مما لاشك فيه إن انهيار النظام البعثي الفاشي قد بعث البهجة والسرور في نفوس جميع فئات المجتمع العراقي بكل قواها وحركاتها السياسية والاجتماعية، ولكن ماذا بعد سقوط النظام؟، ومن سيظفر بالسلطة السياسية بعد ذلك الانهيار المشين؟ هل ستكون النظام القادم نظاما" ديمقراطيا" برلمانيا"؟ أو نظاما" دكتاتوريا" آخر لا يختلف عن الطبيعة السياسية للنظام السابق إلا في الشكل؟ بغية الإجابة على هذه الأسئلة وغيرها من التي تتعلق بنفس الموضوع، لابد من تحليل طبيعة النظام الاقتصادي والاجتماعي خلال فترة تأريخ العراق الحديث وذلك من أجل تحديد قوانين الحركة الاقتصادية للمجتمع وبالتالي تحديد طبيعة المجتمع العراقي وتركيبة قواها الطبقية والأجتماعية، التي تعتبر القاعدة المادية التي تنشأ عليها البناء السياسي والفكري والثقافي للمجتمع وعندما يتم الحديث عن ذلك الموضوع لابد من الوقوف عند انقلابي 14 و17 تموز لأنهما تشكلان معا" أهم الحلقات والمفاصل في التاريخ السياسي الحديث للعراق.. فبعد هذين الانقلابين حدثت تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة داخل المجتمع العراقي وتأريخها الحديث وتحديدا" بفعل قوانين الإصلاح الزراعي وعمليات تأميم النفط والتي استمرت تطبيقاتهما حتى منتصف سبعينيات القرن الماضي واللتين دفعتا المجتمع العراقي برمته ليخضع لفعل قوانين النظام الرأسمالي، تلك القوانين التي أصبحت بمثابة القوانين الاقتصادية الأساسية لحركة المجتمع بعد سيادة علاقات الانتاج الرأسمالي على الحركة الاقتصادية والنشاط الاقتصادي ودوران عجلة الانتاج بصورة تامة، وكان أمرا" طبيعيا" أن يتسع على أثر ذلك الفجوات الاجتماعية داخل المجتمع العراقي يوما" بعد يوم وبالتالي يزداد الفوارق الطبقية ويصبح أكثر شفافية من أي وقت آخر كنتيجة حتمية لتحقق القيم الزائدة المطلقة بمعدلات عالية جدا" من عمليات الانتاج التي كانت تعتمد على الاستغلال الوحشي لقوة العمل البشري الرخيص وعصرها حتى النخاع. وبحكم سيطرة الدولة على وسائل الانتاج بصورة كلية تقريبا" إتسمت نمط الانتاج السائد بطابع رأسمالية الدولة، القائمة على البرمجة الاقتصادية والخطط الخمسية وتدخل الدولة حتى في أدق شرايين الحياة الاقتصادية وضبط آليات عمل السوق، أي سيادة ذلك النموذج الاقتصادي من الرأسمالية على الحياة والحركة الأقتصاديتين، الذي يعتمد أساسا" على توسيع مساحة العمل البشري في عمليات الانتاج واعادة الانتاج والتي أدت إلى انخفاض معدل التركيب العضوي لرأس المال إلى أدنى مستوياته في العمليات الانتاجية أي انخفاض مستوى التكنيك الصناعي القائم على الأساليب العلمية الحديثة بالإضافة إلى غياب التكنولوجيا الصناعية المتطورة وخصوصا" الأدوات والآلات ونستثني منها بطبيعة الحال قطاع النفط الذي ادخل إليها التكنولوجيا المتطورة بغية تأمين أكبر المعدلات من العوائد المالية لإنفاقها على تلك الميادين التي تضمن استمرارية الأنظمة المتعاقبة على السلطة في الحكم وبذلك نشأت شريحة بيروقراطية مؤلفة من كبار، موظفي الدولة والسياسيين، وكبار القادة العسكريين الذين تحكموا