|
الحُلم الأمريكى .. هل هو كابوس ؟!
أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن-العدد: 8135 - 2024 / 10 / 19 - 23:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مقدمة 1 ـ تأثرت جدا برسالة يعيش صاحبها يحلم بالهجرة لأمريكا ، وقد أدمن التقدم للحصول على فيزا ورفضوه مرارا وتكرارا ، وقدّم مرات فى برنامج اللوترى ، ولم يواته الحظ . فى رسالته يندب حظه بما يعنى أن حُلمه بالهجرة لأمريكا أضحى كابوسا . وأقول له بإختصار إنه حتى لو هاجر وعاش فى أمريكا فقد يكون حُلمُه الأمريكى كابوسا ..بل ربما يندم على مجيئه أمريكا من الأساس . 2 ـ وأُعطى تفصيلا من واقع المعايشة . أولا : 1 ـ بعد عام تقريبا من إستقرارنا فى البيت اذى إشتريناه بالتقسيط فوجئنا بصاحب البيت الملاصق لنا ــ وقد رأيته بضع مرات طاعنا فى السّنّ ـ قد ترك البيت وذهب ليعيش فى دار للمسنّين ، وأعطى بيته لشركة عقارات تبيعه . وقد بعثر ما فى منزله خاج منزله ، من أثاث وحقائب وملابس . والمعتاد فيمن يبيع بيته أن يعرض متاع بيته للبيع بأرخص الأسعار ، قبل أن تتسلمه شركة العقارات التى ستبيع البيت . وهذا ما حدث بعد عشر سنوات تقريبا لنفس البيت ، فالجار الذى إشتراه إنتقل الى ولاية أخرى وعرض ممتلكاته المنقولة للبيع ، وإشتراها الناس بأرخص الأسعار . صاحبنا ـ جارنا الأول ـ لم يفعل هذا . ترك البيت بكل ما فيه للشركة التى تعرض البيت للبيع ، فأخرجوا كل شىء من البيت ، وألقوا به ـ زبالة ـ بلا ترتيب ولا عناية لمن يريد أخذ أى شىء منه . تخاطف الناس الأثاث والأشياء القيّمة . وظل على الأرض أشياء لا يهتم بها أحد . كانت ألبومات صور ، وخطابات ومراسلات مع البنوك . لفت إنتباهى ألبومات الصور، نظفتها مما علق بها من تراب ، ورأيتها صورا للرجل فى شبابه ومعه ما أعتقد زوجته ، وأطفالا صغارا ، أى الأبناء . تمثلت أمامى المأساة . الرجل المسكين ربّى أولاده وعندما كبروا تركوه ، وكالعادة إنتقلوا الى أماكن أخرى وولايات أخرى ، ونسوه . وماتت زوجته فاضحى وحيدا مع ذكريات مؤلمة فى هذا البيت الذى إشتراه بالتقسيط وظل يدفع الأقساط وفوائدها المركبة الى أن بلغ من العمر عتيا . فى النهاية قرر أن يبيع البيت وأن ينتقل الى دار للمسنين يقضى فيها ما تبقّى له من عمر قليل . كل ما حصّله وكل إقتناه تركه زبالة .. أى هو موت قبل الموت . 2 ـ هى المُحصّلة النهائية للحُلم الأمريكى ، ليس لمهاجر وافد غلبان، ولكن لرجل أمريكى أبيض عريق .! ثانيا 1 ـ ربما توجد فى أمريكا أكبر طبقة وسطى فى أى دولة فى العالم . هذا حسب عدد المنتمين لهذه الطبقة بالنسبة لعدد السكان . الطبقة الوسطى الأمريكية هى التى تدير عجلة الاقتصاد فى الانتاج والخدمات والتجارة . هى فى المنتصف بين أقلية مليونيرات وبليونيرات ، وأقلية أخرى من الفقراء والمشرّدين الذين لا مأوى لهم يعيشون فى الشوارع والأنفاق وتحت الكبارى . أقلية ضئيلة جدا جدا من الطبقة الوسطى هى التى تصعد الى الطبقة العليا ، ولكن معظم الطبقة الوسطى مرشّح للسقوط لأسفل ليكون بين المشردين . الحُلم الأمريكى هو الذى يستحوذ على أفراد الطبقة الوسطى بالذات ، وهم الذين يسعون بكل جهد فى تحقيقه . ولكن الفشل قد يحيق بهم ، وقد لا يكون هذا بسببهم ، بل لظروف خارج إمكاناتهم . 