|
مقدمة في سوسيولوجيا التاريخ الإسلامي
أشرف حسن منصور
أستاذ الفلسفة بكلية الآداب - جامعة الإسكندرية
الحوار المتمدن-العدد: 1784 - 2007 / 1 / 3 - 12:04
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مقدمة: نحاول في هذه الدراسة تطبيق الإطار التفسيري الذي صاغه توينبي في دراسته لتاريخ الحضارات على التاريخ الإسلامي. استقى توينبي من دراسته للحضارات الإحدى والعشرين التي عرفتها البشرية إطارا تفسيريا يرصد نشأة الحضارات ونموها وسقوطها واضمحلالها، كما يرصد أنماطا واحدة أو متشابهة في بعض الأحيان لاستجابات الحضارات لأحداث التفاعل بينها في المكان إذا كانت متزامنة ومتجاورة، وفي الزمان إذا لم تكن معاصرة لبعضها وتسبق أحدها الأخرى في الزمان () . كان تاريخ الحضارة الإسلامية من بين تواريخ الحضارات الإحدى والعشرين التي ضمها توينبي في إطاره التفسيري، لكن لا تظهر المادة الإسلامية في كل عناصر هذا الإطار، إذ كان توينبي انتقائيا في ضمه لهذه المادة، وبالتالي فليست الحضارة الإسلامية مستوعبة بالكامل داخل إطاره التفسيري. وهدفنا في هذه الدراسة محاولة توسيع نطاق هذا الإطار التفسيري ليشمل جوانب من الحضارة الإسلامية لم يتطرق إليها توينبي، آخذين هذا الإطار في عموميته محاولين ملأه بما يناظره أو يناسبه من أمثلة من تاريخ المجتمعات الإسلامية، هادفين من هذه الدراسة أن تكون محاولة للتفسير السوسيولوجي للتغيرات التي مر بها الإسلام وخاصة تلك المتركزة في القرنين التاسع عشر والعشرين. وما يجعلنا نتجه نحو دراسة توينبي للتاريخ مستوحين منها تفسيرا سوسيولوجيا للتاريخ الإسلامي هو الإمكانات السوسيولوجية المتضمنة في تحليلات توينبي لصعود الحضارات وسقوطها؛ إذ بدأ توينبي درساته بالبحث عن وحدة الدراسة التاريخية، ورفض أن تكون هذه الوحدة هي الدولة القومية لأن ظهورها حديث في سياق التاريخ الإنساني، كما رفض أن يكون العرق أو الدين هو هذه الوحدة، ورأى أن أنسب وحدة للتحليل التاريخي هي الحضارة، باعتبارها مجموعة مترابطة من المجتمعات التي تجمعها ثقافة واحدة (I, pp.26-28) . وبذلك حدد توينبي وحدة الدراسة التاريخية لديه وفق معايير اجتماعية، أي بالاهتمام بالثقافة السائدة في مجتمع ما. هذا بالإضافة إلى رفض توينبي رد نمو الحضارات أو سقوطها إلى العرق وفكرة التفوق العرقي أو تدني الأعراق نتيجة الاختلاط، ورفض أيضا التفسيرات المناخية للتاريخ البشري والتي ترد صعود وسقوط الحضارات إلى التغيرات المناخية والبيئية. أما المعيار الذي استنه لتفسير صعود الحضارات وسقوطها فيتمتع بحاسة سوسيولوجية عالية، ذلك المعيار المتمثل في قدرة المجتمع على الاستجابة لتحد يواجهه، فإذا ما نجح المجتمع في الاستنجابة الناجحة بتنظيم نفسه وإيجاد الآليات والنظم التي تستطيع التعامل بنجاح مع التحدي نما المجتمع وازدهر وتوسع؛ وتأتي لحظة السقوط عند فشل المجتمع في الاستجابة الناجحة للتحديات، وهنا يصاب المجتمع بتحلل تدريجي بطئ يستغرق قرونا. تكتسب دراسة توينبي للتاريخ طابعا سوسيولوجيا لأنها اتخذت من المجتمع وتنظيمه الذاتي لنفسه وأدوار أعضاءه فيه وما يبدعه من نظم ومؤسسات مبدأ لتفسير صعود وسقوط الحضارات، ولأنها عاملت كل حضارة على أنها نوع من المجتمع، مجتمع كلي كبير يضم مجتمعات أصغر تربطها ثقافة واحدة. السقوط يسبق الاضمحلال: يذهب توينبي عكس معظم فلاسفة التاريخ من قبله إلى أن اضمحلال الحضارة يأتي بعد سقوطها، ذلك لأن السقوط هو النقطة التي تفشل عندها الحضارة في الاستجابة للتحديات، ولأن الحضارة قد أبدعت بناءات ثقافية واجتماعية وإدارية ضخمة في فترة نموها، فإن هذه البناءات لا تنهدم في لحظة واحدة بل تتحلل بالتدريج، ويستغرق تحللها هذا قرونا، لكنها تكون قد سقطت في لحظة سابقة (IV, pp.1-3) . وهذا ما يثبته توينبي في دراساته لتاريخ الحضارات، إذ يوضح أن الحضارة الهللينية قد سقطت مع بدء حروب البلوبونيز، ومرت بعملية اضمحلال بطيئة استغرقت سبعة قرون، وسقطت الحضارة الفرعونية في الألف الثاني قبل الميلاد لكن استغرقت فترة اضمحلالها اثنا عشر قرنا وانتهت فترة تحللها عندما اندثرت اللغة المصرية القديمة، ويبدي توينبي شكوكه من أن تكون الحضارة الغربية قد سقطت في فترة ما من العصر الحديث (IV, pp.137-141) وخاصة في القرن التاسع عشر وتمر بمرحلة اضمحلال منذ ذلك الحين وطوال القرن العشرين، ويدعم توينبي نظريته هذه من الحقائق التي يرصدها في التاريخ الغربي والتي ينظر إليها على أنها علامات على التحلل، مثل الصراع الطبقي، وصعود الدكتاتوريات والأنظمة الشمولية، والحروب الدامية بين القوى الأوروبية والتي توسعت إلى حروب عالمية، ومظاهر التفكك الأسري والاجتماعي واغتراب وضياع الفرد في مجتمعه، وفقدان الوحدة الثقافية في المجتمعات الغربية والتي كانت توفرها المسيحية. أما الحضارة الإسلامية فيذهب توينبي إلى أنها قد سقطت في فترة ما في القرن الحادي عشر الميلادي مع ضعف الخلافة العباسية وتوقف حركة التوسع العسكري وبدء سيطرة الفرس والأتراك على أراضي الخلافة، وقد حدث ذلك قبل الحروب الصليبية والغزوات المغولية التي لم تكن في نظر توينبي السبب الرئيسي في سقوط الحضارة الإسلامية بل كانت آثارها المدمرة للإسلام مترتبة على ضعف سابق كامن دب في الحضارة الإسلامية قبل الصليبيين والتتار بزمن. ومثلها مثل أي حضارة أخرى مرت الحضارة الإسلامية بفترة من التحلل والاضمحلال البطئ الذي بدأ منذ القرن الحادي عشر الميلادي والمستمر حتى الآن. نقطة البداية-القبائل الجوالة في الشرق الأوسط القديم: تتصف بيئة الشرق الأوسط بالتناقض الحاد بين الصحاري الجرداء الشاسعة والأراضي الخصبة التي ترويها الأنهار الكبيرة، وأدى هذا إلى تواجد نوعين مختلفين تماما من المجتمعات البشرية في هذه المنطقة: البدو الرحل الدائمي التنقل، والمجتمعات الزراعية المستقرة. نجحت المجتمعات الزراعية في إنشاء حضارات عريقة، وكانت أولى الحضارات التي عرفتها البشرية، إذ تم اكتشاف الزراعة في هذه المنطقة المحاطة بالصحاري من كل جانب؛ وفي نفس الوقت ظلت القبائل البدوية على حالها من التنقل والتجوال المستمر حول الحضارات الزراعية المحيطة. ويعد اليهود والعرب من أهم القبائل الجوالة في تاريخ الشرق الأوسط القديم، والمرجح أنهم يرجعون إلى أصل مشترك كانوا هم أنفسهم على وعي به وفهموه على أنه يتمثل في أب واحد لهما هو إبراهيم، إذ يرجع اليهود أصلهم إلى ابنه إسحق ويرجع العرب أصلهم إلى ابنه إسماعيل. أول ما يلفت الانتباه في تأريخ القبائل اليهودية والعربية لأصلها، والذي ترجعه إلى قصة العائلة المقدسة: إبراهيم وإسماعيل