|
الديبلوماسية الاقتصادية والعلاقات الدولية
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 8139 - 2024 / 10 / 23 - 12:06
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
الديبلوماسية الاقتصادية فرع من فروع الدبلوماسية، وهي علم وفن في الآن، وبمراكمة المعلومات تصبح في نهاية المطاف رصيدًا معرفيًا يحتوي على خبرات يمكن استثمارها بما يخدم أهداف السياسة الخارجية ويتكامل مع عناصر الديبلوماسية الأخرى، الثقافية والأكاديمية والعلمية والدينية والرياضية وغيرها، فأي تأثير يمكن أن يلعبه التغلغل الاقتصادي لدى الآخر؟
القطاع الخاص واستراتيجيات الدولة لقد أصبحت الديبلوماسية الاقتصادية، تلعب دورًا مهمًا في عالم اليوم في التأثير الناعم والتغلغل الهادئ على بلدان وشعوب وتحقيق أهداف السياسة الخارجية للدولة، ليس عبر القوّة الصلبة العسكرية، بل بوسائل أخرى سلمية، وهي وإن كانت موجودة منذ أقدم العصور، والمقصود بذلك التبادل الاقتصادي والتجاري بين الشعوب، إلّا أن تأثيرها ازداد على نحو فعّال في ظل العولمة والطور الرابع للثورة الصناعية، لاسيّما في ظلّ اقتصادات المعرفة والذكاء الاصطناعي، الأمر الذي يتطلّب معرفة بحيثياتها ووسائلها وموقعها في عالم الديبلوماسية، إضافة إلى الديبلوماسيات الأخرى كجزء من السياسة الخارجية للدولة. ووفقًا لذلك يُفترض أن تُرسم السياسات وتُصاغ الاستراتيجيات في العلاقات الدولية باستخدام المهارات التفاوضية وبراعة المفاوضين للتوفيق بين مصالح القطاع الخاص، وما يمثّله من نفوذ اقتصادي فاعل، وتوجّهات الدولة واستراتيجياتها، وكلّ ذلك يتمّ بتوظيف مصادر القوّة المادية والمعنوية، الصلبة والناعمة، لتحقيق أهدافها بوسائل مقنعة ومشجّعة.
الاقتصاد والديبلوماسية نشأت الحاجة تاريخيًا لإبرام اتفاقيات ومعاهدات لتنظيم علاقات الدول، خصوصًا بعد حروب ونزاعات مسلحة، وذلك عبر المفاوضات المباشرة وغير المباشرة. وتُعتبر اتفاقية ويستفاليا لعام 1648، التي أنهت "حرب الثلاثين عامًا" في أوروبا، وقبلها "حرب المائة عام"، التي راح ضحيّتها عشرات الملايين من البشر، محطّة مهمة في الديبلوماسية الاقتصادية، خصوصًا الاعتراف بالسيادة واحترام حق العبادة وأداء الطقوس والشعائر الدينية بحريّة، فضلًا عن تنظيم مرور البضائع والسلع ضمن قواعد تم الاتفاق عليها، وكان ذلك تمهيدًا لنشوء الدولة القومية وصعود البرجوازية وخدمةً لمصالحها، والتي تُعدّ آنذاك تقدمية قياسًا لمرحلة الإقطاع التي سبقتها، لاسيّما بتبنّي القيم الليبرالية وأساسها الحريّة والمساواة والإخاء، وهو ما قامت عليه الثورة الفرنسية العام 1789. وقد تطوّرت الديبلوماسية في العصر الحديث، وتُوّجت بعقد اتفاقية فيينا للعلاقات الديبلوماسية، التي أُبرمت في 18 نيسان / أبريل 1961، والتي تُعتبر من أهم الاتفاقيات التي نظّمت العلاقات الديبلوماسية بعد تراكم طويل الأمد وأعراف دولية، والتي حدّدت حقوق وواجبات البعثات الديبلوماسية ومفاهيم "الحصانة الديبلوماسية" وإقامة العلاقات وقطعها، والأساس في ذلك هو حماية مصالح الدولة المعتمدة ورعاياها، التي أخذت تتبلور في القانون الدولي المعاصر. وإذا كانت السياسة امتدادًا للحرب أو وجه آخر من وجوهها، حسب المنظّر العسكري