أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام مراد - سلام مراد يحاور شاهر أحمد نصر في -الموقف الأدبي-















المزيد.....



سلام مراد يحاور شاهر أحمد نصر في -الموقف الأدبي-


سلام مراد

الحوار المتمدن-العدد: 8140 - 2024 / 10 / 24 - 15:03
المحور: الادب والفن
    


إنني أبحث عن الإنسان لنرتقي معاً على درب الإنسانية المتحضرة

في ربوع قرية الصفصافة بمحافظة طرطوس، وفي بيت ترابي قديم مكون من غرفتين متلاصقتين مبنيتين من الحجارة البازلتية نشأ وترعرع الأديب المهندس "شاهر أحمد نصر" (1956) ضمن أسرة فلاحية كادحة... وقد أحبّ القراءة منذ طفولته، فأخذ يستعير القصص من مكتبة المدرسة، ويشتري قصصاً أخرى بالقروش، التي ينالها في فترات متباعدة... كانت دراسته حتى تخرجه في المرحلة الثانوية شيقة وشاقة، أهم ما يميّزها شعور أغلبية أبناء جيله بالمسؤولية الاجتماعية والوطنية، ما تطلب الاهتمام بالثقافة والمعرفة، والمشاركة في النشاط الاجتماعي والسياسي، وتحمّل مسؤولية ذلك.
دفعه عشقه للرياضيات إلى دراسة الهندسة في جامعة الصداقة في موسكو بين عامي 1975 - 1981... إلى جانب الدراسة والعمل في المعسكرات الصيفية لم يحرم نفسه من المتعة في ارتياد المسارح، ودور السينما، والمتاحف، والمطاعم، والنوادي، والحدائق الغناء، وقراءة الكتب، والاستجمام في بيوت الراحة على البحر الأسود، والتزلج على الجليد في غابات موسكو، ولينينغراد (سانت بطرسبورغ)، والغابات المجاورة لـ فلندا، وزيارة أهم المدن السوفيتية، كـ لينينغراد ومتاحفها وقصورها وضواحيها، وكييف، وخاركوف، وطشقند، وسمرقند، وستالينغراد (فولغا غراد)، واركوتسك، وكراسنايارسك، وأوديسا، وسوتشي، وجبال القفقاز، وكشِنيوف، وبنديري، وكوشنتسا، وآدلر، وأهم متاحف وقصور ومسارح وحدائق هذه المدن... وقد أغنت هذه المتعة معارفه، وجهوده في دراسته.
نستضيف الأديب شاهر أحمد نصر للاطلاع على المزيد من تجربته؛ فكان الحوار التالي:
سؤال: - هلا قدمت نفسك للقارئ... وكيف تعرفه بك كأديب ومهندس، ومترجم؟
ليس سهلاً أن أقدم نفسي. هل يعلم أبناء الحياة، حقاً، من هم؛ حتى أعلم من أنا، وأقدم نفسي؟ كثيراً ما يُلقى في ذهني أنّ وجودي، كوجود أي إنسان، ربّما يعود في أصله وجذوره إلى ذرات تراب، جمعتها الريح ولهيب النار والندى في جسد ونفس وروح، وستذرّها الريح، أيضاً، شذراً يوماّ ما؛ أي إنني لست أكثر من ذرة تراب في وطني، وفي هذا العالم، في سلسلة متواصلة عنوانها الحياة... معلمي الأول هو الحياة، والكتاب، والعلاقات الاجتماعية، والثقافة الإنسانية عموماً... أتوق إلى أن أسمو مع بني البشر، لنرتقي ونسمو إلى الإنسانية العقلانية الواعية المتحضرة... ولدت في الصفصافة في محافظة طرطوس يوم احتفال أهلي بعيد الأضحى في يوم صيفي قائظ، حسب ما بقي في ذاكرتي من شذرات حديث متكرر بين أمي وجارتنا، التي أكملت طهو "أقراص العيد من البرغل والحمص" نيابة عنها، إذ جاءها المخاض وهي تعجن تلك الأقراص... ولمّا تيقن والدي أنني بقيت حياً بعد نحو نصف سنة من ولادتي، وأنّه لن يتكلف عناء تسجيلي ورفدي، ذهب إلى صافيتا، وسجّل يوم ميلادي في 5 شباط 1956، فنشأتُ في أسرة فلاحية كادحة، لا أعلم تماماً عدد أفرادها الأموات والأحياء؛ كلّ ما أعلمه أنّ عدد أشقائي الأحياء، الذين يزيدونني عمراً ثلاثة، والذين أزيدهم عمراً ثلاثة، وثلاث شقيقات، عشنا جميعاً مع والدي ووالدتي في بيت ترابي قديم مكون من غرفة واحدة، ثم أصبح غرفتين متلاصقتين مبنيتين من الحجارة البازلتية في صفين، وسقفه من عوارض خشبية فوقها طبقة من البلان، وأخرى من التراب تعلوهما طبقة رقيقة من الحوار الكلسي... وأعلم أيضاً أنّ أفراد هذه الأسرة أكملوا تعليمهم جميعاً، وحازوا أعلى الشهادات... في تلك الأسرة أحببت القراءة منذ طفولتي... لن أسهب في التفاصيل الذاتية الكثيرة، كيلا أرهق القارئ، علماً أنّ تلك مرحلة تؤسس لبناء الإنسان، سأحاول تلخيصها بأنّها مرحلة عشقي، كما كثر من أبناء جيلي للدراسة، والثقافة، والاهتمام بشؤون النّاس والوطن، وعشقي للرياضيات؛ ربّما هذا ما دفعني إلى دراسة الهندسة... كم أسعدني ذات يوم، حين كنا في معسكر عمل صيفي في سهوب "تسيلينا" الكازاخية، إذ قرأت عبارة منسوبة إلى لومونوسف مدونة إلى جوار سبورة الغرفة التي خصصت لنا، تقول: "الرياضيات تنظّم المخ"!
في مرحلة الدراسة الجامعية بقيت حريصاً، كأغلب زملائي على الدراسة، وعلى اكتساب العلم والمعرفة، إلا أنّ أحوالي المادية السيئة، واقتناعي بضرورة الاحتكاك مع الشعب السوفييتي لتمكين لغتي ومعارفي، ورغبتي في التعرف إلى التجربة السوفييتية عن قرب، دفعتني إلى العمل في العطلة الصيفية في معسكرات العمل في موسكو، وسيبيريا، وكازاخستان، وقد كانت تجربة غنية، لكنّها مريرة، بينت حجم الفساد، وانسداد أفق البنية السوفييتية، وأنّ أبناء الاتحاد السوفييتي كانوا يترقبون حدثاً جللاً، إنّما لا أحد يستطيع وصفه... فضلاً عن دراستي الجامعية ومشاركتي في معسكرات العمل، لم أحرم نفسي من متع الحياة؛ وقد أعانتني هذه المتع على إغناء معارفي، وجهودي في دراستي.
أما كيف أعرّف القارئ إليّ كأديب، ومهندس، ومترجم؛ فإنني سأدع أعمالي وكتبي تتحدث عن ذلك؛ باختصار شديد أقول إنّ الحياة جبلت مني ما أنا عليه، إنّ مثالبي، وعيوبي، ونواقصي، وأخطائي كثيرة لا تُحصى، ربّما عددها يعادل أنفاسي... تدفعني غالباً إلى أن أفكر في مدى تفاهة الإنسان... وأتساءل: هل يأتي يوم يعي فيه الجبابرة والاستبداديون - الذين يظلمون النّاس، ويشعلون الحروب، ويقتلون الإنسان، ويدمرون الحضارة - كم هم تافهون؟ وهل تساعد الإنسان معرفته مدى تفاهته في رفع وعيه، والسمو بنزعته العقلانية والإنسانية؟ متى يعي الإنسان كم هو جميل، ومبدع، وتافه، في الوقت نفسه، فيخفف من تفاهته، ويعزّز جماله؟!
