ما الذي أعاد هذه القطعة الأدبية الجميلة إلى سطح الذاكرة فجأة؟ بيان لا
يوقع عليه سواي لجابرييل جارثيا ماركيث. كلما قابلت شخصاً، قال لي : هل
لديك نسخة من مقال ماركيث؟ السؤال يتكرر في الشارع، وعلى المقهى، وفي
المكتب، ومن خلال البريد الإليكتروني.
لعله الضعف العربي، فلقد ظهر البيان في ترجمته العربية في ظروف كهذه.
لعلها الرغبة في توجيه بعض اللوم إلى المثقفين العرب. لعله النزوع غير
المحدود لرفض خارطة الطريق ومشتقاتها. أم أنه التعبير غير المباشر عن حالة
القرف تجاه الأنظمة العربية التي اعتادت الانحناء حتى أصبحت هذه هي طبيعتها
الثابتة؟! أياً كان الوضع، فإن هذا هو ما يحدث مرة أخرى الآن.
عندما نشرت جريدة العربي القاهرية هذه الترجمة الرائعة للدكتور أحمد
يونس، الكاتب الصحفي بأخبار اليوم، اهتزت الدنيا في الوطن العربي من المغرب
إلى البحرين. علق عليه كل المثقفين بلا استثناء تقريباً. كل الصحف لم يعد
لها من حديث سوى مقال ماركيث المذهل. إلا أن بعض الصحف تجاهلت ذكر المصدر :
جريدة العربي.
لفت المقال انتباه الأستاذ محمد حسنين هيكل ونجيب محفوظ ومحمود أمين
العالم وسكينة فؤاد ومحمود درويش وعبد العظيم أنيس وغيرهم.
بل إن الكتاب العرب أصدروا بيان تأييد لماركيث، نشرته أيضاً جريدة العربي
التي ظلت شهوراً تبرز ردود أفعال الكتاب والفنانين والشخصيات العامة على
اختلاف الموقع أو طبيعة المهنة. والناس العاديون فى المقدمة طبعاً. كانت
مواقفهم حادة وساخطة وعميقة فوق ما يتصور محترفو الكلام. الإنسان العربي
اجتاحته مجموعة من المشاعر المتناقضة : فرحة يشوبها الغضب، إيمان بعدالة
القضية مع إحساس بقلة جدوى المثقف العربي.
أما الصحف الإسرائيلية، فتجاهلت المؤلف الذي تولت أمره مراكز الضغط
اليهودي في العالم، حيث هددته بمقاطعة كتبه وما هو أخطر. الصحف الإسرائيلية
هاجمت جريدة العربي واتهمت المترجم بمعاداة السامية، وذكرت أمثلة على ذلك من
كتاباته. وقالت أن جريدة العربي تحض على كراهية اليهود ومحو إسرائيل من
على الخريطة، ولا تزال المنظمات اليهودية تشن هجوماً متواصلاً ضد جريدة
العربي، بالتعاون مرة مع دعاة التطبيع أو مطايا المعارضة العراقية العميلة،
وعن طريق أصدقائها في الإعلام العربي المتصهين مرات..
ولم يتدخل الذين قاموا بنشر البيان دون إشارة إلى الجريدة أو المترجم أو
الحملة التي تعرض لها كل من أشادوا بالبيان. والأغرب أن هناك من لم
يستطيعوا مهاجمته، كما كانوا يتمنون، فشككوا في صحته. لولا أن جابرييل جارثيا
ماركيث أكد صدوره عنه. كما أكد أنه صادر قبل ترجمته بأيام قليلة. والترجمة
التي تمت عن اللغة الإسبانية كانت دقيقة وحارة ومتوهجة على عكس أغلب
الترجمات التي تبدو نصوصاً ميتة بلا روح. وبسرعة غير معتادة، صدر كتاب يضم
المقال بعنوان : ليل الضمير، وهو تعبير استخدمه ماركيث في مقاله، لوصف ظاهرة
الصمت الرهيب على الجرائم الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني.
والآن، ما الذي أعاد كل هذه القصة إلى حيز الوجود؟ البيان صدر على صدر
جريدة العربي فى مطلع 2002، فماذا جرى حتى يستيقظ النص الجميل من سباته،
لينتصب واقفاً مرة أخرى، كفارس يؤكد أنه ما يزال حياً. فارس اسمه : الضمير
البشري.
ها هو نص البيان لكل من يريد أن يفهم ماذا يجري حالياً. إنه قدرة الكتابة
الشريفة على كسر حواجز الزمن واللغة وبعد المسافات.
