سلسلة العمليات الدموية الاخيرة التي افشلت مساعي الرئيس الامريكي، جورج بوش، لتنفيذ خريطة الطريق، لم تفاجئ احدا سوى الرئيس نفسه. وقد عبر بوش في 10 حزيران عن غضبه ازاء محاولة اسرائيل اغتيال عبد العزيز الرنتيسي، من ابرز القادة السياسيين لحماس، ثم في اليوم التالي عاد ليصب غضبه على الجانب الفلسطيني بعد العملية الانتحارية الفلسطينية بالقدس. ونقل الصحافي ستيفان وايسمان من النيويورك تايمز (13 حزيران): "ان الادارة الامريكية عبرت عن احباطها من الزعماء العرب الذين لم يفوا بالتزاماتهم في شرم الشيخ الاسبوع الماضي، في شأن الوصول لاتفاق سلام من خلال وقف المساعدات للمجموعات الفلسطينية المسؤولة عن تنفيذ عمليات عنيفة ضد اسرائيليين".
ويبدو ان بوش هو الخاسر الاكبر من التحاق خريطة الطريق باخواتها، من المبادرات التي فشلت في حل النزاع الشرق اوسطي العريق. كما يبدو لم تسعفه سلسلة الاحتفالات في اوروبا التي حاول من خلالها الظهور بمظهر الزعيم الاوحد والمنتصر الكبير بعد حرب العراق. ادخال قدمه للمرة الاولى منذ انتخابه، الى منطقة الشرق الاوسط الملتهبة، لم تقابَل بمشاعر الهيبة والرهبة التي توقعها بعد انتصاره العظيم، والدليل العمليات التي انفجرت في وجهه. ما الذي دار في خلد الرئيس عندما حاول فرض خريطة الطريق على الفلسطينيين والاسرائيليين وعلى العرب، علما ان هؤلاء ابدوا من البداية عدم تحمسهم لها وعدم ثقتهم بنوايا بعضهم البعض.
والواقع ان هذا التحرك لم ينبع من اهتمام بوش بمصير فلسطين، بل من حاجته الملحة الى تحقيق مكاسب سياسية. وتشتد هذه الحاجة على ضوء اهتزاز مصداقيته بسبب تورطه في العراق وعدم العثور على اسلحة الدمار الشامل، الامر الذي يهدد احتمالات فوزه في انتخابات الرئاسة عام 2004. ما يسعى اليه بوش هو استغلال انتصار لم يحدث، لفرض انتصار جديد على الشرق الاوسط، وهو السيناريو الذي انهار بسبب بعده عن الواقع.
اوروبا لا تصدق بوش
قبل وصوله لقمة شرم الشيخ حضر بوش قمة مجموعة الدول الصناعية الثماني (g8)، التي انعقدت في افيان بفرنسا في الاول من حزيران. بعد ان صور نفسه كبطل تاريخي، انسحب من الاجتماع قبل نهايته بطريقة استفزازية، ما دفع الرئيس الفرنسي، جاك شيراك، للتصريح بان الحرب على العراق لم تكن ضرورية. بعد فرنسا زار الرئيس الامريكي روسيا، وكان الهدف اقناع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بعدم توفير تكنولوجيا نووية لايران. بعد مغادرته، اعلنت روسيا انها ستواصل مشاريعها مع ايران.
يبدو اذن ان روسيا وفرنسا غير متحمستان لدعم بوش في حملته الانتخابية. في رد فعلهما وجهتا له رسالة تحد لسياسته التي تفتعل الازمات بدل حلها، ومن ذلك مشكلة افغانستان والعراق، وتهديده بفتح جبهات جديدة مع كوريا الشمالية وايران. اسراعه للشرق الاوسط دون حلول جذرية لا تزيده مصداقية. واكثر ما يثير حفيظة الاوروبيين وروسيا ازاء احتدام النزاعات، انفراد امريكا في ادارة العالم دون اشراكهم والتعاون معهم.
الامريكان لا يصدقون بوش
على خلفية فضيحة عدم العثور على اسلحة الدمار الشامل والفشل في ادارة العراق، اثيرت موجة من الانتقادات الحادة على بوش في الدوائر السياسية. اعتلى الموجة النائب روبرت بيرد، رئيس كتلة الديمقراطيين في الكونغرس، الذي القى خطابا في 24 ايار بعنوان "الحقيقة ستظهر" قال فيه: "ما حدث كان كما يبدو محاولة لاغراء الشعب الامريكي للقبول بغزو امة مستقلة لم تستفز احدا، بحجج كاذبة، الامر الذي شكل انتهاكا للقوانين الدولية".
