|
النَّفي الجدلي: فهم التناقضات وتحليل التغيرات
ادم عربي
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8103 - 2024 / 9 / 17 - 16:49
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
بقلم : د . ادم عربي
لفهمِ واستيعابِ مفهومِ النَّفي في الجدلِ الهيجليِّ والماركسيِّ، يجبُ علينا أولاً أنْ نتقنَ استخدامَ هذه الأداةِ المنطقيةِ العظيمةِ في التحليلِ والتفسيرِ.
فكثيرون قد أخفقوا في هذا الاستخدامِ لأنَّهم فهموا النَّفي بطريقةٍ تتعارضُ مع معناهُ الجدليِّ.
النَّفي الجدليُّ، على عكسِ النفي الميتافيزيقيِّ، هو فعلٌ يتطلبُ وجودَ عنصرين متلازمين: النافي والمنفي. هذان العنصران يتواجدان في نفسِ المكانِ والزمانِ ويعيشان معاً ويزولان معاً.
لنأخذ بعضَ الأمثلةِ: الحَفْر، الرَّفْع، والظُّلْم.
الحفرُ يستلزمُ وجودَ الحافرِ والمحفورِ؛ فلا يمكنُ أنْ يكونَ هناك حافرٌ دون محفورٍ، ولا محفورٌ دون حافرٍ.
الرفعُ يتطلبُ وجودَ الرافعِ والمرفوعِ؛ فلا يمكنُ أنْ يكونَ هناك رافعٌ دون مرفوعٍ، ولا مرفوعٌ دون رافعٍ.
الظلمُ يستدعي وجودَ الظالمِ والمظلومِ؛ فلا يمكنُ أنْ يكونَ هناك ظالمٌ دون مظلومٍ، ولا مظلومٌ دون ظالمٍ.
تأملوا جسمًا متماسكًا بدأ يتصدعُ ويتفتتُ ويتجزأُ. كيف يمكنُ لهذا الجسمِ، من حيثُ تماسكهِ، أنْ يتغيرَ وصولاً للتفكك؟.
إنَّه، بصفتهِ متماسكًا، لنْ يتغيرَ إذا رُفعتْ درجة حرارته مثلاً. تغيُّرهُ في هذه الحالةِ يعني نفيَ تماسكهِ؛ أي أنْ يتفتتَ ويتجزأَ. فالتغييرُ لا معنى له إلَّا إذا كان تحولًا للشيءِ إلى نقيضهِ.
ما هو معنى نفيِ التماسكِ؟ وكيف يمكنُ أنْ يُنفى التماسكُ بالتفتتِ؟
أولاً، النفيُ لا يكونُ إلَّا لما هو موجودٌ؛ فلا يمكنُ أنْ يتفتتَ إلَّا جسمٌ كان في حالةِ تماسكٍ. وجودُ التماسكِ هو بدايةُ عمليةِ نفيهِ.
تخيل جدارًا متماسكًا، وهو الآن في حالةِ نفيٍ لتماسكهِ. هذا التماسكُ يُنفى عندما يظهرُ أولُ وأصغرُ تصدعٍ في الجدارِ. هناك من يعتقدُ أو يتوهمُ أنَّ الجدارَ كان في حالةِ تماسكٍ خالصٍ ومطلقٍ قبل ظهورِ أولِ تصدعٍ، دون أي أثرٍ للنقيضِ، وهو التفتتُ.
لا يمكنُ أنْ يوجدَ تماسكٌ خالصٌ من نقيضهِ؛ فالتماسكُ والتفتتُ يتواجدان معًا في نفسِ المكانِ والزمانِ بشكلٍ لا ينفصلُ. دائمًا ما يكونُ هناك جزءٌ من التفتتِ أو الميلِ إليهِ داخلَ التماسكِ الذي يبدو لنا خاليًا من أي أثرٍ للتفتتِ.
عندما يظهرُ أولُ تصدعٍ في الجدارِ المتماسكِ، نقولُ إنَّ تماسكهُ قد نُفي. ومع ظهورِ هذا التصدعِ الأوليِّ، يصبحُ الجدارُ في حالةِ تصدعٍ.
إذا تأملنا في هذه الحالةِ، سنجدُ أنَّ التماسكَ لمْ يختفِ تمامًا من الجدارِ؛ بلْ ما زال يتواجدُ بجانبِ التفتتِ. وهذا ما يفسرُ قابليةَ الجدارِ لمزيدٍ من التصدعِ. فكيف يمكنُ للجدارِ أنْ يتصدعَ أكثرَ إذا نُفيَ تماسكهُ نفيًا ميتافيزيقيًا، أي إذا خلا تمامًا وبالمعنى المطلقِ من التماسكِ؟!
النفيُ الجدليُّ للتماسكِ يعتمدُ على ثلاثةِ شروطٍ: وجودُ التماسكِ، التغلبُ على التماسكِ وقواهُ، والاحتفاظُ بالتماسكِ وقواهُ في الوقتِ نفسهِ.
التفتتُ لا يمكنُ أنْ يحدثَ إلَّا من تماسكٍ موجودٍ ومن إلغاءِ وجودِ هذا التماسكِ. لكن هذا التفتتَ لنْ يستمرَ لحظةً واحدةً إذا زال التماسكُ تمامًا؛ فالضدانِ يولدانِ معًا، يعيشانِ معًا، ويزولانِ معًا.