تتنازعني ميولٌ كثيرةٌ، منها أن أعيش مرتاحاً بلا عناء، إنّما متطلبات الحياة، والشعور بالواجب والمسؤولية تجاه النّاس الذين أسهموا في تربيتي وتعليمي لردّ جميلهم تدفعني إلى العمل في هذه المجالات لتقديم ما أزعم أنّه مفيد وممتع لهم. إذ إنني كثيراً ما أفكر وأتساءل، حينما أتناول طعامي: هل بذلت جهداً، وعملاً مفيداً يوازي العمل والجهد الإنساني الكبير الذي بُذل لوصول هذا الطعام إلى متناول يدي، كي أكون جديراً به؟
من هذا المداد الفكري وغيره أنهل، وأنسج أدبي، ناشداً البساطة، والواقعية، وأصادق الخيال الحيّ، وأنبذ الشطحات... تستهوني الأمور الغامضة بما فيها الروحية، وأسعى كيلا تجرفني في تياراتها المضطربة، وألا تشغلني عن واجباتي الحياتية والاجتماعية... يعينني في تأديتها السعي لامتلاك منهج حياة وتفكير مجرب في نشر قيم الخير، والمحبّة، والجمال، والحريّة، ومحبّة العلم، والعمل، وإعمال العقل، وتلك من أركان السعادة في فضاء تزينه مختلف أصناف الفنون...
سؤال: كيف توازن بين عملك في الهندسة، وعملك في الكتابة والترجمة؟ وهل ثمة تقاطع بينها؟ وأين تجد نفسك؟
- إنني أؤيد الرأي القائل إنّ مهمة المهندسين والأطباء، والمحامين، والمعلمين، وأصحاب المهن العلمية لا تنتهي بحصولهم على شهاداتهم العليا، بل ينبغي لهم الاستمرار في البحث العلمي، والإنتاج، والترجمة والتأليف في تخصصهم العلمي، وألا يقتصروا على ميدانهم في مهنهم، بل يتجاوزوه إلى غيره من الميادين الثقافية، لأنّ الثقافة العامة ينبغي أن تكون قاسماً مشتركاً في كلّ مثقف، وينبغي لكلّ صاحب مهنة، مهما كان اختصاصه، أن يشارك في الثقافة الإنسانية العامة، لأنّ هذه الثقافة توسّع أفقه ومعرفته حتى في نطاق اختصاصه... أما التوازن بين أعماله المتنوعة، فيتطلب حسن تنظيم الوقت، واعتماد برنامج عمل، ولو ذهنياً، وحسن استثماره. هذا ما سعيت إليه في حياتي لكي أوازن بين عملي في الهندسة، وعملي في الكتابة والترجمة... علماً أنّ حبّ العمل وإيلائه كلّ الاهتمام يسهم في إتقانه، إنني أعشق العمل الهندسي دراسة وتنفيذاً، في التنفيذ أسعى لحضور جميع مراحله... فضلاً عن أنّ التعاون والمشاركة في العمل مع أناس متميزين بحبّهم للعمل يثريه، ويغنيه، ويزيده دقة.
في أثناء عملي الهندسي، وإعداد الدراسات الهندسية كنت أعود إلى مختلف المراجع العلمية، بما فيها الروسية وأترجمها، كي أستفيد منها وأفيد زملائي، إذ إنني حين عملت في مؤسسة المياه، على سبيل المثال، رأيت أنّه من المفيد أن أعدّ مرجعاً باللغة العربية في الهندسة الصحية، فترجمت وأعددت كتاب: "الهندسة الصحية بين النظرية والتطبيق"، واستلفت مبلغاً من المال لطباعته، وبعد طباعته أسهمت نقابة المهندسين، ومؤسسة المياه في نشره واقتنائه، وأسعدني أنّ كثيراً من المهندسين استفادوا منه، وكذا الأمر حينما اتجهت إلى دراسة الأبنية العالية على مقاومة الزلازل، فترجمت، ونشرت بالتعاون مع فرع طرطوس لنقابة المهندسين أكثر من مرجع في هذا المجال منها:
- تصميم المنشآت البيتونية المسلحة - دار إياس، بالتعاون مع نقابة المهندسين ـ طرطوس 1997 (ترجمة وإعداد)..
- تصميم الأبنية العالية على أحمال الزلازل - دار عمريت، بالتعاون مع نقابة المهندسين - طرطوس 1999 (ترجمة وإعداد)
- تصميم المنشآت الهندسية على أحمال الزلازل وفق الطرق التقليدية وبرنامج STAAD-III ـ دار السوسن ـ دمشق 2004
ثمّة تقاطع كبير بين فنّ الهندسة والفنون الأخرى، بما فيها الأدب، أليس البنيان السليم أحد أهم أركانها جميعاً؟ ألم يُنسب إلى أفلاطون أنّه كتب فوق باب أكاديميته الفلسفية: "لا يدخلها إلا من كان مهندساً"؟! لا غرابة أن تجد الطبيب، أو المهندس، أو المحامي الناجح ملماً بالأدب والفكر والفلسفة، والأديب الناجح هو الملم بمبادئ الفلسفة، والمطلع على نظريات العمارة والهندسة الجمالية...
إنني أجد نفسي مهندساً، أتنفس جمال الأدب والترجمة، وتدفعني أزمات مجتمعي والعالم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، التي تُلقي بثقلها على حياتنا، إلى الاهتمام بالبحوث الفكرية في محاولة للعثور على حلول لها، في هذا السياق، فضلاً عن الكتب الهندسية، جاءت كتبي التي تبحث في المجال الفكري، ومنها:
- الدولة والمجتمع المدني ـ دار الرأي ـ دمشق 2005 (قدم للكتاب الدكتور: طيب تيزيني).
– بحوث فكرية في الفلسفة ومناهج التفكير – منشورات اتحاد الكتاب العرب – سلسلة الدراسات (1) دمشق 2020.
كما أنّ كثيرين من القراء والأصدقاء يشيرون إلى الطابع الفكري الذي تتميز به روايتي: "قدس الأقداس"، و"خزامى". (صدرت الطبعة الأولى من رواية "قدس الأقداس" عن دار الكنوز الأدبية - بيروت 2001، والطبعة الثاني عن دار المركز الثقافي – دمشق- 2006. أما رواية "خزامى" فقد صدرت عن دار شرق وغرب - دمشق – 2011).
في المجال الفكري تشغلني مسائل عدة أهمها معاناة المجتمعات البشرية أزمة في بنية الدولة، وأنّ المهمة الأساسية أمامها هي ابتكار بنية دولة معاصرة تستوعب كلّ منجزات البشرية في مجال بنية الدولة، وتتجاوزها لتنسجم مع متطلبات عصر المعلوماتية في الحرية والتغيير. كما تشغلني مسألة أخرى هي مفهوم المؤامرة التي تعانيها البشرية منذ القدم، إنّما الخطورة تكمن في التستر خلفها للتمويه على الأزمات والتناقضات الداخلية ما يزيد من تفاقمها، ويهدّد وجود الدول...
وفي كتاب "بحوث في الاقتصاد السياسي" الصادر عن دار الطليعة الجديدة - دمشق 2008 نوهت إلى أهمية أن تدخل مفاهيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية في شرعة الأمم المتحدة، مثلها مثل حقوق الإنسان، لأنّها، من وجهة نظري، إرث إنساني عام، وضرورة موضوعية لمعالجة التناقضات التناحرية المدمرة في المجتمعات البشرية...
أما سؤالكم حول التقاطع بين الهندسة والكتابة، فقد لفت انتباهي إلى ذلك التكامل بين الهندسة وعلم الجمال، والأدب، والفكر والفلسفة؛ والمهندس الناجح يلّمّ بها جميعاً كي ينجح في عمله ويُقدّم ما في مقدرته من فائدة لأبناء شعبه، هنا يجدر التنويه إلى وجود جانب إنساني في أي مهنة، وتبقى عملية نشر قيم المحبّة، والوعي، والحرّيّة، والجمال هي مقياس النجاح في أي مهنة... والمحامي، أو المعلم، أو المهندس والطبيب والفنان الذي لا يسهم في تعزيز العلاقات الاجتماعية والالفة بين النّاس شخص فاشل؛ إنني أسعى للموازنة بين مهنتي وعلاقاتي الاجتماعية، هذا يتطلب ثقافة واسعة، ومعرفة شاملة، وفكراً نيّراً.
