|
المنهج النقدي عند محمد مندور
فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8128 - 2024 / 10 / 12 - 13:17
المحور:
سيرة ذاتية
كان الناقد محمد مندور من أكثر النقاد العرب اهتمامًا بالبحث عن ( منهج نقدي ) قائم على التراث والمعاصرة، وجسد بذلك استمرارًا حيًا للتقاليد التي أرساها -طه حسين في محاكمة الأوهام في ثقافتنا ونزوع النقاب عن الأنظمة اللاعقلانية الموروثة، وإيقاظ الرغبة في قيام قانون يصبح المفكر فيه هو حقيقته دون تنازل أو تبرير.
للناقد الأدبي الراحل عبدالرحمن أبوعوف مقال تناول فيه سمات المنهج النقدي عند مندور.
يقول أبوعوف، منذ أواخر الأربعينات ومحمد مندور يقدم الكثير لفكرنا النقدي والاجتماعي والسياسي، عاش حياة خصبة نحياها نحن من جديد حين نقرأه، قدم لنا في مستهلها كتبه المضيئة (في الميزان الجديد) و(النقد المنهجي عند العرب) و (نماذج بشرية) و (الأدب ومذاهبه) إلى جانب دراسات في الشعر ومحاضرات في المسرح والنثر … هذا إضافة إلى دراسات عن المسرح المصري والعربي ونشأته وتحولاته وتياراته، ومازال كتابه (مسرح توفيق الحكيم) مرجعًا أساسيًا لفهم دور ومسرح توفيق الحكيم.
والبحث عن رحلة -مندور النقدية يستلزم فهم مكوناته النقدية وعلاقات التفاعل بين تحولات فكره وعطائه مع تحولات الثوره الوطنية المصرية وصعودها لثورة ذات بعد تقدمي، ثورة � التي قادها عبدالناصر.
درس مندور في كليتي الحقوق والآداب بتوجيه من طه حسين ثم سافر في بعثة إلى فرنسا في الثلاثينيات، وظل يدرس هناك مدة تسع سنوات ؟ حصل على ليسانس في الآداب ودبلوم في علم الاقتصاد السياسي، ودبلوم في علم الأصوات، كذلك درس التراث اليوناني والحضارة اليونانية، وعاد إلى القاهرة ليقدم رسالته الرائدة في الدكتوراه عن (النقد المنهجي عند العرب).
تأثر مندور بالثقافة الفرنسية واليونانية، ونهل بعمق من منابعها، وتوقف عند دراسة نقاد عظام مثل (سانت بيف) و ( تين) و ( لانسون) وبفلسفة ( ه. بونكاريه)، درس التراث اليوناني وتعمق في الأساطير والدراما الإغريقية عند اسيخيلوس وسوفكليس وأيضًا الملاحم اليونانية: الإلياذة والأوديسة لهوميروس، ودرس تفسيراتها المعاصرة، وألم بالمسرح الكلاسيكي الفرنسي، إضافة إلى كل ذلك فمندور تكوَّنَ أساسًا وواصل التكوين بعد أن عاد من أوروبا بأسس وأمهات الموسوعات العربية في تاريخ الأدب ونقده وفنونه، كالأغاني والأماني، والعقد الفريد، ونهاية الإرب ودرس عبدالقادر الجرجاني وإبن قتيبة، والجاحظ وأبوهلال العسكري وغيرهم.
كان مندور مرشحًا لأحداث ثورة في النقد العربي فضلًا عن حسه السياسي الناضج والواعي بتطورات الأحداث العالمية والعربية والمصرية لدرجة أن هناك جانبًا مهمًا في حياته ونشاطه لم يدرس دراسة كافية مثل إستقالته من الجامعة قبل ثورة � وتفرغه للصحافة الحزبية والعمل السياسي في صفوف طليعة الوفد حزب الأغلبية، حتى وصل إلى نائب في البرلمان، وهناك كتاب صدر عقب وفاته بعنوان (كتابات لم تنشر) ضم مقالات وطنية وسياسية وثقافية ساخنة تدل على وعي وطني اجتماعي متقدم.
