أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - ميس محمد غيبور - قوموا يا بيّي، قوموا يا حبيباتي















المزيد.....

قوموا يا بيّي، قوموا يا حبيباتي


ميس محمد غيبور

الحوار المتمدن-العدد: 8123 - 2024 / 10 / 7 - 08:14
المحور: القضية الفلسطينية
    


يضع راحته بِحنوّ على كتفي ويهزّه برفقٍ ويقول: "قوموا يا بيّي، قوموا يا حبيباتي"، في ملكوت النوم أهيم، يصلني صوته الطيب من العالم الآخر كَأنه دليلي، أقلب على ظهري ببطءٍ وكسل، أفتح عينيّ بتثاقل، فأرى وجه أبي يحدّق بي ويبتسم.
أسأله وأنا أعرف الجواب: "كم الساعة؟"، يجيب: "السادسة والنصف"، أقول له وأنا أقلب على جنب وألف نفسي بالغطاء: "برد! بس شوي" مع أن المدفأة مشتعلة، أسمعه يضحك، يتحرك لبضعة دقائق في الغرفة ثم يعود إلينا "يالله قوموا يا بيي، قوموا يا حبيباتي ما تتأخروا".

صباحات أبي نادرة، كنت أنتظرها وأتوق إليها، فقد كان أبي ينام في الخارج بحكم عمله. هذا الرجل المعطاء الذي بالكاد يتواجد في بيته بحكم عمله الطويل، تحمّل منذ صغره مسؤولياتٍ جمّة، لكنه كان دوماً قوياً وهكذا كنت أراه لاسيّما مع تفتّح وعيي.
كان وعيي بالعالم في بداية تكوينه، وكنت تماماً في ذلك العمر الذي تشرع فيه بمحاسبة الطفل على بعض سلوكه. العمر الذي يبدأ فيه الطفل بتعلم معنى التصرف الجيد والسيء، الخير والشر. لكنه كان يتكون بطريقةٍ مختلفةٍ تماماً قبل عصر ذلك اليوم.

لم أكن أذهب إلى المدرسة بعد وكان إخوتي قد عادوا منها. كنا كالعادة عصراً مجتمعين في غرفة المعيشة وعلى غير العادة كان أبي في البيت عندما بدأت المشاهد تتدفق من شاشة التلفاز مقتحمةً عالمي البكر تفضّ بوحشيةٍ بكارة وعيي في أول براءته. مضى وقت غير قصير وأنا مشدوهة أحدق في التلفاز، مستنفرة كل حواسي لأفهم، وأحاسيسي العارمة تستعر في صدري ورأسي وعينيّ لكن تَكبتها حيرةٌ مطلقةٌ فَأجمد كالصنم، هل ما أراه حقيقي؟ الحدث نفسه يتكرر في كل مشهد لكن الأشخاص يتغيرون، رجالٌ يشبهون أبي مغطون بالغبار والدماء يمشون يصرخون يحملون أطفالاً يشبهونني نائمين وبعضهم أجسادهم غير كاملة. الرجال يتحركون أما الأطفال فلا، لم أفهم هل هؤلاء الأطفال دمى؟

في ذلك العمر يعتقد الأطفال أن الأجداد والجدات فقط هم من يموتون، أما الأطفال فلا يموتون!

ارتجفت رعباً لأول مرة في حياتي عندما عقلت ما كنت أرى والتفت بهلعٍ إلى أبي أسأله: "من يقتل الأطفال يا أبي؟ من يقتل هؤلاء الأطفال؟" عرف أبي بحدسه أنه قد آن الأوان، هي لحظة الوعي التي لا بد منها لكل عربي. ترك أبي ما كان بيده، عدّل جلسته واستدار نحوي وقال: "هدول إخْواتنا الفلسطينيين يا بيّي، هم عرب مثلنا، وهم هنا على حدودنا"، هتفت: "من يقتلهم؟"، أجاب: "الصهاينة"، قلت: "من هؤلاء يا أبي؟"، قال: "هم ناس جِيءَ بهم من كل مكان في العالم بالسفن وأَعطوهم السلاح ليحتلوا فلسطين ولِيقتلوا أهلها ويَطردوهم"، وبالفطرة سألته: "وكيف لا نساعدهم وهم أهلنا؟"، قال: "لقد حاولنا وخضنا معهم عدة حروب، ربحنا بعضها وخسرنا بعضها الآخر"، سألت: "وكيف لم نهزمهم ونحن كُثُر؟"، قال: "هم ليسوا وحدهم وإنما معهم أمريكا وأوروبا وهؤلاء لديهم أقوى أسلحة في العالم".