سؤال: كيف دخلت عالم الكتابة؟ وبمن تأثرت من الأدباء السوريين؟ وما هو أول عمل صدر لك؟
في أثناء دراستي الجامعية كنت أترجم فقرات من كتب هندسية، ومقاطع من أشعار بوشكين، وليرمنتوف، ويسينين، وأحتفظ بها لنفسي، وفي السنوات الأخيرة من دراستي طُلبت مني ترجمة مقال عنوانه: "الكومنتيرن والأحزاب الشيوعية العربية" لمؤلف روسي اسمه "كوساتش" على ما أذكر، هذا أول مقال ترجمته، ونُشر، من دون ذكر اسم المترجم، في العدد الثاني من مجلة "النهج"، التي تحول اسمها فيما بعد إلى "المدى".... حين عُدتُ إلى الوطن، اصطحبتُ معي مجموعة من الكتب الهندسية، والأدبية، والفكرية باللغة الروسية، واسطوانات من الموسيقا الكلاسيكية لبتهوفن، وموزارت، وباخ، وتشايكوفسكي، وأغاني الأوبرا التي أعشقها... أمضيت جلّ وقتي في قراءة تلك الكتب فضلاً عن الكتب العربية، والاستماع إلى الموسيقا، وحينما باشرت العمل الهندسي كنت أصطحب معي إلى المشاريع التي أعمل فيها الكتب المتعلقة بتلك التخصصات، وأترجمها في أقات استراحتي... حين بدأت أترجم تلك الكتب وجدت أنني في حاجة إلى تمكين لغتي العربية، فاقتنيت عدداً من المراجع اللغوية، وأهمها: "جامع الدروس العربية" للشيخ "مصطفى الغلاييني"، الذي ما زلت أعود إليه باستمرار...
في أثناء مطالعاتي تلك لفت انتباهي أنّ عناوين الكتب والمجلات العربية ومحتوياتها ضاغطة تثقل على ذهن القارئ العربي، ووضعت نصب عيني أن أقدّم إلى المكتبة العربية دورياً، حسب مقدرتي، كتاباً علمياً وكتاباً أدبياً، فكان أول كتاب علمي نشرته: "الهندسة الصحية بين النظرية والتطبيق" (ترجمة وإعداد)، وقلت في نفسي يستحق القارئ العربي أن يتنفس الحبّ والجمال، فترجمت كتاباً أسميته "من أجمل ما كتب بوشكين"، يحتوي عدداً من أجمل قصائد "بوشكين" في الحبّ، ومشاهد من مسرحية "موزارت وساليري" الشعرية، وفصولاً من رواية "يفغيني أونيغين" الرومانسية الشعرية، فضلاً عن مقدمة تاريخية في حياة بوشكين وأعماله الإبداعية.... هناك عبارة جذبتني إلى ملحمة "موزارت وساليري"، ودفعتني إلى ترجمتها، إذ إنني استمعت إليها تغنى أوبرا على خشبة "مسرح البلشوي" في موسكو، في أواخر الأوبرا التقطت عبارة لـ"ساليري"، وهو يدّسّ السم في كأس "موزارت"، طامعاً في أن يتربع مكانه على قمة مجد الفن الموسيقي بعد قتل صديقه، ولقد لخّص بوشكين ذلك الصراع النفسي العميق باستنتاج صاعق قائلاً:
"ستغفو طويلاً، يا موزارت!
أيُعقل أن يكون مصيباً؟
وأنا لست عبقرياً؟
فالعبقرية والشرَ لا يجتمعان".
لقد دفعتني عبارة "العبقرية والشرَ لا يجتمعان" إلى أن أحمل هذا النص، في حقيبتي سنوات، عاقداً العزم أن أترجمه، وهكذا ترون إنّ كلمة واحدة، أو عبارة، أو حالة تكون حافزاً إلى ترجمة نص.
أما بمن تأثرت من الأدباء السوريين، فإنني استفدت من جميع الأدباء، الذين قرأت أعمالهم، إنّما يبقى الفضل الكبير إلى "أمير شعراء الرثاء"، "زيتونة الشام"، الأديب الموسوعي، المترجم الفذّ وعضو مجمع اللغة العربية: "عبد المعين الملوحي" في تثبيت عزيمتي الأدبية... إذ بقي مخطوط "من أجمل ما كتب بوشكين" في أدراجي أكثر من سنة، أتهيب نشره، لأنني مهندس وتخصصي علمي؛ فكيف أنشر عملاً أدبياً، قد يحتوي أخطاء؟ إنّ عملية نشر الكتاب مسؤولية كبيرة، ومن غير المنطقي أن تنشر كتاباً لست متأكداً من خلوه من الأخطاء... جمعتني مقادير الحياة الجميلة بـ الإنسان الحقيقي: "عبد المعين الملوحي"، ووافق على تدقيق المخطوط لغوياً، وكتب مشكوراً مقدمة له؛ هكذا جاء كتاب: "من أجمل ما كتب بوشكين" (ترجمة) – مكتبة النورس - طرطوس - أول كتاب أدبي مترجم نشرته عام 1995.

سؤال: إنّك كأي أديب وكاتب مولع بالقراءة والكتابة؛ هلا حدثتنا عن حالة الكتابة... وهل تشيخ الكتابة؟
"اقرأ"؛ أجمل جملة في كلمة، يحق للعرب أن يباهوا بها أمام العالم... مِن ثّم أتت الكتابة ضرورة ملازمة وحارسة لـ"اقرأ"؛ فالكتابة تحفظ اللغة، وتحفظ إنتاج البشرية الفكري، وميراثها الثقافي والعلمي؛ فضلاً عن إسهامها في تنظيم الأفكار، وتفاعل ملكات الإنسان وتطور موهبته، إنّها وسيلة مهمة لتوريث المعرفة من جيل إلى جيل...
الكتابة الإبداعية كالتنقيب عن الذهب؛ فالكاتب المبدع يعارك الحياة، ويقرأ ، ويقرأ، ويطلع على الثقافة البشرية، وعلى مختلف صنوف المعرفة حتى ينتقل إلى ساحة الكتابة التي لا تمنح نفسها إلا لمن عارك في سبيلها وأصبح يستحقها، إنّها هبة متميزة تُمنح لمن صقلت الحياة مشاعره، وسمت أحاسيسه، وصفا ذهنه عبر القراءة والتدريب ومعاركة الحياة، ولمن ظلّت محبّة العمل، والبحث عن الجمال، والحرية، والمحبّة نبراس حياته، ومن لازمت تفكيره أسس البحث العلمي - "النقد، والشكّ، والموضوعية والتجرد عن الهوى"، كما وضعها ابن الهيثم - منهجاً ناظماً لبحوثه، كي يبدع نصوصاً نسيجها بيان بديع فصيح متناسق عابق بقيم الخير، والجمال، والكرامة، والحرية، وحبّ العمل وتخليد محبّة الأهل والإنسان والوطن...
أسمى لحظات الكتابة حينما يتفاعل عقل الكاتب المنفعل مع العقل الكلي الفاعل، وحينما يتفاعل الوعي باللاوعي القريب من الحلم، ولا سيّما الحلم بالجمال، والحرية، وسمو إنسانية الإنسان، والانتصار على الظلم، ومواجهة الموت بنشر المحبّة وعشق الحياة... ولقد قبض أبو علي بن سينا على تلك اللحظة، ووصفها قائلاً:
"هبطت إليك من المحلّ الأرفع ورقاء ذات تعزّز وتمنّع
محجوبة عن كلّ مقلة عارف وهي التي سفرت ولم تتبرقع"
من يصل إلى هذا المستوى من التواصل والكتابة يبدع نصوصاً تخلدها ذاكرة البشرية...
ثمّة عوامل كثيرة تزيد باستمرار من ضرورة الكتابة وأهميتها، منها، على سبيل المثال:
- يخلد المبدعون حبّهم لشعوبهم في ملاحم خالدة، ويخلد العاشق المبدع الصادق ملاحم الحبّ في نصوص خالدة... كما يخلد الباحث عن الحقيقة والخلود بحثه كتابة: فلمّا عاد جلجامش من رحلته نحت قصته على الصخر (أي كتبها) لتخلد ملحمته... فالعمل والكتابة أخلد من الإنسان... إنّ التجارب الإنسانية لا تنضب، والإنسان بطبيعته يصبو إلى تخليد تجاربه وذكراه، والكتابة أهم معين له في هذا السبيل، فالكتابة لا تشيخ ولا تنضب...
