أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - قراءة تبعث المسرات وأخرى تثير الاكتئاب















المزيد.....


قراءة تبعث المسرات وأخرى تثير الاكتئاب


عبدالجبار الرفاعي

الحوار المتمدن-العدد: 8139 - 2024 / 10 / 23 - 21:59
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


الكتب نوعان، نوع يعزّز ثقتَك بنفسك، ويمنح حياتَك معنى أنت بحاجة ماسة إليه، سواء أكان هذا المعنى يوقظ عقلك، ويوسّع معرفتك ويثريها بنفسك والإنسان والعالم الذي تعيش فيه، أو يهبك هذا المعنى بصيرة وسكينة للروح، أو طمأنينة للقلب وسلامًا، أو يفرغ عليك حكمة توجه عاطفتك وتستثمرها فيما يجعل حياتك وحياة غيرك أجمل. النوع الثاني من الكتب يقذفك في العدم والفراغ الكلي، يوقد في نفسك الاغتراب الوجودي، ويبث في داخلك الاكتئاب والتشاؤم والقرف من كلِّ شيء مما حولك، ويحرضك على كراهية الكائنات في الطبيعة، ويغذّي عدوانيتك حيال الإنسان، ‏ويدعوك للتخلص من الحياة بأية وسيلة.
أندهش كلّما شاهدت إغراقَ المكتبات بمؤلفات فرانز كافكا وإميل سيوران، وأمثالها من الكتب النكدية للكتّاب المتشائمين المكتئبين، ممن لا يرون أيَّ شيء في حياة الإنسان إلا في الظلام. يحتجّ بعضهم بأن هذه النوع من الكتب ضروري ليرى القارئ ما هو محتجب داخل ذاته، وشرور الإنسان الآخر الذي يعيش معه، وخفايا العالم من حوله. قرأت بعض الكتب النكدية فلم أجد ذاتي فيها، رأيتها حافلة بالدعوة للموت، وتحريض الإنسان ضد الإنسان، ولا تخلو من ترغيب بالانتحار. لم أقرأ فيها ما يدعو للمحبة والإيمان والتراحم، وإيقاظ المعنى الروحي والأخلاقي والجمالي في حياة الإنسان. أتحدث عن تسمّم الروح بانحصار القراءة بالكتب التشاؤمية فقط لأمثال أولئك المؤلفين دون سواها. لا أعني كتب الفلاسفة الذين تأملوا كلَّ شيء بعمق، ولا أعمال علماء النفس والإجتماع والعلوم الإنسانية، وتشريحها العلمي للنفس الإنسانية ومنابع الشر الكامنة في أعماقها.
كنت ومازلت أهتمّ غاية الاهتمام بكتب علم النفس والعلوم الإنسانية والفلسفة والأديان، والروايات الثمينة لديستوفيسكي وأمثاله. الإدمان على قراءة هذا النوع من الكتب كشف لي شيئًا من المختبئ في أعماق نفسي وغيري من البشر، وتعلمت منها أحوال المجتمعات والثقافات والإثنيات والأديان المتنوعة.كذلك أحرص على قراءة الشذرات المضيئة للعرفاء، في "المثنوي" لجلال الدين الرومي "والمواقف والمخاطبات" للنفّري، وماكس إكهارت، وأمثالها من النصوص الخالدة التي تنظر للوجود بعيونٍ مضيئة، تداوي جروح الروح، وتشفي نزيف القلب، ولا تجهل الطبيعة الإنسانية. أغلب ما نقرأ ونسمع ونشاهد من أخبار تثير الكوابيس والأرق، قلما يصادفنا خبر ينعش الروح. أهرب من مشاهدة التلفزيون أيام الحروب والأهوال وهي كثيرة، أقرأ الأخبار في الصحافة اليوم التالي، لو شاهدت طفلًا أو شيخًا أو عجوزًا أو دمًا مسفوكًا في التلفزيون لا أطيق النوم تلك الليلة.
مواجع الحياة وآلامها لا تُطاق، يشكو لي بعض الشباب من أن حياتهم يعصف بها القلق والاكتئاب. أحد الشباب مولع بمطالعة الكتب النكدية، أصبح يائسًا متشائمًا قانطًا محبطًا ممزقًا من الداخل، بسبب انحصار مطالعاته بهذه الكتب. استشارني فنصحته بالعودة إلى كتب تداوي جروح الروح، وتشفي نزيف القلب. عندما قرأها أخبرني بحدوث تحول استثنائي في حياته، إذ انخفضت وتيرة القلق الوجودي لديه، وبدأ يمارس عمله بحيوية وفاعلية خلّاقة، ويخطط ويعمل من أجل مستقبل أفضل. أظن لو لم يكن محور رواية ‏أليف شفق: "قواعد العشق الأربعون"، الحياة الروحية لجلال الدين الرومي، وكيف استطاع هذا المعلم الملهِم أن يجعل من الإيمان حبًا والحب إيمانًا، لما تلقاها القراء بذلك الشغف. عندما صدرت الترجمة العربية للرواية كنت في بيروت، قرأتها مباشرة، وكتبت عنها رسالة لمن يتواصلون معي، من الأشخاص الذين يعانون من انهيارات روحية وجروح نفسية، فأخبروني أنها كانت خير علاج أسعفهم بعد الفراغ من مطالعتها. بعضهم أخبرني أنه يضع الرواية كل ليلة تحت وسادته حين ينام ليشعر بالأمن الروحي والسلام النفسي.كلّ إنسان يحتاج أن ينام بسكينة، ويتعطر بنكهة الأمل والتفاؤل والرجاء أول الصباح، وذلك يدعونا لانتقاء ما يبث السكينة والسلام من النصوص في مساء الأيام وصباحها.
