|
السلطة والمعارضة : الإسلام السياسي واللعبة الديمقراطية
دلور ميقري
الحوار المتمدن-العدد: 1776 - 2006 / 12 / 26 - 08:18
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
أحوال لبنان وفلسطين والعراق ، في هذه الأيام القاتمة ، لا تسرّ صديقاً قط . إنها تجعلنا مجدداً في وارد الإحالة إلى " الإسلام السياسي " ، وبوصف تنويعاته ، هنا وهناك ، القوة السياسية المرتهنة لها أحوال تلك البلدان ، المتفجرة . فعلى الرغم من حقيقة ، لا تنكر ، في إختلاف أهل الجماعات الإسلامية عن بعضهم البعض ، في كثير من مناحي الفكر والسلوك ، إلا أنه تبقى الحقيقة الاخرى ؛ المتمثلة في توحّدهم على ما يُسمونه " إقامة حكم الله على الأرض " . وكونهم يستمدون المرجعية الإلهية ، سواءً بسواء في برامجهم السياسية أو رؤاهم الإيديولوجية ، قد أوحى لهم ، إعتباطاً ، أنّ من حقهم ـ كأحزاب معارضة أو حاكمة ، فرض مفهومهم الخاص للديمقراطية . غنيّ عن التشديد ، أننا نتكلم هنا عما يُعرف بالإسلام السياسي " المعتدل " ، وبكل تلاوينه وتنوعاته . وفي هذا المقام ، لا بدّ لتشديدنا أيضاً أن ينسحبَ إلى تلك المفارقة ، المواربة في طيات الفكر الإسلامي الحديث : وهيَ إعتبار الديمقراطية ـ كمفهوم ونظام ـ بدعة مستوردة من الغرب ؛ وكل بدعة حرام . وعطفاً على ما سبق ، لا بدّ لنا من العودة إلى أصل ما إفترضنا أنها " مفارقة " ، في ذلك الفكر الموسوم ؛ ونعني به ، إتجاه بوصلته المُجادلة والتي كانت تتأرجح طوال معظم عقود القرن الفائت ما بين مقارعة الشيوعية والليبرالية ؛ وإعتبارهما شكليْن لمضمون واحد : الإلحاد . كان في وهم الجماعات تلك ، أنّ الأنظمة الشيوعية ، الأوروبية ، قد إنهارت نتيجة منازلة المجاهدين للقوات السوفياتية على أرض أفغانستان ؛ منازلة ، من المفترض برأيهم أن تبقى على زخمها خلال الإنتقال بها إلى أرض العراق ، خصوصاً ، تصدياً للزحف الغربي ، الليبرالي .
وها نحنذا في أرض العراق ، التي أضحتْ اليوم كما لو أنها " مختبر " ، بالنسبة لأطياف الإسلام السياسي ؛ سنية كان أم شيعية . هؤلاء وأولئك ، كانوا أثناء الحكم الصدّامي ، البائد ، متفقين على تكفيره بوصفه نظاماً " علمانياً " ذا فكر إيديولوجيّ مناهض للإسلام ؛ غامزين مما كانوا ينعتونه بـ " صليبية " مؤسس البعث ، ميشيل عفلق . بيْدَ أننا لا يجب الخلط بين الجماعة السنية ، الملتفة حول الفكر السلفي المعتدل ( الحزب الإسلامي ، تحديداً ) ، وتلك الجماعات ذات الصبغة الطائفية نفسها ، ( هيئة العلماء المسلمين وأضرابها ) والتي نبتت مؤخراً كالفطور هنا وهناك من تربة العراق الأوسط ، بشكل خاص : إن هؤلاء الأخيرين ، لا يخفون حنينهم للنظام السابق ، المدحور ، بوصفه تعبيراً عروبياً / سنياً ، قبل كل شيء . وما يؤكد توجههم هذا ، إنما حقيقة كون معظم دعاتهم ـ وربما جميعهم ـ من المرتبطين بهذا الشكل أو ذاك بمؤسسات النظام المنهار ، الدينية . فلا غروَ إذاً ، أن تكون " هيئة العلماء " تلك ، في حقيقتها ، غطاءً سنياً ، علنياً ، للتكفيريين المستوردين عبْرَ الحدود السورية ؛ حدّ أنّ شيخها ، حارث الضاري ، قال في المقابلة الأخيرة له مع قناة " العربية " ، حرفياً : " نعتبرُ جماعة " القاعدة " في العراق من ضمن حركة المقاومة التي تجاهد ضد الإحتلال الأمريكي " . الحزب الإسلامي ، هوَ تاريخياً الحركة الإخوانية ، الأصيلة ، في موطن الرافدين ، وكانت له مواقف معارضة ، مشهودة ، من النظام البعثي ؛ مما عرضه للإضطهاد الشديد وتصفية أعضائه إعداماً وتعذيباً حتى الموت . ما كان بالغريب ، والحالة تلك ، أن يُشارك الحزب في نشاطات المعارضة العراقية ، المناوئة آنئذٍ للنظام الصدّامي ، ومن ثمّ بعيدَ سقوطه في العملية السياسية ، الديمقراطية .