- الكتابة وسيلة لوضع برامج ومواثيق ودساتير تهدي البشرية سبل معالجة أزماتها... إنّها إحدى وسائل إنقاذ البشرية من الأخطار المحدقة بها... لمّا كانت البشرية تعيش في العقد الثالث من الألفية الثالثة أصعب مراحل تطورها، إذ تراكمت، في غفلة عن الوعي الإنساني السليم، في مختلف دول العالم، ولا سيّما، الدول العظمى، حالة اقتصادية سياسية عسكرية، وضعت سلطة المال، والعلم، والسلاح، والاقتصاد، والبيئة بيد فئة من الأنانيين المتغطرسين إلى حدّ الجنون؛ فراحوا يلهون ويلعبون بمصير العالم، ويثيرون الحروب، ويزعمون أنهم أبطال وطنيون، وما هم إلا تابعين لنزواتهم ومصالحهم الاقتصادية الأنانية... والبشرية تتفرج مغلولة الأيدي والألسن... هنا تبرز أهمية البحث والكتابة في سبل معالجة البشرية لهذه الأزمة، لتعرية مفتعليها، واجتراح الحلول الإنسانية التي ترفع من كرامة الإنسان... فتسهم الكتابة وتبادل الأفكار في هدي المفكرين إلى ابداع طريقة حكم جديدة تعالج هذه المشكلات، ومشكلات فقر الشعوب وأمراضها وتخلفها، وتسهم في التوزيع العادل للثروة والحفاظ على البيئة، طريقة حكم تنسجم مع متطلبات التطور والتقدم العلمي والتقني وتواصل الشعوب اللامحدود في عصر المعلوماتية - طريقة تستفيد من طرق وأساليب الحكم القديمة وتتجاوزها لابتكار آلية جديدة تعزز من قيم التسامح، والمحبّة، واحترام الآخر، وصون كرامة الإنسان، وحريته، وفتح الآفاق الرحبة لتطوره والسمو بإنسانيته...
العالم في حاجة إلى أفكار كبرى، وإلى مفكرين عظماء، والكتابة أهم وسائل تفاعل وتطور هذه الأفكار الهادفة للارتقاء بالحضارات البشرية والسمو بإنسانية الإنسان...
حينما يريد طفل، أو شاب، أو كهل أن يعبّر عن حبّه لأمه، أو شعبه أو وطنه مسقط رأسه، في أسطر معدودات تغدو الكتابة طفلة لا تشيخ...
حينما يتوق شاعر أو روائي إلى رسم لوحة أم ترضع طفلها وتناغيه تحت شجرة زيتون، وحمامات السلام تحلق حولهما، تغدو الكتابة مرجاً أخضر لا يشيخ...
الكتابة رسالة، ومسؤولية، وفعل هداية إبداعي، والإبداع مزية إنسانية تتداولها الأجيال، فهيهات هيهات أن يشيخ الإبداع، أو أن تشيخ الكتابة...
سؤال: تشكل الترجمة جزءاً ملموساً من إنتاجك الأدبي والفكري؛ ما أهمية الترجمة في التواصل بين الشعوب، وتطورها الفكري والثقافي؟ وكيف نرتقي بها؟
الترجمة ضرورة من ضرورات الحياة والعلاقة بين الشعوب... حينما يدور الحديث عن هدف ودور وأهمية الترجمة نتذكر، شروحات ابن رشد على ترجماته كتب أرسطو، ودورها الكبير والمهم في النهضة الأوربية، ونتذكر كيف لعبت الترجمة دوراً في يقظة ونهضة العرب، فكان لترجمات المفكر العربي رفاعة الطهطاوي، على سبيل المثال، دوراً كبيراً في نشر الفكر التنويري، وتعريف العرب إلى الأسس الدستورية والقانونية لبناء الدولة الحديثة.
ثمة إقرار بأهمية إغناء كلّ حضارة من داخلها ومن خارجها، وتلعب الترجمة في إغناء الثقافة وفي تقريب الحضارات، والمترجمون هم الجنود المجهولون الذين يقومون بهذه المهمة...
لا تقتصر أهمية الترجمة على نقل المعرفة، وإنما تلعب دورها أيضاً بالتواصل وإغناء العلاقات بين الشعوب؛ إذ يبين نقل الأدب العالمي إلى الثقافة الوطنية وجود كثير من نقاط الالتقاء بين الحضارات والشعوب، وفي بناء جسور الصداقة ليس على الأسس المادية وحدها، بل على الأسس الروحية العميقة أيضاً...
الشعوب العربية في أمس الحاجة إلى أصدقاء صدوقين أقوياء، والشعب الروسي ساند تاريخياً شعوبنا، (ينبغي دائماً التمييز بين الشعوب والسلطات الحاكمة)؛ في هذا السياق سأتقدم باقتراح عبر مجلتكم إلى المؤسسات الثقافية العربية يسهم في تعزيز صداقة الشعوب العربية، مع الشعب الروسي:
تفخر روسيا بشاعرها العبقري بوشكين وتعدّه نبياً من أنبيائها... لقد قادتني دراسة تاريخ وإبداع هذا الشاعر العبقري إلى فرضية مفادها احتمال وجود جذور جينية عربية في أصله من جد أمه، فأسميته: "بوشكين العربي"، تستند فرضيتي إلى الأسس التالية:
أولاً: وُلد بوشكين في 6 حزيران (يونيو) عام 1799، والدته ناديجدا أوسيبوفنا بوشكينا ابنة أوسيب أبراهيم بيتروفيتش هانيبال، مسقط رأس جده الأكبر من نسب والدته إبراهيم بيتروفيتش هانيبال في أفريقيا (يُقال الحبشة عام 1696).
- ثمّة علاقات قديمة بين الحبشة والعرب امتدت جسورها من سنة 700ق.م.
- إبْرَاهِيْم هو اسم علم مذكر من الأسماء المحبَّبة عند العرب.
- اسم حنبعل برقا ( حني بعل - هانيبال) اسمٌ عربي كنعاني أصيل؛ ربّما يدلّ ذلك كلّه على احتمال وجود صلة جينية بين جدّ بوشكين والعرب الكنعانيين...
ثانياً: لقد أعجب بوشكين كثيراً بالأساطير والقصص العربية القديمة، وأبدع أعمالاً مهمة حول الشرق مستلهماً روح الشرق، واهتم بالقرآن، وأعجب به، وتأثر بآياته، وبسيرة وشخصية النبي العربي محمد، فكتب قصيدة من تسعة مقاطع مختلفة الطول، بعنوان "محاكاة القرآن"، وقصيدة "النبي" التي تعكس تأثره بسيرة الرسول العربي محمد، يقول فيها:
"عذبني عطش الروح،
وأنا منبوذ في صحراء مقفرة،
فجأة، ظهر الملاك ذو الأجنحة الستة
لي على قارعة الطريق،
مسح على عيني
بأصابع خفيفة كما في الحلم".
أقترحُ على المؤسسات الثقافية العربية أن تخصصَ مؤتمراً سنوياً في يوم ميلاد "بوشكين" لترجمة ودراسة إبداعه، وعلاقته بالأدب العربي تحت عنوان: "بوشكين العربي"، سيقدم فائدة كبيرة للأدباء والشعراء المتحدثين باللغتين العربية والروسية، وسيترك أثراً عظيماً لدى الشعب الروسي، ويثبت أهمية الترجمة في التواصل بين الشعوب؛ وهذا شكل من أشكال الارتقاء بالترجمة.
سؤال: ثمّة عدد من ترجماتك بالاشتراك مع المترجم مالك صقور... ما تقويمك لهذه التجربة، وآليتها، وما هي الغاية منها.
تجمعني بالأستاذ مالك صقور قرابة من نوع إنساني عميق لا أستطيع تفسيرها، إننا شخصان متباينان في كثير من الصفات، ونختلف في أمور كثيرة، إلا أنّ هذا الاختلاف يجمعنا، ربّما بفضل الخصال الإنسانية، التي تميّز الإنسان النبيل، فعززت علاقتنا؛ أهمها: التواضع، والتوق إلى النقاء، والصدق، ونظافة اليد، والتهذيب الرفيع، واللهفة على الأصدقاء، والانحياز إلى صفوف المظلومين، والنظرة الواقعية إلى الحياة، وحبّ الوطن، والدعوة إلى التمييز بين الوطن وحكّامه، وكره الحقد والبغضاء والضغينة، وحبّ العمل الجاد، وتقديم المثمر والمفيد للسمّو بإنسانية الإنسان...
