|
عن الطوفان وأشياء أخرى (20)
محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8151 - 2024 / 11 / 4 - 04:47
المحور:
القضية الفلسطينية
-دولة الاستثناء إسرائيل "دولة استثناء".. فهي استثناء بكل شيء، حتى في اعتبار ممارسة الإذلال المادي والنفسي للفلسطينيين، الذي بات يمثل جزءً من وجودهم اليومي، نظراً لأن العقل الإسرائيلي يراهم يقعون في بؤرة غير مرغوب فيها، أو في وجودها، أو حتى النظر إليها ونحوها، ويتم إظهارهم للرأي العام العالمي على أنهم أقل من مستوى البشر، وحوش، إرهابيين، غير عقلانيين وشياطين وكفار. ويتضح تعيين محددات الفلسطيني ضمن منطق "الإنسان العاجز" في تقارير وسائل الإعلام الغربية العاملة في الأراضي المحتلة، فتوصف المقاومة هناك على أنها دليل بأن الجيش الإسرائيلي يتعامل مع إرهابيين، فيتم تجريمها، أي المقاومة، إذا ما حاولت الدفاع عن نفسها، وبتعميم صفة الإرهاب على الفلسطينيين توظف هذه الصفة لخلق شعور محبط لهم في سعيهم للسلام مع إسرائيل، وإحباط توجهاتهم السياسية كفاعلين عقلانيين واعين في أي مفاوضات سلام "جادة ومتوازنة" حسب زعمهم ، أي الإعلام الغربي المنحاز، وتمضي الحجة لتقول بالقول بأن إسرائيل "تحتاج إلى شريك حقيقي للسلام"، الأمر الذي يتطلب من الفلسطينيين أن يعيدوا على الدوام التصريح بنبذ "هويتهم" (كإرهابيين). ووفقاً لها المنطق الملتوي، يقوم الجيش الإسرائيلي "في سياق انخراطه في مهمته الحضارية" حسب تعبير إيهود باراك "بمساعدة الفلسطينيين للتغلب على أنفسهم من خلال اغتيال أو اعتقال قادتهم؛ وعلى الفلسطينيين استيعاب أن هذا الأمر لصالحهم والقبول ببعض "الأضرار الجانبية" التي قد تنجم من جراء ذلك. وهذا يعني منح إسرائيل الضوء الأخضر لممارسة ما لا يخطر على بال من عقد وأمراض نفسية سيكوباتية ونرجسية تحت عناوين مختلفة، فتقوم بتطبيق منهجي لآليات المسؤولية الجماعية والعقاب، وتدمير البيوت. وبهذا يكون بمقدور من يؤيد إسرائيل أن يطالبنا برؤية إسرائيل كـ "دولة طبيعية" وسوية وديمقراطية لكنها محاطة بأعضاء متعصبين وعدوانيين حتى لو كانوا أطفالاً. -تبرير العجز في واقع غير مرغوب فيه لنتفق، منذ البداية، على أن إسرائيل لا تتقيد، عند تنفيذ استراتيجياتها الأمنية العدوانية، بما يدور حولها من أحداث. فالعقل الأمني الصهيوني، الذي هو بحكم طبيعته التي تراهن على المؤقت، لا يمكنه تأخير أو تأجيل خططه، لذلك هو غير معني -عملياً- بانتظار نتائج مفاوضات قد تطول عقوداً أو مشاريع تطبيع قد تتعثر بين الحين والآخر، أو غيرها من أجندات محلية أو إقليمية أو دولية. إثر كل عدوان على غزة أو الضفة، وقبلهما على لبنان، كانت تبرز أصوات تقول إن هذه الحرب إنما تعود لأسباب انتخابية داخلية، تتعلق بالصراع بين "الأجنحة اليمينية" في الجسد السياسي الإسرائيلي، وغير ذلك من المظاهر التي قد تقدم قراءة لما يحدث، لكنها لا تقدم توصيفاً واقعياً لما يجري، الآن وهنا. في كل مرة يهاجم فيها الجيش الإسرائيلي وأذرعه الأمنية مناطق فلسطينية، يقوم العدو قبل ذلك بعملية تمويه هائلة سواء لجهة "بنك الأهداف المركزية (في العدوان الحالي كانت عودة "المخطوفين" و"تدمير قدرات حماس العسكرية") أو لجهة "مدة ونطاق العدوان (تحديد زمن بدء وانتهاء العمليات العسكرية والوسيط المفاوض) ". في الحقيقة غالباً ما تنجح هذه التكتيك. لذلك تتحرك الأجهزة الأمنية مع تحركات الجيش، عبر تجنيد طابور إعلامي وصحفي هائل مع دفق مربك من المعلومات المضللة، بل والمتناقضة، وحتى هذه فهي تخضع لتوجيهات الحكومة -"تطبيع" المجازر لا ينتظر الفلسطينيون أن تمطر السماء ذهباً ولا فضة ليشتروا به أو بها سمكاً ببحر كما يقال.. لا تلههم عبارات من نوع قيام مملكة الرب إزراييل أو زوالها ولو في آخر يوم من هذا الكون.. وما الفائدة من زوالها آنذاك! يبدو الواقع، في أحيان كثيرة، أعند من أي طموح.. وفي لحظة ما، يكون كلّ ما نقوم به في هذه الحياة غير