"الوسيط الشرق اوسطي: امتحان كبير لبوش"، هو عنوان مقال في نيويورك تايمز (5 حزيران) للصحافي ديفيد سنغر، وهو يفسر الصعوبات التي على بوش التغلب عليها في الداخل: لو نجح بوش في تحويل العراق الى "نموذج للديمقراطية لدى امة اسلامية"، لغض الامريكان الطرف عن كذبة الاسلحة. ولكن يصعب قبول الكذبة مع الفشل، خاصة على ضوء "الوضع الاقتصادي المزري في الولايات المتحدة نفسها... وشبح المواجهات الجديدة مع ايران وكوريا الشمالية".
شكوك عربية
واذا كان العالم يشكك في قيادة بوش، فالعرب يشككون اكثر، خاصة ان عليهم "التعامل مع بوش كزعيم لقوة محتلة في قلب الشرق الاوسط. ويضيف سنغر: "ما يتردد عن بوش في العالم انه يفضل الهرولة للقضاء على اي تهديد لامريكا.. اكثر من الاستثمار في اعادة بناء امم من الخراب".
ان الاضطرار لعقد قمتين، واحدة للعرب في مصر دون شارون، وواحدة للاسرائيليين والفلسطينيين في الاردن دون عرفات، عبر بوضوح عن ضعف المبادرة. شارون كان وراء عقد قمتين، فهو لم يرغب الدخول لاطار ملزم والتعرض لضغوط وهو في الاقلية.
الى شرم الشيخ التي انعقدت في 4 حزيران، دعيت نخبة من الدول العربية، بالاضافة للدولة المضيفة مصر، ركيزة الجامعة العربية وممثلة التطبيع مع اسرائيل، شارك الاردن من الدول المحيطة باسرائيل والموالية لها، والبحرين والسعودية الدولة الاساسية في الخليج وصاحبة المبادرة السعودية. ومن استثني كانت سورية ولبنان واوروبا وعرفات.
ابلغ دلالة على تراجع موقع امريكا في العالم العربي هو تأخر ولي العهد السعودي، الامير عبد الله، عن حضور القمة كيلا يضطر لسماع تصريح بوش الذي طالب بالاعتراف بدولة اسرائيل والتطبيع معها. ورغم ان السعودية تسعى لارضاء امريكا في شأن قمع الحركات الاسلامية المتطرفة، الا انها لا تريد السير للنهاية باعلان التطبيع مع اسرائيل، وفضح نفسها امام شعبها. القمة اذن لم تكن من القوة بالدرجة التي تمكنها من حسم الصراع العربي الاسرائيلي، وما يشير الى ذلك ان المؤتمرين لم يخرجوا ببيان ختامي مشترك.
مصيدة خريطة الطريق
قمة العقبة التي جمعت في 5 حزيران بين طرفي النزاع، شارون وابو مازن، وبين بوش، لم تكن باوفر حظا من شرم الشيخ. ان مجرد عقد القمة في مدينة هامشية كالعقبة وفي دولة كالاردن الذي يعتبر محمية اسرائيلية والذي دعم حرب العراق، حكم بالفشل على نتائج القمة قبل انعقادها. كما ان استثناء مصر، راعية السلام المركزية في المنطقة، وتهميش عرفات، لم يساهما في زيادة فرص النجاح.
خريطة الطريق كررت كل اخطاء المبادرات الفاشلة التي سبقتها. الخطأ المركزي هو عدم اعلان الهدف النهائي للمفاوضات او تحديد سقفها، والاستعاضة عن ذلك بتحديد مراحل انتقالية عديدة. هذا الغموض بالنسبة للاهداف، لا يقنع الشباب الفلسطيني بوقف العمليات الانتحارية والانضمام لمسيرة السلام.
رشيد خالدي، المحلل الفلسطيني الاصل، كتب في المجلة الامريكية "ذي نيشن" (9 حزيران) مقالا بعنوان "خريطة الطريق ام طريق القتل"، جاء فيه: "نظرية الاتفاقيات الانتقالية المفضلة على صانعي السلام الموالين لاسرائيل داخل ادارة بوش وكلينتون، كان المفروض ان تدفن للابد. وذلك بعد الفشل الذريع الذي لقيه نهج مدريد واوسلو، الذي اعتمد على مثل هذه الاتفاقيات. ولكن هذه النظرية تنتعش مرة اخرى في خريطة الطريق من خلال الاقتراح "الكريم" باقامة ‘دولة فلسطينية مستقلة ضمن حدود مؤقتة‘".