لقد أُصدِرَ لي، فضلاً عن الكتب العلمية والأدبية، ثمانية عشر كتاباً في الترجمة، من بينها ستة كتب بالاشتراك مع الأستاذ مالك صقور، إذ بادر عام 2015 واقترح أن نترجم ترجمة مشتركة كتاب "ميخائيل باختين": "أسس الإبداع الفني عند دوستويفسكي"، الذي صدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 2016، منِ ثّم كتاب "أزاهير متأخرة"، يحتوي أجمل قصص "تشيخوف" عن الحبّ صدر عن دار "علاء الدين" بدمشق عام 2019، وتتالت الأعمال المشتركة فأصدرت الهيئة العامة السورية للكتاب بين عامي 2019 - 2022 أربعة كتب من ترجمتنا المشتركة هي: " العسس الليلي لـ: سيرغي لوكيانينكو"، و"عذاب الروح (ألم اللقاءات القصيرة) لـ: ميخائيل كزيلوف"، و"سرّ فلورا لـ: و. تشجينوفن"، و"أنموذج جديد في نظرية الحضارات لـ يو. ف. ياكوفيتس"، ولدينا كتاب مهم سيصدر قريباً أيضاً عن الهيئة العامة السورية للكتاب تحت عنوان: الفكرة الروسية ورؤيا دوستيفسكي للعالم" للمفكر الروسي "نيقولاي بِرديايف".
تتصف آلية عملنا بالتعاون المشترك وتبادل الخبرات؛ إذ نقسّم الكتاب الذي نود ترجمته إلى نصفين متساويين، يترجم كل واحد منا القسم المخصص له، ويسلمه إلى الآخر كي يدقّق الترجمة، ونجتمع لمناقشة ملاحظات كلّ واحد منا على ترجمة الآخر واعتماد النص النهائي... ثمّة غايات متعددة لهذا الأسلوب من العمل، أولها إنساني، فكلانا نحبّ النّاس، والعلاقات الإنسانية، ونقدر أهمية وضرورة التعاون المثمر بين بني البشر، ربّما لاشعورنا يدفعنا إلى الدعوة لتعزيز أواصر التعاون والمحبّة بين الأدباء والمترجمين، ونبذ روح الأنانية والانعزال، إذ يتميز عملنا المشترك بعلاقة إنسانية نبيلة، يجمعنا هدف التعرف إلى الفكر والأدب الإنساني وإيصاله إلى القارئ بأفضل حلّة ممكنة، أما تقدير مدى نجاح هذه التجربة فيعود بالدرجة الأولى إلى القارئ، علماً أنّ لكلّ عمل صعوباته، وايجابياته، وسلبياته على الصعيد الشخصي... يدلّ استمرار هذه التجربة على رضانا عنها، عموماً...
سؤال: في أحد لقاءاتك الصحفية قلت إنّك نشأت في أسرة فقيرة، ولكنّها تحبّ العلم، وإنّ محبتك للكتاب ساعدتك على البقاء حيّاً... ما دور الكتاب في غذاء الروح والفكر؟ كيف تصف القراءة حالياً؟
نعم، إنني نشأت في أسرة ريفية فقيرة كادحة، وهذا مصدر فخر لي، على الرغم من ويلات الفقر وألمه، الذي لا يُطاق ولا يُنسى... مهما علّم الفقر الإنسان العاقل التحدي، ينبغي للبشرية أن تجد سبيلاً للتخلص منه... عملت والدتي، في الزراعة وتربية الطيور والحيوانات المنزلية، فضلاً عن اهتمامها بتربيتنا والعناية بشؤوننا، وشؤون بيتنا اليومية: من طبخ وغسيل، وغير ذلك من أعمال... وعمل والدي، وأفراد أسرتي بعد سن الثانية عشرة في الزراعة، وعمالاً عاديين في لبنان، لتأمين لقمة العيش ومصاريف الدراسة، وقد تربّى والدي يتيماً وحيداً لدى عمته، إذ توفي والده قبل ولادته، واضطرت والدته (جدتي) - وهي شعلة من الذكاء، وآية من آيات الجمال - إلى الهرب من القرية، لأنّ أقاربها أصروا على زواجها من قريب لا تحبّه - الذكية والذكي يأبى الظلم والعبودية - فأورثتنا حبّ الكرامة والحرية والإباء وشيئاً من ذكائها، وهي بعيدة عنّا، أقول ذلك لأبيّن فضل المرأة، وأنّ ما نمتلكه من خصال لم يأتِ من فراغ، بل هو بفضل أهلنا الطيبين من رجال ونساء، وبفضل مجتمعنا عموماً...
أما الكتاب، فمهما تحدثنا عن أهميته لن نفيه حقّه؛ في الكتاب ثمرة خبرة البشرية وتجاربها، وفكرها، يسهم في توسيع أفق قارئه، وتنمية مداركه، وينقل إليه علوم وخبرات الآخرين، ويُلقي في ذهنه سلسلة من الأسئلة، وينبئه أنّه ليس وحيداً، ويسهم في نجاحه في عمله إن قرأ في كتاب ينسجم موضوعه مع موضوع عمله... الكتاب أحد مصادر الثقافة، والثقافة السليمة تواجه أسئلة الحياة، وتعالج أسباب الوحدة والعزلة والخوف، وتواجه الموت، نعم لقد وهبت لي صداقتي مع الكتاب طاقة دعمت جسدي النحيل، وساعدتني في البقاء حيّاً...
أما سؤالكم عن القراءة حالياً؛ فإنني أرى تراجعاً في نوعية القراءة، وليس في القراءة ذاتها، وهذا يرتبط، حسب زعمي، بإرادة أصحاب رأس المال، والسلطات الحاكمة المسيطرة على وسائل الإعلام والثقافة، فحين ينتصر في صفوفهم أصحاب ثقافة التفاهة نشهد انحطاطاً في نوعية الكتب والبرامج، ولا سيّما، الإلكترونية... تتسم كلّ مرحلة من مراحل تطور الحضارة البشرية بنوعية قراءة تنسجم مع تطورها العام، وتطور أساليب الحكم في دولها، وتطورها التقني؛ فنوعية القراءة الحالية أغلبها إلكتروني ينسجم مع المصادر والبرامج المنتشرة في شبكة الانترنت، وهي في حاجة إلى قيم وضوابط إنسانية لتنظيمها، وإلى فترة زمنية حتى تستقر.
سؤال: شاركت في عدد من مؤتمرات الترجمة في روسيا؛ هلا حدثتنا باختصار عن فوائد مؤتمرات الترجمة التي شاركت فيها... وهل ماز لت مواظباً على المشاركة فيها؟
ثمّة فوائد كثيرة من المشاركة في مؤتمرات الترجمة أولها الاطلاع على أحدث المشكلات والموضوعات التي تواجه المترجمين، وتبادل الخبرات فيما بينهم، فضلاً عن تقديم الأفكار والرؤية الشخصية في الموضوعات المطروحة في تلك المؤتمرات. شاركت في المؤتمر الثالث للترجمة في موسكو في أيلول 2014 بدعوة من الوكالة الاتحادية للنشر ومعهد الترجمة، وقدمت بحثاً باللغة الروسية بعنوان: "في نظرية الترجمة الإبداعية ودقة الترجمة" نُشر في كتاب أصدره معهد الترجمة، كما شاركت في المؤتمر الرابع للترجمة في موسكو في أيلول 2016 وقدمت بحثاً باللغة الروسية بعنوان: "في الترجمة ووحدة الوعي الإنساني"، سعيت فيه إلى البحث عن القرابة بين اللغات التي لا تمتلك منشأ مشتركاً، ولا سيّما بين اللغتين العربية والروسية، على الرغم من أنّهما لا تعدّان قريبتين، لأنّهما لا تمتلكان المصدر والمنشأ نفسه، ولا تنتميان إلى أسرة أو مجموعة لغوية واحدة، ونوّهت في ذلك البحث إلى أنّ من يتعرف بعمق إلى هاتين اللغتين، وإلى منطق قواعدهما يكتشف كم هما متقاربتين لدرجة أنّهما تبدوان قريبتين ومن أسرة واحدة... فاقترحت دراسة مسألة قرابة اللغات استناداً ليس فقط على جذور الكلمات، وفرضيات نشأتها، بل وعلى فرضيات جديدة، منها فرضية دور وحدة التفكير البشري والوعي الإنساني، ودور المنطق الداخلي لقواعد اللغات في البرهان على قرابة اللغات الحية، وعلى أنّها من منشأ حياتي - وجودي يمتلك قواسم مشتركة في جميع لغات العالم"، وأوردت أمثلة عبر جداول مقارنة بين قواعد اللغتين العربية والروسية، وجداول مقارنة بين الأحرف والكلمات والأمثال الشعبية في اللغتين...