مقال خطير لأشهر كتاب العالم
جائزة نوبل فى الأدب يرشح
شارون لجائزة نوبل فى القتل
سامحوني إذا قلت إنني
أخجل من ارتباط اسمى بجائزة نوبل
بيان لا يوقع عليه سواي
بقلم : جابرييل جارثيا ماركيث
جائزة نوبل فى الأدب لسنة 1982
ترجمة : د. أحمد يونس
إنه لمن عجائب الدنيا حقاً أن ينال شخص ، كمناحم بيجن جائزة نوبل فى
السلام ، تكريماً لسياسته الإجرامية التى تطورت فى الواقع كثيراً خلال السنوات
الماضية على يد مجموعة من أنجب تلاميذ المدرسة الصهيونية الحديثة . إلا أن
الموضوعية تفرض أن نعترف بأن الذى تفوق على الجميع هو الطالب المجدد آرييل
شارون . وعلى أى حال ، فإن فوز مناحم بيجن بجائزة نوبل فى السلام يظل من
عجائب الدنيا حقاً ، ولا يخفف من دهشتى القول بأن الدنيا مليئة بالطرائف ،
وأن هناك ما هو أغرب .
المهم أن هذا ما حدث ، ولا طريقة الآن لتبديله . فاز مناحم بيجن بجائزة
نوبل فى السلام لسنة 1978 ، مناصفة مع أنور السادات ، رئيس جمهورية مصر فى
حينه . جاء ذلك كنوع من المكافأة على اتفاقية براقة أرست قواعد السلام من
طرف واحد هو العربى . الرجلان اقتسما الجائزة . لكن المصير اختلف من
أحدهما إلى الآخر . الاتفاقية ترتب عليها فى حالة أنور السادات انفجار بركان
الغضب داخل جميع الدول العربية . فضلاً عن أنه ـ ذات صباح من أكتوبر 1981 ـ
دفع حياته ثمناً لها . أما بالنسبة لبيجن ، فلقد كانت هذه الاتفاقية نفسها
بمثابة الضوء الأخضر ، ليستمر بوسائل مبتكرة فى تحقيق المشروع الصهيونى
الذى ما يزال حتى هذه اللحظة يمضى قدماً . أعطته الجائزة أول الأمر الغطاء
اللازم حتى يذبح ـ بسلام ــ ألفين من اللاجئين الفلسطينيين بالمخيمات داخل
بيروت سنة 1982 .
المؤكد أن اتفاقيات كامب ديفيد ، بالإضافة إلى جائزة نوبل فى السلام ،
تجاوزت شـخص مناحم بيجن ، لتشمل أنجب تلاميذ المدرسة الصهيونية الحديثة ،
خاصة ناظرها الجديد آرييل شارون . جائزة نوبل فى السلام فتحت الطريق على
مصراعيه لقطع خطوات متزايدة السرعة نحو إبادة الشعب الفلسطينى . كما أدت إلى
بناء آلاف المستوطنات على الأرض الفلسطينية المغتصبة .
لن ننسى نحن الذين نقاوم فقدان الذاكرة الوعاء الفكرى لممارسات النازية .
ارتكز هتلر على نظرية المجال الحيوى لتحقيق مشروعه التوسعى باحتلال أرض
الغير . وقد قال بيجن صراحة أن الأراضى المحتلة فى 1967 هى ممتلكات يهودية
ليس من حق أحد أن يطالب باستعادتها . الركيزة الثـانية هى ما سماه : الحل
النهائى لمشكلة اليهود . معسكرات الاعتقال السيئة السمعة كانت فى نظره
المخرج المناسب . إبادة جماعية ، بولغ فى سرد وقائعها لتبرير إبادة جماعية
أخرى . أما حكاية الملايين الستة من اليهود ضحايا هتلر ، فلقد انضمت إلى
ترسانة الخرافات اليهودية ، تمهيداً لإعادة ارتكابها من جديد تحت غطاء جائزة
نوبل فى السلام .
استندت نظرية المجال الحيوى الصهيونية إلى أن اليـهود شعب بلا أرض ، وأن
فلسطين أرض بلا شعب . هكذا قامت الدولة الإسرائيلية غير المشروعة فى 1948
. فلما تبين أن هناك شعباً ، وأن فلسطين شعب يسكن فى أرضه ، كان من
الضرورى حتى لا تكون النظرية مخطئة إبادة الشعب الفلسطينى ، وهو ما يتم بصورة
منهجية منذ أكثر من خمسين عاماً . لكن جائزة نوبل فى السلام ، بالإضافة إلى
اتفاقيات كامب ديفيد ، اتخذت شكل الإذن الدولى بالقتل الذى لا يجرمه أحد
.وقد تمكنت أجهزة الإعلام التى يسيطر عليها اليهود من إقناع البلهاء فى
الغرب بهذه الأكاذيب ، مستثمرة عقدة الذنب عند القتلة ، فباركوا المزيد من
المذابح . لولا أن العالم استيقظ فجأة على أن هناك شيئاً اسمه الشعب
الفلسطينى . ولم يلفت الانتباه إليه تمثيله الدبلوماسى أو مشاركته فى المحافل
الدولية . ما لفت الانتباه لوجوده هو هذا الأنين الصادر عن شعب يتعرض إلى
الإبادة .