الكتاب أغزر منبع للمعنى ساعدني للاستغناء عن العلاقات العشوائية، وحماية نفسي منها، احتلت الكتب النوعية مكانة هذا النوع من العلاقات العبثية. الكتاب رافقني في محطات حياتي المتنوعة، وعمل على إنقاذي من الشعور بالعزلة ومكابدة الأرق، وأغناني عن التخبط في العلاقات. لا أعني الاستغناء عن علاقات العمل المهني المفروضة على الإنسان، وإن كان يمكنه الاكتفاء بما هو أساسي وضروري منها.
لا أخرج من البيت إلا نادرًا، أنشغل بالقراءة والكتابة الوقت كله. أُعرّف نفسي بثقة واعتزاز بهاتين الكلمتين: "أنا قارئ"، هذا هو الشغف الذي كأنه ولد بولادتي، وسيلبث مقيمًا بداخلي مادمت قادرًا على القراءة. العالم يتغير بسرعة تفوق كثيرا تفكير الإنسان وتخطيطه للمستقبل. أقرأ الصحافة كلَّ يوم، أقرؤها لأرى كيف يرحل العالم للغد، ويرحّلنا معه "رغمًا عنا"، عساني ألمح ضوءًا في مصائره ومصائرنا. أقرأ ما أعثر عليه في المكتبات من جديد العلم والمعرفة، أقرأ ما لم أتعرّف عليه من كتابات عن الأديان والفلسفة والآداب والفنون والفلسفة وعلوم الإنسان والمجتمع. لدي صلة عاطفية بالورق والكتب منذ المرحلة الابتدائية، وهذا ما يجعلها تملأ بالتدريج كلّ بيت أسكنه، وتتكدّس في غرف المنزل، حتى عند وسادتي بشكل فوضوي يزعج عائلتي أحيانًا. لا أبالغ عندما أقول إني اتحسّس الكتب ككائنات حية ينعش بنبضها شيءٌ من روحي.
‏شيوع القراءة في المجتمع يحرّر الإنسان من التشدّد ويخفض وتيرة العنف، ويعمل على اكتشاف المشتركات بين البشر، واحترام اختلاف الهويات وتنوع المعتقدات والثقافات، ويراها منجمًا للإبداع والتكامل. القراءة مسرات وأفراح، إن قرأنا الكتب الجادة المبهِجة. القراءة رحلة أعود فيها إلى الذات، لأنصت بهدوء إلى ما تقوله على إيقاع تشاكلها مع معاني ما أقرأ من كلمات. القراءة تحميني من خوض معارك الواقع ومعاناته. أنا إنسان بطبعي أحاول ما أمكنني الهروب من الندوات والمؤتمرات والفضائيات، أمتنع عن الحضور في منتديات الثقافة ومقاهيها، والأسواق، والمناسبات الاجتماعية، وغيرها. طالما اعتذرت عن دعوات محترمة، أعترف أن حالتي استثنائية ولعلها غريبة، وربما هي من عيوبي، لذلك لا يتفهمها كثيرون. حرصي على صيانة وتحصين السلام بداخلي يفوق أيّ شيء نفيس أعتزّ به، لو تصدّع هذا السلام تتبدّد طاقتي ولا أقوى على إنجاز أيّ عمل. الواقع يزدحم بالتهافت على الشاشات والمنتديات والخوض مع الخائضين في كلّ نشاط. وأنا؛ لا أقول أزهد بذلك، لئلا يقال أمنح نفسي تفوقًا على غيري، بل أقول أنا أحتاج إعجاب الناس وتسويق أعمالي بالحضور، إلا أني لا أعيش سكينة إلا في وحدتي وصحبتي للكتاب والكتابة. أعرف أن هذه حالة تزعج غيري عندما لا أستجيب لدعوته، غير أني لا أستطيع التضحية بذاتي من أجل رضا غيري. أحيانًا أشعر بحرج أخلاقي لحظة أعتذر من دعوات مهذبة تسعى للاحتفاء بمنجزي. نحن بحاجة لمحبة الإنسان، المحبة الأصيلة رصيد يثري سكينة الروح، وهي قيمة عاطفية إنسانية نبيلة لا توهَب لنا مالم نكن مستثمرين جيدين في المحبة. ذلك ما يدعوني للاستثمار في هذه الثمرة الطيبة، وينعكس بكثافة عبر تواصلي الفردي، ومبادراتي المتنوعة للاهتمام بغيري، وقوة حضوري في فضاء الصلات العائلية، والأصدقاء الصدوقين، ممن ظفرت بهم في رحلة الحياة المنهِكة ومحطاتها المضنية. المفارقة أن الأصدقاء لا يتنبهون في الغالب للدوافع الكامنة وراء العزوف عن التواصل الجمعي والحضور الجماهيري. يبهرني حماس أحد الأصدقاء، وهو كاتب وناشط سياسي وثقافي على مشارف العقد التاسع من عمره، عاش أكثر حياته خارج وطنه العراق، يبعث لي هذا الصديق روابط نشر باستمرار لكتاباته وعلاقاته المتشعبة ولحضوره الواسع في منتديات بلدان متنوعة عديدة، والمشاركة الفاعلة بتكريم الأدباء والكتاب. الطريف أن إنتاجه لم ينل الاهتمام الذي يتناسب مع حضوره المكثف، ولا يترصد القراء، ومنهم أنا،كتاباته.