علماً أنني لم أستطع المشاركة شخصياً في هذين المؤتمرين نظراً لوجود قرار يمنعني من السفر منذ عام 2006 بسبب مشاركتي في بداية الألفية الثانية في نشاطات ومحاولات إقامة المنتديات الثقافية الديمقراطية في بلادنا، ونشر مقالات في ضرورة إجراء التعديلات الدستورية لبناء الدولة العصرية - ما يزال قرار منعي من السفر ساري المفعول، على الرغم من توسط المكتب التنفيذي لاتحاد الكتاب العرب أكثر من مرة بكتب رسمية لرفع منع السفر هذا - إنّما صادفت دعوتي إلى هذين المؤتمرين وجود ابني الدكتور "نوار شاهر نصر" في روسيا، في أثناء دراسته الطب، فمثلني في هذين المؤتمرين... وحينما كان الحضور في إحدى قاعات المؤتمر الرابع للترجمة في موسكو يستمعون واقفين إلى تقرير "في الترجمة ووحدة الوعي الإنساني" وفي تقارب اللغات، كنت أتابع الاعتناء بمزروعاتي في قريتي "الصفصافة"، متسائلاً مع بعض الحرقة في فؤادي: "لماذا يتعامل بعض أبناء بلدي معي هكذا؟ ومن هم هؤلاء، حقاً؟"
ما زالت تصلني دعوات سنوية لحضور مؤتمرات الترجمة، فأرسل بحوثي عبر الانترنت، إذ وردتني دعوة للمشاركة في المؤتمر العلمي الثاني عشر "اللغة والثقافة الروسية في مرآة الترجمة"، الذي عُقد في جامعة موسكو في شهر أيار 2022، فأرسلت بحثاً باللغة الروسية بعنوان: "الأدب الروسي في الفضاء الثقافي العربي"، ألقيت فيه الضوء على أثر الأدب الروسي في وعي الشعوب العربية، من وجهة نظر أكثر من عشرة كتاب ومثقفين عرب استطلعتُ آراءهم عبر الانترنت لهذه الغاية. لقد شمل هذا الاستطلاع أدباء، أعضاء اتحاد الكتاب العرب، ومهندسين، وأطباء، ومثقفين من مختلف الأعمار، ومختلف البلدان والمدن، واختتمت البحث بمجموعة من الاستنتاجات والاقتراحات، من بينها الاستنتاج التالي المناهض للحرب، لأنني أناهض كافة أشكال الحروب، متسائلاً: طالما جميع الحروب ستنتهي بالمفاوضات، فلماذا لا نبدأ بالمفاوضات، ولتستمر تلك المفاوضات فترة أطول من الحرب؟ ليتكفل الزمن بحل المشكلات من دون سفك دم إنسان واحد، أو تدمير ما بناه البشر:
"تمتلك روسيا مخزونا ثقافياً غنياً ومهماً يساعدها ليس فقط في نشر الروح الروسية خارج حدودها، بل والاستفادة منه في حلّ نزاعاتها الداخلية ونزاعاتها مع جيرانها، إنّ حسن استخدام التراث والمخزون الثقافي والإنساني الغني لبوشكين، وليرمنتوف، وغوغول، ودوستيفسكي، وتولستوي، وتشيخوف، وغيرهم من المبدعين الروس أفضل من إطلاق مئات الصواريخ، على أي دولة مما سيثير نزعات الحقد والعداوة، ضد الروس؛ بينما حسن استخدام أدب تشيخوف في القرم، والثقافة الروحية لغوغول الأوكراني - الروسي باللغة الروسية في أكرانيا أفضل بآلاف المرات من إطلاق الصواريخ، وهدير الدبابات، ويؤتي ثماره في تعزيز روح المحبّة بين الشعبين، بدلاً من العداوة والحقد والبغضاء، التي تراكمها الحرب في النفوس..."
كما تلقيت دعوة لحضور المؤتمر العلمي الرابع عشر الذي نظمته أكاديمية العلوم الروسية، وجامعة موسكو الحكومية المسماة باسم م. ف. لومونوسف وكلية الترجمة العليا في مدينة سوزدال في الفترة بين 25-4-2024 و 28-4-2024، وأرسلت إلى المؤتمر بحثاً بعنوان: "بوشكين العربي"...
آخر دعوة تلقيتها منذ أيام قلائل من مدرسة الترجمة العليا، وجامعة موسكو الحكومية المسماة باسم م. ف. لومونوسف لحضور اللقاء التربوي العلمي تحت عنوان: "اللغة، والثقافة، والترجمة" الذي سيُعقد في مدينة فولغدا الروسية في الفترة بين 11 – 15 أيلول 2024 المقبل.
أحاول بكلّ طاقتي تلبية أي دعوة، لأنني أرى أنّ قيمة الإنسان تكمن في عطائه، طالما توجد لدي طاقة ومقدرة، فلن أضنّ بمعلومة أشعر أنّ نشرها يفيد إنساناً.
سؤال: تعترض الأديب والمترجم عادة بعض الصعوبات في عمله... حدثنا عن بعض الصعوبات التي واجهتك في عملك الأدبي...
حينما عكفت على ترجمة كتاب "مقطوعات شعرية من ديوان هائم خائب الأمل" للشاعر الروسي المعاصر "فاديم فيودروفيتش تِريوخِن"، الذي صدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق عام 2014، وجدت قصائده غارقة في الرمزية، وتتغلغل في كثير من تفاصيل الحياة الروسية، ومليئة بالاستعارة، واللعب على الكلمات، ليبقى أحياناً "المعنى في قلب الشاعر"، كما يقال؛ ما دفعني إلى إرسال استفسارات كثيرة إلى الشاعر عبر البريد الإلكتروني، وحصلت منه على توضيحات وتفسيرات أسهمت في تحسين محاولتي إيصال المعنى الذي يريده الشاعر إلى القارئ.
وحين ترجمت كتاب "رسول حمزاتوف - من القصائد الأخيرة"، الذي طُبع في دار السوسن بدمشق عام 2004، شاءت الظروف أن اطلع على المخطوط الأديب والمترجم "عدنان جاموس"، وهو أهم منارات الترجمة من اللغة الروسية إلى العربية، فقدم تصحيحات مهمة زادت الترجمة دقة، كما تكرّم الأديب "عبد المعين الملوحي" بتدقيق النص لغوياً، فأوردت في مقدمة الكتاب ملاحظاتهما في جداول مقارنة بين ترجمتي الأولية وتدقيهما، ونشرتها كي يستفيد منها كلّ مترجم مهتم.
إنّ ممارسة الترجمة فترة طويلة تخفف من الصعوبات، وأفضل وسيلة لمعالجة كثير من الصعوبات، التي تعترض المترجمين، تكمن في تأسيس مؤسسات للترجمة تضم مترجمين متمكنين من اللغتين: الأصل والهدف.
تلك بعض الصعوبات التقنية واللغوية التي اعترضتني في أثناء عملي في الترجمة، يُضاف إليها كثيراً من صعوبات الحياة المادية، ومشكلات الحياة اليومية، والوضع العام الضاغط على وطننا وشعبنا، ولا سيّما، على أولئك الذين يمضون وقتهم في العمل والجهد النفسي المستمر، ما ينعكس على حياتهم، وحياة المحيطين بهم... كثيراً ما يُلقى في نفسي: "كم أنا محظوظ بزوجتي وأولادي، الذين يحتملون عبء عملي، وأسلوب حياتي، وتبعات معارضتي لبنية الفساد، والصعوبات التي نعانيها معاً؛ آمل أن تعوض نتائج عملي عن جزء من معاناتهم".