وإسحق ويعقوب والأسباط، أنها لم ترد في أي من المدونات التاريخية لشعوب الشرق الأوسط القديم، على الرغم من أن أقاليم الشرق الأوسط كانت هي المجال الجغرافي الذي حدثت فيه القصة، وعلى الرغم من أنها تحتوي على أحداث تفاعلت فيها العائلة المقدسة مع ملوك تلك المنطقة (XII) ؛ فليس هناك توثيق تاريخي للعلاقة بين إبراهيم وملكي صادق أحد ملوك فلسطين القدماء، ولا لدخول بني إسرائيل مصر أو إقامتهم فيها لمدة تزيد على القرنين، ولا لخروجهم المدوي منها، ذلك الخروج الذي يشكل الحدث المحوري في العهد القديم، ولا للعلاقة بين يوسف وملك مصر وتوليه الوزارة هناك ونجاحه في مواجهة المجاعة بتنظيمه للمالية (إجعلني على خزائن الأرض) والزراعة (أتركوه في سنبله)؛ ولا تعطينا الوثائق التاريخية المصرية أي إشارة على وجود شعب غريب يسمى بني إسرائيل كان ساكنا فيها لأكثر من قرنين من الزمان، ولا لوجود مملكة على تخوم مصر تسمى إسرائيل، ما عدا لوح مرنبتاح الذي يؤكد أن الفرعون المذكور هزم إسرائيل وشتتهم في الأرض. لقد كانت القبائل البدوية الجوالة في الشرق الأوسط القديم مهمشة ومستبعدة باستمرار، حتى على مستوى الوثائق التاريخية. إن أسفار العهد القديم تعد تاريخا هامشيا لمهمشين، تاريخا رفعه أصحابه المهمشون إلى مستوى التاريخ المقدس، تاريخ تدخل الإله في حياة شعبه المختار وصنعه المعجزات لهم. إن الحالة الهامشية التي عاشتها القبائل الجوالة المسماة بالإسرائيلية هي التي فرضت عليها أن تضفي على تاريخها صفة القداسة كنوع من التعويض عن الحالة الهامشية (XII) ، حالة التيه والتجوال المستمر والنبذ المتواصل والرفض الدائم لها من قبل الشعوب المستقرة في المنطقة. وبذلك أصبح أمامنا تاريخين، تاريخ دنيوي موثق في السجلات التاريخية لشعوب الحضارات الأوسطية القديمة ومحفور في آثارها العملاقة، وتاريخ آخر مهمش لم يرد له ذكر في تلك السجلات جعله أصحابه مقدسا. ويتحول تاريخ الشعوب المنبوذة الجوالة في النص القرآني إلى قصص، وتصبح الشخصيات المحورية فيه هم الأنبياء الذين لم يرد لهم أي ذكر في تواريخ شعوب الشرق الأوسط القديم. لقد حولت القبائل الجوالة المنبوذة تاريخها المهمش إلى تاريخ مقدس ثم إلى قصص للأنبياء؛ والملاحظ أن قصص الأنبياء في النص القرآني هو في أغلبه تاريخ أنبياء بني إسرائيل. ونظرا لحالة التهميش والنبذ والشتات التي كانت تلك القبائل الجوالة تعاني منها، تصبح الفكرة الأساسية في مدوناتهم التاريخية المقدسة الإستيلاء على نفس الأراضي التي طردوا منها وهاموا حولها طويلا، فكرة الوعد الإلهي بالأرض، أرض الميعاد. ولا يتحقق الوعد الإلهي بالأرض لني إسرائيل بل لبني إسماعيل، إذ ينجحون أخيرا في الاستيلاء على أرض الميعاد ويتحقق بذلك الوعد الإلهي بوراثة الأرض (XII) ، ليس من النيل إلى الفرات وحسب بل من الصين إلى فرنسا. لقد حقق الإله وعده بالفعل وحصلت الشعوب الجوالة في فرعها الإسماعيلي على أرض الميعاد. لقد كانت أرض الميعاد، أرض كسرى وقيصر، مغلقة أمام الشعوب الجوالة، سواء لفرعها الإسرائيلي أو لفرعها الإسماعيلي، وعندما ينجح بنو إسماعيل في الاستيلاء عليها يسمى ذلك فتحا. الفتوحات إذن هي فتح لأراضي الحضارات الزراعية التي كانت مغلقة أمام القبائل البدوية الجوالة. لقد كانت أرض الميعاد أمامهم طوال الوقت لكنها مغلقة، إذ تحرسها الجيوش الجرارة لمصر القديمة وبابل وآشور وفارس ثم روما وبيزنطة، وفي اللحظة التاريخية المناسبة وعندما تهيأت الظروف لبني إسماعيل استطاعوا فتحها. وما يضفي المشروعية على الفتح الوعد الإلهي بأرض الميعاد، ذلك الوعد الذي سُحب من بني إسرائيل وأعطى لبني إسماعيل. وليست القبائل الإسرائيلية والعربية هي القبائل البدوية الجوالة الوحيدة في العالم القديم، إذ ظهرت بعدها على مسرح التاريخ قبائل رعوية أخرى: التتار والأتراك. وليس صدفة أن تبنت القبائل التتارية والتركية الإسلام، إذ رأته مناسبا لها، وحدث ما يسمى بالقرابة العضوية Elective Affinity بين التتار والترك من جهة والإسلام من جهة أخرى، فالإسلام أيضا كان دين القبائل الرعوية العربية. وعندما تبنى التتار والترك الإسلام كان هذا نصرا جديدا له، وفرصة جديدة فتحت أمامه للتوسع بعد أن ضعفت قوته الدافعة بضعف القبائل العربية (III, pp.22-50) ، ولم يمده شئ بقوة جديدة إلا ظهور قبائل رعوية أخرى. فبعد أن ضعفت القبائل العربية وانهارت دولتها العباسية استمر الإسلام في الحياة وفي التوسع تحت رايات تتارية وتركية. نمو الحضارة الإسلامية: يذهب توينبي إلى أن الحضارة باعتبارها الإطار الثقافي الذي يضم في داخله مجتمعات عديدة تشهد نشوءا يتمثل في نجاح المجتمع في الاستجابة لتحد يواجهه، ويعمل هذا التحدي على خلق المجتمع لنظم ومؤسسات تتعامل معه بنجاح، جاعلة منه عاملا مساعدا على نموها؛ وكلما طور المجتمع من نظمه ومؤسساته في تعامله مع التحدي الذي يواجهه كان هذا مؤديا إلى زيادة نمو الحضارة. ويكون انهيار الحضارة في فشل مجتمعاتها في الاستجابة للتحدي والتعامل معه، وبذلك يتمسك المجتمع بما هو قائم فيه من نظم قديمة معتقدا أنها لا تزال قادرة على التعامل مع التحديات الجديدة، في حين يكون هذا التمسك بالقديم علامة على الانهيار والفشل؛ إذ يفرض على الظواهر الاجتماعية الجديدة أن تنظم وفق النظم القديمة، وتوضع "الخمر الجديدة في زقاق عتيقة فيفسد الخمر وينكسر الزقاق" (IV, p.133) . علامة الانهيار في مجتمع أو في حضارة ما الفشل في إيجاد نظم جديدة أو في تغيير النظم القديمة بحيث لا يستطيع المجتمع التعامل بنجاح مع التحديات المستحدثة فيه، وبذلك يصاب المجتمع بالتيبس والجمود ويكون عرضة للمخاطر الخارجية التي تؤدي إلى انهياره. إن الفكرة الأساسية في تحليلات توينبي أن الحضارة لا تنهار لأسباب خارجية أبدا بل لأسباب داخلية ذات طابع اجتماعي واضح؛ وإذا انهارت الحضارة نتيجة غزو خارجي مثلا، فلا يجب أن تشتت هذه الواقعة انتباهنا عن أن الغزو لم يكن ليحطم حضارة ما لم تكن قد ضعفت من الداخل، وهذا الضعف الداخلي هو ضعف للمجتمع نفسه ولمؤسساته. وهكذا نرى كيف أن تفسير توينبي لصعود وسقوط الحضارات هو تفسير سوسيولوجي في الأساس. يتمثل نمو الحضارة عند توينبي في زيادة السيطرة على البيئة الطبيعية والبيئة البشرية (III, pp112-127) ، ويتجسد ذلك في التاريخ الإسلامي في نجاح الدولة الناشئة في السيطرة العسكرية على الأقاليم الزراعية المحيطة بها في الهلال الخصيب ومصر وفارس، إذ تم بذلك التعامل مع مشكلة فقر البيئة الصحراوية بفتح الأقاليم الزراعية المحيطة للاستيطان العربي أو الهجرة الجماعية العربية التي صاحبت