تهامس الجميع على استحياء : الظاهر أن هناك شعباً فلسطينياً ، وأنه لسبب
ما توارى عن الأعين طوال هذه السنوات . الشعب الفلسطينى بالفعل ظل مختبئاً
فى مـنطقة اسمها تجاهل الآخرين . اسمها : ليل الضمير البشرى . حسناً . ما
العمل الآن ؟ الحل عثرت عليه مجموعة من أنجب تلاميذ المدرسة الصهيونية
الحديثة . لتصبح فلسطين ، تمشياً مع النظرية ، أرضاً بلا شعب . وعلى الذين
يتكاثرون كالأرانب ليقاوموا الفناء ، أن يبادو بسلام .
وقد تصادف أن كنت فى باريس ، عندما ارتكب شارون ـ بغطاء من جائزة نوبل فى
السلام ـ مجازر صبرا وشاتيلا ، قاتلاً أثناء الغزو ثلاثين ألف فلسطينى أو
لبنانى . كما تصادف أن كنت فى باريس ، عندما فرض الجنرال جاروزيلسكى سلطة
العسكر ضد إرادة الأغلبية من شعب بولندا . أصابت الأزمة البولندية أوربا
بصدمة جعلتها تترنح من الغضب . أنا شخصياً قمت بالتوقيع على عدد كبير من
البيانات التى تندد باغتيال الحرية فى بولندا . كذلك ، فلقد شاركت فى
الاحـتـفالية التى أقيمت ، تكريماً لبطولة الشعب البولندى ، بمسرح ( بيرا دى بار
) تحت رعاية وزارة الثقافة الفرنسية . وعلى العكس من ذلك تماماً ساد نوع
من الصمت الرهيب ، عندما اجتاحت القوات الشارونية لبنان . علماً بأن أعداد
القتلى أو المشردين هناك لا تسمح بأى مقارنة مع ما حدث فى بولندا .ظهرت فى
الحال النظرية السوفييتية التى تدعو إلى الأخوة بين القوى الأعظم على حساب
أى شعب أو أى مذابح .
هناك بلا شك أصوات كثيرة على امتداد العالم تريد أن تعرب عن احتجاجها ضد
هذه المجازر المستمرة حتى الآن . لولا الخوف من اتهامها بمعاداة السامية
أو إعاقة الوفاق الدولى . أنا لا أعرف هل هؤلاء يدركون أنهم هكذا يبيعون
أرواحهم فى مواجهة ابتزاز رخيص لا يجب التصدى له سوى بالاحتقار . لا أحد
عانى فى الحقيقة كالشعب الفلسطينى . فإلى متى نظل بلا ألسنة ؟ ولم أجد من
يومها من يدعونى إلى أى احتفال ببطولة الشعب الفلسطينى فى أى مسرح تحت رعاية
أى وزارة .
هذا ما يدفعنى الآن إلى التوقيع على هذا البيان بشكل منفرد . أنا أعلن عن
اشمئزازى من المجازر التى ترتكبها يومياً المدرسة الصهيونية الحديثة ، ولا
يهمنى رأى محترفى الشيوعية أو محترفى معاداة الشيوعية . أنا أطالب بترشيح
آرييل شارون لجائزة نوبل فى القتل . سامحونى إذا قلت أيضاً أننى أخجل من
ارتباط اسمى بجائزة نوبل . أنا أعلن عن إعجابى غير المحدود ببطولة الشعب
الفلسطينى الذى يقاوم الإبادة ، بالرغم من إنكار القوى الأعظم أو المثقفين
الجبناء أو وسائل الإعلام أو حتى بعض العرب لوجوده . بشكل منفرد إذن ، أنا
أوقع على هذا البيان باسمى : جابرييل جارثيا ماركيث .
ملحوظة من المـترجـم : كـطفل يحاول إيجاد ثقب صغير فى أسوار الـ( مائة
سنة من العزلة ) .. أنا أيضاً، يا جابرييل جارثيا ماركيث، أوقع عليه معك :
أحمد يونس