن المتواصل على قطاع التعليم، رغبة في تصفيته بما يترجم تعليمات الدوائر المالية الامبريالية (صندوق النقد الدولي، البنك الدولي...) وبما يجيب عن جشع مافيوي خطير للاستثمار في قطاع التعليم، بمنطق السوق وقواعده، وتحويل الحق في التعليم إلى سلعة يتم تسعيرها بما يتجاوز قدرة الفئات الشعبية على الأداء، بشكل يؤدي إلى حرمانهم من حقهم في التعليم، وبما يسمح باستعباد الشغيلة من خلال أشكال التشغيل المذلة⁴ إذ عمل المخزن على البحث باستمرار عن صيغ تصفية التعليم العمومي، تحت شعارات متعددة، تترجم تخريبا مقصودا وممنهحا، يستنزف موارد مالية ضخمة، وينشر ضجيجا كبيرا يغطي الساحة بخطابات تضليلية، لا تزيد الامر إلا تعقيدا. فتطلق جوقة التضليل التي كانت تنتظر إطلاق الفرجة أبواقهأ، وتنطلق معها عبقرية الاستمناء اللغوي التي تجتهد في صياغة وتنميق خطابات حول التعليم، دون أن تملك جرأة على تشخيص أعطابه، كونها اختارت اسهل الطرق، طريق الإشادة والتصفيق المؤدى عنه. فإذا اشار المخزن إلى خلل معين في قطاع التعليم تسبقه إلى مكمن الداء، كمن كان ينتظر إشارة للانطلاق، وإذا أعلن عن "إنجاز" تسبقه في تقديم مزاياه، كما لو كانت هي سببه، رغم انحسار دورها في الإشادة والتصفيق، أو اللوم والتسفيه، حسب الطلب بما يعيد "المثقف" في صيغة "شاعر البلاط"⁵. وهكذا يفتقد قطاع التعليم إلى قراءة وتشخيص موضوعيين، قادرين على كشف أعطابه، واستشراف آفاق الحلول⁶.
إن طبيعة التناقض بين طموحات ابناء الطبقات الشعبية في حقهم في التعليم، وحقهم في الرقي بوضعهم الاجتماعي، وبين المخزن الذي يسعى من خلال المدرسة إلى الترويض، للحفاظ على الوضع القائم وإعادة انتاجه، فيعمل من حين لآخر على فتح مدخل جديد لتصفيته، سواء على مستوى تضييق دائرة الاستفادة من التعليم العمومي بالنسبة للمتعلمين، سواء من خلال حشو من البرامج والمعارف تثقل كاهل المتعلمين دون فائدة، أو من خلال حشر أعداد كبيرة من المتعلمين في فضاءات ضيقة لا تكاد تسع للنصف أحيانا، تنتج عنه وضعيات من الاكتظاظ تؤدي إلى الاختلال والفوضى لاستحالة تأطير المعلمين لأعداد كبيرة في وسط يفتقد لأبسط شروط العمل، إضافة إلى تمييع معايير الانتقال والترقي الدراسي للمتعلم، بحيث يجد المتعلمون انفسهم دائما في نفس المستوى، نتيجة نقل المتعلمين إلى مستويات أعلى دون استحقاق، ما انتج أعطابا واختلالات يراكمها المتعلمون غير قابلة للعلاج، وبما يسمح للمخزن بالإدلاء بلوائح التمدرس للدوائر المالية الإمبريالية⁷ ( البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ) التي تروج لإلزامية التمدرس في حدود التعليم الأساسي ( التعليم الابتدائي والإعدادي) وما ترتب عنه من نتائج يصنف بموجبها المغرب في مؤخرة الترتيب العالمي في قطاع التعليم.
وأمام استفحال هذه الوضعية يتم الاجتهاد في الالتفاف عليها قصد التستر، وليس العلاج، وهكذا ينطلق زعيق "الدعم التربوي"⁸، كإقرار بهذه الوضعية وتكريس لها، وليس حلا لها.