نزلت حقيقة عالمنا عليّ كالصاعقة، إذاً نحن نعيش في عالمٍ متوحشٍ تحكمه شريعة الغاب وليس الحق، وكل ما كنت قد شرعت بتعلّمه عن الأخلاق وحسن السلوك كان في الواقع بلا معنى لأن من يحكم هذا العالم برمتّه في النهاية هو الغرب الهمجي قاتل الأطفال.
وقتها انتصبت فلسطين بقامتها أمامي، رأيتها لأول مرة تقف وراء أبي. كانت امرأة حنطيةً ممشوقةً شعرها مجعد ترتدي زيّاً طويلاً تقف بشموخٍ وتنظر بعيداً في الأفق، وجهها جميل الملامح عديم التعابير. هذي الحسناء النازفة، الحاضرة الغائبة المُغيَّبة، القريبة البعيدة المُبعَدة، القريبة الغريبة المُغرَّبة بين أهلها! لقد فُتِحَت فلسطين في قلبي جرحاً لن يندمل. فلسطين ليست الجرح النازف في وجدان كل عربي وحسب وإنما هي وعي العربي بذاته.
لحظة الوعي هذه لحظةٌ فارقةٌ في حياة كل عربي، ولابدّ أن يدرك العربي منذ الصغر أن تحرير فلسطين يعني تحرير العالم كله من شريعة القوة لِتسوده شريعة الحق.

أوجعتني فلسطين، نظرت إليها لكنها لم تنظر إليّ. أثقلني الحزن والغم.
ثم بحسّه الأبويّ الرؤوف استدرك أبي: "لقد خضنا معهم عدة حروب ولم ينتهِ الأمر بعد، سنعود ونحرر فلسطين يا ابنتي، لا تقلقي". ابتسمت، أبي من يحميني في هذا العالم الشرير، طمأنني كلامه لكن فلسطين ظلت صامتة.

أبي كان يحاول أن يشرح لي القضية ببساطة تناسب عمري، كان يتركني أسأل ليعطيني المعلومات بالتدريج لِأهضمها. حتى وإن لم يكن مدركاً لهذا، فقد كان يتابع النضال في هذه اللحظة الحاسمة بالذات، من نقل الوعي بالقضية العابرة للأجيال بأمانةٍ وإخلاصٍ للقضية التي تمثل وجودنا مع هدفنا المستقبلي بتحرير فلسطين.

معرفتي بحقيقة العالم كانت أمراً عظيماً جللًا، لكن وأنا في عمري المبكّر هذا أمرٌ مهم ٌ آخر كان يحدث بالتوازي، فقد كان أبي كثير الغياب عن البيت وكنت في شوقٍ دائمٍ إليه، وكان إن تواجد في البيت ينشغل بشؤوننا العائلية الكثيرة، وإن دار حديث بيننا يكون عادياً عن الاحتياجات اليومية، وهو أصلاً قليل الكلام، لكن لما سألته صدفةً عن فلسطين، أبي القوي الحامي هذا ترك كل ما كان بيده وعدّل جلسته واستدار نحوي وتفرّغ لي وحدي وكأننا انعزلنا عن كل ما حولنا، لقد أخذني على محمل الجد وأجرى معي حديثاً حقيقياً وإن كان بمعظمه أسئلة مني.

فأصبح هذا ديدني، صرت كلما أردت التقرّب من أبي أستَحضر فلسطين.

مرة في سهرة شتوية كسولة بينما كان مضجعاً ملتفاً بالفروة (عباءة بدويّة شتويّة للرجال) قرب المدفأة، رأيت فلسطين تقف وراءه بصمتٍ وعزّة، سألته: "كيف خسرنا في نكسة حزيران؟"، فُتِحَت قريحته وراح يحدثني كيف بدأت الحرب بضرب وشلّ المطارات العربية وكيف سيطر الإسرائيليون على الجو وصاروا يقصفون كل ما يتحرك على الأرض حتى الكلب وفق تعبيره. قال لي إن من يسيطر على الجو يسيطر على الأرض، لم تكن لدينا أي فرصة وقتها، لقد أخذونا على حين غرّة، لكننا عدنا وبَاغتناهم وهَاجمناهم في السادس من تشرين الأول من العام 1973، ثم حكى لي عن حرب تشرين وعن مشاركته فيها. لقد كان مدنياً لكنه طُلِبَ للاحتياط ولبّى النداء، ولما وصل إلى الجبهة كانت القذائف تهطل عليهم كالمطر، كما وصفها.

