|
من ارتكب الجريمة الكبرى ضد الاطفال الليبيين؟ ولماذا؟
جورج حداد
الحوار المتمدن-العدد: 1779 - 2006 / 12 / 29 - 11:53
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
اصدرت المحكمة الليبية العليا مؤخرا حكمها بالاعدام على الممرضات البلغاريات الخمس، والطبيب الفلسطيني، المعتقلين منذ 1999، والمتهمين بحقن مرض الايدز لاكثر من 420 طفلا ليبيا، مات منهم حتى الان 52، والباقون لا يزالون يخضعون للعلاج مهددين بالموت كل لحظة. وقد اتخذت هذه القضية طابعا دوليا واسع النطاق، في ما يشبه قضية محاولة اغتيال البابا الراحل سنة 1981، وقضية انفجار طائرة البان اميركان فوق بلدة لوكربي السكوتلندية في 1988، وقضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الاسبق رفيق الحريري في 2005. ما هو الانطباع الذي يمكن ان يكونه مراقب محايد عن صدور مثل هذا الحكم على الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني؟ ينبغي بادئ ذي بدء ايراد الملاحظات التالية: 1 ـ ان جرائم بهذا المستوى هي جرائم كبرى بامتياز. وأيا كان الافراد الذين يمكن ان يتهموا بها، وربما يشاركون بها، فهي لا يمكن باية حال من الاحوال ان تكون جرائم عادية، يقوم بها فرد او مجموعة افراد، باي دافع كان: حقد شخصي، حقد عنصري، مصلحة مادية، طمع في المال الخ الخ. 2 ـ ان مثل هذه الجرائم الكبرى تقف خلفها حتما قوة كبرى: دولة او مجموعة مخابراتية او مافياوية، تمتلك قدرات ومصالح من مستوى دولي. وسنسمي هذه القوة الاجرامية، مجازا وجدلا: "قوة دولية". 3 ـ ان "القوة الدولية" التي ارتكبت هذه الجريمة ليست من السذاجة ان لا تدرك مسبقا انها ستواجه ضدها المجتمع الليبي باسره والدولة الليبية. وهذا يقودنا الى الاستنتاج ان تلك "القوة الدولية" تمتلك الرغبة والحافز والمصلحة معا في خوض مواجهة مع المجتمع والدولة الليبيين. 4 ـ ان الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، بصفتهم كافراد او حتى كجماعة، لا يمتلكون اي صفة من صفات "القوة الدولية" ذات المصلحة والقادرة على ارتكاب مثل هذه الجريمة. وحتى اذا افترضنا جدلا ان ايا منهم، او اي شخص آخر، ليبي او عربي او اجنبي، من العاملين في المستشفى الذي كان مسرحا للجريمة، قد اشترك في هذه الجريمة، فهو لن يكون اكثر من بيدق صغير متورط، عن قصد او غير قصد، في الجريمة التي خططت لها ونفذتها "القوة الدولية" ذات المصلحة. 5 ـ ان بلغاريا، دولة ومجتمعا، كانت على الدوام دولة صديقة للعرب، ولها مصالح تجارية واقتصادية كبيرة مع ليبيا، منها وجود ألوف الاختصاصيين البلغار، ومنهم الاطباء والممرضات، الذين يعملون في ليبيا. ولا يمكن لأي عاقل ان يتصور ان تعمد الاجهزة الخاصة البلغارية لان ترتكب مثل هذه الجريمة، الموجهة حتما ضد المصالح الوطنية البلغارية بالذات. وفيما مضى ـ في قضية محاولة اغتيال البابا الراحل ـ حاولت الاجهزة المخابراتية الغربية والاسرائيلية إلصاق تهمة محاولة الاغتيال بالاجهزة البلغارية والسوفياتية السابقة. ومثل هذه "اللعبة" ليست شيئا جديدا في مثل هذه الجرائم الكبرى. ولكن في هذه الجريمة بالتحديد، وبالرغم من صدور الحكم ضد الممرضات البلغاريات، فإن ايا من السلطات والاجهزة السياسية والاعلامية والامنية والقضائية الليبية لم يشر لا من قريب ولا من بعيد الى امكانية تخطيط او مشاركة الاجهزة البلغارية في ارتكاب الجريمة. ولو كان هناك ظل ـ مجرد ظل شك، في هذا الاتجاه، فإن المجتمع البلغاري ذاته ـ الصديق الوفي للعرب، والحريص كل الحرص على المصالح الوطنية العليا لبلاده، كان كفيلا بممارسة حقوقه الدمقراطية والانسانية والوطنية، لتمزيق القناع عن وجه اي مجرم او مجموعة مجرمين. 