– نعلم أنك ترجمت من الروسية إلى العربية .. هل ترجمت مؤلفات عربية إلى الروسية؟
إنني لم أترجم مؤلفات عربية إلى اللغة الروسية، لكنني كتبت البحوث والتقارير إلى مؤتمرات الترجمة، التي دُعيت إليها، باللغة الروسية، نُشِر عدد منها في كتب صدرت عن تلك المؤتمرات في موسكو، وآخر بحث كتبته باللغة الروسية بعنوان: "بوشكين العربي" نشرته صحيفة "الآداب الروسية" الأسبوعية، في عددها № 2024 / 19, 24.05.2024، وأضافت إلى العنوان الرئيس عنواناً فرعياً أسعدني جداً يقول: "هدية من سوريا في عيد اللغة السلافية":
Арабский Пушкин
Подарок из Сирии ко Дню славянской письменности
№ 2024 / 19, 24.05.2024, автор: Шахер Ахмед Насср (г. Тартус, Сирия)

- ماهي رؤيتك للنهوض بالترجمة في سورية وتجاوز العقبات التي تعترضها؟ وهل يكفي إقامة الندوات وإلقاء المحاضرات في هذا المضمار؟
هذا السؤال في حاجة إلى مؤسسات للإجابة عنه، سأحاول أن أستحضر عدداً من الأفكار:
يساعد في النهوض بحركة الترجمة في سورية وجود هيئة وطنية عليا تضع خطة إستراتيجية للترجمة، تضم هذه الهيئة مترجمين خبراء من مختلف اللغات يمثلون الجهات المعنية بالترجمة من دور نشر، ومعاهد، وكليات جامعية وجمعيات، يمكن أن تسهم "مديرية الترجمة" في "الهيئة العامة السورية للكتاب"، و"جمعية الترجمة" في اتحاد الكتاب العرب في تكوين نواتها... تستفيد هذه الهيئة من الفضاء الإلكتروني والشابكة الدولية للانترنت، فتنشئ موقعاً إلكترونياً تتواصل عبره مع المترجمين، وتزودهم بمختلف القواميس والمراجع المحفوظة في هذا الموقع، ويرصد أعضاء الهيئة حركة النشر في مختلف دول العالم لتحديد عناوين الكتب التي ينبغي ترجمتها، فضلاً عن تعاقدها مع مترجمين أجانب يجيدون لغتهم الأم واللغة العربية، وتأسيس مؤسسات ترجمة إلكترونية من مترجمين من جميع اللغات توزع عناوينهم الإلكترونية على المترجمين لاستشارتهم عند اللزوم (ربّما تحتاج هذه الأفكار إلى تفصيل أكثر، علماً أنّ الحياة العملية تقود إلى تلك التفصيلات وتنظمها)... تتعاون هذه الهيئة مع دور النشر ومؤسسات الترجمة في الدول العربية والعالم... إنّما ينبغي الإقرار بأنّ مسألة تمويل أي مشروع تسهم في نجاحه، ونجاح أي هيئة يتطلب وجود تمويل مناسب لها، إذ ينبغي منح العاملين في هذه الهيئة ومؤسسات الترجمة تعويضات مالية مجزية تغنيهم عن أي مصادر دخل أخرى، لكي يتفرغوا لمسألة الترجمة وتنفيذ الخطة الإستراتيجية...
طبعاً، لا تكفي الندوات ولا المحاضرات، بل من المفيد التفكير في تحويلها إلى وورشات عمل وتبادل الخبرات، وتحديد محاورها في الموقع الإلكتروني التابع للجهات التي تنظمها، وتحفيز المترجمين للتفاعل معها وإغنائها وعدم اقتصارها على المشاركين فيها وحدهم، كما ينبغي أن تُختتم كل ندوة بعدد من التوصيات، وتحديد جهة أو لجنة معينة لمتابعة تنفيذها...
أعود وأكرر: يتطلب نجاح أي مشروع، بما في ذلك الترجمة، رصد ميزانية ومصادر تمويل تؤمن للعاملين في هيئات، ومؤسسات الترجمة، ودور النشر، وللإعلاميين، والصحافين، والنقاد المتابعين لعمل هذا المشرع حياة كريمة، تحفزّهم على العطاء والإبداع؛ صحيح أنّه "لَيْسَ بِالْخُبْزِ وَحْدَهُ يَحْيَا الإِنْسَانُ"، إنّما في عصرنا الحالي: ليس بالكلمة وحدها يحيا الإنسان، أيضاً.
سؤال: ما الذي يحدّ من الإبداع، حسب رأيك؟
إنّ حصر الإبداع في قوالب محددة أيديولوجية، أو غيرها خدمة لشخص أو نظام ما، أو الكتابة بغية الظفر بجائزة؛ تحدّ من الإبداع.
سؤال: ما هي، في رأيك، مهمات الكاتب؟
مهمات الكاتب متعددة ومتنوعة، منها: توسيع أفقه، وزيادة معلوماته وتوسيعها، فخياله، كما يصفه تشيخوف في مراسلاته مع غوركي "أشبه بموقد كبير ينبغي أن يُقدم إليه باستمرار ما يكفي من الزاد"... ومن مهام الكاتب اكتساب المعرفة، وإنتاجها وتقديمها خدمة للمجتمع، كيلا يكون تابعاً متفرجاً، بل مشاركاً في الحياة، يسهم في نشر قيم الخير، والمحبّة، والحرية، والجمال، في مواجهة كافة أشكال الاضطهاد، والاحتلال كاضطهاد الشعب العربي الفلسطيني، واضطهاد المرأة، أو اضطهاد الإنسان على أسس عرقية، أو دينية مذهبية، أو سياسية...
سؤال: نشرت روايتين، ما هو تعريفك للرواية وما هي مواصفات النص الأدبي الرفيع؟ وهل يأتي زمن تستغني فيه البشرية عن الرواية؟
لا يوجد تعريف نهائي ومحدد للرواية، يمكن وصفها بأنّها فصول فنية جمالية في الحياة، ورؤية للإنسان عبر سعيه إلى الرقي بإنسانيته، وهذه مهمة لا نهائية... وينبغي للرواية أن ترفع من مستوى القارئ، وتُحدِث تغييراً في رؤيته للحياة... الأديب والروائي الحقيقي فنان يرسم لوحاته بالكلمات، ويجعل القارئ يشعر كأنّه يراها ويحسّ بها، والرواية كعمل أدبي فني ينبغي أن تتصف بالانسجام، والتقليل من التعابير المبالغ فيها، التي تكسب الوصف نوعاً من الخطابة ترهق القارئ، وأن تمتلك موسيقاها الرشيقة المتناغمة والمنسجمة والبديعة والبسيطة، جمال التعبير يتحقق بالبساطة، وبالعبارات البديعة، إذ إنّ: "كلّ سطر خشن في النص الأدبي يصرخ منبهاً عن وجوده".
للإجابة عن سؤالكم إن كانت البشرية ستستغني عن الرواية أقدم إليكم مقتطفات من مراسلات اثنين من أساطين الكتابة في العالم (تشيخوف وغوركي)، تعبّر عن حالتنا الراهنة، وكلّ حالة:
"في كل زمن يتوق النّاس إلى البطولة: إنّهم يريدون شيئاً مثيراً مميزاً خلاباً، شيئاً، لا يشبه الحياة، بل يسمو عليها، شيئاً أفضل منها وأجمل؛ هكذا يبدأ الأدب في تجميل الحياة، فتصبح الحياة أجمل، فيعيش الناس حياة أسرع وأكثر صفاء وإشراقاً. والآن - انظر اليوم واحكم على النّاس من عيونهم – كم هي عكرة، حزينة، مملة وجامدة".
و"الكاتب الناجح من يثير اشمئزاز النّاس من الحياة الراكدة نصف المحتضرة". و"القصص الناجحة كالزجاجات الفاتنة الممتلئة بجميع ما في الحياة من عطر"... أما بعد؛ فإنّ البشرية لن تستغني عن فن القصة والرواية؛ لأنّها لن تستغني عن العطر.
سؤال: كثير من الأدباء كتبوا كثيراً من أعمالهم في المقاهي، ما هو الجو الذي تكتب فيه؟
الموسيقا الكلاسيكية في فضاء الصمت المطبق هي الجو، أو الطقس المريح للكتابة بالنسبة إلي، كأنني أتماهى مع الصمت والموسيقا، كنت أولف التلفاز على قناة راديو تبث موسيقا كلاسيكية طوال اليوم، إنّما تقنين الكهرباء فقد شوش على كلّ عاداتنا، وألقى بظلامه، وظلام البنية التي تقف وراءه على حياتنا... وكثيراً ما أتساءل: هل العزلة هي بداية الحكمة حقاً، وهل العزلة ضرورية في لحظات محددة كي تحط "موزا" في حقل تفكير الشاعر؟
سؤال: هل ثمّة مفاهيم، أو أسس ينبغي للكاتب أن يراعيها في كتاباته؟ وما هي ينابيع الكتابة الأدبية، وشروطها، وأهدافها؟
هذا سؤال كبير وواسع، الإجابة عنه في حاجة إلى العودة إلى مختلف المدارس النقدية الأدبية، سأحاول تقديم تصوري المتواضع، من خلال قراءاتي وأعمالي المتواضعة، في الفقرات التالية:
- الفنان والأديب الحقيقي ينهل من بحار الحضارة الإنسانية، ويدعمها بمزيات مجتمعه الإنسانية المتحضرة.
- الكاتب المبدع لا يتكئ على أبطال التراث، بل يبدع رموزه وأبطاله.