لم أكن أعرف قبل هذه السهرة أن أبي شارك في الحرب، هو لم يخبرنا بذلك مسبقاً، غمرني الفخر بأبي، وكنت أثناء حديثي معه أراقب العزيزة فلسطين وراءه، فكانت على حالها تحدّق بعيداً فلا هي ترانا ولا هي تبتسم .

وفي فترة حصار مقر السلطة الفلسطينية في رام الله كنا نشاهد الأخبار، كان الخبر منع الإسرائيليين دخول الأدوية لياسر عرفات الذي كان مريضاً حينها. انتصبت فلسطين أمامي بكبريائها وصبرها، التفت لأبي في بالي سؤال أطرحه، رأيته يحدّق في التلفاز بغضبٍ واستياء، ظننت أن سؤالي يتناسب مع حالته، ألقيته وكان كالتالي: "لماذا يحدث له هذا يا أبي؟"، كالعادة ترك أبي كل شيء من يده واستدار نحوي وتفرّغ لِإجابتي، لكن هذه المرة مع تغيّر تامٍ في تعابير وجهه، فقد امتلأ وجهه بالحسرة والشفقة والعفو. أبي لم يجب على سؤالي، لكنه قصَّ عليَّ ملاحم البطولات والعمليات الفدائية والنضال الطويل الذي خاضه الفلسطينيون، حكي لي عن المقاومة في فلسطين وفي الأردن وعن الحرب في لبنان وكيف تعرضوا مرات عديدة للخيانة والغدر، مع ذلك حاربوا ببسالة وكرامة إلى أن تم ترحيلهم بالبحر مرفوعي الرؤوس إلى تونس، وكيف أصرّوا رغم التخاذل العربي على متابعة الكفاح.

يبدو أن أبي أدرك بفطنته وأمانته أن جيلي يعرف فقط هذه النهاية التعيسة ويجهل التاريخ المشرّف، فأراد أن يكمل لي الصورة، لينقلها كاملةً بصدقٍ للجيل الآتي.
لابدّ أن فلسطين كانت تصغي لأبي يتغنّى ببطولات الفلسطينيين، لكنها ظلت لا تنظر ولا تبتسم.

وظللتُ حتى رحيله لا أتقرّب منه إلا بفلسطين. حكى لي عنها بشغفٍ جمّ ورحل قبل أن يختم حكايته الوحيدة. غَيَّبَ الموت أبي منذ سنين وغابت معه فلسطين.

إلى أن في صباح السابع من تشرين الأول من العام المنصرم وضع أبي راحته بحنوّ على كتفي وهزّه برفق وقال: "قوموا يابيّي، قوموا يا حبيباتي"، في ملكوت النوم كنت أهيم، وصلني صوته الطيّب من بعيدٍ من العالم الآخر كأنه دليلي، قلبت على ظهري ببطءٍ وكسل، فتحت عينيّ بتثاقل، فرأيت لأول مرة وجه فلسطين يحدّق بي ويبتسم.



#ميس_محمد_غيبور (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)

الكاتب-ة لايسمح بالتعليق على هذا الموضوع


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- علامات يوم القيامة والانتفاضة الأولى


المزيد.....




- -الغابة الخرسانية-.. صور ستجعلك ترى أشهر معالم دبي بعيون جدي ...
- بذكرى 7 أكتوبر.. عائلات الرهائن تطلق صفارات الإنذار لمدة دقي ...
- كيم غطاس لـCNN: اللبنانيون يُعاقبون على خيار لم يتخذوه.. وحز ...
- إصابة شخصين على الأقل بشظايا صواريخ أطلقتها -كتائب القسام- ع ...
- -استهدف قاعدة عسكرية-.. فيديو يظهر صاروخًا لحزب الله يضرب مد ...
- الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا بالإخلاء والتوجه إلى ما بعد نهر ...
- بعد شائعات عن اغتياله.. إيران: قائد فيلق القدس إسماعيل قاآني ...
- زعماء يتفاعلون مع الذكرى الأولى لهجمات 7 أكتوبر
- ماذا نعرف عن منشآت إيران النووية؟
- هل ينافس الذكاء الاصطناعي البشر على جائزة نوبل المرموقة؟


المزيد.....

- عن الحرب في الشرق الأوسط / الحزب الشيوعي اليوناني
- حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني / أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
- الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية / محمود الصباغ
- إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين ... / رمسيس كيلاني
- اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال / غازي الصوراني
- القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال ... / موقع 30 عشت
- معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو ... / محمود الصباغ
- القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال ... / موقع 30 عشت
- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - ميس محمد غيبور - قوموا يا بيّي، قوموا يا حبيباتي