6 ـ يذكر التاريخ: ان الهتلريين حينما احرقوا الرايخستاغ، بهدف القضاء على الدمقراطية في المانيا، "وضعوا" امام القضاء (والرأي العام الالماني والعالمي) متهمين "شيوعيين" على رأسهم غيورغي ديمتروف. وان الطغمة المالية العليا الصهيونية/الانغلو ـ ساكسونية حينما اغتالت بالتتالي جون وروبرت كندي، "وضعت" امام القضاء (والرأي العام الاميركي والعالمي) "الشيوعي" لي اوزوالد و"الفلسطيني" سرحان بشارة سرحان. وان "شركة" السي آي ايه والموساد والمافيا حينما حاولت اغتيال البابا "وضعت" امام القضاء والرأي العام الشيوعي البلغاري سيرغيي انطونوف و"الاسلامي" التركي محمد علي اقجا. 7 ـ ان "وضع" الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني امام القضاء والرأي العام الليبي والعربي والعالمي، في الجريمة المرتكبة ضد الاطفال الليبيين، هو جزء لا يتجزأ من الجريمة ذاتها، وهو يهدف ـ كما هو الحال دائما في مثل هذه الجرائم ـ الى تضليل التحقيق والقضاء والى التستير عن المجرم الحقيقي. ونقول هذا، بدون ان يعني ذلك اي تبرئة مسبقة، او اي ادانة مسبقة، لاي شخص على المستوى الفردي. 8 ـ لقد استغلت هذه الجريمة سياسيا باتجاهين: اما الهجوم على ليبيا والنظام الليبي؛ واما الدفاع عنهما. وفي كلتا الحالتين هناك ابتعاد عن السعي المطلوب لكشف الحقيقة، الذي يعني، اولا واخيرا، السعي لكشف "القوة الدولية" التي خططت ونفذت هذه الجريمة. استنادا الى ما تقدم نستطيع الاستنتاج منطقيا: ان الحكم الصادر بحق الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني، وكل هذه المحاكمة الصورية، التي استدرج اليها استدراجا القضاء الليبي، لا يقربان من كشف الحقيقة، بل على العكس يساعدان على التستير على "القوة الدولية" المجرمة، وصرف الانظار بالاتجاه الخاطئ. وهنا نأتي الى السؤال الجوهري: من يمكن ان تكون تلك "القوة الدولية" المجرمة؟ لمحاولة الجواب على هذا السؤال، ينبغي العودة الى مسرح الجريمة، والظروف التي حدثت فيها. وهنا تبرز الملاحظات التالية: 1 ـ وقعت الجريمة في منطقة بنغازي، وهي منطقة قبائلية، يقوى فيها الاتجاه "الاسلامي"، وتقوى فيها المعارضة لنظام القذافي. ويمكن الاستنتاج من ذلك ان الهدف من الجريمة كان يتضمن: اثارة القلاقل ضد النظام الليبي، وتوتير واضعاف العلاقات الليبية ـ البلغارية والعالمية والليبية ـ الفلسطينية والعربية (عن طريق وضع الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني "في صورة" الجريمة). 2 ـ وقعت الجريمة في وقت كانت فيه ليبيا تخوض معركة دولية شرسة (خصوصا مع اميركا وبريطانيا) حول قضية طائرة لوكربي، وكانت العقوبات الدولية (الاميركية!) مفروضة على ليبيا؛ ولكن منظمة الوحدة الافريقية كانت قد قررت في 1998 كسر المقاطعة، وكان من المتوقع ان تحذو جامعة الدول العربية حذوها، مما اربك الادارة الاميركية وذيلها البريطاني الى درجة كبرى، فجاءت جريمة نقل عدوى الايدز الى الاطفال الليبيين: اولا ـ للضغط على النظام الليبي وتوجيه إنذار شديد له حول ما يمكن ان يترتب على "معاندته". وثانيا ـ لتوتير العلاقات الليبية ـ البلغارية والفلسطينية والعربية والدولية بما يعطي زخما جديدا للمقاطعة التي كانت مفروضة على ليبيا. وقد دخلت قضية الاطفال الليبيين، والمحاكمة الناشئة عنها، ضمنا او مباشرة، في صلب "البازار" الذي قام حول قضية لوكربي، واسفر عن صفقة محاكمة المتهمين الليبيين في هولندا، والتعويضات الليبية على ضحايا الطائرة. كما دخلت قضية الطائرة وقضية الاطفال والمحاكمات وكل عملية الحصار