الفتوحات العسكرية والتي شكلت الباعث لها من البداية. والجدير بالذكر أن محمدا (ص) في السنوات الأولى من الدعوة عندما كان يطرح الإسلام على الناس وعلى القبائل المتاجرة بمكة كان يعد بالجنة وبملك كسرى وقيصر في نفس الوقت (III, pp.466-472) ، أي كان يعد بالخلاص الأخروي والدنيوي معا بتقديمه لدين جديد يمكن أن يكون وسيلة للقضاء على الفقر الصحراوي بفتح ممالك الفرس والروم. أما عن نجاح الإسلام في السيطرة على البيئة البشرية فتتمثل في نجاحه في توحيد القبائل العربية في دولة واحدة وإحكام السيطرة عليها بضمها جميعا في مشروع توسعي أعطاها هدفا مشتركا بعد أن كانت قبائل متناحرة تشن حربا دائمة فيما بينها. كذلك نجح الإسلام في السيطرة على شبكة مواصلات العالم القديم. لقد كانت الطرق التجارية في الجزيرة العربية معرضة لخطر دائم، إذ كانت سلاحا ذو حدين، فقد قامت بالفعل بوظيفة الوصل مع حضارات الفرس والبيزنطيين والحبشة، لكنها كانت تستخدم أيضا لتسهيل تحرك جيوشها في أعماق الجزيرة العربية، وقد حدث ذلك في حملات أغسطس وهادريان وهرقل وأبرهة (XII) ؛ كما لم تكن الطرق التجارية في الجزيرة العربية مؤمنة بالكامل لأنها كانت جزءا من شبكة طرق تقع خارج الجزيرة في الشام والعراق وفارس، وبالسيطرة الإسلامية على تلك الطرق جميعها وفرت الدولة الناشئة أمنا إسلاميا Pax Islamica لكل شبكات المواصلات في العالم القديم. لقد كانت الحضارة الإسلامية في نشأتها ناجحة في الاستجابة للتحدي الموجود أمامها، إذ نجح الدين الإسلامي باعتباره نظاما اجتماعيا في الاستجابة لتحدي التهديد بالابتلاع من جانب الحضارتين المجاورتين، الفارسية والبيزنطية، وذلك بلم شمل القبائل العربية في دولة واحدة وتوحيد دياناتها المتفرقة في دين واحد؛ وكان ذلك علامة على النجاح في الاستجابة للتحدي، كما كان توسع الدولة الإسلامية بالفتوحات علامة على النمو. وقد تمثل نمو الحضارة الإسلامية كذلك في نجاح آخر في تطوير مزيد من النظم الجديدة التي استجابت لتحديات جديدة ومن نوع مختلف، مثل تحدي تنظيم إمبراطورية عالمية من قبل قبائل بدوية حديثة العهد بالحضارة، والذي نتج عنه بروز الهيكل الإداري للدولة الإسلامية (الدواوين) الذي كان خليطا ممزوجا جيدا من العناصر الفارسية والبيزنطية، وظهور نظام مالي واحد متمثل في عملة واحدة وبيت مال واحد..إلخ. كما ظهر تحد آخر من جانب العقائد السابقة على الإسلام والمنافسة له، وكانت الاستجابة ظهور علم الكلام الذي هو اللاهوت الإسلامي، وتحد يتعلق بالتنوع والاختلاف بين المجتمعات المكونة للدولة الإسلامية وكيفية مناسبة أحكام الشريعة لمثل هذا التنوع الاجتماعي، وظهر بناء على ذلك الفقه بمذاهبه الأربعة، كل مذهب يستجيب لمجتمع معين حسب ظروفه، وبذلك صار الدين مرنا وحساسا للمتغيرات الاجتماعية واستطاع التغلغل في مجتمعات متباينة. القرابة العضوية: الفرق الدينية في اليهودية والإسلام: ظهرت اليهودية باعتبارها ديانة كتابية، أي تعتمد على نص مقدس موحى إلى الأنبياء، وذلك في محيط اجتماعي وثقافي يمارس التعددية الدينية مثل المجتمعات المصرية والبابلية والآشورية، أو يتبنى فكرا عقلانيا لا يعير شأنا كبيرا بالمقدسات مثل الثقافة اليونانية. وفي تلك الظروف واجهت اليهودية تحديات مختلفة ومتنوعة، وكان عليها إما أن تتمسك بالفهم الحرفي للنصوص المقدسة أو تحاول تكييف تلك النصوص مع التنوع الثقافي المحيط بها. وبذلك ظهرت الفرق اليهودية الشهيرة مثل الصدوقيين والفريسيين والأسينيين. والحقيقة أن الإسلام مثله مثل اليهودية يعتمد على نص مقدس، وظهر وسط تحديات شبيهة بالتي واجهتها اليهودية، بل وبتحديات مماثلة مثل تحدي الفكر اليوناني المعتمد على العقل لثقافة تعتمد على نص منزل من السماء. وأفرز التشابه في الطبيعة النصية للديانتين وفي التحديات التي واجهتها كل منهما تشابها في الفرق الدينية. إن ما يلفت النظر في الفرق الإسلامية تشابهها القوي مع الفرق اليهودية. فالصدوقيون هم أشاعرة اليهود، إذ هم النصيون الذين يلتزمون بحرفية النصوص وبالتمسك بالشعائر والذين يختزلون الدين في الممارسات الشعائرية وفي الطاعة العمياء للقانون الديني، والفريسيون هم معتزلة اليهود، إذ تعني كلمة فريسي المنعزل أو المنفصل، وهم أصحاب الاجتهاد العقلي والتعامل الحر مع النصوص بتأويلها. أما الأسينيون فهم متصوفة اليهودية، إذ يتبنون أخلاقا تطهرية وأسلوب متقشف في الحياة، وهم أصحاب الفهم الروحي والرمزي للنصوص الدينية الذين لا يهتمون بحرفية النص بل بممارسة حياة الزهد والتقشف، وهم ذوي اتجاهات عرفانية تعتقد في إمكان اتصال المريد أو المتصوف بالحقيقة الإلهية إذا انعزل عن الماديات وسيطر على جسده بالزهد والتقشف والصيام والبتولية، وهم عرفانيون على شاكلة ابن عربي والسهروردي والحلاج. الصدوقيون والأشاعرة هم من يحاول الدفاع عن مجتمعه بالتمسك بالشعائر والنصوص وبالانكفاء على الداخل وغلق المجتمع على ذاته وعزله عن أي مؤثرات خارجية، وهم بذلك يحنطون المجتمع ويضعونه في تابوت من النصوص والشعائر؛ والفريسيون والمعتزلة هم من يحاول الدفاع عن مجتمعه بجعله ينفتح قليلا على الخارج ويناسب بين التراث الديني النصي والثقافة العقلانية الخارجية؛ إنهم يبغون من مجتمعهم مرونة في مواجهة التحدي وحرية للحركة كي لا ينكسر المجتمع في وقوفه أمام الثقافة العقلانية الآتية من الخارج. أما الأسينيون والمتصوفة فهم الذين انعزلوا عن مجتمعهم وتبنوا مفهوما خاصا بهم عن الحقيقة باعتبارها سرا غير متاح إلا للقلة، تلك القلة التي ينظرون إليها على أنها أرستقراطية دينية تطهرية، وهم الوحيدون الذي ينشئون مجتمعا بديلا عن المجتمع القائم، مجتمعا من المتصوفة على شاكلة مجتمع الرهبان في الدير، وهم في صنعهم لهذا المجتمع البديل إنما ينشئون مجتمعا خاصا بهم يقيهم شرور المجتمع الأصلي المحيط بهم. ومن الواضح كيف ترتبط كل فرقة بتوجه اجتماعي معين: فالصدوقيون والأشاعرة هم المنفصلون بمجتمعهم عن الخارج والمغلقون له على نفسه لحمايته، والفريسيون والمعتزلة هم من يرغب في اتصال مرن وتعامل سلس لمجتمعهم مع المجتمعات والثقافات الأخرى، أما الأسينيون والمتصوفة فهم الذين ينشئون مجتمعا بديلا خاصا بهم وحدهم. إن السبب في هذا التشابه والتوازي والذي يصل إلى حد التطابق بين الفرق الدينية اليهودية والإسلامية يرجع إلى تشابه الظروف الاجتماعية والتاريخية لليهودية في القرنين السابقين على الميلاد والقرن التالي له، وللإسلام خاصة ابتداء من القرن الثاني الهجري. لقد كانت اليهودية ديانة كتابية توحيدية، وقد واجهت تحديا من الهلينية تماما مثلما