|
في الليالي العربية (ألف ليلة وليلة)
بدورعبد الكريم
الحوار المتمدن-العدد: 8113 - 2024 / 9 / 27 - 20:11
المحور:
قضايا ثقافية
تبدأ الحكاية من لحظة في الزمان، تتوالى منها الأحداث، كما الحكايات بطبيعة الحال، لكن بعد هذا، وغير هذا، لا تأخذ الليالي مسار الحكايات، ولا تحذو حذوها. بالتأكيد ليس الغرض هو المضي في سرد الليالي أو تلخيصها، فهي مستقرة في الضمير الجمعي، مثلما هي جملتها العربية ليلة عمرها ألف ليلة و….ليلة، فلماذا تلك الليلة المفردة؟ ولماذا الليالي أصلاً هي ما بين يدي البحث، وليس عملاً آخر؟ على كثرة ما يمكن أن يُقرأ أو يبحث من أعمال قديمة أو راهنة، هل لأنها حازت شهرة عالمية؟ وما أكثر ما حاز من أعمال على شهرة عالمية، تجلت في طباعة ملايين النسخ، من كتاب ما، لمؤلف ما؟ هل لأنها سردية تغري بالقراءة، حيث تمسك بالأنفاس في لحظة رجراجة، تعدو إلى حركة قادمة ماتزال؟ بالتأكيد ليس السبب أنها حكايات مشوقة، خيطها في يد الراوية كخيط نساج على نول، فأسئلة الليالي تتشكل مع الليالي، بحيث لم يجرؤ عمل على منافستها فيه، على الرغم من مئات آلاف الأعمال أو ملايينها، والتي عرفت طريقها إلى ملايين المطابع، وملايين الأيدي. ما الذي تخبئه الليالي مضمراً ويلح السؤال فيه؟ ما هو هذا المضمر، والذي مايزال يختبيء منذ مئات من السنين؟ جاوزت ألفاً… وتزيد… كانت الدكتورة سهير القلماوي في أطروحتها للدكتوراة، قد أوفت على المطلوب في الليالي، أو لعلها كادت، إذ لا كمال في الأعمال، وما لم تستنفده د. القلماوي، أو ربما استنفدته، جاء من أضاف عليه، أو اختلف، فقد تعددت الدراسات، وزاد عدد صفحاتها أضعافاً على صفحات الليالي، فهل بقي؟ وإذا كان، فما الذي بقي ليقال في عمل أخذ زمانه معه وراح، واستحضره الباحثون واستحضروا زمانه، ثم انطوى بين أغلفة الكتب وراح، لايكاد يذكره في زمن وسائل الاتصال، إلا متخصص أو عجوز، مازالت في ذكريات أيامه الماضيات، حلاوة زمان مضى وأخذ حلوه معه، لكنه خبأ مضمره؟ فما هو هذا المضمر الباقي بين يدي البحث؟ وما هو مضمر الليلة الواحدة بعد الألف؟ هل هو محض عنوان لحكايات أحبّ لها الراوي هذا العنوان؟ وهل في الليالي ما يشكل حفرية تاريخيّة، يتم الكشف فيها عن معالم مرحلة بمكوناتها الاجتماعية، من عادات وتقاليد وبنى اجتماعية واقتصادية، وتفاصيل شرائح وطبقات المجتمع؟ هل هو المقارنة بين حياة القصور والبذخ، وحياة اللِّبن والطين، كما اعتادها الفقراء؟ هل هو المعركة الدائرة أبداً بين الخير والشر؟ أم السماح والموعظة والحكمة والكلمة الطيبة؟ لعل هذا كله تضمره الليالي، لكنه إضمار مكشوف، أو ليس هو الإضمار المقصود، فأي إضمار هو الذي يلح السؤال فيه؟ وفي ليلته المفردة بعد الألف . ماذا من أمر تلك الليلة؟ ولماذا ليلة واحدة وليست ليلتين، مثلما تعنونت قصة معاصرة (ألف ليلة وليلتان)؟ لعل للرقم ألف في الوجدان الجمعي موقع ووقع خاص، ففي موقعها ما لا يملكه الفقير، وفي وقعها ما يوحي بالثراء والكثرة، حتى أنها دخلت في المخيال الشعبي، فعبَّر عنها بحكمته (نصف الألف ...) وعلى هذا فالألف ليست ألفاً رقماً ولا عدداً، إنما هي رمز يشير إلى أعداد بلا عد، فماذا تعني الليلة بعد هذا الذي بلا عد؟ في رواية بيرانديلو (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) تصرخ إحدى الشخصيات مفجوعة من أنه قد حكم عليها بالعذاب المستمر، في قصة بين دفتي كتاب، يعاد فيه عذابها كلما أعيدت قراءته، عذاب أبدي لا ينفتح إلا على عذاب يعود ويعود، كما الملك قبل أن تبدأ الليالي وشهرزاد، فعله القتل ثم القتل. في رواية (ست شخصيات تبحث عن مؤلف، حكم بالسجن الأبدي، لا فرار، فما الذي اختلف في الليالي؟ بالتأكيد أيضاً، ليس القصد هو مقارنة هذين العملين، فأي رواية تتكرر هي ذاتها في كل مرة تفتح فيها صفحات الكتاب للقراءة، فهل هذا هو سرد الليالي؟ أم هناك ما هو مختلف؟ في (الليالي) قبل الليالي وشهرزاد، يوجد ملك، هو بالتأكيد ليس عربياً، أو هو مجهول الهوية، فهو لا يشير بأي حال إلى البيئة العربية الإسلامية، محض ملك، وقتل يعود ويعود. في (الليالي) بعد شهرزاد يظهر الملك قليلاً في ضوء الليالي، بينما مركز الإضاءة هي شهرزاد مركز السرد العربي، ينفتح معها الزمن في كل ليلة، ومع كل قراءة، تبدأ الليالي، وتتحرك من ليلة لا إلى ألف، لكن إلى ليلة بعد الألف، فماذا تعني هذه الزيادة؟ ولماذا تزيد؟ هل توقفت الحكاية عليها لتتم؟ وما كانت لتتم من دونها؟ أم هي ليلة بعد الألف، تفتح ألفية جديدة على اعتبار الألف رقماً رمزياً أكثر منه عددياً؟ وعلى هذا فزيادة ليلة لاتعني زيادة عدد واحد مفرد، وإنما آلافاً مفتوحة بلا حد، مضمرها يسكن المستقبل، وفي كل ليلة من هذ المستقبل، تمحي ليلة من الماضي الذي كان ينتظر شهرزاد بعد (الليالي) مستقبل يصدر حكمه كل ليلة على هذا الماضي ويحكمه، تماماً كما هو نظام الجملة العربية، قابع أبداً في المستقبل، يعيد علاقته بالماضي ويضبطه. علائقية بين المستقبل والماضي في الليالي، مثلما في الجملة العربية، حيث لا ماضي بلا مستقبل، وحيث الماضي يولد مع المستقبل في كل مفردة وفي كل ليلة، زمن مفتوح لا تنتهي فيه الأزمنة، إن في الليالي أو جملتها، لا كما هو حال الجملة في الثقافة الغربية، ومرتكزها القادم من أرسطو في الحركة والسكون، إذ في التأسيس لهذه الثقافة من أرسطو عبوراً إلى الراهن لا تعالق بين السكون والحركة، مثلما هو الحال من السابق إلى اللاحق في الجملة، إذ كل منهما مستقل بذاته، فالحركة لدى أرسطو هي التوجه نحو غاية، بينما السكون هو تمام الغاية والاكتمال، وهو نظام الجملة الغربية، تبدأ من نقطة، وتنتهي سهمياً إلى غاية، بينما الحركة والسكون متواجدان ومتلازمان مع بعضهما، لدى علماء الكلام المسلمين، وخاصة المعتزلة، وهذا التلازم يجعلهما متواجدين معاً في النظام الفلسفي. وفي هذا النظام والذي ينسجم تماماً مع نظام الجملة العربية، فإنه أي هذا النظام ينسجم بما عليه وضع قطة شرودنغر، حيث هي حية ميتة في آن واحد، من خلال احتمالات حالتها قبل فتح الصندوق، كما احتمالات الجملة العربية، قبل الولوج إلى المابعد في مستقبل الجملة، مثلما هو في مستقبل الليالي. من جانب آخر ولدى الإلتفات إلى السرد العربي في ميدانين آخرين، متفقين مختلفين في آن، هما فن العمارة وفن الشعر، إذ العمارة فن صلب، ينبني على الحجارة، وفن الشعر هو اللطافة والليونة في حجره الأساس المقروء فإن كليهما يحمل رموز الآخر وتعبيراته، مثلما يحملان علائقية الجملة العربية ولياليها، حيث الوحدة والتوازن والإيقاع، بين فن الشعر وصوره وأوزانه، وفن العمارة بتشكيله وتوازنه وإيقاعه المعماري. هذا التوازن والتعالق بين الفنين على اختلافهما، إنما هو ذاته ما هو موجود في الجملة العربية والليالي العربية من العلائقية . بالتأكيد لا تتوقف علائقية السرد عند الليالي، وإنما هي المعلم الأبرز في السرد العربي، ذاك أن لبنتها الأساسية هي الجملة العربية بعلائقيتها، تضاف إليها علائقية السرد نفسه، من حيث الموضوعات والأسلوب الذي يجسد هذا التعالق. وعلى هذا فهل تصح هذه العلائقية بين المستقبل والماضي ميزاناً لهذا التراث، يقول كلمته فيه فينهي إشكالية الإثنينية، متجاوزاً مرحلة البعثات التعليمية وما ترتب عليها؟ كانت تلك البعثات إلى أوروبا قد عادت بحصاد الإثنينية، ذاتي - موضوعي، وعقلي - ولا عقلي، سعيدة به، حريصة عليه إذ ذاك، على ما كان سائداً من ثقافة في الغرب، ولا تنكره علومها، حيث كل شيء يجب أن يكون تحت اليد، خاضعاً للتجربة، التي هي الحَكَم والكلمة الفصل، وإلّا فهو لا يستحق النظر، وخارج نطاق العلم، وبالتالي خارج نطاق العقل، لا يعوَّل عليه في أحسن الحالات، أو هذر لا يرقى إلى مستوى الحصانة العلمية المعترف بها، علمي أو لاعلمي، وبالتالي عقلي أو لا عقلي، ينسحب عنه غطاء العقل الذي يميز المفكر الحصيف. وعلى هذا فقد انشق الفكر العربي على طرفي الإثنينية فخسر جملته وعلائقيتها، فدخلت تلك الجملة في لاجدوى الناتج الفكري، إذ ذهبت الجملة في واد، والفكر في واد، فما عاد يؤدي دوراً فعالاً، ولا ينتج من بعد إنتاج شيئاً. لم تقف إشكالية الإثنينية عند هذا الحد، لكنها مضت إلى ما هو أسوأ، فالجملة العربية متعالقة بين ماضيها ومستقبلها، ومستقبلها هو الذي يشرف على ماضيها ويضبطه، والحدان الجديدان غريبان على هذا، نتاجهما محكوم مسبقاً بأحد الحدين، فلا الجملة العربية وقد انشطرت عادت مجدية، ولا الفكر الذي تغرب وجد تربته التي ينبت فيها، فقد علق ومثقفيه في دوامة ظنها بغيته فاستحسنها ، وأوغل فيها، ودار رأسه معها بين الفصول والسنوات، بانتظار القطاف الذي ما كان له أن يحين، هذا جانب، الجانب الآخر هو ذاك المتعلق بالسرد التاريخي، والمبني على الجملة العربية بخصائصها، هذا السرد الذي كان مرشخاً للبناء عليه، انشق هو الآخر بين فريقين، من نادى بوضعه في متحف، ومن تدثر به، ولزم كل من الفريقين صواب حده، وأوغل فيه، حدان بينهما برزخ لكن يبغيان. وعلى هذا فقد لزم السرد التاريخيّ صفحاته، ولزم أصحابه تلك الصفحات، أخذوها على ماهي عليه، دون نقد أو تحليل، ومن أين الأساس للتحليل، والفكر إثنيني؟ وكيف ينبني فكر ثنائي القطب على سرد متعالق وجملته متعالقة؟ حينها كانت المعرفة الإثنينية تمثل تمام المعرفة الإنسانية، فلما جاءت العلوم الحديثة بنظرياتها ونقضتها، نقضت معها غزلها وحلَّته، فسارع الغرب وهو محق، ليرأب صدعه بما تناسب من نظريات، وحار المثقفون العرب، وما وجدوا غير اللحاق بأغرب حلاً، أليس هذا الغرب هو صاحب العلم والتقدم وصانعه؟ كان الغرب على الرغم من تجديده وجديده، متآلفاً مع لغته وفكره، ففصل منهما ما يناسب حاله، لكن نصف اللغة ونصف الفكر في الوطن العربي ما كان له إلاّ أن يتابع معركة الإثنينية بكل إخلاص، وينتظر الخلاص. وعلى هذا فقد بقي التراث تراثاً على الكتفين، مازال عبئاً يحار فيه، ويحار هذا الفكر كيف يقول كلمته، ونحار كيف نقول كلمتنا فيه، وهل تتوافق الكلمتان أم تختلفا؟ بينما مازال للسؤال الحق الأخير، هل للعلائقية بين المستقبل والماضي أن تكون الميزان لما يصح أن ينتقل، أم يبقى حيث هو؟
#بدورعبد_الكريم (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
حصاد العقل العربي المر
-
زورق صغير بين بحرين
المزيد.....
-
رجل وزوجته يهاجمان شرطية داخل مدرسة ويطرحانها أرضًا أمام ابن
...
-
وزير الخارجية المصري يؤكد لنظيره الإيراني أهمية دعم اللبناني
...
-
الكويت.. سحب الجنسية من أكثر من 1600 شخص
-
وزير خارجية هنغاريا: راضون عن إمدادات الطاقة الروسية ولن نتخ
...
-
-بينها قاعدة تبعد 150 كلم وتستهدف للمرة الأولى-..-حزب الله-
...
-
كتاب طبول الحرب: -المغرب جار مزعج والجزائر تهدد إسبانيا والغ
...
-
فيروز: -جارة القمر- تحتفل بذكرى ميلادها التسعين
-
نظرة خلف الجدران ـ أدوات منزلية لا يتخلى عنها الألمان
-
طائرة مساعدات روسية رابعة إلى بيروت
-
أطفال غزة.. موت وتشرد وحرمان من الحقوق
المزيد.....
|