على ليبيا في سياسة الضغط الشديد والتهديد بشن العدوان العسكري على ليبيا، بهدف تطويعها لارادة الادارة الاميركية. وقد اشتد هذا الاتجاه بالاخص بعد احداث 11 ايلول 2001 في اميركا. واسفرت هذه الحملة كما هو معروف عن اذعان نظام القذافي للاملاءات الاميركية. نستنتج من كل ذلك ان "القوة الدولية" ذات المصلحة وذات القدرة في ارتكاب هذه الجريمة الفظيعة ضد الاطفال الليبيين هي نفسها القوة الدولية التي اجتاحت العراق، وشنت العدوان على لبنان، وتمارس سياسة الابادة اليومية للشعب الفلسطيني المظلوم، اي الادارة الاميركية وبريطانيا واسرائيل، بشخص اجهزتها الخاصة، القادرة والمتخصصة في مثل هذه الجرائم. وليس من المستبعد، بل من منطق الاشياء تماما، ان تكون بعض الاجهزة الليبية ذاتها متورطة مع الاميركيين والانكليز والاسرائيليين من اجل "اخراج" سيناريو الجريمة بالشكل المناسب، تماما على طريقة تورط الاجهزة السورية مع الاميركيين والاسرائيليين في اغتيال رفيق الحريري. والحكم "الآن بالتحديد!" على الممرضات البلغاريات والطبيب الفلسطيني يضع علامة استفهام كبيرة على النظام الليبي برمته، بدءا من رأسه، حيث ان هدف هذا الحكم هو التستير على "القوة الدولية" التي ارتكبت الجريمة. وبعد التقارب الاميركي ـ الليبي، فإن النظام الليبي يريد بهذا الحكم ان يساوم الاميركيين والبريطانيين والاوروبيين، ليقبض "ثمن" تستيره على المجرمين الحقيقيين. ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ* كاتب لبناني مستقل
#جورج_حداد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الدور المتنامي لحزب الله ومحاذير الاندماج بالدولة اللبنانية
-
مخاطر تجديد الحرب الاهلية في لبنان والمسؤولية التاريخية لحزب
...
-
هل ينجح -حزب الله- في اجتياز حقل الالغام الداخلي؟
-
دعوة حزب الله لانشاء -دولة قوية، قادرة وعادلة- وجامعة الدول
...
-
اي -حكومة وحدة وطنية- يريد السيد حسن نصرالله؟
-
السقف المنخفض للوطنية القطرية في مواجهة اسرائيل
-
وليد جنبلاط... اعتذار كلامي لا يكفي!
-
لبنان اسرائيل: من سيقتلع من؟
-
....والافلاس التاريخي ل-الوطنية النظامية- العربية
-
نصر...! وأما بعد...!
-
الافلاس التاريخي لستراتيجية الحرب النظامية العربية
-
الخطة الاميركية الاسرائيلية لتطويع لبنان... امام المفاجآت!!
-
لبنان ليس الجولان ولن يكون ارمينيا
-
العدوان لا يستهدف فقط لبنان
-
المسيحية: البوتقة الايديولوجية القومية، الاولى والاساسية، ل
...
-
ويبقى السؤال: من سلّم الجولان بدون قتال، وهادن الاحتلال، ولم
...
-
المسيحية: الديانة القومية الاولى للعرب
-
أول أيار والدور الاممي الخاص للطبقة العاملة العربية
-
الارمن ضحية العنصرية التركية والتآمر الغربي على مسيحيي الشرق
-
بكركي محاورا تاريخيا
المزيد.....
-
الكرملين يكشف السبب وراء إطلاق الصاروخ الباليستي الجديد على
...
-
روسيا تقصف أوكرانيا بصاروخ MIRV لأول مرة.. تحذير -نووي- لأمر
...
-
هل تجاوز بوعلام صنصال الخطوط الحمر للجزائر؟
-
الشرطة البرازيلية توجه اتهاما من -العيار الثقيل- ضد جايير بو
...
-
دوار الحركة: ما هي أسبابه؟ وكيف يمكن علاجه؟
-
الناتو يبحث قصف روسيا لأوكرانيا بصاروخ فرط صوتي قادر على حمل
...
-
عرض جوي مذهل أثناء حفل افتتاح معرض للأسلحة في كوريا الشمالية
...
-
إخلاء مطار بريطاني بعد ساعات من العثور على -طرد مشبوه- خارج
...
-
ما مواصفات الأسلاف السوفيتية لصاروخ -أوريشنيك- الباليستي الر
...
-
خطأ شائع في محلات الحلاقة قد يصيب الرجال بعدوى فطرية
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|