- يستدعي فتح عوالم الإبداع توافر الحرية، والعلاقة النقدية مع هالات تغلف ما يُزعم أنّه مقدس - وهو ليس كذلك - وتفعيل دور الناقد، والعملية النقدية، لتفعيل العملية الثقافية الجادة بعيداً عن الخوف والمحاباة، وعبادة الأفراد.
- ينبغي للكاتب الاهتمام بهموم شعبه ووطنه، كالاهتمام بمآسي الشعب العربي الفلسطيني تحت الاحتلال، وإحقاق حقوق الأخوة الأكراد في مختلف البلدان التي يشكلون جزءاً أساسياً من بنيتها الاجتماعية، وقضايا السمو بإنسانية الإنسان، واحترام أسس الفن الحقيقي، باعتبار الفن هو تجلي الجمال، والحبّ، والحرية، التي تشكل جوهر الفن.
- حينما نتحدث عن الجمال في الكتابة نقصد أن تحرك الكتابة فينا ما يسرنا ويعجبنا ويغيرنا، ويسمو بنا، آخذين بعين الاعتبار أنّ "جمال الإنسان ليس قائماً على الروح وحدها، أو الجسد وحده؛ بل على الانسجام بين الروح والجسد"، والفن والأدب يراعيان هذا الانسجام، ويسموان معه وبه... فالجميل هو كلّ ما يرتقي بإنسانية الإنسان، والقبيح هو كلّ ما يحطّ من قدر الإنسان وكرامته.
- ينبغي للكاتب أن يكون مطلعاً على مختلف صنوف المدارس الأدبية والنظريات الفنية، منها، على سبيل المثال، نظرية المحاكاة لدى أفلاطون، التي تؤكد على العلاقة بين الفن والتجربة الإنسانية خارج الفن، تلك النظرية المبنية على الانسجام، فضلاً رؤية أفلاطون بأنّ الحبّ دافع أصيل للفنان المبدع، إذ يقول: "إن الحبّ يهدف إلى بلوغ الجمال، إذ ليس القبح أبداً غاية الجمال".
- هناك هدف إنساني نبيل للفن والأدب، هو نشر قيم الخير، والعدالة، والحرية، والمحبّة، والجمال، وينبغي أن تظلّ مسألة السمو بجماليات الأخلاق في أساس العمل الفني لتربية نزعة المحبّة والسلام في الإنسان، فكمال الإنسان أخلاقياً من أهم أهداف الفن والأدب؛ هذا يفسّر دور الفن والأدب في إغناء الحياة، والتقدم، لخير إنسان، والبشرية بأكملها.
سؤال: لماذا اتجهت إلى الكتابة، وكم عدد الكتب التي ألفتها وترجمتها؟ وهل لديك مشروع كتابة حالياً؟ وما هي طموحاتك المستقبلية في الكتابة؟ وما الذي يُشغلك حينما تكتب، أو تترجم نصاً أدبياً؟
أكتب لأنني لا أستطيع ألا أكتب؛ الكتابة مسؤولية، فالإنسان حينما يعيش في مجتمع يتأثر بمشكلاته، ويعدّ قضاياه قضيته، وقضية الإنسان عموماً، ويسعى إلى رقيه، بما في ذلك رقي أخلاقياً وروحياً، ويشعر بالمسؤولية؛ فيعبّر عن ذلك كتابة...
توزعت كتاباتي واهتماماتي، كما حياتي بين العلم، والفكر، والأدب، والترجمة، والعمل المهني، والعلاقات الاجتماعية، والاعتناء بحديقتي، فنُشر لي (30) ثلاثون كتاباً موزعة على النحو التالي: في الترجمة العلمية: (6) ستة كتب، وفي الأدب والفكر: (7) سبعة كتب، وفي الترجمة الأدبية والفكرية: (17) سبعة عشر كتاباً.
حالياً نعمل على ترجمة كتاب "طارد الأرواح الشريرة (طارد الشياطين)" للكاتب والمخرج السينمائي الروسي المعاصر نيكيتا ميخالكوف.
في أدراج مكتبتي رواية مترجمة عن اللغة الروسية للكاتب الروسي المعاصر زخار برليبين، ومسودات ملخصات "موسوعة الأدب الروسي في القرن العشرين"، فضلاً عن مخطوط روايتي "أنهار السراب"، موضوعها الرئيس الحبّ والحرب، في فضاء الملحمة السورية المعاصرة، وقد استغرقت كتابتها أكثر من عقد من الزمان، آمل أن تجد ناشراً.
من طموحاتي إعداد كتاب في "بنية الدولة" التي تنسجم مع متطلبات عصر المعلوماتية، وتلبي طموحات الإنسان في الحرية والتغيير والعدالة الاجتماعية، لأنني أرى أنّ أحد أهم أسباب أزمات البشرية في عصرنا الحالي هي الخلل في بنية الدولة الحالية، التي تعود أسسها الفكرية إلى القرن التاسع عشر، وقد تجاوزها الزمن، هذا يفسر، حسب رأيي، الحراك الذي شهدته شعوب منطقتنا، وستشهده مختلف دول العالم إن لم تعالج هذا الخلل... كما أنني أطمح لإعداد كتاب في بنية الاقتصادين الروسي، والأمريكي القائمين على أكبر عمليات نصب واحتيال وفساد عرفتها البشرية، وحصة المجمعات العسكرية فيهما، لمحاولة فهم ما يجري في العالم، فالبنية الاقتصادية في أهم دول العالم تسهم إسهاماً كبيراً وفعّالاً في الحروب، التي تشهدها البشرية، فضلاً عن نشر ثقافة التفاهة وفكرها؛ هذا ما يدفعني إلى بثّ جوانب فكرية في أعمالي الأدبية، وأكثر ما أخشاه أن يطغى الجانب الفكري والسياسي في تلك الأعمال على الجانب الفني وتقنيات السرد..
تُشغلني مسألة تقديم فن حقيقي، ذي بنية سليمة، متينة جميلة وجذابة، فن واضح المعنى، يضجّ بالصور والأفكار المفيدة والممتعة، إنني أبحث عن الإنسان لنرتقي معاً على درب الإنسانية المتحضرة...



#سلام_مراد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار مع إبراهيم حسّاوي حول المسرح والحياة


المزيد.....




- إسرائيل لم تضرب المنشآت النووية والنفطية الإيرانية فهل هي مس ...
- طوفان الأقصى يشعل حرب السايبر
- من مدرسة قرآنية إلى مركز فن حديث.. تجديد إبداعي لمعلم تاريخي ...
- الحوارية وتعدد الأصوات.. ثورة ميخائيل باختين في عالم الرواية ...
- خامنئي يغرّد في منصة -إكس- باللغة العبرية حول -حماقة- ارتكبت ...
- نتائج الثالث متوسط 2024 الدور الثالث بالاسم والرقم الامتحاني ...
- حساب مكتب قائد الثورة الاسلامية باللغة العبرية عبر منصة إكس: ...
- حساب مكتب قائد الثورة الاسلامية باللغة العبرية عبر منصة إكس: ...
- كندة علوش تنتقد استغلال اللاجئين سينمائيا وتدعو لإنتاج أفلام ...
- قرار عاجل بشأن نجم مصري شهير تم القبض عليه في حالة تلبس! (في ...


المزيد.....

- المرأة بين التسلط والقهر في مسرح الطفل للسيد حافظ وآخرين / د. راندا حلمى السعيد
- سراب مختلف ألوانه / خالد علي سليفاني
- جماليات الكتابة المسرحية الموجهة للطفل في مسرحية سندس للسيد ... / أمال قندوز - فاطنة بوكركب
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / د. أحمد محمود أحمد سعيد
- اللغة الشعرية فى مسرح الطفل عند السيد حافظ / صبرينة نصري نجود نصري
- ببليوغرافيا الكاتب السيد الحافظ وأهم أعماله في المسرح والرو ... / السيد حافظ
- السيد حافظ أيقونة دراما الطفل / أحمد محمود أحمد سعيد
- إيقاعات متفردة على هامش روايات الكاتب السيد حافظ / منى عارف
- الخلاص - يا زمن الكلمة... الخوف الكلمة... الموت يا زمن ال ... / السيد حافظ
- والله زمان يامصر من المسرح السياسي تأليف السيد حافظ / السيد حافظ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - سلام مراد - سلام مراد يحاور شاهر أحمد نصر في -الموقف الأدبي-