ويتابع مؤكدا: "اذا وصلت الخطة الى هذه المرحلة، فانها وصفة اكيدة لخلافات لا تنتهي، الامر الذي ستستغله اسرائيل بهدف المماطلة. بالاضافة الى هذا ستبقي اسرائيل الاركان الرئيسية للاحتلال العسكري واغلبية المستوطنات الى اجل غير مسمى، وستحصر المناطق المنقولة للادارة الفلسطينية في اقل ما يمكن من المناطق المحتلة – 40% من الضفة الغربية. بمعنى ان اريئل شارون يكون قد حقق اهدافه".
ويبدو ان قسما كبيرا من ملاحظات شارون على الخريطة التي تكشف حقيقة طموحاته، طبقت حرفيا. يذكر البند الثاني: "ان الشرط الاول لاحراز التقدم هو وقف مطلق للارهاب والعنف والتحريض. الانتقال من مرحلة الى اخرى يأتي فقط بعد تنفيذ كامل للمرحلة السابقة." (هآرتس، 10 حزيران). وتتضمن الملاحظات طلبا اسرائيليا في نفس البند مفاده ان "الدولة الفلسطينية المؤقتة ستعلن في حدود غير نهائية، وستكون منقوصة السيادة ومنزوعة السلاح… ومجردة من صلاحية التوقيع على معاهدات. اسرائيل ستواصل مراقبة دخول وخروج الناس والبضائع منها واليها برا وجوا". (بند 5)
من جهة اخرى، يطالب شارون الفلسطينيين والعالم العربي بالاعتراف باسرائيل دولة يهودية، كما يطالب بتصريح فلسطيني بالتنازل عن حق العودة (بند 6). اما "موضوع الاستيطان فلا تجب مناقشته (عدا الاستيطان غير القانوني)" (بند 9)، ويشترط البند 13 اعادة الحياة الطبيعية الفلسطينية حسب الحاجات الامنية الاسرائيلية. من جانبه عرض شارون على العالم مسرحية اخلاء عدة بؤر استيطانية خالية من السكان، واطلق سراح بضعة اسرى، ولكن قضية الاستيطان، كما اشترط، لم تناقش في قمة العقبة.
لا يصعب الاستنتاج اذن ان موافقة ابو مازن على الخريطة تأتي خارج الاجماع الفلسطيني والعربي، الامر الذي سهل على عرفات عرقلة ابو مازن والخطة. وحين يفشل ابو مازن في السيطرة على كتائب الاقصى التابعة لفتح، فان حماس لا ترى انها ملتزمة بوقف عملياتها ضد اسرائيل، الامر الذي يزيد متاعب ابو مازن.
محاولات انقاذ عاجلة
الرؤية الامريكية ترى في العنف الفلسطيني، وليس في الاحتلال الاسرائيلي، مصدر المشكلة. وهذا هو القاسم المشترك بين بوش وشارون، الذي يمنع الوصول الى حل جذري. الوصول الى مثل حل يرضي امريكا يتطلب تغييرا في موازين القوى في العالم لصالح امريكا، وكان هذا الامل من حرب العراق، الا ان هذا لم يتحقق. والمنظور ان تفشل امريكا في فرض حلولها طالما انه ليست هناك آلية حقيقية لتغيير الوضع في المنطقة. الآلية التي تحاول اسرائيل فرضها من خلال ضرب قيادة حماس، من شأنها فقط ان تصعّد دائرة العنف.
هل من حل؟ تجري هذه الايام محاولات حثيثة بين عناصر الرباعي (الولايات المتحدة، الاتحاد الاوروبي، روسيا والامم المتحدة) لانقاذ خريطة الطريق في قمة جديدة من المخطط عقدها في الاردن. وقد بدأ امين عام الامم المتحدة، كوفي انان، وآخرون الترويج لفكرة استدعاء قوى دولية مسلحة الى المناطق المحتلة، كما هو الحال في البلقان. في هذا الاتجاه اشار ستيفن وايسمان في النيويورك تايمز (12 حزيران) بقوله ان "هناك حديثا بين الخبراء في الموضوع". واقتبس المقال تصريح مارتين انديك، المفاوض الشرق اوسطي اثناء ادارة كلينتون، الذي قال ان المفروض وضع المناطق المحتلة تحت انتداب دولي تتولاه قوات امريكية وربما دولية مسلحة.
ان اعادة الانتداب الاجنبي لفلسطين هو النتيجة التي مهدت لها سياسة اسرائيل منذ عملية السور الواقي في نيسان 2002. منذ ذلك التاريخ بدأت اسرائيل تنفيذ قرارها بتقويض البنية التحتية للسلطة الفلسطينية، ولا تزال تواصل عملياتها الوحشية في المناطق المحتلة. بعد ان يفشل ابو مازن بسبب هذه الممارسات، لن يبقى الجنود الامريكيون في افغانستان والعراق فقط، بل ستطأ اقدامهم فلسطين ايضا.
الصبار