2 ـ التحدّى الأكبر هو السكن والمواصلات ، والتغلب على هذا التحدّى هو بالحصول على عمل والاستمرار فيه ، أو تركه لعمل أعلى أجرا . 2 / 1 : فى السكن : 2 / 1 / 1 : يمكن أن تسكن بالايجار ، وتكتشف أنك تدفع إيجارا فى شقة لا تملكها ، وأن الايجار يزداد سنويا . وإذا عجزت عن دفع الايجار شهرا فسترى نفسك فى الشارع . أى لا بد من عمل ومرتب . لكى تظل فى تلك الشقة المُستأجرة . 2 / 1 / 2 : يتعقّد الأمر حين تشترى منزلا . لا بد من دفع مقدم ، بضع عشرات الألوف من الدولارات لكى تقبل شركة أو بنك أن يقرضك ثمن البيت ، ثم يتم التقسيط على سنوات قد تبلغ ثلاثين عاما . وتظل كل شهر تدفع الأقساط والفوائد بحيث فى نهاية الثلاثين عاما تكون قد دفعت أضعاف أضعاف القرض . وهم من كل قسط يخصمون الجزء الأكبر لأرباحهم المركبة ، ويخصمون جزءا ضئيلا جدا من أصل القرض . وهكذا تكتشف أنك عملت أجيرا لديهم ثلاثين عاما .. نوع حديث من الاسترقاق الطوعى !!. ولكنك تسعى اليه بنفسك لتحقّق حُلمك الأمريكى بإقتناء منزل تملكه . هو إحساس زائف بالملكية لهذا المنزل ، لأنه طالما لم تسدد الأقساط كلها فلست له مالكا ، ولأنك لو عجزت عن سداد الأقساط فستجد نفسك فى الشارع كتفا بكتف مع المُشرّدين فى الأرض . وسيقوم البنك بطرح منزلك ـ الذى كان ـ فى المزاد . وهناك حيتان تخصصوا فى شراء هذه النوعية من البيوت بثمن بخس ، وأصبحوا بليونيرات ، كان منهم دونالد ترامب . 2 / 2 : ما يقال عن المنزل يُقال عن السيارة . كل شىء بالتقسيط . وكل شىء ممكن أن تفقده إذا توقفت عن السداد . 3 ـ ثم هنا ثقافة الاستهلاك . المهم أن تشترى دون حساب ، والتشجيع على الشراء لأى شىء من الملابس والعطور والأثاث وكل شىء ، وبلا تفكير . وبالتقسيط وبالسداد على مراحل وبفوائد باهظة . والويل لك إذا تأخرت فى السداد أو عجزت عنها . 4 ـ هنا تفقد ( الكريديت ) أى الثقة ، وهناك تقييمات ودرجات لهذا الكريديت ، تقوم بها شركات مختصّة . والويل لمن يفقد الكريديت ، يكون منبوذا لا يأمنه أحد ، ومصيره الشارع وبئس المصير . 5 ـ باختصار فالوضع كالآتى : أنت تجرى لاهثا لتلحق باتوبيس سريع ، لا تستطيع أن تدركه ولا أن تقفز اليه ، وإذا تخلفت أو وقعت صرعتك السيارة التى خلفك . تظل تلهث جريا تحمل فى جوانحك الأمل فى تحقيق الحُلم الأمريكى .! ثم فى النهاية تصل الى المعاش شيخا ، وتأوى الى ركن تنتظر الموت مثل جارنا الذى كان . 