مهم، لكن من المؤكد، في المقابل، أنه من المهم القيام به؛ فإذا كان النجاح هو القدرة على الانتقال من فشل إلى آخر دون فقدان الحماس، فما هو مزعج في الأمر -على عاتق الأخ بول ريكور- أن يخوض الناس، فيما بينهم، صراعاً ليس صراعهم وأن ينخرطوا في حروب ليست حروبهم؛ والأخطر في كل هذا، نسيان مشاكلهم وتحولهم إلى حيوانات سياسية مدجنة. ومن المقبول القول إن الوهم لا يولد باعتباره حالة مرضية خارجية، بل ينشأ من الداخل، ينخر مثل قطرات ماء على صخرة، ينمو ببطء حتى يصبح جزء منا فـ " نعتاد " عليه، ونفقد القدرة على تمييزه عن الواقع، ونخلط بينه وبين ما هو "حس سليم"، وحين يتحول، أي الوهم، إلى سرساب، ينشب مخالبه فينا، ويسكننا، فيصبح الدفاع عن الغلط بطولة وتضحية وطنية وحرية ونجبر أنفسنا على استمراء الخطأ، فلا نراه خطأ بسبب من بناء استراتيجيتنا الدفاعية الداخلية عليه. ومن نافل القول التأكيد على أن الإنسان مهما كان مخطئاً لن يصف سلوكه بالخطأ؛ بل قد يقول ببساطة إن أحداً لا يفهمه. -لحظة الحقيقة تشن إسرائيل هجوماً عشوائياً على غزة وتقصفها بطريقة غير مسبوقة، ويتحضر جيشها لغزو بري؛ وقد تحولت المستشفيات والمراكز الطبية وسيارات الإسعاف والمدارس والمباني السكنية والمكاتب والمساجد والكنائس ومخيمات اللاجئين إلى أنقاض. وإلى جانب هذا يوجه السكان وضعاً إنسانياً صعباً يتمثل في الانقطاع التام للكهرباء ومياه الشرب والوقود والاتصالات ونفض حاد في المواد الغذائية فضلاً عن تدهور الخدمات الصحية. لقد قتلت إسرائيل (حتى اللحظة) أكثر من 45 ألف فلسطيني شخص معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ وأكثر من 100 ألف مصاب. وهذه الأرقام مرشحة للارتفاع مع تقدم الحرب، فضلاً عن تدمير أحياء سكنية بأكملها. تحولت غزة، في أعقاب تأسيس إسرائيل في العام 1948، إلى مخيم جماعي للاجئين، حيث تم طرد أكثر من 700000 فلسطيني في عملية تطهير عرقي على يد العصابات الصهيونية. وتعرض هذا الشريط الساحلي إلى عدة اعتداءات إسرائيلية قبل أن تحتله إسرائيل في حرب العام 1967، ليتحول إلى ما يشبه سجناً مفتوحاً. ورغم انسحاب إسرائيل تقنياً من قطاع غزة في منتصف العقد الأول من القرن الحالي، إلا أنها ما زالت تمارس سيطرتها عليه، بما في ذلك حصارها الوحشي لحدود القطاع من الجهات الأربع كافة، وتقييد حركة السكان والتقنين الشديد لدخول الأغذية والمياه والأدوية والكهرباء وغيرها من ضروريات المعيش اليومي، بما يمكن وصفه بوضوح ودون مواربة بالفصل العنصري (الأبارتيد)، والعقاب الجماعي للمدنيين ومطالبتهم بمغادرة بيوتهم في الحال، وإلا سوف يكونون هدفاً مشروعاً لعمليات الجيش الإسرائيلي. لقد أمر الجيش الإسرائيلي، بالفعل، أكثر من مليون فلسطيني بمغادرة الجزء الشمالي من غزة. حيث عليهم مواجهة خيارات مستحيلة تقريباً، فليس هناك ما يضمن أنهم سيكونون بأمان في أي مكان آخر، وليس هناك ما يضمن السماح لهم بالعودة إلى بيوتهم، هذا إذا بقيت منازلهم قائمة بالفعل منذ سنوات يعاني سكان قطاع غزة من حصار إسرائيلي ودولي شبه تام بري وبحري وجوي يقيدهم ويمنع حركتهم ووصولهم إلى احتياجاتهم الرئيسة. معاناة سكان قطاع غزة ليست مجرد أرقام وإحصائيات، بل هي قصص حقيقية لأشخاص حقيقيين.. أفراد وعائلات لهم الحق في الحياة بكرامة مثل بقية البشر على وجه الأرض. -كلما طال الانتظار، أصبح الوضع أصعب تثبت الحالة الفلسطينية على عدم قدرة القيادة لحالية -إذا اعتبرناها صلعنبي لاعب سياسي- التعاطي مع السياسات والوقائع التي تفرضها إسرائيل سواء حرب أم وصفات تهدئة، والجدل الدائر الآن فلسطينيا يشير إلى تعدد الرؤى والبرامج الوطنية. ومن الواضح أنه لم يعد هناك إجماعاً على أي رؤية أو برنامج ابتداءً من تعريف العدو؛ وانتهاءً بتعريف الوطن. لقد شوه الاحتلال مقومات الشعب ليس فقط في الداخل بل أيضاً في الخارج، وهي حالة تتساوق مع المحيط، فالعديد بدّل استراتيجياته: وهناك من صار "الإرهاب" عدوه الأول، وهناك من يرى عدوه في الداخل؛ كما يحلو للبعض اجتراح عدواً يعطيه اسماً صحفياً تسويقياً مثل "القوس الشيعي" أو "التطرف السني" أو "الإرهاب الجهادي"... أو غيره. وهناك من يتجاوز كل ذلك بطريقة عصابية، ويعتبر جميع جيرانه أعداء له، والبعض ما زال يعيش بعقدة الأخ الأكبر.. وهناك من يتفق مع "هرتلة" أبو يائير الإشكنازي من مخاطر النووي الإيراني. تتبدل الاستراتيجيات بتبدل الثوابت والصيغ والإملاءات. وما يوجد وراء الخط "الأخضر" -أو الأحمر أو أيا كان لونه- ليست دولة فلسطينية (دولة فلسطين كتسمية شائعة)، بل شيء آخر، يمكن تسميته أي شيء.. أي شيء فعلاً، إلا "دولة".. يعني ربما هو "حيز" يخضع لقانون "الأواني/ اقرأها الأدوات/ المستطرقة الإسرائيلية"، أو ربما يمكن تسميته، بنوع من التفاؤل الحذر، امتلاء مجتمعي مثل أي امتلاء آخر يمكن مشاهدته في سلوك كائنات الناشيونال جيوغرافيك.. بمعنى أنه يتحرك ذاتيا بدوافع من طبيعته وليس بدوافع عالية الابتكار، وحتى هذا الحيز، وذلك الامتلاء، يخضع للإرادة الإسرائيلية مثلما عبّر عن ذلك شلومو ساند ذات مرة حين وصف مشاركة الفلسطينيين في الانتخابات الإسرائيلية: "وضعية العربي في إسرائيل تختلف عن وضعية السود في أمريكا، وعن وضعية "السكوتي" في بريطانيا واليهودي في فرنسا. الدولة التي ولد وعاش فيها العربي تابعة للآخر اليهودي. أمريكا لا تعرف نفسها بصفتها دولة البيض بالضبط كما لا تعرف نفسها بريطانيا دولة الأنغليكان البريطانيين أو فرنسا دولة الكاثوليك اللاتين. بينما نرى "الديمقراطية اليهودية" في إسرائيل توزع للعرب أوراق اللعبة ولكنها خططت وتخطط أن لا يفوزون بها أبداً.".. عملاً بمبدأ أن الأهم في الديمقراطية ليس الانتخاب بل تبادل الأنخاب.
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
علم الآثار الكتابي في إسرائيل: حين يغمّس -إسرائيل فنكلشتين-
...
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (19)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (18)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (17)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (16)
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
-
عن الطوفان وأشياء أخرى( 15)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (14)
-
عن الطوفان واشياء أخرى (12)
-
عن الطوفان واشياء أخرى (13)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (11)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (10)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (9)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (8)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى(7)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى(6)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (5)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (4)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى(3)
-
دور حدّادي أفريقيا و-صنع- الثورة الصناعية في أوروبا
المزيد.....
-
الولايات المتحدة تعلن إحباط عمل إرهابي ضد محطة طاقة
-
روسيا تندد بفوز مايا ساندو برئاسة مولدوفا
-
الداعية بلال الزهيري: ترامب الوحيد الذي استمع لمطالبنا كمسلم
...
-
السيسي يستقبل البرهان في القاهرة
-
وول ستريت جورنال: روسيا تشحن أجهزة حارقة إلى الدول الغربية
-
الجيش الأميركي يعلن مقتل أحد جنوده متأثرا بإصابته في حادث بغ
...
-
الخطوط الجوية الفرنسية تعلق رحلاتها فوق البحر الأحمر بسبب جس
...
-
وزير الخارجية البولندي: مسألة توسيع الدفاع الجوي في سماء أوك
...
-
السلطات الأمريكية تشدد الإجراءات الأمنية حول مقر إقامة هاريس
...
-
رئيس نيجيريا يأمر بالإفراج عن القاصرين المتهمين بـ-الخيانة ا
...
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|