البروسي كلاوزفيتز، فإن الديبلوماسية، بما فيها الاقتصادية، ستكون حربًا بوسائل ناعمة، لأن امتلاك القوّة يوازي استخدامها، حيث تُعتبر عامل ردع، وبديلًا عن الحرب أحيانًا، كما هي بالنسبة للدول النووية مثلًا، لأن الحرب تنمو في رحم السياسة، والسياسة في جزء مكثّف منها حرب بوسائل ناعمة اقتصادية وثقافية وإعلامية ونفسية وغير ذلك، وتبقى الحرب وسيلة والسياسة هي الغاية، أما الهدف فهو إكراه الآخر (العدو أو الخصم) ودفعه للتسليم بإرادة الطرف الآخر وتنفيذ ما يريده بإقناعه أو بإرغامه، بما فيه عبر الوسائل الاقتصادية. يمكن القول أن الديبلوماسية الاقتصادية هي إحدى الوسائل الحيوية لتحقيق استراتيجيات الدولة في العصر الحديث، لما للاقتصاد من دور كبير ومؤثر، حتى أنه أصبح المكوّن الأساسي في العلاقات الدبلوماسية، ولاسيّما بعد الحرب العالمية الثانية، وخصوصًا مع تطوّر الصراع الأيديولوجي العالمي في ظلّ الحرب الباردة (1946 - 1989)، وانقسام العالم إلى قطبين أساسيين : الأول - المعسكر الاشتراكي بقيادة موسكو؛ والثاني - المعسكر الرأسمالي بقيادة واشنطن.
النفط جوهر الصراع قيل في الحرب العالمية الأولى: من يملك النفط يسيطر على العالم، لأنّه سيتحكّم بوقود الطائرات والمركبات والمحرّكات، التي يعتمد عليها العالم في الحروب آنذاك، وتعاظمت أهمية النفط في الاقتصاد العالمي خلال الحرب العالمية الثانية. وكان تأسيس منظمة أوبك في بغداد (14 أيلول / سبتمبر 1960) تجسيدًا لواقع يعترف بأهمية النفط. وحصل في حرب تشرين / أكتوبر التحرّرية العام 1973 استخدام النفط سلاحًا فعّالًا في المعركة، وهو ما أحدث "الصدمة النفطية الأولى" ضدّ "إسرائيل" والغرب، الذي ظلّ يقف خلفها ويمدّها بالعون. وإضافة إلى النفط، تُعتبر المياه أحد الاسلحة الخطرة، لاسيّما في منطقة الشرق الاوسط، حيث يتم ابتزاز العديد من الدول العربية أو فرض عقوبات عليها، كما يمكن الإشارة إلى أزمتيْ الطاقة والقمح في الحرب الأوكرانية. اليوم وبعد انهيار الكتلة الاشتراكية وهيمنة واشنطن على القرار الدولي لنحو عقد ونصف من الزمن، أخذ المشهد الاقتصادي العالمي يتغيّر، وإن ببطء شديد، بصعود التنين الصيني كمنافس قوي للاعب الأمريكي، وترافق ذلك مع بداية استعادة الدب الروسي لجزء من مكانة الاتحاد السوفيتي السابق، منذ نهاية العشرية الأولى من القرن الحادي والعشرين، فضلًا عن تأسيس تجمّع اقتصادي، عُرف باسم دول البريكس، ضمّ الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، وقد توسّع هذا التحالف مستقطبًا قوى أخرى، الأمر الذي ساهمت فيه الديبلوماسية الاقتصادية إلى حدود كبيرة. هكذا بدأت إرهاصات قيام نظام دولي جديد بتعدّدية قطبية تتضّح ملامحه ويزداد فرز الألوان فيه أكثر فأكثر، وإن كان هذا النظام لا يخلو من تحدّيات هدفها عرقلة تكوّنه، أساسها نظام العقوبات الأمريكية ضدّ الصين، فضلًا عن العقوبات على روسيا بسبب حربها في أوكرانيا، إلّا أن ذلك، وإن كان يُعرقل أو يؤخّر قيام تفاهمات سياسية واقتصادية جديدة، لكنه لا يستطيع أن يمنع تشكّل نظام دولي جديد، في ظلّ معطيات مادية ومعنوية وتطورات محتملة ومزايا اقتصادية، تلعب فيها الديبلوماسية دورًا مهمًا، إضافة إلى توازن القوى الجديد.