6 ـ وأنت تجرى لاهثا إياك أن تدمن الخمر أو المخدرات ، وإياك أن تتعرض لمرض . المرض لا يعوقك فقط عن العمل ويهدد بفصلك ، بل الأكثر من ذلك ، التأمين الصحى فاحش فى تكاليفه . بعض المغتربين يسافر بلده ليتعالج هناك . من ليس لديه تأمين صحى عليه أن يدفع عشرات الألوف ، وإذا دخل المستشفى لا بد أن يعالجوه ، ولا بد أن يتحمل تكاليف العلاج . ولو بالتقسيط . إن عجز ضاع ( الكريديت ) وأصبح مؤهلا للتشرد . 7 ـ قد تفقد العمل لأسباب لا دخل لك فيها . بعضهم يعمل سنوات ويصل الى مركز متقدم وبمرتب عال ، فيرى صاحب الشركة أن من الخير له أن يعين شابّا أقل منه أجرا . وهذا بالاضافة الى تعثر الشركات الصغيرة وإضطرار أصحابها الى توفير النفقات . وقد يظل من ترك عمله شهورا يبحث عن عمل آخر . قد ينجح وقد .. لا .! ثالثا : 1 ـ كل هذا يهون ، ولكن الأصعب هو ما عاناه جارنا الذى كان . أن يتركك أبناؤك فى شيخوختك وتنقطع صلتهم بك . تمضى عمرك ترعاهم ثم إذا كبروا تركوك ، بل وتناسوا السؤال عنك . 2 ـ فى المجتمعات الزراعية والصحراوية تكون الأسرة هى الأساس . وبالأسرة تكون العلاقات وأيضا العداوات . فى المجتمعات الصناعية فى الغرب ـ وامريكا بالذات ـ لا توجد أسرة بالمفهوم الذى لدينا . بل يوجد الفرد . عندما يكبر ينفصل عن أبويه ، هذا إذا كان له أبوان دون طلاق . ومن قبل فالأب والأم كانا قد إنفصلا عن أبويهما . و توجد ظاهرة الأم المستقلة . وقد تربى أطفالها وتشقى من أجلهم ثم يكبرون ويتسربون من حولها يتركونها فى برودة الشيخوخة وضعفها . شهدت بنفسى حالات ماساوية فيها جُحود الأبناء والبنات . وهذا شىء عادى جدا وقاس جدا . 3 ـ حتى الآن نتحدث عن الأمريكان المنحدرين من أجيال عاشت فى هذا البلد . رابعا : 1 ـ ماذا عن الوافد الذى إكتسب وضعا قانونيا ، ويعيش آمنا من الترحيل والمطاردة . ثم ماذا عن الوافد الجديد ؟ لا بد أن يكون هناك من يقوم بأمره ، يستضيفه ويساعده فى تعلم اللغة وفى الحصول على عمل ، وحتى فى ركوب المواصلات والتعامل مع الناس . ثم يساعده فى إستئجار شقة يعيش فيها . لا يستطيع أن يستأجر بنفسه لأنه ليس له ( كريديت ) ، بالتالى فالذى يرعاه هو الذى يقوم بالتوقيع معه ضامنا . ثم عليه أن يبنى لنفسه ( كريديت ) بدفع الفواتير للشقة ، وما أكثرها ، وأن تكون الفواتير باسمه . ويحتاج الى أن يفتح حسابا فى البنك ، وأن يقترض من البنك مبلغا يقوم بسداده ليثبت الثقة فيه . وبمرور الأيام يبنى له هذا ( الكريديت ). وإذا تعثّر فى السداد أو فقد العمل فالشارع يستقبله مشتاقا وبالأحضان . 2 ـ ليس كل هذا سهلا . بعض الناس يفشل ويعود الى بلده يجرُّ أذيالا من الفشل طولها عديدا من الكيلو مترات . بعضهم ينجح بالاصرار مدركا أن السنوات الأولى هى الأصعب وعليه أن يتحملها . 3 ـ وفى كل الأحوال ـ وبلا إستثناء ـ يظن أقاربه فى بلده الأصلى إنه يغترف من الدولارات غرفا ، وأنه يسبح فى أنهار من العسل واللبن ..! أخيرا : ماذا عنّى شخصيا ؟ 1 ـ عايشت المعاناة يتيما وتعلمت مبكرا الصمود والتحدّى والقدرة على الإستغناء والاعتماد على النفس . 