#عبدالجبار_الرفاعي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الكتب التي توقظ الوعي نادرة
- في الفلسفة كلُّ شيء يخضع لمُساءَلة العقل ونقده
- الجيل الجديد أثمن رأسمال بشري
- نفيُ الفلسفة ضربٌ من التفلسف
- مكافأة الحب الحب ذاته
- العقل يخضع لمساءلة العقل
- شخصيات طفيلية بثياب قديس
- مصائر مكتباتنا
- التعليم في عصر الهوية الرقمية
- أميّة الأساتذة الثقافية والرقمية
- الاستثمارُ في الحُبّ صعب
- مَن يعجز عن الإنصات يعجز عن الصمت
- إرادة الصمت أصعب من إرادة الكلام
- تحية للجيل الجديد
- حُبُّ الإنسان طريقٌ لحُبّ الله
- الإيمان بلا حُبّ ورحمة عنيف
- صمتُ الباطن بوصفه ثمرةً لصمت اللسان
- الصمت بوصفه تغافلًا حكيمًا
- تقديسُ المتخيّل للحيوان إهدارٌ لحقوق الإنسان
- يقدّسُ المتخيّلُ الحيوانَ حين ينامُ العقل


المزيد.....




- الجهاد الاسلامي: ندين بأشد العبارات المجزرة البشعة بحق الاعل ...
- إدانات لدخول وزير الأمن القومي الإسرائيلي لحرم المسجد الأقصى ...
- الإمارات تدين اقتحام وزير الأمن الإسرائيلي المسجد الأقصى
- “في خمس خطوات”.. حدّث الآن تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 ...
- الوزير المتطرف بن غفير يقتحم المسجد الأقصى في أول أيام عيد - ...
- خارجية الأردن: اقتحام بن غفير المسجد الأقصى خطوة استفزازية م ...
- بن غفير يقتحم الأقصى احتفالا بعيد -الأنوار- اليهودي ومكتب نت ...
- حماس: اقتحام بن غفير المسجد الأقصى انتهاك جديد وخطير
- الرئيس الايراني: لو كان المسلمون متحدين لما تجرأت -اسرائيل- ...
- حماس: اقتحام بن غفير المسجد الأقصى انتهاك جديد وخطير


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - عبدالجبار الرفاعي - قراءة تبعث المسرات وأخرى تثير الاكتئاب