واجه الإسلام، وقد حاول الفيلسوف اليهودي فيلون السكندري التوفيق بين اليهودية والفلسفة اليونانية تماما مثلما حاول فلاسفة الإسلام التوفيق بين الإسلام والفلسفة اليونانية؛ لقد كان فيلون النموذج الأولي لفلاسفة الإسلام. وتظهر أهمية وخطورة موسى بن ميمون في أنه وقف على التراثين اليهودي والإسلامي في التوفيق بين الدين والفلسفة، إذ كان وراءه فيلون من جهة والفارابي وابن سينا وابن رشد من جهة أخرى. إن أوضاعا تاريخية متشابهة هي التي أدت بمفكري ديانتين كتابيتين إلى اتخاذ مواقف متشابهة وأحيانا متماثلة. فعند مواجهة الديانة النصية التوحيدية بالفلسفة العقلانية اليونانية يأخذ رد الفعل أشكالا أربعة: فإما التمسك بحرفية النصوص والتضحية بالعقل في حالة الصدوقيين والأشاعرة، وإما الاجتهاد العقلي داخل النصوص بتأويلها في حالة الفريسيين والمعتزلة، أو اللجوء إلى تأويل روحي للنص في حالة الأسينيين والمتصوفة، أو محاولة الحفاظ على مجال العقل مستقلا عن الدين ولكل حقيقته الخاصة به مع التوفيق بين الحقيقتين أو إرجاع النص والعقل معا إلى حقيقة واحدة مع اختلافهما في طرق التعبير عنها والاعتراف بإمكانية التواجد معا والتعايش السلمي في مجتمع واحد، بحيث يكون الدين عقيدة العامة والفلسفة عقيدة الخاصة في نوع من تقسيم العمل الفكري على أساس طبقي في حالة فيلون وموسى بن ميمون وفلاسفة الإسلام. والأكثر من ذلك أن التشابه والتوازي يصل إلى الخلافات الداخلية بين الفرق في اليهودية والإسلام، إذ نجد في فرق الديانتين صراعا واحدا حول مشكلات التشبيه والتجسيم والتنـزيه. ففي الصدوقية والأشعرية يصل التمسك الحرفي بالنصوص إلى تشبيه الإله بالبشر من حيث الصفات، وتجسيمه كذلك، أي النظر إليه على أن له جسما اعتمادا على نصوص معينة، ويظهر التنـزيه المطلق عن مشابهة البشر وعن الجسمية لدى الفريسيين والمعتزلة معا. والأكثر من ذلك تظهر عقيدة المخلِّص تحت مسمى المسيح المنتظر لدى بعض الفرق اليهودية حول القرنين السابق والتالي على المسيح، كما تظهر نفس العقيدة تحت مسمى الإمام الغائب أو المهدي المنتظر لدى الشيعة وبعض السنة. بل إن ثنائية النص الأصلي والنص الشارح قد ظهرت في الديانتين. النص الأصلي لدى اليهودية والإسلام هو النص الموحى به أو الكتاب، أما النص الشارح فهو شرح على النص الأصلي من قبل أحبار اليهود في حالة التلمود والهالاخاه () ، أو من قبل النبي نفسه في أحاديثه وسنته في حالة الإسلام. وقد كان النص الشارح شفويا أولا ثم دون في فترة لاحقة، سواء التلمود والهالاخاه أو أحاديث الرسول وسنته. كما ظهرت فئة في الديانة اليهودية تتخصص في تفسير النص الأصلي واستخلاص الأحكام منه وتطبيقه على الحالات المستجدة، وهؤلاء هم الحاخامات والكهنة الذين هم فقهاء ومفتيو اليهودية. وهذا ما دفع بعض الباحثين إلى القول بأن الإسلام هو إعادة إنتاج لليهودية. الاضمحلال والتحلل: نفهم من توينبي أن الحضارة الإسلامية قد انهارت منذ زمن طويل، إذ أن اللحظة التي انهارت عندها تقع بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر الميلاديين اللذين شهدا الحروب الصليبية وهجمات التتار، وبعد انهيار الحضارة تأتي مرحلة اضمحلالها وتحللها الطويلة والبطيئة والمستمرة حتى الآن. ولا يدرك أفراد المجتمع المتحلل أن مجتمعهم يمر بهذه المرحلة إلا بعد فوات الأوان، ذلك لأن وعيهم بما يصيب مجتمعهم من انهيار سوف يدفعهم نحو مواجهة هذا الانهيار وإنقاذ مجتمعهم، وبذلك يصبح مظهر الانهيار الذي تعاملوا معه تحديا عاديا دفعهم نحو المزيد من الاستجابة المبدعة؛ لكن أولى علامات الانهيار الحقيقي في المجتمع هو عدم وعي الأفراد به. ونستطيع تشبيه ما يقوله توينبي بغرق السفينة تايتانك. فانهيار الحضارة يسبق اضمحلالها تماما كما سبق اصتدام السفينة بالجبل الجليدي غرقها، ذلك لأن انكسار قاع السفينة بعد الاصتدام هو مثل سقوط الحضارة، وغرق السفينة التدريجي والبطئ هو مثل اضمحلال وتحلل الحضارة. وبعد انكسار قاع السفينة بدأت المياه تتدفق داخلها وتملأ الأجزاء السفلى منها صاعدة إلى أعلى حتى غرقت السفينة في النهاية. وبعد الصدمة الأولى بجبل الجليد لم يكن ركاب السفينة يعلمون أنها تغرق، ولم يشعروا بذلك إلا بعد أن تدفقت المياه داخل طرقات وغرف السفينة. والمجتمع مثل السفينة يمكنه أن ينكسر عند القاع ويغرق تدريجيا وببطء دون أن يشعر أعضاءه بذلك حتى يفاجأوا بالكارثة أمام أعينهم. لكن أول من يواجه الخطر في غرق السفينة وانهيار المجتمع هم الفئة العاملة في غرف المحركات في أسفل السفينة التي كانت أول جزء امتلأ بالمياه، وكان عمال المحرك هؤلاء أول من يغرق؛ إن الفئات الفقيرة والدنيا في أي مجتمع هي أول من يغرق فيه دائما. وكما تغرق السفينة من أسفل إلى أعلى فإن المجتمع ينهار بنفس الطريقة متبعا السلم الطبقي، فبعد الطبقات الأفقر والأدنى تأتي بعدها الفئات الاجتماعية الأعلى منها، أما الطبقة العليا في أي مجتمع، ومثلها مثل ركاب الدرجة الأولى على السفينة، فهي آخر من يشعر بغرق السفينة ولا يتهدده خطر الغرق، لأنهم يسارعون إلى الهروب من السفينة باستقلال مراكب الإنقاذ الموضوعة عند السطح. وهذا هو الشأن مع كل طبقة عليا في كل مجتمع، فهي لا تغرق معه بل تتركه وراءها وتكون أول من يستقل مراكب الإنقاذ. الانقسام في المجتمع: يذهب توينبي إلى أن الحضارة التي تمر بمرحلة اضمحلال تشهد نوعين من الانقسام، إنقسام أفقي على مستوى المجتمع، وانقسام رأسي على المستوى السيكولوجي للأفراد. يتمثل الانقسام الأفقي في ظهور أقلية مسيطرة وبروليتاريا داخلية وبروليتاريا خارجية (V, P.35) . والبروليتاريا الداخلية هي مجاميع الفقراء والمعدمين الذين يحتلون أسفل السلم الاجتماعي في كل مجتمع، والبروليتاريا الخارجية هم القبائل البربرية أو الرعوية أو البدوية التي تعيش على أطراف حضارة كبيرة مزدهرة وتكون عينهم دائما على أقاليم الحضارة المجاورة، حيث يشنون غارات مستمرة عليها هدفها السلب والنهب، وعندما تتجمع قواهم يقومون بشن غزوات واسعة تؤدي إلى سقوط الإمبراطورية القائمة، وقد حدث ذلك على أيدي القبائل الجرمانية مع الإمبراطورية الرومانية، والقبائل العربية الإسلامية مع دولتي الفرس والبيزنطيين، وقبائل التتار مع الدولة العباسية وإمبراطورية الصين. وتنشئ الأقلية المسيطرة دولة عالمية مثلما حدث في الحضارة الهللينية على أيدي الرومان، وتنشئ البروليتاريا الداخلية دينا عالميا مثل المسيحية التي انتشرت على أعناق الطبقات الفقيرة والعبيد في عالم البحر المتوسط، وتشكل البروليتاريا الخارجية غزوات بربرية عسكرية لأقاليم الحضارة