أما من جهة المعلمين، فإن الأمر أسوأ، فطالما راود حلم الالتحاق بالتدريس أغلب ابناء الطبقات الشعبية من المتعلمين، بحكم محدودية الحلم الذي تسمح به وضعيتهم الطبقية، لكن حجم الصدمة لن يكون متوقعا إلا حين يجدون انفسهم في واقع قاسي، بما يفرضه من واجبات، دون توفير أبسط الحقوق، كما يفرض الاشتغال في شروط بمثابة عقاب يومي، تؤدي إلى الامتعاض والنفور. وهنا تضع السياسة التعليمية (تساوي) بين المعلم والمتعلم، من حيث أنها تسعى إلى تخريب القطاع من داخله. حين يكون النفور متقاسما ومتبادلا بين المعلم والمتعلم، فإن النتيجة ستكون واضحة ولا نحتاج لمجهود في التوقع. فوضعيات العديد من فئات الشغيلة التعليمية لا تطاق، من حيث غياب ابسط الشروط، سواء تعلق الأمر بالمرتبات الشهرية مقارنة بمتطلبات الحياة بشكل عام، او بالإجحاف الذي يطال العديد من المعلمين الذين حرموا من حقهم في الترقي وتحسين وضعهم المهني، دون فتح آفاق للتطور والترقي وتحسين الوضعية المهنية للمعلم. او ما يتعلق بعدم الاستقرار الاجتماعي بتعقيد شروط الحركة الانتقالية، لتنضاف مشكلة التشتت الأسري إلى قائمة المشاكل التي يعيشها المعلمون، ناهيك عن ظروف الاشتغال المزرية، حيث تنعدم ابسط شروط الحياة، من سكن ومواصلات و ماء وكهرباء، وربط هاتفي، وغيرها من المرافق الحيوية الاولية (متاجر،أسواق،...) التي تجعل المعلم في مواجهة مشاكل ووضعيات هي نتاج سياسة المخزن العامة، تزيد من استنزاف وإنهاك طاقاته خارج مجال العمل، وهذه الوضعيات تتضح اكثر بالنظر إلى وضعيات معلمي السلك الابتدائي الذين تسند إليهم مستويات متعددة في نفس الحصة الزمنية، بما يبين ان كل معلم يؤدي مهام عدد المعلمين مساوية لعدد مستويات التي يتكلف بتدريسها في حصة واحدة...
وكقاعدة تاريخية، ليست الأزمة هي التي تولد الانفجار، بل الوعي بها، وهكذا رغم قساوة هذه الشروط وخاصة المتعلقة بالجانب المالي، لم تنتج بالضرورة وعيا سليما، لغياب التأطير النقابي المناضل، فأفرزت على الهامش وعيا مشوها، وساهمت في نشر ثقافة الحلول الفردية، التي كانت وراء اتجاه المعلمين للبحث عن مورد إضافي للتغلب على متطلبات الحياة، فتحول قسم كبير إلى أجراء⁹، في وضع حقير في القطاع الخصوصي أغلبهم يشتغل في السوق السوداء، دون ابسط الشروط الاخلاقية او القانونية، وتحول قسم آخر إلى ما يعرف في الدارجة المغربية ب"الشناقة"¹⁰، حيث يستدرجون مجموعات من المتعلمين، ليقدموا لهم دروسا إضافية خارج جميع الضوابط القانونية او الاخلاقية، وفي فضاءات غير ملائمة وغير آمنة، مقابل مبالغ مالية يتم الاتفاق حولها بين الطرفين.
إن وضعية البحث عن الحلول الفردية بهذه الطريقة المذلة كانت من بين الأسباب التي ساهمت في تردي قطاع التعليم، وكانت سببا آخر في إضعاف الوعي بالحقوق والواجبات، والبحث عن الطرق السليمة والصحيحة في تحسين الوضعية المهنية عبر الضغط على الدولة من أجل رفع الاجور، بدل التوجه الحالي. وكانت من الاسباب التي اسهمت في إضعاف الوعي النقابي وقوة وقدرة الشغيلة التعليمية على النضال والدفاع عن مصالحها.