مثل ذاك التراتب في المشهد العراقي ، وجدَ أيضاً في الجانب الآخر من الإسلام السياسي ؛ أيْ الأحزاب والجماعات ذات الصبغة الشيعية . إن أبرز هذه التنظيمات ، هما بلا شك " حزب الدعوة " ، العريق ، و " المجلس الأعلى للثورة الإسلامية " . كلاهما كان ينطلق ، طوال معظم مراحل معارضته للنظام الصدامي ، من إيمانه بالفعل النضالي ، المسلح ، للإطاحة بذلك النظام ؛ متبنياً خصوصاً تجربة ثورة الخميني ، الإيرانية ، ومدعوماً بقوة منها . على أنه إثرَ فشل إنتفاضة الجنوب العراقي لعام 1991 ، وخذلان الجمهورية الإسلامية لحلفائها الشيعة ، المنتفضين ، إتجه هؤلاء إلى إعتماد إستراتيجية جديدة ؛ متمثلة بالإنفتاح على الغرب ، وخاصة الولايات المتحدة ، بغية الإطاحة بنظام صدّام الذي كان محاصراً بشدة دولياً بعد حرب تحرير الكويت . وكما كانه حال الجانب السني المعتدل ، الموصوف آنفاً ، فإنّ إسلاميي الشيعة ، الأصيلين ، أظهروا أنفسهم عشية التحضير لإسقاط صدام كما لو أنهم البديل المناسب له ، الشعبيّ ؛ وفي آن كصديق محتمل للغرب ومصالحه في المنطقة . إلا أنّ هؤلاء راحوا بدورهم يخلون مواقعهم تدريجياً لجماعات مستجدة ، من طائفتهم نفسها ؛ كـ " التيار الصدري " ، بقيادة زعيمه ، مقتدى الصدر " . هذا الرجل الميليشياوي المذهبي ، المكتسي قيافة عالم الدين ، والذي إلتمّ حوله كل الأفاقين والقتلة والسرسرية إلى أتباع الأجهزة الأمنية البعثية ، المنحلة ، بعدما تمّتْ إستتابتهم ـ كذا. إن الفكر الشيعي تاريخياً ، كان متسماً غالباً بالإنفتاح والتسامح والإعتدال ، مترجماً بذلك حال رعيته ، المتظلمة ، التي عانت ما عانته من إقصاء وتهميش من لدن النخب السنية ، الحاكمة ، ومنذ إشراقة الإمبراطورية العربية ، الأولى . لا غروَ والحالة تلك ، أن يلاحظ المرءُ الفرق الفادح ، الواضح ، بين قطب الإسلام السياسي هذا ، المستلهم مآثر آل البيت ، وبين غريمه ؛ الموافق للهوى الأمويّ : ومن تجليات ذلك ، على صعيد التجربة السياسية في عراق ما بعد البعث ، أن الجماعات الشيعية ، بما فيها الأكثر تطرفاً ، قد أثبتت إحترامها للعبة الديمقراطية ـ كخيار وحيدٍ لحكم البلاد ، وإستناداً للدستور الدائم . قد يكون ثمة إختلافات في الرؤية حول الشكل الفيدرالي لنظام الحكم ؛ إلا أنّ تلك الجماعات متفقة على رفض مركزية القرار السياسي ، خوفاً من العودة إلى مرحلة الإنقلابات الديكتاتورية . على أنّ إحترام هؤلاء وأولئك للعبة الديمقراطية ، يجب ألا ينسينا حقيقة كون تلك اللعبة متوافقة مع التركيبة البشرية للعراق ، والتي تضمن إستحواذ أكثريتها العددية لمفاتيح الدولة ؛ ونقصد بها الطائفة الشيعية ، طبعاً .
