|
التونسيون والقضية الفلسطينية: ما سرّ هذا التراجع؟
علي الجلولي
الحوار المتمدن-العدد: 8152 - 2024 / 11 / 5 - 11:19
المحور:
القضية الفلسطينية
قد لا نجانب الصواب ولن نكون متعصبين لهويتنا الوطنية التونسية حين نقول أن علاقة الشعب التونسي بفلسطين هي علاقة أقرب إلى الخصوصية الاستثنائية التي استقرت في وجدان الشعب التونسي وتقاليده، ففي ذروة لا مبالاته تحركه القضية الفلسطينية وتوحد صفوفه وتلهب حماسه، ففي النقابات والجمعيات والأحزاب وحدها اللائحة التي تمر بالإجماع هي لائحة فلسطين أو بلغة أدق لائحة الصراع العربي الصهيوني. وتعود جذور العلاقة إلى انتفاضة 36/1939 وحرب 1948 حين التحق مآت التونسيين بأرض المعركة مشيا على الأقدام بعد أن باعت النساء حليّهن لشراء السلاح وتأمين السفر. وللتونسيين (والمغاربة عموما) علاقة أقدم بفلسطين والقدس التي كان لهم فيها باب (باب المغاربة)، وهو باب من قرر الإقامة الدائمة هناك. وطيلة عقود التحقت أعداد كبيرة من الشباب الثائر بفصائل العمل الفدائي المختلفة وزفوا الشهداء، و لم يتأخر الشارع التونسي عن الإيفاء بالتزاماته تجاه شقيقه الفلسطيني، لكن الجميع لاحظ هذه المرة تراجعا رهيبا في أداء ميدان من أنشط ميادين الإسناد لفلسطين شعبا وقضية. فإلى ماذا يعزى هذا التراجع في هذا الوقت بالذات؟ ـ الجرائم الصهيونية تتصاعد والإسناد الشعبي يتراجع لا شك أن الطور الحالي من العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني يعد الأفظع والأشرس والأكثر وحشية رغم كون الاحتلال الصهيوني بنى مشروعه ودولته على الإجرام والإرهاب المنظم والممنهج. فحرب الإبادة تستمر منذ أكثر من عام، وهي تجري على الأثير وأمام أنظار العالم الذي تحرك جزء مهمّ منه خاصة في العواصم الغربية التي تحرك أحرارها رغم حجم الهجوم القمعي الذي طالهم واستهدف مربعات الحرية المثبتة قانونا وواقعا. ورغم ذلك فرضت حركة التضامن مساحات مهمة للتحرك في الشارع والجامعات، لكن حركة الإسناد وعلى خلاف العادة ظلت محدودة وضعيفة وباهتة على طول الشارع العربي، بل أن شوارع عتيدة لم تتحرك إلا لماما مثل الشارع الجزائري والمصري والليبي، أما الشارع التونسي والعراقي وحتى اللبناني (قبل العدوان أساسا) فلم يكن في الموعد وظل وهجه وحماسه فاترا وباردا، ففي الوقت الذي نجد فيه الأعذار للشارع السوداني الذي تدمره قوى الثورة المضادة المتصارعة والتي تستغل الأوضاع الفلسطينية لمزيد الإجرام والإرهاب وتشريد الشعب وتجويعه، وفي الوقت الذي يتحرك الشارع اليمني باعتباره شارع الدولة المنخرطة في جبهة إسناد المقاومة فان شارعنا التونسي ظل دون المأمول رغم أهمية بعض الأنشطة المساندة التي نظمتها الجماهير الشعبية أو القوى السياسية والنقابية والمدنية التقدمية. ـ الشارع التونسي أخلف الموعد هذه المرة. تستقر لدينا ولدى العديد في تونس قناعة عميقة أن شارعنا لم يكن كعادته وأنه فقد بريقه المتوهج الذي عرف به خاصة في مساندة القضايا العادلة وعلى رأسها القضية الفلسطينية. لقد خرجت آلاف المسيرات في مختلف المدن والقوى التونسية لكنها فقدت زحمها ولم يتجاوز المشاركين فيها في بعض الحالات بضعة أنفار هم في الغالب من المناضلين والنشطاء. فرغم هول الصور التي تنقلها الشاشات إلا أن رد فعل الجمهور الواسع ظل خافتا وفي الغالب منعدما مما سرب اليأس والإحباط لبعض النشطاء والحركيين. ففي الوقت الذي يتحرك المساندون في عواصم العالم بأعداد واسعة طل التحرك عندنا محدودا وفي حالات عديدة رمزيا رغم بشاعة الأوضاع في الميدان ورغم استمرار حرب الإبادة لأكثر من عام يوما بيوم وساعة بساعة، وهاهي الحرب تتوسع إلى لبنان