إلا أن حدة الهجوم المخزني المتواصل على قطاع التعليم سيصل به إلى حد الانفجار بشكل عشوائي في إطار مجموعات ضيقة وهشة دون آفاق واضحة، ودون مطالب محددة، ودون وعي سليم بوضعية القطاع، وفي بعض الاشكال الاحتجاجية التي تثير الامتعاض والسخرية ( مسيرة بالأكفان، مسيرة بألبسة تشير إلى الزنزانة...) إذ يتم التركيز على نقطة مطلبية محددة تعني هذه المجموعة أو تلك كأن قطاع التعليم عبارة عن جزر مستقلة بعضها عن بعض دون قدرة على فهم السياسة التعليمية في شموليتها ودون وضعها في سياقها العام كجزء من السياسة المخزنية العامة المؤسسة للنظام القائم. وهكذا أصبح قطاع التعليم في وضعية غليان دون أن يتحول ذلك إلى فعل نضالي واعي، قابل للتراكم وقادر على فتح آفاق جديدة للشغيلة التعليمية، وللحركة الجاهيرية عموما. كون هذه المجموعات والحلقات الضيقة اختارت طريق الانعزال، والانطواء، معتقدة أن حل المشاكل وتحقيق المطالب يكون بعزل مجموعات من الشغيلة بعضها عن بعض، والفصل بينها تنظيميا ومطلبيا، والابتعاد أكثر فأكثر عن كل ما له صلة بنضال الحركة الجماهيرية ومختلف الفئات الشعبية، وقضايا الشعب الأساسية من غلاء الاسعار وتدني الأجور، واستفحال البطالة، والفساد ونهب المال العام...كما لو أن مشكلتهم نزلت عليهم كلعنة من السماء، لوحدهم. ولهذا السبب لا تترك هذه الحركات الاحتجاجية آثارا تذكر، بمجرد أن تنفضّ الجموع. وهذا ما يؤكد القاعدة التاريخية للبرجوازية الصغيرة، وكذا قدرة وآفاق نضال الموظفين. وهكذا وبعد مضي سنة عن هذه الحركة الاحتجاجية، لم نجد لها أثرا ولم تستطع ان تقدم تشخيصا للمسار الذي سارت فيه، ولا قدرة على تقييم هذه التجربة أو حصيلتها، بما يمكن من تطوير حركتها النضالية بالاستفادة من الضجة التي احدثتها، وفتح آفاق أوسع للنضال. غير أن النضال الحلقي الضيق الذي تعتمده هذه المجموعات، لايسمح بذلك، كونه مجرد انفعال لحظي بحدث محدد، تحكمه شحنة عاطفية قد تصعد من حدة الغضب، وقد تهدأ بالاستناد على الاهواء والامزجة، لا على فهم واضح للمشكل في سياقه المجتمعي بشكل عام، ولا على برامج نضالية، واضحة الآفاق، ولا على أشكال تنظيمية قابلة لتوجيه النضال بشكل تراكمي نحو آفاق أوسع للنضال، وقابلة للاستمرار. بل تعتمد على صيغ تنظيمية تتشكل في اللحظة، ومن خلال أسلوب التطوع وحده. في مقابل هذا التخبط العشوائي الذي تعرفه الحركة الاحتجاجية، يسير المخزن وبخطى متكاملة ومضبوطة ومحددة الآفاق نحو تصفية قطاع التعليم العمومي ومن خلاله الوظيفة العمومية. بما يجيب عن متطلبات قطاع التعليم الخصوصي الذي يشغل أغلبية المعلمين في السوق السوداء، وفي شروط من العبودية الجديدة.
إذا كانت بإيجاز هذه، هي الوضعية العامة لقطاع التعليم، والتي أدت إلى الحركة الاحتجاجية المشار إليها، فإنها لم تستطع أن تفرض المطالب التي رفعتها، أو بالأحرى جزء منها، إذ كانت الحصيلة هزيلة، بالنظر لحجم الاحتجاج، ويعود ذلك بالأساس إلى طبيعة مكونات هذه الحركة الاحتجاجية، وطبيعة الفئات المحتجة، كفئات من الموظفين لا تملك وسائل للضغط، تجعل الدولة ملزمة ومكرهة على تلبية المطالب. لأن فك الارتباط بالفئات العمالية وغالبية الجماهير الشعبية يؤدي حتما لهذه النتيجة، سواء من حيث نوعية الوعي الذي يوجهها، أو من حيث التنظيم التي يتكون ويختفي بالسرعة نفسها، أو طبيعة الاشتغال والتعبئة التي تقوم على الرسائل القصيرة (واتساب)، وهذا ما شتت وفكك وحدة الملف المطلبي الذي يمكن ان تلتئِم حوله الشغيلة التعليمية، بحيث كل مجموعة تثير مطالب خاصة أحيانا بشكل متعارض مع مطالب الفئات الأخرى¹¹.