توصيفنا آنف الذكر للإسلام السياسي ، الشيعي ، في العراق ، ربما ينطبق ، إلى حدّ ما ، على شقيقه اللبناني ؛ المعتدل والمتطرف على السواء . ربما أن كون موطن الأرز تقليدياً ، متجذرة فيه الحياة الدستورية ، قد كبح بهذه الدرجة أو تلك ، من إندفاعة النخبة الشيعية في السياسة الوطنية ، خصوصاً بعدما عانته ـ وطائفتها ككل ـ من تهميش طوال عقود أربعة من زمن الحرمان ، الذي أعقب مباشرة إرساء الكيان اللبناني الحديث ، المستقل . من غير المعلوم جزماً ، إتفاق كون لبنان متفرداً بإيواء القسم الأكبر من شيعة البقعة الجغرافية الشاسعة ، الموسومة تاريخباً بـ " بلاد الشام " . ولكن كون البلد الجار ، السوريّ ، ملاذاً للفرق الهرطوقية ، المنبثقة عن الجماعة الإثني عشرية ( العلوية والإسماعيلية والموحدية الدرزية ) ، قد جعل هذه وتلك في حال من الإمتداد والتواصل والتضامن ؛ خصوصاً خلال الليل العثماني ، الطويل . سنرى هنا ، أنّ ما يمكننا تسميته بـ " صحوة أقلوية " في سورية الحديثة ، المستقلة ، قد إنعكس بشكل مؤثر على أهل المذهب الأصل ، الشيعيّ ، المتركنين في موطن الأرز . إنّ إستحواذ النخبة العسكرية ، العلوية ، على مفاتيح السياسة السورية ، منذ أواسط ستينات القرن الآفل ، لم يكن له في واقع الأمر من صدىً في ذلك الموطن ، الجار ؛ وربما بسبب عدم تجانس تلك النخبة ، من حيث الطرح الطائفيّ ، فضلاً عن الحقيقة المعروفة من كون المختلف العلوي مع مذهب الأثني عشرية أكثر من المتفق . إنّ " الصحوة الشيعية " ، اللبنانية ، كانت من نتائج الحرب الأهلية ( 1975 ـ 1990 ) ، ولا يمكن عزلها بتاتاً عن الوجود السوري / والإيراني لاحقاً ، طوال معظم مراحل تلك الحرب وما أعقبها . وبما أنّ التدخل العسكري لنظام الأسد في البلد الجار ، كان متخبطاً على غير هدى في صراعاته وتحالفاته مع المكونات اللبنانية جميعاً ؛ فما كان لسَدَنته إلا الإلتفات أخيراً إلى الشيعة ـ الطائفة المنبوذة آنئذٍ ـ وإعتمادها أولاً كحليف سياسيّ مضمون الولاء لتدخلهم ذاك ، وتالياً كرافدٍ بشريّ ذي زخم هائل نسبياً ؛ بما أنّ العلويين أقلية ضئيلة العدد في سورية . لن نتكلم هنا عن دعم كلّ من نظاميْ دمشق وطهران لحركة " أمل " ، ومن ثمّ " حزب الله " ، فهي مسألة غنية عن التأكيد . على أنّ تخريب التجربة اللبنانية ، كان على ما يبدو من أولويات الجار السوري ، ولداع جوهريّ ، لم يعد خافياً الآن : وهوَ تناقض تلك التجربة ، الديمقراطية ، مع مثيلتها البعثية ، الديكتاتورية . فإذ بني النظام اللبناني ، برمته ، على توافق مكونات البلد المذهبية ، فبالمقابل نجدُ النظام السوري ، في تركيبته الطائفية الأقلوية ، الأحادية ، مهيمناً على الحياة السياسية بعقلية الحزب الواحد والأب القائد ؛ وبالتالي ما كان له إلا أن يهمّش بقية مكونات البلد المذهبية والأثنية ، وتحت يافطته القديمة ، المثلثة ، المعلنة منذ إنقلاب الثامن من آذار 1963 : العروبة وتحرير الأرض المحتلة وبناء المجتمع الإشتراكي . لا عجب إذاً ، أن تكون محاولات النظام السوري منصبة على إستنساخ نموذجه في لبنان ، مستفيداً من هيمنته على مقدراته جميعاً : مبتدهاً لعبته من قمة هرم