وتطال الاعتداءات الصهيونية اليمن وإيران، لكن شارعنا ظل محدود التفاعل وكأنما يجري لا يجري في فلسطين الحبيبة بما تحملها من رمزيات ظلت حاضرة لا عند الشعوب العربية فحسب بل عند كل حرائر العالم وأحراره. وبقطع النظر عن الشعور بالإخلال الذي يحسه مناضلو تونس ومناضلاتها، فان تراجع منسوب الإسناد يجد تفسيره في الواقع الحسي للجماهير التي تعيش حالة من الإحباط المتواصل منذ فشل الموجة الثورية الأولى والثانية التي مست عديد البلدان العربية انطلاقا من تونس ومصر وصولا إلى السودان والجزائر مرورا بسوريا واليمن وليبيا ولبنان والعراق والتي كانت نتيجتها الفشل الذريع للثورات والانتفاضات وتمزق المجتمعات على خلفية مذهبية وطائفية، وتصاعد مظاهر الهيمنة والنفوذ الخارجي والإقليمي، فلم تحقق هذه السيرورة الثورية أيا من أهدافها في الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. فرغم العطاء الثوري الكبير والزخم الاحتجاجي الذي عبرت عنه التحركات المليونية العارمة التي أكدت جدارة شعوبنا بأن تفتك حقوقها،إلا أن الحصيلة كانت مدمرة بفعل ضعف القوى الثورية والتقدمية مما سهل عملية السطو التي قامت بها قوى رجعية محلية وإقليمية ودولية، وتحولت الانتفاضات إلى أداة للتدخل والتفكيك ونشر الإرهاب التكفيري وعادت أنظمة العمالة أكثر عنجهية وصار المواطن العربي يتأسف على حسني مبارك والقذافي و عبدالله صالح...، و قد توفقت الأنظمة العميلة بوسائل التدجين والتعمية الإيديولوجية والاتصالية التي تمتلكها من ضرب النزوع للتحرر وتم تسريب فكرة استقرت في جزء من القلوب والعقول وهي أنه ليس بالإمكان التغيير، وأن قدر العرب أن يكونوا في مؤخرة ترتيب بلدان العالم وشعوبه على كل الأصعدة. و بطبيعة الحال فان الثمن كان باهظا فالأنظمة زاد صلفها والشعوب تضاعف خضوعها وازداد بؤسها المادي والمعنوي وتكاد تتبخر عديد الحقوق السياسية والاجتماعية التي عُمدت بالتضحيات لعقود متتالية بفضل الأحزاب والنقابات والقوى المدنية التقدمية. إن ما تعيشه المجتمعات العربية من انتكاس وتراجع يشكل اليوم الحاضنة المادية لاتساع منطق الخنوع والخضوع واللامبالاة، فالجماهير العربية لا يحركها الوضع الفلسطيني كما لا تحركها أوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تشهد الانحدار. وتعيش الحركة الثورية العربية أصعب أوضاعها في العقود الأخيرة ويتجلى ذل غي تراجع الحركة النقابية والسياسية والفكرية والشبابية والنسائية التقدمية، و الحركة تتأثر بتراجع واقع الحريات وتدهور حالة الوعي والصعود الكبير للنزعات المذهبية والطائفية الظلامية والرجعية سواء بمناسبة وصول الحركات الاخوانية للحكم السياسية منها (مصر،تونس،ليبيا،المغرب..) أو الإرهابية (سوريا،العراق..)، بمناسبة سقوطها وإسقاطها وبمناسبة العودة القوية للقبضة الأمنية في عديد الأقطار ونجاحها في فرض المقايضة الاستبدادية التقليدية التي ظلت تحكم بواسطتها لعقود متتالية: الأمن مقابل الحرية. إن مجمل هذه الأوضاع عززت ذهنية اللامبالاة بما في ذلك في الشارع التونسي الذي راكم طوال أكثر من قرن تجربة محترمة في النضال المنظم والتقاليد المدنية والاجتماعية ذات المضمون الديمقراطي التقدمي والذي حاز فيه إسناد فلسطين والقضايا العربية والإنسانية العادلة ردحا مهما. ان تقاليد شعبنا تتراجع اليوم وقد لعبت الشعبويّة التي سطت على مجمل منظومة الحكم منذ ثلاثة سنوات دورا في تعميق هذا التدهور، ورغم فطنة لفيف هام من القوى التقدمية والشعبية بمغالطة نظام الحكم حول مساندته للقضية الفلسطينية ورفضه للتطبيع مع العدو الصهيوني وذلك بالوقائع المادية الملموسة مثل رفض سن قانون لتجريم التطبيع، فان ردود الفعل ظلت على العموم محدودة وضعيفة ودون ما تتطلبه التطورات في المنطقة التي لا تهم فلسطين ولبنان فحسب، بل تهم مجمل المنطقة اقتصاديا وسياسيا وأمنيا ضمن رؤية الامبريالية وصراعاتها من أجل مزيد وضع اليد على مقدرات المنطقة . ـ الشعب الفلسطيني ومقاومته يستنهضان شعوب المنطقة إن النهوض البطولي للمقاومة في فلسطين هو بصدد إعلاء معنويات الثوريين والتقدميين في العالم، فبإمكانيات بسيطة جدا وعللا رقعة محدودة جدا قدرت المقاومة على الصمود البطولي طيلة أمثر من عام لم تتوقف فيها صواريخ المقاومة من رفح جنوبا إلى بيت لاهيا شمالا، وهو درس في الصمود والمقاومة والقدرة الجبارة على الوقوف إلى آخر رمق. انه أولى وأحرى أن ينعكس ذلك على معنويات الشعوب وقواها الوطنية والتقدمية حتى تنهض للاضطلاع بمهماتها في النضال على مختلف الأوجه والأصعدة وفي مقدمة ذلك النضال ضد أنظمة العمالة والاستبداد والاستغلال. لقد أكد القائد جورج حبش منذ عقود أن أفضل ما تقدمه الشعوب العربية لفلسطين هو أن تتحرر من أنظمتها التابعة، وهو درس لا زال يحافظ على راهنيته. إن واقع الحال اليوم أن شعب فلسطين ومقاومته هو الذي يحررنا من الخوف والإحباط ويدعونا إلى النهوض من جديد من أجل تحرر بلداننا وانعتاق شعوبنا بما في ذلك تحرر فلسطين وانتصارها على الاحتلال النازي.
#علي_الجلولي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في الذكرى الأولى لطوفان الأقصى: بعض الدروس وبعض العبر
-
فلسطين ولبنان في قلب معركة العالم ضد الهمجية والعربدة.
-
على هامش العودة المدرسية والجامعية: أوضاع التربية و التعليم
...
-
خالدة جرار أيقونة فلسطينية واقفة رغم ضيق التنفس.
-
في حوار شامل مع -صوت الشعب-: الصحفي المقدسي -راسم عبيدات- يق
...
-
محمد الغول من قلب النار، من غزة: من وسط الألم يصنع الفلسطيني
...
-
حوار مع الرفيق فهد سليمان،الأمين العام للجبهة الديمقراطية لت
...
-
حوار مع الرفيق ماهر الطاهر،القيادي بالجبهة الشعبية لتحرير فل
...
-
القضية الفلسطينية في منعرج جديد: هل تتحرك شعوبنا لإسناد الان
...
-
النتائج النهائية للباكلوريا: تواصل نفس العوائق الهيكلية للمن
...
-
مشكل الماء في تونس: الشعب التونسي يعطش
-
الشعب البوليفي يحبط محاولة انقلابية
-
حوار مع الرفيق فتحي فضل الناطق الرسمي باسم الحزب الشيوعي الس
...
-
الأنظمة العربية وفلسطين: الحقيقة عن التواطؤ واللامبالاة.
-
بعد 110 يوما من حرب الإبادة: العدو ينهزم، المقاومة تنتصر.
-
تجريم التطبيع بين شعبية المطلب وشعبوية التعاطي.
-
المقاطعة كسلاح فعّال في النضال التحرري.
-
في الذكرى 13 للثورة التونسية : أفكار حول الثورة والمسار الثو
...
-
عام مضى وعام أتى وحال التونسيين يزداد تدهورا
-
التطورات في النيجر و جنوب الصحراء: شعوب إفريقيا بين واقع الا
...
المزيد.....
-
مباشرة بالأرقام.. عدد أصوات ترامب مقابل هاريس في الانتخابات
...
-
كيم كارداشيان تستعرض قلادة شهيرة للأميرة ديانا أمام الجمهور
...
-
مشكلة بالتوقيعات على 11 ألف بطاقة اقتراع بولاية أمريكية.. ما
...
-
-ديلي ميل-: واشنطن ستختبر مباشرة بعد الانتخابات صاروخا نوويا
...
-
توقعات المراهنين والإعلام بفوز ترامب تبلغ 90%
-
-رويترز-: أول عضو من المتحولين جنسيا علنا قد يظهر بمجلس الشي
...
-
-كلاشينكوف- تنهي اختبارات رشاشها الجديد
-
طبيب يؤكد على أهمية تناول الزبيب بانتظام
-
بـ 54 صوتا في المجمّع الانتخابي.. هاريس تفوز بكاليفورنيا في
...
-
كارولينا الشمالية أول ولاية متأرجحة.. تحسم النتيجة لصالح ترا
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|