من الضروري على الشخص الذي يريد الخوض في موضوع ما، أن يكون ملماً به ويجمع مواد بحثه بدقة ليعرف عما يتحدث، إلا إذا كان القصد من الكتابة تضليل الرأي العام وتزييف حقائق التاريخ. كذلك من الواجب على الكاتب الذي يخوض في قضية وطنية أن يتمتع بوعي وطني وضمير حي عندما يروِّج لفكرة معينة لأنها تتعلق بمصير شعب عانى كثيراً بسبب التضليل والآيديولوجيات المدمرة والأفكار الخاطئة.
قرأت للدكتور حسين أبو السعود الذي قدم نفسه بأنه كاتب ومفكر إسلامي، ثلاث مقالات على مدى سنة، اثنتان منها في صحيفة المؤتمر اللندنية والثالثة والأخيرة في الصحيفة الإلكترونية المعروفة (إيلاف). وفي هذه المقالات الثلاث، يروج الكاتب بحماس بالغ لعودة الملكية بعد أن تحرر من النظام البعثي الصدامي. وفكرة كل مقالة هي تكرار لما قبلها دون أي جديد ومفادها أن العهد الملكي كان عهد الديمقراطية والإزدهار الإقتصادي والسلام الإجتماعي وحكم الجماهير. أما العهد الجمهوري فمنذ "إنقلاب" 14 تموز 1958 هو عهد المقابر الجماعية. وقد وضع الكاتب عنوان مقالته الأخيرة في إيلاف يوم 26 حزيران/يونيو 2003، على شكل معادلة غريبة: (عراق بلا ملكية = المزيد من المذابح والمقابر الجماعية).
أقول، من حق أي إنسان أن يروِّج لما يريد، ولكن ليس من حقه تشويه الحقائق. فكغيره من دعاة الملكية، يصور الكاتب العهد الملكي بأنه كان كله خير والنظام الجمهوري كله شر. فالمتوقع من شخص يحمل شهادة في الدراسات العليا ويضع كلمة (دكتور) قبل إسمه ويصف نفسه بأنه كاتب ومفكر إسلامي، أن يكون موضوعياً في طروحاته مخاطباً العقل بدلاً من دغدغة العواطف والمشاعر. إن أغلب دعاة الملكية استغلوا جرائم صدام حسين وسحبوها على الزعيم عبدالكريم قاسم وثورة 14 تموز 1958، معتقدين خطأً أن ثورة "إنقلاب" 14 تموز، فتحت الباب للإنقلابات العسكرية وتسييس العسكر. وهذه مغالطة إما عن جهل بتاريخ العراقي الحديث أو بقصد التضليل. فكلنا نعرف أن الإنقلابات قد بدأت في العهد الملكي وأولها كان انقلاب بكر صدقي عام 1936 ويعتقد أن الملك غازي الذي كان متعاطفاً مع النازية والفاشية ضد الإنكليز، كان متورطاً به.. كما حصلت ثمان محاولات إنقلابية في العهد الملكي نجحت منها ثلاث وفشلت البقية.
وإنصافاً للحق، لا أحد ينكر دور الملك فيصل الأول والسياسيين الأوائل من أتباعه بمن فيهم الضباط الشريفيين، في دورهم في تأسيس الدولة العراقية الحديثة وبمساعدة الإنكليز بعد تحرير العراق من الإستعمار التركي العثماني المظلم. فكان العراق بقيادة المرحوم فيصل يسير بخطى ثابتة على طريق التقدم والتطور السلمي التدريجي لبناء دولة عصرية دستورية وديمقراطية. ولكن لسوء حظ الشعب العراقي أن الملك فيصل الأول قد توفى بصورة مفاجئة وبوقت مبكر من عمره وقبل أن يكتمل مشروعه الوطني. كذلك يعتقد البعض أن مقتل نجله الملك غازي الذي كان متعاطفاً مع النازية ضد الحلفاء، كان بتدبير من نوري السعيد وعبد الإله (راجع كتاب حنا بطاطو).