بكل المقدرات والامكانيات الاقتصادية والحياة الاجتماعية داخل المجتمع العراقي، وتمكنت هذه الشريحة من الاستحواذ على كل ثروة المجتمع, واصبح الثراء الفاحش وحياة البذخ وتبذير أموال الشعب لملذاتهم الشخصية من أهم الخصائص الاجتماعية لهذه الشريحة أما في القطب المقابل فالتحق أمواج بشرية جديدة بصفوف الطبقة العاملة بفعل تأثير تلك القوانين داخل المجتمع في حين كان ازدياد شقاء الطبقة العاملة وشيوع حالة البؤس الاقتصادي والاجتماعي والحرمان من أبسط مقومات الحياة الإنسانية تشكل من أهم خصائص القطب الاجتماعي المقابل. فإذا كان القطاع الصناعي والطبقة العاملة يمارسان النشاط الاقتصادي في ظل مثل هذه الظروف السيئة، فإن الحال لم يكن أفضل بالنسبة للقطاع الزراعي وأوضاع الفلاحين، فعلى الرغم من أن عمليات الاصلاح الزراعي قد حررت الفلاحين من القيود الاقطاعية الثقيلة وعبودية القنانة، إلا أنهم ظلوا يراوحون في وضع سيء ومزري ويرثى له الحال حيث لم يتم إدخال التكنيك الصناعي المتطور وتطبيق الأساليب الزراعية الحديثة في هذا القطاع الاقتصادي وإستمر الفلاحون ينتجون بالأدوات والوسائل والأساليب الزراعية البدائية وبذلك بقي انتاجهم منخفض ورديء واستحال عليهم أن يلبوا حاجات المجتمع العراقي من المواد الذي ينتجونها هذا ناهيك عن استحالة المنافسة مع مثيلاتها من المواد الذي ينتجومها في أسواق المنطقة هذا بالإضافة إلى أن المداخيل الذي يحصلون عليها لم تكن تكفي لتغطية نفقات معيشتهم حتى الموسم القادم وعلى أثرها اضطر الغالبية العظمى منهم للقيام بأعمال اخرى إلى جانب أعمال الفلاحة أو الهجرة إلى المدن وترك حياة الزراعة، وعلى أثرها تحول قسم غير قليل منهم إلى عمال زراعيين لدى مزارع الدولة والبقية تم استغلالهم بأبشع الصور من خلال آليات السوق والجمعيات التعاونية الذين دفعوا أبخس الأسعار مقابل منتجاتهم واستمر الحال على هذا المنوال حتى حرب الخليج الاولى فتكونت فئة اخرى من كبار الملاكين الزراعيين إلى جانب مزارع الدولة والتعاونيات، مؤلفة من شيوخ القبائل وغيرهم من الذين دعمهم الدولة لكسب ولائهم إلى جانب النظام وبذلك سيطر هؤلاء على مساحات شاسعة من الأرضي الزراعية إما من خلال إرغام الفلاحين على بيع أراضيهم، أو قيام الدولة بمنحها لهم للسبب السإلف الذكر، وبهذه الصورة لفت الرأسماية هذا القطاع الاقتصادي أيضا" بشبكة علاقاتها الاقتصادية وأصبح شقاء المزارعين الصغار والعمال الزراعيين وبؤسهم الاقتصادي والاجتماعي لا يختلف كثيرا" عن أشقائهم العمال وبهذه الصيغة بقي صغار المزارعين والعمال الزراعيين في الأرياف وضواحي المدن منعزلين عن الحياة السياسية داخل المجتمع وذلك كما أشرنا إليه بفعل تدني دورهم في الانتاج الاجتماعي وما ترتب عليها من ظروفهم اقتصادية واجتماعية في غاية القساوة. أما القطاع الخاص فلم يلعب أي دور يذكر في الحياة الاقتصادية والنشاط الاقتصادي داخل المجتمع ولم يستطيع ذلك القطاع من الظهور وأن يرى النور إلا في تلك الميادين التي كانت ملحقة وضرورية لتقوية تدخل الدولة في الحياة الاقتصادية وبالتالي تعزيز النفوذ السياسي للدولة وسيطرتها داخل المجتمع. وعلى هذا الأساس لايمكن إيجاد أي أثر لفئة التكنوقراط والبرجوازية الصناعية الكبيرة لا وبل حتى المتوسطة منها أيضا" داخل المجتمع العراقي وبالتالي غياب الأرضية الاجتماعية والقاعدة المادية لنشوء التيار الليبرالي داخل الطبقة البرجوازية والحركة السياسية للمجتمع العراقي، ويجدر الإشارة هنا أيضا" إلى أن الأنظمة المتعاقبة على السلطة في العراق قد تعمد إلى تحويل المجتمع العراقي إلى مجتمع استهلاكي وذلك من خلال استخدام جزء من عوائد النفط لاستيراد ما هو ضروري لتلبية بعض الحاجات الأساسية للإنسان بأسعار رمزية نوعاما وذلك بغية ضمان بقاء المجتمع العراقي اسيرا" لممارساتهم السياسية القمعية.
هذه هي القاعدة المادية والاجتماعية التي نشأت عليها الحياة السياسية الحديثة للمجتمع العراقي بمختلف قواها وحركاتها السياسية، وعلى هذا الأساس فإذا أمعنا النظر في السلوك السياسي وطبيعة الجذور الاجتماعية لمختلف الأنظمة السياسية المتعاقبة على السلطة سيتضح لنا على الفور، أنه بالرغم من وجود بعض الاختلافات الايديولولجية والسياسية فيما بينهم إلا أن جوهر السلطة والحكم بقي واحدا" ومشتركا" عند الجميع وتمثلت بسلوك سياسي إرهابي وقمعي وطبيعة وحشية ودموية حيث أن أبرز سماتها تمثلت بسلب أبسط الحقوق الإنسانية لا وبل، حتى تجريد الإنسان من إنسانيته، وسحق الاعتراضات الجماهيرية وحركتهم المطالباتية وهي لاتزال في المهد، و...الخ، وإن هذه الحالة السياسية من الاستبداد والقمع والسلوك السياسي الإرهابي التي مارستها الأنظمة الدكتاتورية في العراق لم تكن رغبة سياسية عندهم بقدر ما كانت ضرورة سياسية، وذلك لأن الظروف والشروط المادية التي تم فيها الانتاج الاجتماعي والحركة الاقتصادية والتي تعتبر بمثابة الأساس المادي لكل بنيان سياسي داخل المجتمع لم تكن تسمح بغير ذلك أي تربع سلطة قمعية في الحكم، فإذا أخذنا بنظر الاعتبار، القوانين الاقتصادية التي تتحكم في الانتاج الاجتماعي وعلاقات الانتاج وعمليات تحقق القيم الزائدة التي تمت على أساس أقصى درجات الاستغلال الوحشي وبأقسى الوسائل والأساليب وفي ظل غياب أدنى درجات الأمن الصناعي الذي يضمن أمن وسلامة العمال أثناء قيامهم بعمليات الانتاج وبالإضافة إلى أدنى مستويات الاجور التي كانت تمنح لهم وكذلك تلقيهم أقسى أنواع المعاملة بدأ" من التعذيب ومرورا" بالشتائم والإهانات وزجهم في السجون لأبسط المخالفات أو حتى لأتفه الأسباب هذا ناهيك عن حرمانهم حتى من أبسط مقومات الحياة ومن أبسط الحقوق المدنية والشخصية، فيجب أن لا نستغرب من ممارسة الأنظمة المذكورة لكل تلك الوحشية والتنكيل والقمع والاستبداد، بينما يدور عجلة الإنتاج بكل هذه الوحشة، ذلك لأنء ( الشرور السياسية ينبع من الشرور الاقتصادية ) منصور حكمت، ولذلك عندما يدور عجلة الاقتصاد الاجتماعي بمثل هذه الصورة القاسية والوحشية فيستحيل على الأنظمة السياسية أن تستمر في الحكم وتحتكر السلطة من دون دكتاتورية سافرة تتمثل بقمع الحريات وسلب الحقوق والمقابر الجماعية والأنفال وتجفيف االأنهر