المضمحلة، والمثل على ذلك غزوات القبائل الجرمانية للدولة الرومانية، وغزوات التتار للدولة الإسلامية. والواضح أن توينبي يأخذ نموذجه هذا في اضمحلال الحضارات من تاريخ الحضارة الهللينية ويطبقه على الحضارات الأخرى. أما عند تطبيق هذا النموذج على تاريخ الإسلام فسنجد أن الدين الإسلامي لم يكن نتاجا لبروليتاريا داخلية لأي حضارة بل نتاج بروليتاريا خارجية، لا لحضارة واحدة بل لحضارتين في نفس الوقت، الفارسية والبيزنطية. كما لم تكن دولة الإسلام العالمية من صنع أقلية مسيطرة كما في الحالة الهللينية بل من صنع نفس البروليتاريا الخارجية التي أنتجت الدين، وبذلك كان الدين والدولة من صنع نفس الفئة الاجتماعية بل ونفس الأشخاص. الحقيقة أن الرأي القائل أن الإسلام دين ودولة يرجع إلى أن الدين الإسلامي والدولة الإسلامية ظهرا معا وفي نفس الوقت على يد نفس الأشخاص الذين ينتمون إلى مجتمع واحد. هذا بالإضافة إلى احتواء تاريخ الإسلام على الغزوات البربرية للحضارات المجاورة والتي كانت هي الفتوحات. ويبدو أن قوة الإسلام وسرعة انتشاره كالبرق ترجع إلى أنه قدم دينا عالميا ودولة عالمية في سياق غزوات بدوية للحضارات المجاورة، أي جمع بين العناصر الثلاثة المكونة لعصور الانتقال من حضارة إلى أخرى. إذا كان المجتمع في مرحلة نموه يتكون من أقلية مبدعة وأغلبية مقلدة، ففي مرحلة الاضمحلال ينقسم إلى أقلية مسيطرة وبروليتاريا. تتحول الأقلية المبدعة إذن إلى أقلية مسيطرة في مرحلة الاضمحلال وتكف بذلك عن أن تكون مبدعة، بل تحاول إحداث تماسك اجتماعي بسيطرتها القهرية على مجتمعها (V, 36-40) . وقد حدث ذلك في الحضارة الإسلامية حيث تحول الفقهاء من أقلية مبدعة عملت في مرحلة ازدهار الحضارة على إبداع هياكل تشريعية تناسب تنوع المجتمعات الإسلامية واختلافاتها بصياغة مذاهب أربعة في الفقه إلى أقلية مسيطرة. إن نفس هذه الأقلية المبدعة التي حافظت على تماسك المجتمع الإسلامي في مرحلة نموه تحولت إلى أقلية مسيطرة وذلك بأن عملت على فرض تماسك اجتماعي عن طريق الالتزام برؤية سلفية للشريعة والتزام حرفي بالشعائر ومحاولة الوقوف أمام التطورات الاجتماعية الجديدة في المجتمعات الإسلامية بالحكم عليها بأنها بدع وضلالات، محاولة بذلك الحفاظ على هيكل في التنظيم الاجتماعي فات أوانه وتعدته التطورات المستجدة. كما يتمثل تحولها من أقلية مبدعة إلى أقلية مسيطرة في توقفها عن الاجتهاد. كان الاجتهاد هو القوة الدافعة وراء تكييف الشريعة الإسلامية مع تنوع الظروف الاجتماعية والبيئية لمجتمعات إسلامية امتدت من الصين إلى الأندلس، وكان التوقف عن الاجتهاد دليلا على توقف الفقهاء أنفسهم عن الإبداع وتحولهم إلى نظرة ماضوية لمجتمعهم. ويشكل أصحاب السلطة السياسية الفريق الثاني من الأقلية التي كفت عن أن تكون مبدعة وتحولت إلى السيطرة على مجتمعاتها بالقهر. وقد تلاقت أهداف السلطة الجديدة مع الفقهاء مما أدى إلى الاستخدام السياسي للدين في تزييف السلطة لوعي الجماهير بمشاكلها الحقيقية ونقلها من المستوى الاجتماعي والسياسي إلى المستوى الديني الذي يدعو الناس إلى الصبر والاستكانة والقبول بالقسمة والنصيب والنظر إلى كل الشرور الاجتماعية على أنها قضاء وقدر، والنظر إلى المسلم الصابر على أنه نموذج المؤمن الصالح، والتسليم بما هو قائم وبالسلطة القائمة وإضفاء شرعية دينية عليها. ويتم توظيف الدين لخدمة السلطة حيث يُنظر إلى قبول الحاكم وعدم الثورة عليه على أنه واجب ديني، فالتسليم للحاكم أفضل وأسلم من الخروج عليه حتى ولو كان ظالما. لقد ظهرت هذه الفتوى على يد ابن تيمية في فترة الهجوم الصليبي والتتاري على العالم الإسلامي، وكان الخروج على الحاكم مكروها آنذاك حتى ولو كان ظالما، لأن هذا الحاكم كان يباشر مهمة التصدي للهجوم فيكون الخروج عليه في هذه الظروف مهددا لأمن الأمة، ذلك لأن المجتمع في حاجة شديدة إليه حتى ولو كان ظالما. لكن ما هو مبرر الفتوى الآن والحاكم لا يباشر صدا لهجوم أو غيره بل يباشر عملية تسهيل اختراق مجتمعه من قبل القوى الإمبريالية. هنا يصبح الخروج على الحاكم الذي جعل مجتمعه مطية للإمبريالية ضرورة قومية وهدفا أوليا يجب البدء به، لأنه أصبح هو المهدد الأساسي للأمن القومي. لكن تتلقف جماعات الإسلام السياسي هذا الهدف وتجعله مهمتها الأولى كرد فعل على إضفاء المؤسسة الدينية الرسمية الشرعية على الحاكم الظالم، وهنا تظهر فتوى أخرى بشرعية بل بواجب الخروج على الحاكم الظالم لكن في إطار نزعة عدوانية سوف نشرحها عندما نأتي لمفهوم توينبي عن نزعة التعصب التي تعد رد فعل المجتمع الذي يمر بمرحلة اضمحلال. تؤدي ظروف الاضمحلال التي يمر بها المجتمع الإسلامي إذن إلى ردي فعل متناقضين يأخذان الشكل الديني في صورة فتوتين متناقضتين: فتوى التسليم للحاكم حتى ولو كان ظالما وتعبر عن نزعة المسايرة، وفتوى الخروج على الحاكم وتعبر عن نزعة التعصب والتزمت. جمود مؤسسات المجتمع: أما عن ما يصيب أنظمة المجتمع المتحلل من جمود وتيبس وعدم قدرة على التعامل مع التحديات المستجدة Intractability of Institutions (IV, P.133) ، يذهب توينبي إلى أن هذا الجمود يتمثل في محاولة المجتمع الإبقاء على نظمه القديمة مستخدما إياها في التعامل مع التحديات الجديدة؛ وبذلك يتم حشر القوى الاجتماعية الجديدة في النظم القديمة، "خمر جديدة في زقاق عتيقة"، مما يشوه النظام الاجتماعي القديم ويجعله أكثر تيبسا وتصلبا حتى يواجه بالانكسار في النهاية، ويشوه كذلك القوى الاجتماعية الجديدة بوضعها في النظم القديمة، والنظر إلى المشكلات الجديدة بالمنظور القديم. ويظهر ذلك في المجتمع الإسلامي في الحفاظ على التعليم الديني المتمثل في مؤسسة الأزهر ونظام الكتاتيب جنبا إلى جنب مع نظم التعليم الحديثة، مما يؤدي إلى الازدواجية الاجتماعية والانقسام الثقافي داخل المجتمع الواحد بين السلفي والعلماني، وبين التراث والحداثة، وبين الإيمان والعلم. ثم تظهر محاولات الجمع والتوفيق بين هذه المتناقضات بعد أن تمكنت في المجتمع والثقافة، وتأخذ هذه المحاولات الطابع الشكلي والتوفيقي بل والتلفيقي غير منتبهة إلى أن أساس التناقض يكمن في ازدواجية نظام التعليم وجمعه التعليم الديني والتعليم المدني في نفس الوقت. كما تظهر ظاهرة جمود المؤسسات في تمكين الأزهر من التعامل بمنظوراته القديمة وعقلياته السلفية مع ظواهر اجتماعية جديدة مثل قضايا الإبداع الأدبي والفني وحرية البحث العلمي والأكاديمي، وبذلك تقيد المؤسسة الدينية الإبداع، إذ يجب أن يوافق الأزهر على كل عمل فني حتى لو لم يتعلق بالتاريخ الإسلامي، وعلى كل كتاب