لتبسيطِ الفكرةِ، تخيل أنَّ العلاقةَ بينك وبين خصمكَ تشبهُ علاقةَ الضدينِ. كلاكما يظهرُ مع الآخرِ، يعيشُ معهُ، ويموتُ معهُ. أنتما نقيضانِ في صراعٍ دائمٍ لا ينتهي. كلٌّ منكما يسعى للسيطرةِ على الآخرِ وإخضاعهِ، ولكن لا يمكنُ لأحدكما القضاءُ على الآخرِ تمامًا؛ لأنَّ زوالَ أحدكما يعني زوالَ الآخرِ أيضًا. لذلك، يسعى كلٌّ منكما للتفوقِ على الآخرِ مع الحفاظِ على وجودهِ. الهدفُ النهائيُّ لكلٍّ منكما هو السيطرةُ الكاملةُ على الآخرِ.
لوْ أدركنا جوهرَ النفيِ بهذا العمقِ، لوجدنا أنَّ العدالةَ ليست سوى الظلمِ حين يُهرمُ، ويظلُ حاضرًا في آنٍ واحدٍ. والحركةُ ليست إلا سكونًا متغلبًا عليهِ، في آنٍ واحدٍ. والإيمانُ، هو الكفرُ حين يُهزمُ ويستمرُ في آنٍ واحدٍ. والحريةُ تصبحُ عبوديةً مهزومةً مع الاحتفاظِ بها بنفسِ الوقتِ. والذكورةُ ليست إلا أنوثةً متغلبًا عليها، مع الاحتفاظِ بها بنفسِ الوقتِ. والنظامُ، في حقيقتهِ، هو الفوضى المهزومةُ، لكنها موجودةٌ في الوقتِ نفسهِ.
يجبُ علينا أنْ نرى كلَّ شيءٍ على أنهُ نقيضهُ الذي تم التغلبُ عليهِ، ومع ذلك تم الاحتفاظُ بهِ في نفسِ الوقتِ. بهذه الطريقةِ، نفهمُ الأشياءَ والظواهرَ والأحداثَ والعملياتِ والخصائصِ بعمقٍ أكبرَ، وبحيويةٍ وقوةٍ ودقةٍ أكثرَ.
إِنَّ الخالص من الأشياءِ لا وُجُودَ له، وَيجِبُ أَنْ لا يشذَّ عن قَانونِ التَّحولِ إِلَى النَقيضِ، فكيفَ لِلشَّيءِ أَنْ يتَحوَلَ إِلَى نقِيضهِ إِنْ كَانَ خَالِصًا، بِمعنَى آخَرِ إِذَا كَانَ غَيرَ مَنطُوٍّ عَلَى نَقِيضِهِ؟!. وبهذا المعنى ابحثوا عَنِ الظُّلمِ فِي العدلِ ، وَعنِ العدلِ في الظُّلْمِ وَعنِ الدِيموقراطيَة فِي الدِكتاتوريَةِ، وَعَنِ الدِكتاتورِيَةِ فِي الدِيموقراطيَةِ، عنِ الفضيلَةِ فِي الرَّذيلةِ وَعنِ الرَذلَةِ في الفَضِيلَةِ، عنِ العلمِ فِي الجهلِ وَعنِ الجهلِ في العلمِ ، فَإِنَّ في هذَا البحثِ تكمنُ علميَتُهُ.
#ادم_عربي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأملات!
-
الإرادة الحرة: بين القضاء والقدر وصراع الذات!
-
كثيراً ما!
-
العدم فكرة غبية!
-
تجليات!
-
المفاوضات حول إنهاء الحرب على غزة: إلى أين؟!
-
العالَم الذي جَعَلَتْ منه الولايات المتحدة ضاحيةً لها!
-
مرايانا!
-
أَخْرُجُ في اللَّيْلِ
-
السَّطوُ!
-
إسرائيل... الوجوه المتعددة لعملة واحدة!
-
جلنار أو زهر الرمان!
-
-الحريديم-.. القنبلة الموقوتة في -إسرائيل!
-
عودة الاغتيال السياسي إلى أميركا: خطر الحرب الأهليّة
-
مشروع 2025.. خطة للحكم أم وصفة لتدمير أميركا؟
-
كاميلا هاريس رئيسة ام شرارة في برميل البارود؟
-
نساء!
-
مفارقة -الابن- أكبر من أبيه!
-
تجربة آينشتاين معَ الحقيقة!
-
سأقولُ ما لمْ يقلْهُ أحد!
المزيد.....
-
وسط جدل أنه -استسلام-.. عمدة بلدية كريات شمونة يكشف لـCNN ما
...
-
-معاريف- تهاجم نتنياهو وتصفه بالبارع في -خلق الأوهام-
-
الخارجية الإيرانية ترحب بوقف إطلاق النار في لبنان
-
بعد طردها دبلوماسيا في السفارة البريطانية.. موسكو تحذر لندن
...
-
مراسلنا: مقتل 8 فلسطينيين بينهم أطفال في قصف إسرائيلي استهدف
...
-
مع تفعيل -وقف إطلاق النار.. -الجيش الإسرائيلي يوجه إنذارا عا
...
-
هواوي تزيح الستار عن هاتفها المتطور القابل للطي
-
-الإندبندنت-: سجون بريطانيا تكتظ بالسجناء والقوارض والبق وال
...
-
ترامب يوقع مذكرة تفاهم مع البيت الأبيض لبدء عملية انتقال الس
...
-
بعد سريان الهدنة.. الجيش الإسرائيلي يحذر نازحين من العودة إل
...
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|