والمستنقعات والقصف الكيماوي وحتى تصفية أقرب المقربين للطاغوت ربما لأنه قد حلم في المنام بأن الدكتاتور أحول أو أن لون رباطه لا يتناسب مع تشكيلة ملابسه أو أن حذائه لا يلمع جيدا" و... إذن فإن الشرور السياسية التي تمارسها جميع الأنظمة المستبدة بحق شعوبهم تعتبر ضرورة حتمية لبقاء إدارة المجتمع في ظل الظروف القاسية والوحشية التي يتم فيها دوران عجلة الانتاج الاجتماعي بما يضمن وجود العمل الرخيص الذي يحقق أعلى المعدلات من القيم الزائدة.
وعلى هذا الأساس فإذا رجعنا إلى محتوى عنوان مقالتنا، فهل يمكن تشكيل حكومة مؤقتة أو أي شكل آخر من النظام السياسي من خلال عملية ديمقراطية؟ أعتقد أن الإجابة على هذا السؤال يمكن أن يأخذ الجواب المنطقي من التحليل المذكور أعلاه، فإذا أخذنا بنظر الاعتبار الحالة الاقتصادية والمعاشية في العراق بعد سقوط النظام فإن كل المؤشرات تدل على أن الحالة الاقتصادية قد تغير من سيء إلى أسوء وبذلك فإن الشرور الاقتصادية قد تزايد بمعدلات أكثر لأن معظم الهياكل الارتكازية لبنية الاقتصاد العراقي قد أصابها الدمار من جراء القصف الوحشي الأمريكي ـ البريطاني الذي طال إليها دون مبرر في حين إن ماتبقي منها تعرض للنهب والسلب، وهذا ما دفعت الغالبية العظمى من القوى العاملة في مختلف القطاعات الاقتصادية للالتحاق بالجيش المليوني للعاطلين عن العمل، في حين أن الغالبية العظمى من المؤسسات الخدمية والاجتماعية قد أصابها إما الدمار أو تعرض للنهب أيضا" لنفس السبب وبالتالي كفت عن تقديم مختلف الخدمات الضرورية للمجتمع، وليس هذا فقط بل، أصبح أيضا"، فقدان الأمن والاستقرار والحرمان حتى من أبسط مقومات الحياة ومن أبسط الخدمات الإنسانية، هي الحالة السائدة لمعظم مناطق العراق ومن جراء ذلك فإن المواطن العراقي يصعب عليه الخروج من بيته حتى لقضاء أشد ضرورات الحياة كما وأن عمليات الثأر والانتقام والقتل قد أصبحت مشاهد يومية في الشارع العراقي وفي نفس الوقت أطلق لجام مختلف المنظمات الإرهابية الإسلامية وعصابات السرقة لتفسد كل شيء وتمسح كل ما تبقي من آثار المدنية والمجتمع المدني من الوجود، وبدأو يفرضوا من الآن أشد العادات والتقاليد والأفكار الأجتماعية الغارقة في الرجعية على المجتمع، هذا ناهيك عن توجه بعض الأحزاب والقوى السياسية داخل المعارضة البرجوازية العراقية نحو اثارة النعرات القومية والطائفية وهذا ما يدفع المجتمع العراقي أو بالأحرى وضعها على حافة بركان ملتهب يكاد ينفجر في كل لحظة ويحرق الأخضر واليابس، وبهذا الخصوص فليس خافيا" على أحد فإن تلك النعرات قد طفت على السطح في معظم مناطق العراق ففي وسط وجنوب العراق بلغت التناحرات بين مختلف الطوائف الدينية والمذهبية حد الانفجار، أما في الشمال فإن تلك التناحرات قد بلغت أوجها سواء كان بين العرب والأكراد أو بين التركمان والبقية. في حين لا تلوح في الافق أية بوادر لإصلاح ما تم إفساده وتدميره في المستقبل المنظور، ولتوضيح هذه الصورة التراجيدية والمأساوية بشكل أفضل، لا بد أن من توضيح صورة الوجود الأمريكي ـ البريطاني في العراق. وبهذا