يتعامل مع نص ديني بالتحليل والتأويل وبوجهة نظر غير سلفية حتى لو لم يكن كتابا في الدين، ويظل يمارس تقييد حرية الإبداع والبحث والتفكير حتى يتشوه هو ذاته ويصبح محكمة تفتيش ويصير قيِّما على الضمائر والنوايا ويشكل رجاله بوليسا دينيا يتولى الرقابة على الضمائر ويحاكم الناس في أفكارهم وانتمائاتهم، وتصبح مهمته الأساسية ممارسة التكفير ويتحول إلى جهة اتهام وجهة تحقيق وجهة إدانة وجهة معاقبة بإصداره حكم التكفير، ويجمع بذلك كل السلطات بما فيها سلطات مدنية خالصة في دكتاتورية واضحة. وهم آخر يكشف عنه توينبي يذهب إلى الربط بين الخلافة والإيمان وصلاح المسلمين، حيث أن الإيمان لن يكتمل دون الخلافة، وحال المسلمين لن ينصلح بغيرها. هذا الوهم هو الوهم المرتبط بالخلافة باعتبارها دولة عالمية تأتي لتحفظ المجتمعات وتديم الإسلام وتتم الإيمان. ويظهر وهم التمسك بالدولة العالمية في كل حضارة متحللة بما فيها الحضارة الإسلامية، إذ ظهر لدى العصر الهليني المتأخر وتمثل في صورة التمسك بالإمبراطورية الرومانية المنهارة، وكذلك ظهر في العصور المتأخرة للإمبراطوريات الصينية والروسية والفرعونية. لقد كانت الخلافة هي دولة الإسلام العالمية التي نجحت في ضم مجتمعات عديدة تحت نظام واحد، وعندما انهارت الدولة العالمية وواجه الإسلام تحديات لم يقدر على التعامل معها بنجاح خاصة في القرن العشرين، ظهرت فكرة إحياء الخلافة، ومن قبلها فكرة الجامعة الإسلامية على يد الأفغاني، وما إحياء الخلافة إلا تعبيرا عن الحنين للدولة العالمية. ومن بين علامات انهيار الحضارة الاعتقاد في أن مؤسسة ما وجدت في مرحلة الازدهار والنمو وكانت عاملا على هذا النمو قادرة على الحفاظ على المجتمع في مرحلة انهياره. ويتمثل هذا في الحضارة الإسلامية في دعوة الاتجاهات السلفية إلى إحياء الخلافة والنظر إليها على أنها سوف تقدم الخلاص للمجتمع. يتباكى السلفيون على ضياع الخلافة بعد أن ألغاها كمال أتاتورك في تركيا، كما لو أن حال المسلمين كان أفضل أيام الخلافة العثمانية من الآن، وكما لو أن حال المسلمين كان أفضل أيام الخلافات السابقة على العثمانيين، وكأن الخلافة في حد ذاتها تعني صلاح المجتمع. يشكل إحياء الخلافة أحد الدعائم الأيديولوجية لحركة الإخوان المسلمين في مصر، إذ ظهرت الحركة على يد حسن البنا سنة 1929، أي بعد سنوات قليلة من إلغاء الخلافة في تركيا. ويتصف الفكر الداعي إلى إحياء الخلافة بنـزعة يوطوبية مثالية غائبة عن الواقع، فهو لا يقتصر على إحياء مؤسسة قديمة فات أوانها ولا يمكن العودة إليها بمقاييس عصرنا، بل كذلك يأخذ في الدعوة إلى إحيائها بصورة مجردة مع عدم التفكير فيمن يمكن أن يشغل هذا المنصب الآن، فمن هو المرشح الأفضل لخلافة الرسول في زماننا؟ كما يعتقد الخطاب السلفي أن الخلافة شخص، وأن من يشغل منصب الخلافة شخص، في حين أن نظام الخلافة كما كان موجودا بالفعل لم يكن يتمثل في أشخاص بل في أسر حاكمة كل منها ذات توجه أيديولوجي معين: الأمويون، العباسيون، الفاطميون، العثمانيون، ولم يكن أشخاص الخلفاء إلا منفذين لسياسات أسرهم الحاكمة. لا يعرف الخطاب السلفي شيئا اسمه المؤسسة، ولا يعرف أن السلطة في المجتمع المعاصر سلطة مؤسسية، إذ لا يعد رئيس المؤسسة سوى منسقا عاما ومنفذا لقرارات المؤسسة أو صانعا لقرارات تكون نتيجة تفكير مؤسسي لا تفكير فردي؛ هذا هو المفهوم الحداثي للسلطة، لكن المفهوم السلفي عنها تراثي وتقليدي؛ كما يتأثر الخطاب السلفي بما يحدث في مجتمعه من تركيز السلطات في شخص الحاكم وممارسته لسلطاته بأسلوب شخصي مما يطبع قراراته بالطابع الشخصي. ولا يفعل الإسلام السياسي شيئا سوى إحلال ما يسميه الخليفة محل الحاكم الحالي متخذا نفس سلطاته لكن تحت قناع ديني. يريد الإسلام السياسي من الخليفة أن يكون حاكما باسم الإله لا باسم الشعب، يريد أن يجعله دكتاتورا لا يستمد سلطاته من الشعب بل من قوى غيبية. والخليفة الذين يتمنونه لن يكون حائزا على سلطات مدنية وحسب بل سيكون بالإضافة إلى ذلك أميرا للمؤمنين، أي سوف يجمع السلطتين الدينية والمدنية، وهو صنف جديد من الدكتاتورية يتعدى الدكتاتوريات الحديثة التي لم تكن تجمع إلا السلطات المدنية. تحتوي النـزعة السلفية للإسلام السياسي على صفات عديدة تتشابه مع الفاشية التي تؤمن بالخلاص على يد قائد أو زعيم أوحد، إذ يظهر ذلك في إيمانها بالخلاص على يد خليفة أو أمير للمؤمنين، كما تحتوي على نزعة عدوانية مسلحة تعتقد في إمكان تغيير الأوضاع نحو الأفضل باستخدام العنف المسلح وتصفية الخصوم جسديا، ونزعة ماضوية تنظر إلى الماضي على أنه النموذج المحتذى، ونزعة خيال علمي تعتقد في إمكانية العودة إلى الزمان القديم بركوب آلة الزمن التي هي الدين حسب تصورهم عنه، فالدين لديهم هو آلة الزمن Time Machine التي إما أن تنقلنا نحن إلى الماضي أو تنقل الماضي إلينا (V, P.213) . إذا كانت السلفية أو الماضوية هي موقف الإسلام السياسي من الماضي، فإن الفاشية هي موقفه من الحاضر والمستقبل، فالفاشية هي الوجه الآخر للسلفية. وموقف السلفية من الحاضر موقف فاشي لأنه يتمثل في رفض المجتمع وتكفيره ومواجهته بالعنف المسلح، وموقفها من المستقبل فاشي أيضا لأنها تسعى لتأسيس دكتاتورية تحت مسمى الخلافة. وما يميز الإسلام السياسي الآن هو ما كان يميز حركة المتعصبين اليهودية Zealots في القرنين السابقين على الميلاد والقرن التالي له. النـزعة الشكلية: عندما يدخل المجتمع مرحلة التحلل يحاول الحفاظ على وحدته السابقة وتماسكه بأي شكل، ويظهر ذلك في اهتمامه الزائد بالصيغ القانونية الشكلية والصورية (VI, pp.49-83) . لقد افتقد المجتمع المتحلل حيويته السابقة وقدرته على الإبداع والتي كانت السبب في نموه وتوسعه وازدهاره، افتقد التلقائية المتضمنة في كل فعل حر وفي كل ممارسة اجتماعية جديدة وناشئة؛ وهو يعوض فقدان حيويته وتلقائيته وممارسته الحرة بفرض قانون صوري على أعضائه، قانون يضمهم قسريا في كل اجتماعي مصطنع. ويتأسس هذا القانون في فرض الممارسات الشكلية على أعضائه والتي دائما ما تأخذ صورة الشعائر. وبذلك تختفي الممارسة الاجتماعية Praxis الطوعية والمبدعة والتلقائية والحرة وتحل محلها الممارسات الشكلية للشعائر. وهي تحافظ على التماسك الشكلي للمجتمع لضمان وحدته. ولا يعد الكل الاجتماعي ذا مضمون عيني حقيقي بل يصبح كلا شكليا ويتحول إلى كل مظهري مصطنع. فلا يتمكن المجتمع من الحفاظ على الكلية الحقة التي تربط أعضاءه بروابط اجتماعية عينية، وكل ما يستطيع القيام به الحفاظ على كلية شكلية تأخذ صورة توحيد المقاييس الخاصة بسلوكيات