السلطة ، بفرض الجنرال العسكريّ ، اميل لحود ، في موقع الرئاسة ومن ثمّ التمديد له بشكل غير دستوريّ ( الأب القائد ! ) ؛ وحصر القرارَيْن السياسي والعسكري برمته بمجموعة وحيدة متجانسة مذهبياً ، تحت دعوى " المقاومة " ( الحزب القائد ! ) . وليس إتفاقاً ، أنّ نفس تلك اليافطة البعثية ، المثلثة ، يرفعها اليوم إنقلابيو المعارضة اللبنانية ، بقوتهم الضاربة ، حزب الله . فهؤلاء يطالبون بإستقالة حكومة الأغلبية المنتخبة ، بمزاعم إرتباطها بالغرب ( نقيض العروبة ) ، ومحاصرة سلاح المقاومة ( نقيض التحرير ) ، وأخيراً كونها غير نظيفة وعادلة ( نقيض الإشتراكية ) . ومما يفاقم من مهزلة التماثل هذا ، الموصوف ، أنّ قوى المعارضة اللبنانية قد إختارت نعت نفسها بـ " قوى 8 آذار " ؛ وكأنما لكي تؤكد تواشجها العضويّ ، المصيريّ ، مع نظام الطائفة المختارة ، الجار : مثل هذا النظام ، يُراد تطبيقه في لبنان ، وبأي ثمن ، حتى لو كان الحرب الأهلية ؛ رغم أن هذه مستبعدة لسبب بسيط ، وهو أنّ الأطراف المتمثلة في الحكومة اللبنانية ، العزلاء تماماً ، في غير وارد المواجهة مع ترسانة حزب الله وحلفائه ، المتخمة بالسلاح المهرب من سورية وإيران .
للحديث صلة ..
#دلور_ميقري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
النبي ؛ هل كانَ جبرانُ نبأً كاذباً ؟
-
الهولوكوست اليهودي والهلوَسة الإسلاموية
-
سياحات : دمشق بأقلام الرحّالة 2 / 2
-
نادية : نهاية زمن الرومانسية
-
العتبات الممنوعة
-
العصابة البعثية والتفجير الطائفي
-
سياحَات : دمشق بأقلام الرحّالة 1 / 2
-
جرائم أجاثا كريستي ، اللبنانية
-
الحزب الإلهي وأولى ثمار الحرب الأهلية
-
ناصر 56 : الأسطورة والواقع
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 3 / 3
-
النظامُ القرداحيّ والقرون اللبنانيّة
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 2 / 3
-
صدّام ؛ صورٌ شخصيّة للطاغيَة
-
مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2
-
مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 1 / 2
-
رحلاتٌ إلى مَوطن الجرمَان 1 / 3
-
الحارَة ؛ بابُها وبشرُها
-
مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 2 / 2
-
زبير يوسف ؛ في منحَتِ الحَديد والتحدّي 2 / 2
المزيد.....
-
طلع الزين من الحمام… استقبل الآن تردد طيور الجنة اغاني أطفال
...
-
آموس هوكشتاين.. قبعة أميركية تُخفي قلنسوة يهودية
-
دراسة: السلوك المتقلب للمدير يقوض الروح المعنوية لدى موظفيه
...
-
في ظل تزايد التوتر المذهبي والديني ..هجوم يودي بحياة 14 شخصا
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان تستهدف قاعدة حيفا البحرية وتصيب اه
...
-
عشرات المستوطنين يقتحمون المسجد الأقصى
-
مستعمرون ينشرون صورة تُحاكي إقامة الهيكل على أنقاض المسجد ال
...
-
الإعلام العبري: المهم أن نتذكر أن السيسي هو نفس الجنرال الذي
...
-
ثبتها فوراً لأطفالك.. تردد قناة طيور الجنة 2024 على نايل سات
...
-
الجنائية الدولية تسجن قياديا سابقا في أنصار الدين بمالي
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|