2 ـ خلال ربع قرن تقريبا عرفت فى مصر الاضطهاد والسجن ومراقبة الأمن ، ليس لأنى مجرم ، ولكن لأن أكابر المجرمين لا يتحملون دعوتى الاصلاحية السلمية . كان سهلا علىّ فى مصر تحمل الفقر . ولكن كان صعبا الحياة بلا أمن . فالنظام المستبد البوليسى ضدك ، وخصوم النظام هم ايضا ضدك . ومع خصوماتهم فهم معا يتّحدون ضدك . 3 ـ جئت لأمريكا لاجئا سياسيا أطلب الأمن ، فوجدته . ليس مهما بعدها أى شىء . يكفى أننى أقول ما أريد وأكتب ما أشاء وأنام آمنا مطمئئا . وبهذا فقط تحقّق لى ـ بفضل الله جل وعلا ـ الحلم الأمريكى .! 4 ـ وأرجو أن ينطبق علىّ قول ربى جل وعلا : ( وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) النحل ). 2 ـ ودائما : صدق الله العظيم .!
#أحمد_صبحى_منصور (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن ( الصلاة من تانى ومن تالت .! / حديث القلم والأقلام )
-
عن القردة الخاسئين
-
( القرآن الكريم وعلم النحو ) . الكتاب كاملا .
-
عن ( العقل والتعقل / لماذا كان يغضب موسى ؟/ التفضيل بين المل
...
-
عن ( الغرور / كفل ونصح )
-
لماذا.. يا هذا ؟
-
عن ( البحر / هل أمر موسى قومه بالانتحار ؟)
-
عن ( لا عدّة /إنتصار إسرائيل / يا حاج / صلاة شيطانية / الاست
...
-
خاتمة كتاب ( القرآن الكريم والنحو العربى )
-
عن ( هل لا حياء فى الدين ؟ / لا نوم فى الآخرة / الحساب للسرا
...
-
عن ( الحسد والسحر / تسجيل الأعمال والميزان والحبط والغفران )
-
الكسائى : تلميذ الخليل ومؤسّس مدرسة الكوفة النحوية
-
عن ( مرد ، ردّ / بغير عمد ترونها )
-
عن ( ذلول و زللتم و ذلل / أستفزاز / الماكياح )
-
سيبويه وتأكيد منهج الخليل بن أحمد فى هجر القرآن الكريم
-
عن ( عقوبة نقض العهود / دعاء شادية / الإعجاز العلمى فى القرآ
...
-
عن ( حالة عصبية / نور التقوى / المستبد والآثار )
-
الخليل بن أحمد العبقرى العربى مبتدع علمى النحو و العروض
-
عن ( الظلمات والمادة المظلمة / الهيم / الزواج من مسيحية / ال
...
-
الاسرائيليون واليهود
المزيد.....
-
حماس:ندعو الدول العربية والاسلامية لردع الاحتلال والتضامن لم
...
-
الأردن يدين اقتحام وزير إسرائيلي المسجد الأقصى
-
بعد سقوط نظام الأسد... ما مصير الطائفة العلوية في -سوريا الج
...
-
اجدد تردد لقناة طيور الجنة الجديد 2025 على نايل وعرب سات حدث
...
-
بقائي:الهجمات الاسرائيلية المتكررة على اليمن هي لتدمير الدول
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024.. القناة الأولى لأناشيد وبر
...
-
الترفيه والتعلم في قناة واحده.. تردد قناة طيور الجنة 2024 لم
...
-
الجهاد الاسلامي والشعبية: ندين المجزرة الدموية بحق صحفيين في
...
-
الجهاد الاسلامي: ندين بأشد العبارات المجزرة البشعة بحق الاعل
...
-
إدانات لدخول وزير الأمن القومي الإسرائيلي لحرم المسجد الأقصى
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|