الأفراد. ويصل توحيد المقاييس هذا إلى الملبس، فيحاول المجتمع المتحلل الحفاظ على وحدة وكلية شكلية مظهرية تأخذ شكل فرض الحجاب وما يسمى بالزي الإسلامي وإطلاق اللحية. وتتم المناداة بالعودة إلى الشريعة وكأن الشريعة واحدة في حين أنه لا وجود لمثل هذه الشريعة الواحدة، فهناك شريعة حسب الفقه الحنفي وشريعة حسب الفقه الشافعي وشريعة حسب الفقه المالكي وشريعة حسب الفقه الحنبلي، وهي كلها تندرج في الفقه السني الذي يقف بجانبه فقه شيعي وفقه الخوارج. لكن يتم التغاضي عن كل هذا الاختلاف والتنوع في فهم الشريعة ويتم التركيز على شريعة واحدة شكلية وصورية، وهي صيغ قانونية صورية تهتم بالشكل والمظاهر وبإضفاء وحدة شكلية مظهرية على المجتمع مع فقدان المجتمع ذاته لأي وحدة عينية حقيقية. يعمل الفهم الشكلي الصوري للشريعة على تحنيط المجتمع، أي الحفاظ على جسده مع غياب الروح. إن الفهم الصوري للشريعة يحنط المجتمع تماما كما كان قدماء المصريين يحنطون أجساد موتاهم، فتحنيط الجسد لدى الفراعنة كان بهدف الحفاظ على الجسد استعدادا لبعثه في الآخرة، وتحنيط المجتمع لدى الفهم الصوري الشكلي للشريعة يهدف الحفاظ على جسد المجتمع استعدادا للبعث أيضا. ولا يكون التحنيط إلا لجسد قد مات وانفصلت عنه الروح، ولذلك فالتحنيط الاجتماعي هو لمجتمع فقد روحه وأصبح مجرد جسد ميت. كما تصل النـزعة الشكلية إلى التحكم في سلوك الأفراد، وهو ما يسميه توينبي "آلية المحاكاة" Mechanicalness of Mimesis (IV,P.119)، ويقصد بها أن المجتمع الذي وجد أن نوعا من الفعل قد مكنه من النمو والازدهار في مرحلة سابقة من تاريخه يستمر في القيام بنفس الفعل على سبيل المحاكاة في مرحلة انهياره وذلك بطريقة آلية، معتقدا أن تكراره لهذا الفعل والتزامه بأدائه بحرفية سوف يساعده على البقاء وعلى تجاوز أزماته الحالية. ويظهر ذلك في حالة المجتمعات الإسلامية في الدعوة إلى الالتزام بالشعائر الدينية؛ فهذه الشعائر كانت مرتبطة بحضارة في طور التقدم والازدهار، حضارة قامت على أساس ديني بصفة رئيسية، ويعتقد الخطاب السلفي أن التزام أفراد المجتمع بتلك الشعائر والقيام بها بحرفية كاف للحفاظ على هوية مهتزة للمجتمع، وعلى مجتمع يمر بمرحلة انهيار. وتصل درجة الالتزام بالشعائر إلى أدق التفاصيل، حيث يشدد الخطاب الأصولي على الالتزام بحركات جسدية معينة. ولا تقتصر آلية المحاكاة على المحاكاة الجسدية بل تشمل كذلك المحاكاة اللفظية، أي الترديد اللفظي لعبارات معينة قبل ممارسة كل نشاط يومي؛ قبل الأكل وبعده، وقبل دخول البيت وعند الخروج، وقبل ركوب وسيلة مواصلات وبعدها، وقبل دخول السوق وبعد الخروج منه، وقبل ممارسة الواجبات الزوجية وبعدها. صنمية النص: تنتهي النـزعة الشكلية المتمسكة بحرفية النص إلى أن يتحول النص إلى صنم Fetish. يصبح النص صنما عندما يتخذه البشر وسيطا بينهم وبين الواقع، إذ لا يعودون يفهمون واقعهم مباشرة بل عن طريق النص، ولا يستطيعون التعامل معه إلا من خلال النص، ولا يستطيعون فهم وتفسير مشكلاتهم الواقعية إلا بردها إلى حلول يعتقدون في وجودها في النص؛ وعندما يعتقدون أن التمسك بالنص كاف لحل كل مشاكلهم. هنا يتخذ النص الطابع الصنمي، إذ يصبح هو الصنم الأكبر في حياتهم. فالصنمية هي أن يتخذ البشر وسيطا ما على أنه الأصل، يتخذون تمثالا أو رمزا أو شيئا أو نصا على أنه الحقيقة، وينظرون إليه على أن به قوة خفية تتعدى سكونه الظاهر، وأسرار لا يكشف عنها إلا للخاصة وبالتدريج، وهنا يتحول التمسك بالنص إلى نوع من السحر، إذ يصبح النص تعويذة لطرد الشر والجن والعفاريت وجلب الخير. النصيون لم يفعلوا شيئا إلا أن أحلوا النص محل الصنم. صحيح أنهم حطموا الأصنام القديمة إلا أنهم أقاموا مكانها صنما جديدا. وصنمية النص أقوى أنواع الصنمية ويفوق خطرها صنمية الشئ المادي، فالصنم المادي من السهل تحطيمه والتخلي عنه لأن تفاهته ولاعقلانيته ظاهرة للعيان، أما صنمية النص فتستعصي على التحطيم، لأن النص متكلم في حين أن الرمز صامت، والنص معنوي يتم تبادله على الألسنة وبين الأجيال. إن ضربة قوية باليد كفيلة بتحطيم التمثال أو الصورة، لكن صنمية النص لا يمكن تحطيمها بهذه الطريقة، ولذلك سوف نظل أسرى لها طويلا. الانقسام في النفس البشرية: وكما تشهد الحضارات المتحللة انقساما في المجتمع، تشهد انقساما آخر في النفس البشرية. ومن مظاهر انقسام النفس البشرية نزعة الاستشهاد التي تدفع الفرد للانفصال عن مجتمعه والاندفاع المحموم نحو عدوه أو من يتصوره أنه عدوه مضحيا بنفسه. إن نزعة الاستشهاد تعد من مظاهر انقسام النفس البشرية لأن الشخص الذي يضحي بنفسه يكون قد انفصل عن مجتمعه من البداية، وقام باندفاع يائس نحو عدوه لا يحسب النتائج التي تترتب على استشهاده.فالشخص اليائس الذي يندفع نحو الاستشهاد تسيطر عليه رغبة غير عقلانية، لأنه يعمل بمفرده عالما أن النهاية هي موته، ولا يفكر بمقاييس النجاح والفشل بل يدفعه الإحباط إلى فقدان حياته.(V, pp.404-411). إن نزعة الاستشهاد لا تنتشر إلا في مجتمع يعاني أفراده من الإحباط واليأس الشديد والذين ينفصلون عن مجتمعهم بتفضيلهم الموت على الحياة، وهو موت في سياق الفشل والخسارة. ويمثل المستشهد مثالا على انقسام النفس لأن تفكيره قد سيطرت عليه ثنائيات متناقضة، إذ يفكر بثنائيات الخير والشر، والحلال والحرام، والإيمان والكفر، وهو يرى أن كل ما حوله شر وكفر. وتتمثل تعاسته وتعاسة مصيره في أنه يصبح ضحية للشر والكفر الذي يحاربه، ويسمح لهما بأن يأخذا حياته. فعلى الرغم من أنه لا يرى أمامه إلا الزوجين المتناقضين الخير والشر، إلا أنه لا يعمل من أجل الخير بل يجعل نفسه ضحية للشر لأن اندفاعه نحو الموت لا يؤدي به إلا أن يضع نفسه تحت رحمة نفس هذا الشر الذي يحاربه. ومن بين مظاهر اتقسام النفس البشرية المصاحبة لمرحلة تحلل الحضارات نزعة التمركز حول الذات، أو ما يسميه توينبي "تمجيد ذات زائلة" Idolization of an Ephemeral Self (IV, P.261)، ويتمثل ذلك في المجتمع الإسلامي في النظر إلى الأمة الإسلامية على أنها الأفضل بين الأمم، وعلى أنها سوف تنول وحدها الخلاص الأخروي، في حين أن حالها هو الأسوأ بين شعوب العالم. والذات يمكن أن تكون شخصا وتتحول النـزعة بذلك إلى تمجيد الأشخاص على حساب المبادئ والقيم والأفكار، وتعتقد أن المبادئ والقيم لا تقوم إلا بالأشخاص، بل وبأشخاص معينين يمثلونها، مثل تجسد الكرم في حاتم الطائي، ويصبح الكرم حاتميا، أي متصفا بالشخص ولا يقوم بذاته، ويتجسد العدل في عمر ويصير العدل عمريا، وتتجسد الشجاعة في عنتر بن شداد وتصبح الشجاعة عنترية، ويصبح