ويذكر أبوعوف، يتفق معظم الدارسين لمنهج محمد مندور النقدي على تسميته (بالمنهج الذوقي الانطباعي) برغم أنه قد ينجح أحيانًا إلى الجانب الدراسي التحليلي أو التقييم الأيديولوجي الاجتماعي، وهو في هذا يختلف عن (طه حسين) الذي يغلب على منهجه الطابع التحليلي العقلاني، ولعل هذا يعود إلى موقف كل منهما من العلم بشكل خاص، لقد كان فكر طه حسين يرتكز على مفاهيم الحتمية التاريخية الطبيعية وعلى العقلانية الديكارتية من الناحية الإجرائية ويجنح نحو علمنة الدراسات الأدبية عمومًا (كما يقول محمود أمين العالم).
أما محمد مندور فكان يقف مواضعائيًا من العلم لا يقوم على أساس موضوعي وأنما على مواصفات نسبية ولهذا فلا سبيل إلى معرفة الحقيقة علميًا، وهذا ما أشار إليه أيضًا محمود أمين العالم.
ويمكن رصد رحلة مندور في ألبحث عن منهج نقدي في مراحل ثلاث:
أولًا: مرحلة المنهج التاريخي الأسلوبي: وقد تأثر فيها بمبادئ مدرسة (لانسون) التي تقوم على المنهج التاريخي أي متابعة مختلف النصوص الأدبية في تسلسلها التاريخي لمعرفة خصائصها الذاتية والقيام بالدراسة المقارنة بين أساليبها المختلفة، وثمرة هذا المنهج كتابه (النقد المنهجي عند العرب).
ويؤكد مندور أن الذوق ينبغي أن يكون المرجع النهائي في الحكم النقدي، كما يؤكد على ضرورة النظر في المراحل المختلفة للنقد وأساليب التعبير الأدبي لضمان سلامة الحكم النقدي، وهو يعرف النقد عمومًا بأنه دراسة النصوص والتميز بين الأساليب المختلفة.
ثانيًا: مرحلة المنهج الذوقي التأثري: ويطلق عليها نظرية (الشعر المهموس) وقد عرض هذه الرؤية في كتابه (الميزان الجديد) وهي ترفض كلاً من الكلاسيكية والرومانسية وتتخذ طريقًا وسطيًا يحاول من خلالها أن يجعل الذات والموضوع وحدة واحدة، كذلك الوجدان والعقل فيما يسمى عدة أدوات منها الهمس والإيحاء، والاقتصاد في إختيار الكلمات وتجسيد المشاعر والصور والأخيلة ولقد خدمت هذه الرؤية النقدية مدرسة أبولو في الشعر غير أنهم غالوا في الفردية والوجدانية.
ثالثًا: مرحلة النقد الأيديولوجي: ومع تطور الحركة الوطنية وظهور طبقات جديدة بدأت تلعب دورًا بارزًا في قلب جدل العملية الاجتماعية كالعمال والفلاحين، تجاوز مندور الرؤية الفردية والوسطية في الشعر المهموس وتوصل إلى ما أسماه (النقد الأيديولوجي) وقد عرضه في عدة كتب أبرزها (المذاهب الأدبية والفنية) و (قضايا جديدة في الأدب الحديث)، وقد خاض معارك حافلة ضد أنصار الفن للفن ودعا إلى أدب واقعي من أجل الحياة يصور البسطاء والمطحونين، أقرب إلى الموضوعية.
غير أنه كان في حدود التسجيلية دون الوصول إلى مستوى جدلي في تصوير الواقع بشموله وترابطه وتناقضاته وتحولاته وتصوير النموذج الفني بتعدّد جوانبه وتمثيله للعصر.
كان مندور، وفق رأي أبوعوف، الحلقة الوسطى بين النقد الإجتماعي والتاريخي والنقد الواقعي الجدلي، إضافة إلى هذا الدور تأسيس منهج علمي للنقد، فقد ترجم بإتقان بعضًا من الأعمال الأدبية والنقدية أهمها رواية (مدام بوفاري) لغوستاف فلولير و ( نزارت مربان) لألفريد دى موسيه وكتاب ( دفاع عن الأدب) لجورج ديهاميل إلى جانب عدة مسرحيات.