وبذلك فالنظام الملكي قد انتهى عملياً برحيل مؤسسه الملك فيصل الأول ولم يحصل أي نوع من الإستقرار السياسي في العراق منذ رحيله عام 1933 حيث فقدت الحكومة العراقية هيبتها وصار نور السعيد وعبد الإله هما الحاكمان المستبدان في العراق ولعبا دوراً كبيراً في إيقاف التطور السلمي التدريجي وتجميد وتهميش الدستور وعدم الإستقرار السياسي والإجتماعي. أما البرلمان فكان عبارة عن مهزلة. ويكفي أن نقول أن نوري السعيد كان قد ألغى البرلمان في إحدى دوراته عام 1954 بعد يوم واحد فقط من إفتتاحه وذلك لفوز أحد عشر نائباً فقط من المعارضة من مجموع 130 نائباً رغم محاولات السلطة الملكية لتزييف الإنتخابات. إن العبرة ليس بوجود دستور ديمقراطي وبرلمان، بل المهم هو دور الدستور والبرلمان في الحكم وحياة الشعب. لقد كان الدستور حبراً على ورق والبرلمان جسماً بلا روح. لذلك وصف الشاعر الكبير معروف الرصافي ذلك العهد بقوله:
علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف
إن دام هذا في البلاد فإنه بدوامه لسيوفنا مسترعف
كم من نواص للعدى سنجزها ولحى بأيدي الثائرين ستنتف
وكرد فعل لإستهتار السلطات في العهد الملكي بالديمقراطية والدستور والبرلمان ومؤسسات المجتمع المدني، فقد الشعب ثقته بهذه المؤسسات واستهان بها مما شجع على تسييس العسكر وتدخلهم في السياسة وشجع هذا الموقف على تبني القوى السياسية الوطنية العنف السياسي. ومن المؤسف حقاً أن الكثيرين من العراقيين ولحد الآن وحتى الذين لجأوا إلى البلدان الغربية الديمقراطية، مازالوا يستهينون بمؤسسات المجتمع المدني بما فيها منظمات حقوق الإنسان ولا يصدقون بها. لقد كانت أمام الحكم الملكي فرصة ذهبية لو توفرت النوايا المخلصة لديهم، للإستمرار على نهج المرحوم فيصل الأول، في التطور التدريجي السلمي وتربية المجتمع العراقي على الديمقراطية وجعله يحترم نتائج الإنتخابات البرلمانية، لما مر العراق بهذه الهزات الكارثية.
لم يكن العهد الملكي عهد استقرار وازدهار وديمقراطية كما يدعي هؤلاء، بل كانت هناك إنتفاضات ووثبات وانقلابات وقلاقل ومحاولات إنقلابية تواجه بالنار والحديد. فقد تم في ذلك العهد إسقاط الجنسية عن مناضلين وأعدم قادة سياسيون لمجرد الإختلاف في المعتقد السياسي، وأطلق النار على المشاركين في مظاهرات سلمية لمجرد الإحتجاج على اتفاقيات جائرة وتم قتل عمال مضربين في مجزرة كاور باغي في كركوك والبصرة، وتعذيب المعتقلين وقتل السجناء السياسيين وحتى قصف العشائر بالطائرات. وقد ارتكب النظام الملكي مجزرة واسعة ضد الآشوريين الذي قتل فيها ثلاثة آلاف على أقل تقدير بينما يضع البعض 30 ألفاً. وقد حصلت هذه المجزرة عام 1933 أي قبل وفاة فيصل الأول. كما الأحكام العرفية 16 مرة والتي استغرقت بما يقارب أكثر من 50% من فترة الحكم الملكي.
وليس صحيحاً الدفاع عن هذه الأعمال لكون الوضع في عهد صدام حسين كان أسوأ من العهد الملكي. فهل هذا الشعب محكوم عليه أن يختار بين السيء والأسوأ ؟ أليس من حق الشعب العراقي المطالبة بسيادة كاملة وبحياة أفضل أسوة بأي شعب آخر؟. نعم كان النظام الملكي جيداً في عهد فيصل الأول فقط، كما كان النظام الجمهوري جيداً في عهد عبدالكريم قاسم فقط. كذلك لا ننسى أن إنقلاب 8 شباط 1963 الذي مهد لمجيء صدام حسين، قد تم بتحالف البعثيين والملكيين والقوى الأخرى، الداخلية والخارجية، المضادة لثورة 14 تموز. ولو لم يتم إغتيال ثورة تموز لكان العراق بألف خير.