هوامش:
1- النظام الأساسي للتعليم، بمثابة القانون الذي ينظم العلاقة بين الموظفين والوزارة الوصية على القطاع، وهو ما يشكل الاساس المحدد للحقوق والواجبات.
2- الأصداء التي خلفتها الثورة الكوبية التي استندت على "نظرية البؤرة"، والتي واصل مسيرتها ارنيستو تشي غيفارا، في بوليفيا حيث نهايته شهيدا على يد قوات الديكتاتور ريني بارينتوس.
3- "معذبو الأرض"، عنوان لكتاب لفرانتز فانون، استوحاه من الفئات المعمدة من الطبقات الشعبية، وخاصة الفلاحين الفقراء، التي يرى فيها القوة الأكثرة قدرة على التغيير من الطبقة العاملة.
4- قطاع التعليم الخصوصي في المغرب، يعتمد في جزء كبير منه على السوق السوداء، بحيث يشغل الموظفين في القطاع العمومي، الذين لاتربطهم به أية عقود تشغيل.إذ يعتمد طريقة خاصة وفردية مع كل موظف، من حيث عدد ساعات العمل، ومن حيث المبلغ المؤدى مقابلها، دون التصريح به أمام المصالح الأخرى (الضمان الاجتماعي، التغطية الصحية،...).ويعتمد طريقة فردية غير مؤسسية، شبيهة بتلك التي تنتشر وسط العمال المياومين، في الضيعات الفلاحية، أوراش البناء...الخ
5- شاعر البلاط، كان يطلق على أولئك الذين يضعون كلماتهم الشعرية رهن إشارة السلطان، فحولوا الشعر إلى مجرد مدح وحولوا أنفسهم إلى مرتزقة، يحرك أحاسيسهم الشعرية رنين الدينارات.
6- رغم العدد الكبير من النقابات التي تشتغل في قطاع التعليم، فلا تتوفر أي منها على تصور للقطاع، ولا تملك منظورا أو برنامجا بديلا. إنها تكتفي بمناقشة ما تقدمه الوزارة، فتقترح بعض التعديلات التي لا تتجاوز ما يرتبط بوضعية الموظفين فقط، مما يضعها في موقف من الضعف والضبابية باستمرار.
7- تسعى الدوائر المالية الامبريالية للترويج لإلزامية التمدرس، في التعليم الاساسي، ليس رغبة في استفادة ابناء الطبقات الشعبية من حقهم في التعليم، بل لتوسيع قاعدة المستهلكين والزبناء. فالدوائر المالية الامبريالية هي ممثلة مصالح كبريات الشركات العابرة للقارات، التي اصبحت انتاجاتها التقنية تتطلب مستوى دراسيا معينا لاستعمالها واستهلاكها ( التلفاز، الهاتف، الحاسوب، وكل الآلات التي يلزم استعمالها ارشادات تتطلب قراءتها...).
8- الدعم التربوي أكبر أكذوبة، تحولت إلى حقيقة، مع مرور الزمن، واصبحت "حلا سحريا" لكل مشاكل قطاع التعليم. إذا كان الدعم يستند في مبدئه على تجاوز بعض التعثرات عند بعض المتعلمين في عدد محدود من التعلمات والمعارف، فإنه سيتحول إلى مضيعة للوقت ومجرد عبث، حين يكون التعثر عند المتعلم في جميع المواد الدراسية. فأولى بالمتعلم تكرار المستوى الدراسي لإعادة المراجعة والبناء بشكل شامل، يمكنه من تجاوز كل الاختلالات. لكن وبالنظر للكلفة المادية لتكرار المتعلم للمستوى الدراسي بالنسبة للوزارة، تلجأ إلى نقل الجميع إلى مستوى أعلى، غايتها الوحيدة هي لوائح المتمدرسين، وأعدادهم من الناحية الشكلية.
9- تبلغ الانتهازية أوجها، عند بعض موظفي التعليم حيث يضربون عن العمل في القطاع العمومي، في حين يشتغلون أثناء الحصص التي تربطهم بالقطاع الخصوصي.ولذلك لم يتأثر هذا القطاع رغم طول الحركة الاحتجاجية ورغم كون معظم المشتغلين فيه موظفون في القطاع العمومي.