ماذا لو؟ يمكننا تصوّر لو كانت دول المنطقة وشعوبها متفاهمة وذات استراتيجية موحّدة ومتنوّعة في الآن، تأخذ بنظر الاعتبار المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة، فهل كان للقوى الخارجية الدولية أن تتمادى في طريقة تعاملها معها وتنتقص من سيادتها، بل تمارس أحيانًا عدوانًا ضدّها، كما حصل من حرب إبادة في غزّة، وعملية تجريف وترحيل شاملين؟ وهل كانت الولايات المتحدة، خصوصًا والغرب عمومًا، تستطيع أن تزكّي العدوان بالطريقة السافرة التي حدث فيها، لاسيّما بتقديم الدعم المادي والمعنوي له، ورفض وقف إطلاق النار؟ أعتقد أن الموقف سيكون مختلفًا، وستحسب القوى الدولية أكثر من حساب لتعاملها مع دول المنطقة، خصوصًا حين يلوَّح بالديبلوماسية الاقتصادية والتجارية والمالية، والأوراق التي تمتلكها دول المنطقة كثيرة ومتعددة، فضلًا عن تاريخها وحضارتها وثقافتها، وبالدبلوماسية الثقافية والدينية والإعلامية يمكن أن تؤثر على عقول إن لم أقل قلوب الآخرين، والأمر يحتاج إلى تفاهمات واتفاقات بين أمم وشعوب المنطقة ودولها على أساس الاحترام المتبادل لحق تقرير المصير وأخذ المصالح المشتركة والمنافع المتبادلة بنظر الاعتبار وعدم التدخّل ومراعاة الخصوصيات والهويّات الفرعية. إن شعوب ودول المنطقة تمتلك قوّة كبيرة يمكن استثمارها بالتقارب والتنسيق والتعاون، وصولاً إلى صيَغ تنسيقية وتعاونية، لتشكيل كتلة كبيرة سياسية واقتصادية وثقافية تجمعها مصالح مشتركة، استنادًا إلى تاريخها المشترك الموحّد والمتنوّع في الآن بما يُسهم في تجدّدها الحضاري الذي يربط بين الحداثة والقدامة، ومثل هذا التوجه سيبقى مطروحاً طيلة ربع القرن المقبل، بما يعزّز المكانة الدولية لدول المنطقة وأممها وشعوبها، ويضعها على طريق المستقبل الواعد بتوفّر المستلزمات الضرورية لذلك بما فيه إعادة هندسة تشكيل الدولة ورسم خريطة التضامن الإقليمي الجديدة، تلك التي تهيء لها حجز
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكاتب والصحافي يحيى علوان في ذمة الخلود
-
روح غاندي وفلسفة التسامح
-
-ترست الأدمغة- جديد عبد الحسين شعبان
-
عقوبة الإعدام بين العدالة والانتقام
-
شذرات من ذاكرة كردستانية (الحلقة الثالثة والأخيرة)
-
المفكّر العربي الكبير عبد الحسين شعبان محاضرًا في كردستان: ن
...
-
هارفرد أم هوليود أيهما الأكثر تأثيرًا؟
-
أحمد الحبوبي الكبرياء والضمير في تجلياتهما
-
زرع ثقافة السلام
-
الديبلوماسية الثقافية والتأثير في الرأي العام
-
المفكر العربي الكبير عبد الحسين شعبان: -أمراء الطوائف- يسيطر
...
-
الجواهري وطه حسين و-رهين المحبسين-
-
مُهدى إلى -غسان كنفاني- - الطبعة الانكليزية من -مذكرات صهيون
...
-
المرأة والطريق إلى الحداثة
-
Memoirs of a Zionist كتاب جديد لعبد الحسين شعبان
-
إلى أين؟ غزّة والاحتلال -الدائم-
-
وسام التميّز لعبد الحسين شعبان
-
عبد الستار الدوري السياسي العصيّ على التصنيف(الحلقة الرابعة
...
-
شذرات من ذاكرة كردستانية (الحلقة الثانية)
-
المفكر والكاتب العراقي عبد الحسين شعبان -إلك صدر البيتِ وإلن
...
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|