إن محاولة تزويق العهد الملكي والترويج له وخاصة نوري سعيد وعبد الإله وتحميل ثورة 14 تموز والزعيم عبد الكريم قاسم جرائم النظام الصدامي هي إساءة لتاريخنا ومحاولة حرق الأخضر بسعر اليابس كما يقولون، وهي محاولة فاشلة ودليل جهل هؤلاء بمنطق التاريخ. فهناك قوانين خاصة محركة للتاريخ لا تختلف عن القوانين الفيزيائية في السيطرة على الطبيعة. فالثورات السياسية الإجتماعية أشبه بالبراكين الطبيعية، لا يمكن منعها إذا توفرت لها الأسباب، فالضغط يولد الإنفجار. إن سبب ثورة 14 تموز هو المظالم السياسية والإجتماعية وعدم السماح للتطور السلمي الديمقراطي للمجتمع العراقي. فتراكمت الأسباب حتى تكللت بالإنفجار الهائل يوم 14 تموز 1958. والدليل على شرعيتها وحتميتها هو التأييد الشعبي الواسع لها منذ اللحظات الأولى لإندلاعها.
ليس من الإنصاف تحميل ثورة 14 تموز جرائم صدام حسين.فلو عدنا إلى التاريخ لوجدنا أن ما حصل في عهد صدام حصل في فجر الإسلام أيضاً. فكانت الكعبة المكرمة مقدسة عند العرب حتى في العهد الجاهلي. ولما جاء الإسلام جعلها قبلة يحج إليها ويصلي نحوها المسلمون. ولكن في عهد الخليفة الأموي يزيد بن معاوية تم قصف الكعبة بالمنجنيق وارتكب مجزرة رهيبة ضد أهل البيت كما حصل في وقعة كربلاء، واستباح المدينة المنورة وقتل الألوف من سكانها. فهل نلقي اللوم على الإسلام ونحاسبه على جرائم يزيد والمطالبة بالعودة إلى العهد الجاهلي؟
كذلك الحال بالنسبة للعهد الجمهوري. فالجرائم التي ارتكبت في عهد صدام لا علاقة لها بالنظام، جمهوري أو ملكي. بل يرتبط مباشرة بشخصية الحاكم وإخلاقه، هل هو دموي أم إنساني. فهناك عشرات الأنظمة الجمهورية التي تتمتع بالديمقراطية مثل الهند وفرنسا وامريكا وسويسرا وغيرها. كذلك هناك أنظمة ملكية ديمقراطية خاصة في أوربا الغربية.. بينما أغلب الأنظمة الملكية في الدول العربية والإسلامية هي إستبدادية. وحتى الأنظمة الملكية العربية التي تتمتع بهامش من الديمقراطية الشكلية، فالملوك هم سياسيون يتصرفون كما لو كانت البلاد ملكية خاصة لهم رغم ادعائهم بالدستورية والديمقراطية.
خلاصة القول: لقد فشل النظام الملكي في العراق وليس من المنطق إعادة نظام حكَمَ الزمن عليه بالفشل. وإعادته معناه تكرار نفس التاريخ ودورات العنف من جديد. والنظام الملكي موروث قديم في طريقه إلى الزوال يصبح فيه الشخص ملكاً يالولادة. والملوك في البلاد العربية هم حكام سياسيون وليسوا رموزاً للوحدة الوطنية كما في الممالك الأوربية الديمقراطية. بينما النظام الجمهوري هو نظام أكثر تحضراً يصبح الشخص فيه رئيساً حسب كفاءاته ومؤهلاته التي تجعل الشعب يختاره. والملك إذا فشل من الصعوبة تبديله إلا بالعنف الدموي. بينما رئيس الجمهورية يمكن تبديله بالوسائل السلمية، عن طريق الإنتخابات الشعبية في الأنظمة الديمقراطية.