ويبقى دور مندور كأبرز نقاد المسرح تعريفًا بنظرية الدراما وأصول واتجاهات المسرح، كذلك تاريخ المسرح المصري في ازدهاره في الستينات وكتب عن نعمان عاشور وسعدالدين وهبه والفريد فرج ويوسف إدريس ولطفي الخولي ومحمود دياب وميخائيل رومان ورشاد رشدي..إلخ.
كما قام بالتدريس في معهد الفنون المسرحية منذ نشأته وتجلى حصاد جهده التعليمي في ظهور عدد كبير من نقاد وفناني المسرح الذين مازالوا يلعبون دورًا بارزًا في حياتنا المسرحية والفنية والأدبية والصحفية.
ولا ينتهي الحديث عن محمد مندور دون تسجيل مدى صدق رؤيته السياسية، وقت تفرغه للعمل الصحفي السياسي في آواخر الأربعينات، حيث ناضل ضد حكومات الأقلية والانقلابات على الدستور، ودافع عن قضية الحرية والديمقراطية و الاستقلال، وتعرض للسجن في عهد إسماعيل صدقي باشا في الاعتقالات الشهيرة التي جرت عام �، حيث اعتقل مع عدد من المثقفين الديمقراطيين والشيوعيين.
وإذا عدنا إلى مقالاته السياسية في هذه الفترة فسنجد في معظمها مطالب حققتها ثورة � كالدعوى لتأميم شركة قناة السويس والحياد الإيجابي وضرورة تدخل الدولة في الاقتصاد والدعوة للعدالة الاجتماعية، ورفض الليبرالية الغربية والمطالبة بديمقراطية اجتماعية والتحذير من العدو الإسرائيلي.
لقد كان محمد مندور نموذجًا للمثقف المرتبط بقضايا وهموم شعبه وكان من أبرز مؤسسي الثقافة الوطنية الديمقراطية، لذلك سيظل رمزًا للعقل والتنوير والتقدم.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا لا تزال أوروبا تدور في الفلك الأمريكي؟
-
الكتابة والحرية
-
هل تراجعت الهيمنة الأمريكية؟
-
يوسف سلامة.. فيلسوف العقل والتغيير
-
كتاب «وجهة نظر»
-
الدولة العميقة في الولايات المتحدة
-
المفكّر برهان غليون وحديث عن الطائفية
-
الدولة الفلسطينية والانقسام الأوروبي
-
الأنانية تقتل الليبرالية
-
المفكر الكبير لويس عوض
-
الصراع الروسي الأمريكي أكبر من أوكرانيا
-
حديث عن تغييب العقل وغياب الوعي
-
52 عامًا على اغتيال الأديب غسان كنفاني
-
«لن نصوِّت لك»
-
جرجي زيدان أبرز أركان النهضة العربية
-
«الدولة العربية: بحث في المنشأ والمسار»
-
حركات التضامن العالمي مع الشعب الفلسطيني وخطاب «اللاسامية»
-
تنامي القوة الاقتصادية للصين
-
الشرق الأوسط وطرح الأسئلة الصعبة
-
شيخ المثقفين السوريين
المزيد.....
-
أوكرانيا تعلن إسقاط 50 طائرة مسيرة من أصل 73 أطلقتها روسيا ل
...
-
الجيش اللبناني يعلن مقتل جندي في هجوم إسرائيلي على موقع عسكر
...
-
الحرب في يومها الـ415: إسرائيل تكثف هجماتها على لبنان وغزة
...
-
إسرائيل تعلن العثور على جثة الحاخام تسفي كوغان في الإمارات ب
...
-
اتفاق الـ300 مليار للمناخ.. تفاصيله وأسباب الانقسام بشأنه
-
الجيش اللبناني: مقتل جندي وإصابة 18 في ضربة إسرائيلية
-
بوريل يطالب بوقف فوري لإطلاق النار وتطبيق مباشر للقرار 1701
...
-
فائزون بنوبل الآداب يدعون للإفراج الفوري عن الكاتب بوعلام صن
...
-
الجيش الأردني يعلن تصفية متسلل والقبض على 6 آخرين في المنطقة
...
-
مصر تبعد 3 سوريين وتحرم لبنانية من الجنسية لدواع أمنية
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|