النخبة والمجتمع الجزء الثاني

محمد علي سليمان
قاص وباحث من سوريا

الحوار المتمدن-العدد: 8132 - 2024 / 10 / 16 - 22:12
المحور: المجتمع المدني
    

وبالمقارنة مع المجتمع العربي فإنه يلاحظ غياب النخبة الثانية (مديرو الصناعة)، وذلك لانعدام بنية صناعية إنتاجية رأسمالية أو اشتراكية تجعل مديري الصناعة نخبة مستقلة بذاتها ولذاتها.
الصناعة في الوطن العربي، في حال غياب طبقة بورجوازية وطنية مهيمنة في موقع السلطة السياسية، البورجوازية العربية طفيلية، تابعة للدولة (صناعات قطاع عام)، وصناعة القطاع الخاص هامشية، صناعات استهلاكية خفيفة. وبالتالي فإن مديري الصناعة تابعون بشكل مباشر للطبقة الحاكمة، موظفون، ويمكن اعتبارهم داخل نطاق النخبة الثالثة، البيروقراطية. كما يلاحظ أن هذا التقسيم (تقسيم بوتومور) للنخب يغيب دور الجيش، ذلك أن الضباط (بعد الانقلابات العسكرية وسيطرة الجيش على الحكم في بعض البلاد العربية) أصبحوا يشكلون طبقة، بمفهوم نظرية النخبة، طبقة حاكمة. الجيش في تلك البلاد يشكل أساس الطبقة الحاكمة التي تتحكم بالسلطة السياسية، كما إنها تتحكم بالاقتصاد بحيث أنها تمنع تشكل قوى اجتماعية مهيمنة قادرة على قيادة المجتمع وفرض تنمية اقتصادية تنطلق من البنية التحتية، إنها تربط التنمية الاقتصادية بتأبيد سيطرتها السياسية. ولذلك فإنه في مرحلة الثورة القومية، وهي المرحلة التي قادها الجيش، ظهرت تغيرات اجتماعية تطلبت تكوين نخبة جديدة، وكان أن استبدلت قيادة الثورة نخبة أهل الكفاءة بنموذج جديد من الموظفين _ الضباط والاقتصاديين والمهندسين _ أهل الثقة، حتى أنه يمكن القول إن النخبة العسكرية أصبحت من ضمن النخبة البيروقراطية بعد أن استلم الضباط إدارة مشروعات القطاع العام، وعلى رأي الدكتور أنور عبد الملك فإن الضباط الذين نزعوا زيهم العسكري وتخلوا عن امتيازات الرتبة بعد ثورة يوليو " حصلوا في المقابل على وظائف رئيسية في الدولة، مشكلين بذلك الأغلبية الساحقة من كبار الموظفين الدبلوماسيين، ومديري وأعضاء الشركات الحكومية، كما شكلوا نسبة كبيرة جداً من الوزراء ووكلاء الوزراء والإداريين في الأجهزة الأمنية، فضلاً عن نسبة كبيرة من المناصب الرئيسية في مجال الثقافة والصحافة والإذاعة والتلفزيون " . وبما أن التغيرات السياسية منذ عهد الثورة كانت تميل إلى إحداث تغييرات ضمن الطبقة الحاكمة (تحالفات فئات سياسية مختلفة)، فإن النخب كانت تتجدد، حسب الفئة السياسية المسيطرة ضمن الطبقة الحاكمة، باستبدال نخبة من أهل الثقة بنخبة أخرى من أهل الثقة تنسجم مع فريق العمل الجديد ضمن الطبقة الحاكمة. وهذه النخب من أهل الثقة هي التي قادت وما زالت تقود التحولات الاجتماعية في الوطن العربي، ولكنها عبر تحولات السلطة لم تقدر أن تنجز أي تأثير إيجابي في المجتمع: النخبة الليبرالية الأولى التي بدأت اقتصادياً مع الباشا محمد علي، والنخبة الليبرالية الثانية التي بدأت اقتصادياً مع طلت حرب، والنخبة القومية التي بدأت اقتصادياً مع عبد الناصر، وعلى هامش عهد عبد الناصر ظهرت النخبة الماركسية، وعلى هامش عصر السادات برزت النخبة الإسلامية: النخبة الماركسية رغم وجودها أحياناً في نظام عبد الناصر إلا أن علاقتها مع النظام