الإيمان نورا محمديا. ويمكن أن تكون الذات أفرادا كثيرين يشكلون مجموعة وتصبح ذاتا جمعية متمثلة في الصحابة والتابعين وبذلك يُنظر إليهم على أنهم يجسدون كل القيم الإنسانية ويصبحون مثلا لكل الأجيال ويتم تقديسهم في حين أنهم بشر عاديون ليس لهم أي أفضلية سوى أن تصادف وجودهم في فترة زمنية معينة. إن نزعة تمجيد الأشخاص تكشف عن عدم القدرة على إدراك أن المبادئ والقيم يمكن أن تتحقق في المجتمع وفي نظمه ومؤسساته ولا تقتصر على الأشخاص، بحيث تكون مؤسسات المجتمع ضامنة لصلاح الأفراد. فمع عجز المجتمع المتحلل عن تحقيق العدل مثلا يتم إلحاق العدل بشخص عادل يستطيع وحده تحقيق العدل بأفعاله الفردية، في حين أن العدل قيمة يجب أن تتجسد في المجتمع ونظمه، ومع عجز المجتمع عن تحقيق الفضيلة تصبح الفضيلة صفة لشخص يستطيع نقلها لغيره ويتم تمجيد وتقديس الفضلاء في ذاكرة الناس كتعويض عن افتقاد المجتمع للفضيلة وعجزه عن تحقيقها. ويتناول توينبي نوعا آخر من الشعور يظهر في الحضارات المتحللة يسميه "الشعور بالانسياق" The Sense of Drift ، ويتمثل في نزعة الجبر (V, P.424). ويتناول توينبي مذهب أبي الحسن الأشعري كمثل على ذلك الشعور، ويذهب إلى أنه يظهر لدى الأفراد في المجتمعات المتحللة ويتمثل في اعتقاد المرء أنه خاضع لقوة أعلى منه ومن المجتمع كله تفوقه وتتحكم فيه وتضع له مصيره ولا يستطيع منها فكاكا. والسبب في هذا الشعور أن المجتمع فقد القدرة على مواجهة الأخطار التي تواجهه والتعامل معها بنجاح وأصبحت نظمه ومؤسساته عاجزة، وهذا العجز ينعكس في وعي الأفراد ويأخذ شكل الاعتقاد في الجبر والقدر وفي كون الإنسان مسيرا، وهو لا يشعر بأنه مسير إلا لأن الظروف التي يعيشها قد انفلتت من سيطرته ولم يعد متمكنا من التعامل معها بإرادته الحرة، وتحولت إلى قوة طاغية تتحكم فيه، فيشعر عندئذ بالعجز أمامها وبالانسياق في تيارها، تأخذه حيث شاءت وتفعل فيه ما تشاء دون إرادة منه. كما يظهر نوع آخر من الشعور في الحضارات المتحللة يسميه توينبي "الشعور بالخطيئة" The Sense of Sin (V,P.432). والشعور بالخطيئة نوعان، نوع يشعر به المرء في نفسه ويعتقد أنه خطاء ويشرع في التوبة والتضرع طلبا للمغفرة، ونوع آخر يشعر به المرء في مجتمعه ويعتقد أن المجتمع كله خطاء وبالتالي يحكم عليه بالكفر. والنوعان منتشران في المجتمعات الإسلامية الآن، وخاصة النوع الثاني. فالشعور المسيطر على الجانب المسلح من جماعات الإسلام السياسي هو الشعور بخطيئة المجتمع، ومن هنا تكفيره. وهم لا يشعرون بخطيئتهم هم بمثل ما يشعرون بخطيئة الآخرين. لو كانوا يحسبون نتائج أفعالهم الإرهابية لقتلهم شعورهم بالذنب وبالخطيئة التي ارتكبوها في حق مجتمعهم والتي تفوق أي خطيئة يتصورونها لهذا المجتمع. كما يسود المجتمعات المتحللة شعور آخر يسميه توينبي "الشعور بالاتحاد" Sense of Unity ، وهو شعور البعد الواحد ووجهة النظر الواحدة التي تعتبر نفسها هي الصحيحة والبقية خاطئة أو ضالة أو كافرة، ويظهر ذلك في المجتمع الإسلامي في صورة الفرقة الناجية، في حين أن محمدا قد اعترف بأهمية تعدد الآراء والاختلاف: "إختلاف أمتي رحمة"؛ لكن تظهر على السطح فكرة الفرقة الناجية وتسود. إن الشعور الأحادي والبعد الواحد يسودان في المجتمعات المتحللة كعلامة على الرغبة في القضاء على التنوع والتعدد الذي يظهر في صورة اختلاف وخلاف وتشتت وانشقاق. يظهر التعدد في مراحل نمو وازدهار الحضارات على أنه علامة صحية، فتظهر الديمقراطية في المجال السياسي أو المذاهب الفقهية المختلفة بل والمتعارضة في بعض النواحي في المجال الديني. وتنقلب ظاهرة التعدد إلى ظاهرة ضارة تعبر عن الانشقاق والخلاف في مرحلة التحلل، فيسود المذهب الواحد وتتم المناداة بالعودة للإسلام كما لو أن الإسلام واحد، في حين أنه ليس هناك وجود لمثل هذا الإسلام الواحد؛ فهناك إسلام مالكي وإسلام شافعي وإسلام حنبلي وإسلام حنفي، وهو كله إسلام سني يقف بجانبه إسلام شيعي وإسلام صوفي وإسلام خوارجي وإسلام معتزلي؛ إسلام أزهري مصري وإسلام سنوسي وإسلام وهابي سعودي وإسلام خوميني إيراني. ولأن المجتمع المتحلل يعيش حالة من الاغتراب ومن انفصال أفراد عنه وعن بعضهم البعض، ولعدم وجود أي رابط حقيقي بينهم، ينظر هذا المجتمع إلى الفضيلة على أنها علاقة مع شئ آخر يعلو المجتمع والعلاقات الاجتماعية ويتجاوزهما (VI,pp.132-148) ، سواء كان هذا الشئ في الماضي أو في السماء، وسواء كان منفصلا عن المجتمع في الزمان أو في المكان. وتصبح الفضيلة هي التمسك بالدين حسب ما يفهمه السلفيون، أي التمسك بالشعائر التي يؤدونها بمحاكاة آلية. وفي هذا الوضع يغيب البعد الحقيقي للفضيلة وهو بعدها الاجتماعي الذي يتجسد في العلاقات بين الناس وبعضهم وبينهم وبين مجتمعهم الذي يشملهم. فلأن أفراد المجتمع منفصلين عن بعضهم البعض ومغتربين، يحاول المجتمع أن يقيم روابط أخرى متجاوزا نفسه ومكانه وزمانه مع الماضي ومع السماء. يعوض المجتمع فقدان الروابط الداخلية بين أعضائه بإقامة روابط خارجية في الزمان والمكان، فيرحل عن زمانه ومكانه تاركا حاضره مسافرا نحو الماضي ونحو السماء معتقدا أن هذا يعوضه عن فقدان ذاته في الحاضر. ولا يستطيع المجتمع الانتقال الفعلي الحقيقي إلى الماضي وإلى السماء بل يظل شقيا تعيسا في حاضره، ولذلك فالرحلة التي يقوم بها ليست رحلة حقيقية بل رحلة متخيلة، رحلة حالمة تمده بمهدئات مؤقتة، وهي إن زادت على الحد يتحول تأثيرها إلى التخدير، ويصبح الدين أفيون الشعوب.
#أشرف_حسن_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاقتصاد السياسي النيوكلاسيكي: المدرسة النمساوية
-
آدم سميث والليبرالية الاقتصادية
-
هل الحجاب فريضة؟
المزيد.....
-
أبرزهم القرضاوي وغنيم ونجل مرسي.. تفاصيل قرار السيسي بشأن ال
...
-
كلمة قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي خامنئي بمناسبة
...
-
قائد الثورة الاسلامية: التعبئة لا تقتصر على البعد العسكري رغ
...
-
قائد الثورة الاسلامية: ركيزتان اساسيتان للتعبئة هما الايمان
...
-
قائد الثورة الاسلامية: كل خصوصيات التعبئة تعود الى هاتين الر
...
-
قائد الثورة الاسلامية: شهدنا العون الالهي في القضايا التي تب
...
-
قائد الثورة الاسلامية: تتضائل قوة الاعداء امام قوتنا مع وجود
...
-
قائد الثورة الإسلامية: الثورة الاسلامية جاءت لتعيد الثقة الى
...
-
قائد الثورة الاسلامية: العدو لم ولن ينتصر في غزة ولبنان وما
...
-
قائد الثورة الاسلامية: لا يكفي صدور احكام اعتقال قيادات الكي
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|