الصدد فعند بدأ عمليات احتلال العراق وشيوع حالة الفوضى والدمار والسلب والنهب، أكد الغالبية العظمى من الخبراء والمحللين العسكريين بأنه يجب أن يكون هناك خطة أمنية إلى جانب الخطة العسكرية للاحتلال وذلك لضمان أمن وسلامة المواطنين في البلد المحتل وحماية ممتلكاتهم، إلا أن الذي فعله الأمريكيون والبريطانيون كان عكس ذلك تماما"، ليس فقط لم يكن لديهم خطة أمنية بل أنهم أعطوا الضوء الأخضر بشكل غير مباشر للسماح بتدمير ما تبقى من المؤسسات الخدمية والإنتاجية وحثوا المواطنين على القيام بعمليات السلب والنهب وبهذا الخصوص ليس بوسع أحد أن يلوم المواطنين على عمليات السلب لأن الغالبية العظمى منهم يعيشون دون خط الفقر أو على حافتها ويعيشون في حالة الحرمان المطلق حيث برر الكثير من المواطنين، وأنهم في ذلك صادقون، أثناء عمليات النهب على شاشات التلفاز، قيامهم بعمليات السلب لأنه لم يدخل الثلاجات والمبردات وأجهزة التلفزيون لحد الآن إلى بيوتهم ولا أظن أن بوسع أحد أن يلوم مثل هؤلاء، فإذا كان اللوم يقع على أحد فأنها تقع على قوات الاحتلال التي بررت عمليات السلب والنهب وفقدان الأمن والاستقرار بحجة سخيفة وواهية لا يقتنع بها حتى الأطفال تتمثل بعدم تلقي جنود الاحتلال التدريبات اللازمة للقيام بمهمات الشرطة للأغراض المدنية!! ولكن لماذا كان جنودهم مدربين على حماية وزارة النفط والمؤسسات التابعة لها وكذلك وزارة الخارجية بينما لم يكنوا مدربين على حماية المستشفيات وبقية المرافق والمؤسسات التي تقدم مختلف الخدمات الأنسانية للمواطنين!! لماذا تستطيع قوات الاحتلال أن تمنع بقايا الحرس الجمهوري وفدائيي صدام وبقية المجرمين البعثيين من الظهور علنا" بينما تعجز عن منع السلابة والنهابة من الظهور؟ وأظن الآن ليس خافيا" على أحد بأن قضية الانفلات الأمني وفراغ السلطة والسماح بعمليات السلب والنهب كان أمرا" مخططا" لها قبل دخول قوات الاحتلال للعراق بوقت طويل وكانوا يسعون من وراء ذلك لتحقيق عدة أهداف منها تبرر وجودهم العسكري الضخم في العراق وتأمين بقائهم لأطول فترة ممكنة ولسد الطريق أمام الظهور القوي لمختلف القوى والمنظمات والأحزاب اليسارية والثورية لأنه في ظل أوضاع كهذه يصعب حتى بالنسبة لأقوى الأحزاب وأكثرها خبرة" وتمرسا" في العمل السياسي والجماهيري أن تستطيع من جر الجماهير إلى الحياة السياسية وكسبهم إلى جانبه والالتفاف حول شعاراته، وكذلك كانوا يهدفون من ورائها إلى فرض حكومة أمينة للمصالح الأمريكية وسياساتها على الشعب العراقي حيث يصعب في ظل أوضاع كهذه حتى بالنسبة لأكثر الحكومات رجعية" أن تدير ظهرها لقائمة المطالب الجماهيرية الطويلة جدا" وكذلك لخلق أفضل الظروف التي من شأنها أن تبعد الجماهير من الحياة السياسية وبالتالي تسد الطريق عليهم من اختيار الحكومة المناسبة لهم وفق مشيئتهم وإرادتهم المستقلة، ولذلك فإن ظهور جنود الاحتلال المدججين بالسلاح بدأ يستفز مشاعر المواطنين العراقيين وإذا لم يتم معالجة هذه الأوضاع المزرية بأقصى سرعة ممكنة فإن هذا الوضع الاجتماعي الملتهب في العراق سيتجه نحو حالة سيندم معها قوات الاحتلال على كل مافعلت في العراق. إذن في ظل ظروف كهذه، أية ديمقراطية يمكن أن يتحقق في العراق؟ وكيف يمكن تأمين الرفاه والحقوق والحريات للمواطن العراقي؟ أية حكومة يمكن أن تصمد ليوم واحد لا وبل، حتى لساعة واحدة في وضع كهذا أمام ضغط المطالب الجماهيرية التي كانت محرومة" حتى من إنسانيته، ومما زاد في الطين بلة" فإن أمريكا تواجه مأزقا" حرجا" بخصوص مسألة السلطة في العراق فأنها حاولت عبثا" تشكيل حكومة من ذلك الخليط السياسي الغير متجانس التي تحتضنها من القوى والأحزاب السياسية للمعارضة البرجوازية العراقية العميلة لها حيث أنها للمرة الثالثة تغير خططها ومرامجها من أجل إيجاد حكومة كهذه فبدأت بالحكومة الانتقالية ثم الحكومة المؤقة فانعقاد مؤتمر وطني لهذا الغرض وأخيرا" وليس آخرا" المجلس التأسيسي إن لم تتغير هي الاخرى أيضا"، إن كل تلك التغيرات في الخطط والبرامج الأمريكية في هذه المدة القصيرة دلالة واضحة على مدى العجز الذي تعانيه من مسألة السلطة في العراق حيث أن غياب تلك العوامل السياسية في الساحة السياسية العراقية الذي يمكن أن تعتمد عليها أمريكا في مسألة بناء السلطة في العراق هي التي أوصلت السياسة الأمريكية في العراق إلى مثل هذه الأزمة الخانقة، وقد أصبح واضحا" بعد كل تلك المناورات والمراوغات التي تمارسها مع مختلف قوى وأحزاب المعارضة البرجوازية العراقية وعمليات التضليل والخداع التي مارستها مع جماهير العراق، إن أمريكا لا تريد تأسيس حكومة وفق الوعود التي أطلقتها قبل الحرب لأنها تعرف جيدا" استحالة تأسيسها لسبب في غاية البساطة ألا وهي إن تشكيل أية حكومة على أساس الإرادة الجماهيرية واختيارها الحر لا بد أن يتبعها وضع مسألة الوجود الأمريكي في العراق في قمة سلم أولوياتها، وإن أول ما ستفعله مثل هذه الحكومة ستقول لأمريكا: ها أن خطر الدكتاتورية على الشعب العراقي ودول المنطقة قد زالت وإن مسألة أسلحة الدمار الشامل كانت بدعة لم يثبت لحد الآن حتى أبسط الأدلة على وجودها فماذا تفعلون هنا؟ وحتما" أن جماهير العراق باستثناء عملاء مؤسساتها التجسسية ستكون مع هذا التوجه، أما عملاء أمريكا ودول المنطقة من مجموعة السبعة والمعارضة البرجوازية العراقية لنفترض بأن الحاكم الأمريكي قد تمكن من تشكيل حكومة ما من هؤلاء العملاء! فهل ستكون تلك الحكومة حكومة ديمقراطية؟ الجواب: كلاـ لأن هؤلاء متفقون أساسا" على مشروع سياسي وبرنامج عمل غير ديمقراطي وأظن أن ذلك لا يحتاج إلى إثبات وأدلة، وبهذا الخصوص يكفي الإشارة إلى البند الذي يقول بأن ( الإسلام هو دين الدولة الرسمي ) وضرورة مراعاة تقاليد المجتمع العراقي ومقدساته عند صياغة دستور الدولة والنظام القضائي والحقوقي في حين أن الأسوء من كل ذلك هو تحديدد النظام الفدرالي بوصفها الشكل السياسي لنظام الدولة وإدارتها دون الرجوع إلى الإرادة الجماهيرية، وبهذا الخصوص بقي إضافة بند آخر فقط إلى برنامجهم السياسي تنص بأن العراق هو جزء من الوطن العربي والشعب العراقي جزءا" من الأمة العربية ليتماثل من حيث الجوهر مع برنامج صدام حسين وطريقته