10- الشناقة، حسب التعبير الدارج في المغرب تطلق على بعض المجموعات التي تلعب دور الوساطة في العمليات التجارية، خصوصا في أسواق البهائم، والتي تفتقد لأبسط الشروط الأخلاقية، فتعتمد الكذب، العنف، التحايل...وكل وسيلة تمكنها من الظفر بمبلغ مالي معين، دون الاهتمام بالاضرار التي قد تكون سببا فيها، ولا بالضحايا التي يخلفها ذلك. والفئة المقصودة من المعلمين تشتغل بنفس المنطق، بحيث تعتمد اسلوب اقتناص الضحايا من المتعلمين، التي تلتقي فيها ب: (1) الأسر غير المسؤولة والمستهترة والتي تريد شغل ابنائها أطول مدة ممكنة، للتنصل من الاهتمام بها وبمتطلباتها طيلة اليوم، (2)والمخزن التى رأى فيها، خصوصا اثناء مدة الإضرابات، طريقة تقيه شر احتجاجات أسر المتعلمين، وما قد ينتج عن ذلك من تشعب وتعقد الوضع أكثر، كون العملية تساهم في استدراك الفرص التي قد تفوت المتعلمين اثناء إضراب المعلمين.
11- بدأ ينتشر هذا "الوعي" متجاوزا الأفراد، واخذ يشكل رؤية مجموعات منظمة في حلقات ضيقة، التي تناضل ضد مساواتها بالفئات الاخرى، نموذج ما يسمى بالمتصرفين التربويين.



#محمد_السكاكي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تنسيقيات التعليم: إطارات للنضال،أم إسهام في تصفية تقاليد الن ...
- الحركة النقابية بالمغرب و-نضال التنسيقيات-: مسار التراجع وال ...
- الحركة النقابية بالمغرب: واقع الإخفاق،أسبابه،نتائجه ومقترحات ...
- الجبهة الشعبية والنضال تحت راية الطبقة العاملة


المزيد.....




- سجل ومتفوتش الفرصة.. خطوات التسجيل في منحة البطالة في الجزائ ...
- اضغط على minha.anem.dz.. وجدد منحة البطالة الجزائرية وأهم شر ...
- ” وكالة التشغيل الوطنية ” منحة البطالة في الجزائر 2024 بسهول ...
- كم اصبحت الآن؟!! تعديل ساعات العمل في الجزائر 2024 وزارة الم ...
- صابر يبحث سبل التعاون مع شركة ابيسكو وعرض متطلبات العاملين
- استغل الفرصة .. شروط التسجيل في منحة البطالة بالجزائر 2024 و ...
- مصادر الاحتلال: تظاهرات في -تل ابيب- ومستوطنات ومدن اخرى احت ...
- الحكومة العراقية: خبر مفرح للمواطنين العراقيين وخصوصا العمال ...
- WFTU Solidarity Statement with the indefinite strike of the ...
- The WFTU supports the struggle of chemical workers in France ...


المزيد.....

- الفصل السادس: من عالم لآخر - من كتاب “الذاكرة المصادرة، محنة ... / ماري سيغارا
- الفصل الرابع: الفانوس السحري - من كتاب “الذاكرة المصادرة، مح ... / ماري سيغارا
- التجربة السياسية للجان العمالية في المناطق الصناعية ببيروت ( ... / روسانا توفارو
- تاريخ الحركة النّقابيّة التّونسيّة تاريخ أزمات / جيلاني الهمامي
- دليل العمل النقابي / مارية شرف
- الحركة النقابيّة التونسيّة وثورة 14 جانفي 2011 تجربة «اللّقا ... / خميس بن محمد عرفاوي
- مجلة التحالف - العدد الثالث- عدد تذكاري بمناسبة عيد العمال / حزب التحالف الشعبي الاشتراكي
- نقابات تحمي عمالها ونقابات تحتمي بحكوماتها / جهاد عقل
- نظرية الطبقة في عصرنا / دلير زنكنة
- ماذا يختار العمال وباقي الأجراء وسائر الكادحين؟ / محمد الحنفي


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الحركة العمالية والنقابية - محمد السكاكي - الحركة الاحتجاجية للمعلمين بالمغرب: -تمخض الجبل فولد فأرا-