الناصري كانت غير مجدية، فعبد الناصر استفاد من النخبة الماركسية ولكنه كان بعيداً عن الديمقراطية. أما النخبة الإسلامية، فرغم جذورها في المجتمع العربي إلا أنها هيمنت على المجتمع المدني العربي عبر الدين وحولت ذلك المجتمع إلى مجتمع ديني وخاصة بعد فورة المال النفطي بعد حرب 1973. وأخيراً النخبة الليبرالية الثالثة المتوحشة التي بدأت مع السادات وما تزال مستمرة. وكما يقول الدكتور قسطنطين زريق: إن حال مجتمع من المجتمعات منوط بحال النخبة المهيأة للإبداع أو المبدعة فعلاً، وهناك من يرى، الدكتور عصام نعمان، أن " الإنسان هو مفتاح النهضة. لكن النهضة لا يصنعها إلا النهضويون. ومن هنا تنبع الحاجة إلى توليد النخبة الملتزمة بالنهضة والقائمة بصنعها.. بالنخبة، أو بالأحرى بتوليد النخب وتطويرها يتحقق التجدد الحضاري " . فكيف هو حال النخبة العربية المعاصرة المبدعة؟
تحاول نظرية النخبة أن تجتهد بخصوص النخب في البلاد غير النامية (المتخلفة، ومنها البلاد العربية)، وترى أن تلك البلاد النامية تواجه صعوبات في التطور الاجتماعي والاقتصادي نتيجة لوجود الدول المتقدمة في الصناعة، كما أن عليها أن تقاوم عدم الاستقرار السياسي، والمطالب العامة المتعلقة بارتفاع مستويات الاستهلاك والرفاهية، والقوى المعارضة المتمثلة في أساليب الحياة التقليدية. وترى نظرية النخبة أن النخب يمكنها في هذه الظروف أن تساهم في استقرار وتطور البلاد النامية، لكن آلان تورين يلاحظ " لقد عرف العالم الإسلامي وعرفت القارة الأميركية اللاتينية، بخلاف ذلك، تحركاً سياسياً للجماهير، اتخذ أشكالاً قومية أو إثنية أو دينية، لكنه جعل الديمقراطية الاصطفائية مستحيلة، أو مستحيلاً دور النخبة الفاعلة ديمقراطياً، وهو الدور الذي كان في غاية المهمة للمجتمعات الأوروبية " . ومن المفكرين العرب الذين اهتموا بنظرية النخبة الدكتور عبدالله العروي، ويرى الدكتور عبدالله أن الدعوة الليبرالية أخفقت في العالم العربي لأسباب موضوعية، لكن هذا لا يمنع المؤرخ من أن يرى ذلك الإخفاق سبب تعثر المسيرة العربية . ورغم أخفاق الليبرالية فإن الدكتور عبدالله يراهن على الفكر الليبرالي لتحديث المجتمع العربي، وهو يقول " بدأت أحس أن المشكل الأساسي الذي أحوم حوله منذ سنين هو الآتي: كيف يمكن للفكر العربي أن يستوعب مكتسبات الليبرالية قبل، وبدون، أن يعيش المرحلة الليبرالية " . وتابع " لا أقول إن الماركسية التاريخانية هي لب الماركسية وحقيقتها المكنونة، وإنما أكتفي بتسجيل واقع والتقيد به، وهو أن الأمة العربية محتاجة في ظروفها الحالية محتاجة إلى تلك الماركسية بالذات لتكون نخبة مثقفة قادرة على تحديثها ثقافياً وسياسياً واقتصادياً ثم بعد تشييد القاعدة الاقتصادية يتقوى الفكر العصري ويغذي نفسه بنفسه " . ذلك أنه " بقدر ما يضيق نطاق العقل التعميمي في مجتمع ما وتنقص حظوظ التأثير في الحياة الاجتماعية بالتداخل التلقائي يقدر ما تدعو الضرورة لتتحمله جماعة صغيرة ومستقلة، تعيد في ذاتها تشييد عين نور تشع بعد ذلك على المجتمع كله " . والدكتور عبدالله لا يرى في النخبة طبقة حاكمة، بل " النخبة ليست الحكومة، أو الإدارة، أو الحزب المنظم، بل هي مجموع الأعضاء الذين يساهمون: كمناصرين أو كمعارضين، في الحوار السياسي. واللانخبة هم الآخرون الذين لا يشاركون لعدم الاهتمام وبالتالي لعدم الوعي _ ويمتد التمييز بين النخبة واللانخبة من مظاهر الحياة اليومية إلى التفكير إلى اللغة المستعملة. لذلك فإن مفهوم النخبة في البلاد المتخلفة غير مفهومها في البلاد المصنعة " . ورغم أن الدكتور عبدالله لا يعتقد أن تغيير ذهنية النخبة المثقفة كاف لتطوير حالة الشعوب العربية ، إلا أنه في ظروف المجتمع العربي المعاصر يراهن على تلك النخبة المثقفة لخلق قاعدة اقتصادية دون ربطها بقاعدة اجتماعية، قوى اجتماعية، وكأن دورها يقوم على التنوير في المجتمع المدني لإيجاد الظروف الموضوعية لخلق تلك القاعدة الاقتصادية. لكن النخب الثقافية هي، حسب غرامشي، نخب عضوية ترتبط بطبقة وتسعى لتمكين هيمنة فكر تلك الطبقة في البنية الفوقية، ومأزق طرح الدكتور عبدالله حول النخبة الليبرالية أنه لا يوجد في المجتمع العربي قوى اجتماعية ليبرالية فاعلة قادرة على تمكين الأفكار الليبرالية في المجال الثقافي. طبعاً يمكن أن تتبنى طبقة أخرى الأفكار الليبرالية إذا كانت مرحلة في طريق هيمنتها في المجال الثقافي، لكن لا يوجد طبقة مسيطرة غير الطبقة البورجوازية الصغيرة، ومعروف تاريخياً أنها هي التي أنهت الأنظمة الليبرالية عبر الانقلابات العسكرية. وحتى مثقفو الماركسية بدورهم اعتبروا أن العصر هو عصر الانتقال إلى الاشتراكية وبالتالي تجاوز المرحلة الليبرالية. ولكن بسبب ذلك، أو على الرغم من ذلك يسعى الدكتور عبدالله لتحديث المجتمع العربي عن طريق نظرية النخبة، أي عن طريق البنية الفوقية.
وحسب نظرية النخبة تحدد النخب في البلاد النامية على الشكل التالي:
1_ نخبة العائلة الحاكمة (المالكة).
2_ الطبقة الوسطى.
3_ المفكرون الثوريون.
4_ الإداريون الاستعماريون (مرحلة الاحتلال المباشر من قبل الدول الاستعمارية).
5_ القادة الوطنيون .
ويلاحظ بوتومور " أن النخبة السياسية في البلدان غير النامية هي صاحبة اليد الطولى في تقرير تطور هذه البلدان، ويمكن أن نجد جذور هذه الطبقة، في أكثر الحالات، في واحدة أو أخرى من الفئتين المذكورتين سابقاً: القادة السياسيون والمفكرين الثوريين، اللتين تتشاركان وتندمج الواحدة منهما بالثانية في بعض الأحيان " . كما أنه يستحسن ملاحظة ريمون آرون بـ " أن الشيوعية قد تكون قوة تقدمية حيث لا تكون النخبات قادرة على القيام بدورها إما لاحتفاظها بطريقة تنظيم أشبه بالإقطاعية، أو لأنها تسير سيراً بطيئاً في تهيئة الرأسمالية للبلاد.. وفي أيامنا الحاضرة كل نخبة تخفق في استعمال الموارد التكتيكية لرفع مستوى الحياة وزيادة الثروة هي بالفعل نخبة مفلسة " . ولكن النخبة الماركسية في البلاد العربية وجدت نفسها غريبة عن المجتمع (الشعب) لأنها ارتبطت بنزعة أممية جعلتها تتجاهل النزعة القومية (آمال وأحلام الشعب العربي في وطن يمنح الحرية والعدالة والكرامة لمواطنيه)، وحتى عندما دخلت في لعبة السلطات عبر شكل سياسي (الجبهة الوطنية) أو آخر (حرية سياسية نسبية للأحزاب اليسارية) ضاعت بين تغيير المجتمع وإدارة هذا المجتمع عبر صمتها الطبقي على السلطات السياسية الحاكمة، وهذا ما دفعها إلى رفض حركات الجماهير الشعبية العربية.