في الحكم الديمقراطية والجماهيرية جدا"!! وخلاصة القول إن تأسيس دولة ديمقراطية في العراق وللأسباب التي ذكرناها فيما سبق أمر في حكم المستحيل، ولكن لكي لا يفقد عشاق الديمقراطية في العراق الأمل وبالتالي يكفون عن الحلم بها، نبشرهم بأن هناك احتمال واحد فقط لإمكانية بناء الدولة على الاسس الديمقراطية في العراق ألا وهو/ عندما تكون تحقيق الديمقراطية والنمو الصناعي السريع في العراق ضرورة لابد منها لعملية حركة وتراكم الرأسمال الاحتكاري الأمريكي أو لتعجيلها، ولكني ابلغكم بأسفي لأن استحالة تحقيق هذا الاحتمال لا يقل عن استحالتها في الاحتمال الأول، لسبب بسيط ألا وهي: إن الشركات الاحتكارية الأمريكة ورأسمالها الاحتكارية بحاجة ماسة إلى إيجاد أسواق جديدة لتصريف منتوجاتها وليس إيجاد بلد صناعي متطور آخر لتكون بمثابة منافس آخر لها في الأسواق التجارية للمنطقة!!. وعليه بما أن ولادة المجتمع الديمقراطي قد أصبحت عسيرة، فأية حكومة تسعى أمريكا إلى تأسيسها؟ إن أمريكا تسعى إلى تشكيل حكومة تكونة أمينة لمصالحها الاقتصادية واستراتيجيتها السياسية والعسكرية في المنطقة والعالم، تؤيد ماتؤيده أمريكا وتعارض ما تعارضه أمريكا وتسعى إلى ذلك حتى لو إقتضت الضرورة إستخدام القوة أي يجب ولادة حكومة كهذه في العراق حتى ولو كانت ولادتها تتم من خلال عملية ولادة قيصرية، وعند تأسيس مثل تلك الحكومة لا يهم بالنسبة لها سواء كانت تلك الحكومة ديمقراطية أم دكتاتورية تحترم حقوق الإنسان أم تنتهكها تعتدي على جيرانها أم تعيش معهم بأمن وسلام تمتلك أسلحة الدمار الشامل أم تكون منزوعة السلاح، كما وقد أصبحا واضحا" أيضا" بأن أمريكا سوف لن تخرج من العراق إلى أن يتم لها تأسيس مثل تلك الحكومة ويتم ترسيخ ركائزها السياسية ودعائمها الاجتماعية أي عندما تخرج من العراق تكون مطمئنة البال من تلك الحكومة بأنها ستكون قادرة على إدارة المجتمع العراقي وفق مشيئتها ومصالحها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.
ولكن يجب أن نعلم بأن الحكومة المستقبلية للعراق مهما كانت شكلها السياسي ليست بوسعها أن تضمن الرفاهية الاقتصادية والاجتماعية وتأمين الحريات الأساسية للمجتمع العراقي والحقوق المدنية والشخصية لجماهير العراق بمعزل عن المشاركة الجماهيرية الحرة في تحديد الحكومة التي يبتغونها وبهذا الصدد فإن الحكومة الوحيدة التي تضمن المساواة التامة في جميع ميادين الحياة الاجتماعية والمشاركة الجماهيرية المطلقة في عملية بناء السلطة السياسية وبالتالي تزيح كل الموانع والعوائق الاقتصادية والاجتماعية التي تساعد على انتهاك الحريات وسلب الحقوق هو الجمهورية الاشتراكية، فقط في ظل مثل هذه الجمهورية يمكن العودة إلى الذات الإنساني ولا يوجد فيها أي مجال للاضطهاد والاغتراب الإنسانيين لأن هذه الحكومة ليست من مصلحتها ممارسة أي شكل من أشكال الاضطهاد باستثناء دعاة عودة النظام البائد، وستضرب بيد من حديد كل من يسعى إلى نتزاع السلطة من الجماهير بقوة السلاح وبالتالي إعادة فرض نظام القهر والعبودية المأجورة على الإنسان.
3 تموز 2003