لكن الدكتور محمود عبد الفضيل يقسم " القوى والنخب بشكل وظيفي، على النحو التالي:
1_ النخب المهنية.
2_ النخبة العسكرية.
3_ نخب رجال الأعمال (كبار رجال الأعمال).
4_ العلماء والمثقفون وأساتذة الجامعات (النخبة المثقفة).
5_ أرباب الأعمال الصغيرة.
6_ نخب الطبقة العاملة (القيادات العمالية) .
ومعروف تاريخياً أن النخبة العربية ظهرت في العصر الحديث بعد عملية التحديث التي قام الباشا محمد علي " وظهرت نخبة إدارية جديدة تتألف من التكنوقراط أوروبيي التعليم لكن نظرتهم ليست أوروبية بالضرورة، ومن عناصر قوية من أبناء البلد، وكانت هذه النخبة المختلطة مؤشراً على بداية النهاية لاستئثار الأتراك بإدارة مصر. وقد جرى تبرير هذه التغيرات وغيرها باسم التقدم والتمدين واستلهام نموذج للأمة المصرية يعطي الحق لكل المصريين في المساهمة في تطوير بلادهم والمشاركة في هذا التطور " . وهذه النخبة، برأي ياسين الحافظ، هي " عصارة كل الأمة، لا طبقة بعينها، وقد انتشلتها إرادة القدر من الفساد الذي يغرق فيه المجموع، لكي تنقذ كل المجتمع وكل الطبقات من الفساد " . و" ما دامت النخبة ممثلة لروح الأمة وفكرتها، لذا فهي اجترحت الحقيقة النهائية المطلقة. فهي، إذن، ليست بحاجة للتفاعل مع المجموع أو العامة والتعلم منها، لأن العامة قاصرة أو غافية. فالتاريخ تصنعه النخبة، وهو مجرد تعبير عن إرادتها، لذا فهي بديل للتاريخ، وبديل للتطور الموضوعي أيضاً، بصرف النظر عن حقائق التاريخ الملموس ومعطياته، لأن هذه الحقائق مصطنعة وظاهرية وطارئة ومؤقتة". " . وهكذا حلت النخبة في المجتمع العربي مكان الطبقة الاجتماعية، مكان القوى الاجتماعية، وأصبح التغيير الاجتماعي ينحصر في تغيير النخب الحاكمة، وهذه النخب الحاكمة اتجهت للاستيراد: استوردت كل شيء من المنتجات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية. و" في الواقع يتيح انبثاق نخبة جديدة كاملة ترتبط دوامها بالمحافظة على عمليات الاستيراد بل وبتعزيزها. بدءاً من القرن التاسع عشر كان المحيطون بالعواهل التقليديين من مستشارين ووزراء قد أدركوا أنه يمكن بمحاكات النماذج الدستورية القادمة من أوروبا أن تتيح لهم انتزاع جزء من السلطات التي يحتكرها العاهل، وفي الوقت نفسه الحصول على حد أدنى من الاستقلالية على تحديد لمكانتهم. ويبرز هذا السلوك بوضح لدى المصري رفاعة الطهطاوي، وزير الخديوي إسماعيل، أو لدى التونسي خير الدين، وكان كل منهما مستورداً متبصراً مقتنعاً بمبادئ الليبرالية السياسية التي كانت سائدة في بداية القرن التاسع عشر الأوروبي " .

#محمد_علي_سليمان (هاشتاغ)      

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل	حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات