|
المثقف والأنهيار
موسى الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 1774 - 2006 / 12 / 24 - 10:33
المحور:
اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
سبق وان نبه اكثر من مثقف عراقي من التيار الذي يمكن ان نطلق عليه تسمية الليبرالي التقدمي، من اصحاب الثقافة الاشمل، والافق الاوسع، نبهوا الى العاصفة التي تأخذ بلدنا في دوامة الفاجعة، ليمضي في متاهة تاريخية، لايمكن لاحد معرفة نهايتها.
وكان جمع كبير من هؤلاء ينذر بمخاطرها على كيان العراق، بعد ان سمع هذا البعض اصوات انهيار اعمدة هذا البناء العراقي المتهرىء، الممزق، المنتهك، المعذب، والذي اصبح جميع ابنائه مجرد مشاريع للقتل.
المثقفون العراقيون التقدميون، كانوا شهودا، عاشوا ولايزالون مع تذبدبات هذا البناء بتقلباته ، يتفاعلون بكل تفاصيله، ويثيرون اليوم كما في الماضي جميع الاسئلة حول مستقبله المبهم الذي عاش القهر اكثر من ثلاثة عقود ليصبح اليوم خندقاً للموت تنظر اليه العيون بروح صابرة ، فاظهروا هشاشة الاسس التي قام عليها هذا البناء باكمله، ليثبتوا ان مقاومته قد وصلت الى حدودها الدنيا. واذا لم يحصل اصلاح سريع خارج حدود الذبح المقيتة وانهار دمائها الجارية، في هذا الخندق المظلم، فان شيئا لن يستطيع ان يوقف الحركة التي تعصف ببناءه من الداخل والخارج معا.
هذه الصرخة التي قالها عدد كبير من المثقفين العراقيين، الذين لم ينصت اليهم من له مصلحة في حصول الكارثة, شعروا بان على عاتقهم تقع مسؤولية اعادة النظر في منظومة الافكار، واسس الخطاب الذي ساد مباشرة بعد سقوط النظام المباد ،بما يقتضي ابراز ضخامة المخاطر النفسية والفكرية والثقافية التي كانت سائدة، هي حصيلة منطقية لثلاثين عاما من ثقافة القهر، اصبح فيها الانسان العراقي مرغما على البحث الدائم اليومي عن مغزى لحياته في اشارات الموت التي تلقاها في الامس واليوم على السواء ، حيث نما الارهاب الجسدي والفكري، فلم يعد الناس في هذا الكيان يعيشون حياة طبيعية، بل انهم يعيشون مصائرهم فقط ، كل منهم يشعر بانه مشروع للقتل،اذ تحول القتل الاعمى، والتصدي للاخر ، الى سلعة رائجة هنا وهناك لوقف عملية المراجعة الشاملة بكل دقائقها وتفاصيلها، والتي اكدتها هواجس كل الناس الطيبين وحقائقهم واحلامهم التي حملوها بين ضلوعهم دهرا من الزمن .
منذ البداية دوت صرخة المثقفين العراقيين لتشحذ النزوع العارم من اجل الحرية والكرامة الذاتية،ورفعت اصبعها الى ما يجرنا ويجر شعبنا الى الهاوية السحيقة ، ضمن مناخات من الرعب التي اصبحت هي السائدة الان، فقطرات الدم والخيبة الكبيرة تتساقط هنا وهناك.
المثقف العراقي التقدمي الذي ناضل ضد عملية التهميش والتجاهل، اختمرت في روحه اصوات رنين الحرية، فكان السبّاق الى فضح عمليات خداع الذات الذي اصبح جزءا عضويا من ثقافتنا العراقية، مارسته احزاب وحكومات، وطوائف، ومؤسسات، بقوة في مجال الثقافة والادب والفن، وما زالت الى يومنا هذا، مادام العراقيون لم يستطع أي منهم ان يكون ابنا لذات حرة مستقلة، فوجدوا انفسهم بعد سنين من المذلة والمهانة التي لحقت بهم ، يلجأون الى الذات الكبيرة، الطائفة، العشيرة للاحتماء بها في مواجهة تهديد الضمير، وها نحن نراهم يوغلون اكثر فاكثر بهذا الاحتماء والايغال اكثر فاكثر بافعالهم المغالية هذه، يبتعدون عن انفسهم ويغتربون عن ماضيهم، ويبتعدون عن ذاتهم وطبيعتهم الانسانية ليصبحوا شعبا يفتك بنفسه بالمعنى الحرفي للكلمة.
وبالطبع ، فان المثقف التقدمي، في فورة الدم الحالية التي تغلي في جسد المجتمع العراقي، ليس مسؤولا عما يحصل الان، لانه ليس شريكا في صنع اي قرار، بل هو مستبعد ولايسمع صوته، فالسلطة لاتستمع الى صوت الثقافة، لانها مشحونة باصوات الطوائف، كما انها لاتقر توجها سوى توجهات حلفائها.
لقد وجه المثقفون التقدميون على صفحات الجرائد والمواقع الالكترونية صرخاتهم بنبذ العنف كسلوك اجتماعي، وطالبوا بضرورة تأسيس مرحلة الثقة بالنفس، بكونها البداية الاساسية لتكوين خصوصيتهم الجديدة، ففي الحرب لاتوجد الا صداقات الموت والقتلة، وفي زمن السلم يمكن التعلم بالسير في طرقات الحياة الذي تزدهر بها ظاهرة التسامح التي تمتزج بها وتتآلف كل التنوعات العرقية والطائفية العراقية لتصبح المصدر الاساسي للثروة الروحية للشعب العراقي.
كان المثقفون التقدميون يؤكدون بان احداث الصدمة المرجوة في الوعي الجماهيري لخلق اسس مرحلة بناء جديدة تقتضي ابراز ضخامة المخاطر وعمق التهديدات التي يحملها المشروع الطائفي، اذ ان مجتمعا قائما على هذا القدر العظيم من التعدد، يكون التعدد فيه مصدر خير وسلم تبعا لمسيرة الوضع السياسي الذي يعيشه الناس.
ان القطيعة مع الفكر والاشكاليات والطروحات القديمة يستدعي ايجاد محاور ومستويات للعمل الفكري الجديد الذي بدوره يستدعي ابراز المشاكل والازمات التي كان يخفيها النظام السابق.
ولقد فتح المثقفون العراقيون في الداخل والخارج باب النقاش من اول ايام السقوط ، فطالبوا بابراز الجوهري والاساسي الذي يفترض التضحية بالجزئيات والتفاصيل، والتحرر من المسبقات البالية التي بناها النظام السابق، طالبوا بكسر النظام الفكري والثقافي، وليس كسر الافراد والمؤسسات الحساسة والمهمة في بناء الدولة، طالبوا العراقيين للاخذ بزمام المبادرة بانفسهم، وطالبوا الحكومات المتعاقبة في توفيرها للاستقرار في البلاد من خلال زيادة العسكرية العراقية كما ونوعا، وحذروا من تفشي الفساد الاداري منذ اول ايام السقوط في مرافق الدولة، كما حذروا من ان العنف على الابواب سيزداد حدة وشراسة، يغذيه التمرد والمليشيات وفرق الموت والقاعدة وعصابات الجريمة المنظمة. الا ان الارهاب الفكري وعملية توزيع الغنائم الطائفية التي هيأت وعززت مسيرة بروزمواقع القوة والتنافس الطائفي والعشائري، اصبحت منذ ذلك الوقت سلعة رائجة شجعت عليه جميع القوى الزاحفة لاستلام السلطة من اجل وقف عملية الانفتاح وشراكة الجميع لما يمكن ان يكون عليه حال العراق في المستقبل، فاصبحت الديمقراطية فترة اقتسام المغانم ضمن خنادق طائفية، ليعود الشعب جائعا، طائعا، مقهورا في معسكرات اعتقال كبيرة تشرف عليها الطوائف التي تظهر بمظهر المدافع والمحسن الكريم.
لقد وجد اصحاب هذا التيار الثقافي التقدمي بعد سقوط النظام المباد، ان يطلقوا صرختهم، وككل صرخة ، كانت الدعوات والنداءات والكتابات، تأكيدا لقيم وافكار كبرى، ودفعا لاشكاليات نقدية، وقطيعة داخل الرؤية، فانهم اشاروا الى نقاط الالتقاء، وفضحوا قباحة الصورة التي تنبأوا بها لعراق اليوم والتي تتهدم وتتآكل بها جدران هذا البناء المائل للسقوط ،اكثر مما كنا جميعا يحملنا حلم الترمم، ليبرز سواد المنظر العراقي وقباحة صورته وليستفز العزيمة ويدعو لعواصف الدم في الشوارع والساحات والمدارس والمساجد والكنائس.
ككل صرخة، ، كان هذا التيار ولايزال بشحنته الانفعالية ، ومع ما يعانيه من رؤية توحش ادوات القمع والارهاب المسلطة على العديد من افراده بالداخل، يحمل مركبات اساسية لحججه العقلية. يتعدى المطالبة السلبية باصلاح التركيبات الطائفية وتسليح ميلشياتها، والتركيز على اصلاح النظم الاقتصادية والاجتماعية والفكرية والثقافية بما يساهم في التخفيف من فساد من يحكم ومن فساد اجهزة الدولة، وتقليص التفاوت المتزايد من طبقات وفئات المجتمع، وزيادة الاهتمام بالعدل الاجتماعي وتطبيق المساواة والقانون واحترام الحريات العامة الاساسية، الا ان الرد جاء صاعقا، تمثل بالمذابح الجماعية التي رافقتها دون تمييز حالة الترحم على ما كان الحال في عهد النظام الفاشي السابق.
لقد احدثت هذه المواجهات المسلحة الدموية، وهي الاولى من نوعها في تاريخ العراق المعاصر، صدمة عنيفة في الوعي الاجتماعي الشعبي، وانجبت شرخا عميقا في الحياة، وحطمت ثقة الناس بقيادة منتخبة ديمقراطيا، وزعزعت ايمان الناس بنفسها، وسّودت عيون كل الاقليات الدينية والقومية والاثنية في عيون المستقبل وجعلته فريسة لاعنف مشاعر اليأس والقنوط والاحباط ، فالقتلة اليوم يتقاذفون مسؤولية القتل في ما بينهم والبلاد تئن وتموت وتحيى ليتسنى لهؤلاء القتلة ان يغسلوا ايديهم بدماء الابرياء.
لقد اعطيت للمليشيات المتحاربة قوة تدعيم مواقفها لتكون مبررا لتشديد البطش وجعله سياسة بديلة لكل سياسة شرعية ممكنة، كما نجحت بتحطيم الامل بخلق مستقبل جديد، بعد ان حولت الناس الى عجينة تتصرف بها وتصوغها كما تشاء، بعد ان انتزعت عنها الروح العميقة بالسلام والامان، نزعت عنها كرامتها الذاتية واحترامها لنفسها وتراثها وتاريخها، و كل هذا دفع بالمجتمع العراقي الى الاختناق البطيء والتقهقر المادي والروحي، اي تحول الى تربة لعبودية جديدة اسمها الطائفية، تخصب كل بذور الاستبداد والقهر.
المثقف التقدمي ينظر اليوم وقلبة بيده الى انسداد الافاق شيئا فشيئا والذي ادخل الجميع ، شعبا وسلطة في نفق مظلم لاندري الى متى يدخل اليه بعض بصيص من النور. هل يأتي هذا البصيص مع المشروع الديمقراطي في العراق( تقرير بيكر- هاملتون)؟.
ان الواجب الذي يتحتم علينا جميعا هو ان لانرفع ايادي الاحتجاج والرفض، بل يجب علينا ان ننظر الى كل أمل بعين الاعتبار ، وان نستخدم كل ملكات النقد العلمية والابداعية التي ترتبط اولا بخلق مقاييس مشتركة تجيب, وتدرس مشاكلا مشتركة وتعكس مصالحا مشتركة، وبهذا يكون الوطن في الاطار الضروري ، من اجل الوصول الى غلق مرحلة دامية من تاريخنا .
ان الوعي النقدي والالتحام الفكري بكل آمال شعبنا يعطيان لكل المخلصين القدرة على التفكير، فبقدر ما يكون الوعي بمصلحة الجميع موحدا ومشتركا ومتواصلا في اطار حرية الفكر والتعبير، لا على اساس القمع والاكراه والتدجيل، تنشأ القيم الجديدة والافكار الجديدة وساحة تفاهم جديدة مشتركة، جنبا الى جنب مع الحوار الحقيقي بين الافكار والامال والطموحات التي يحملها الواقع باعماقه.
#موسى_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
ضرب وإغتصاب : عنف الأزواج في الغرب
-
الصابئة المندائيون في العراق يشعرون بالخوف
-
حضور متزايد للأب في تربية الطفل وتطوير مهاراته
المزيد.....
-
شاهد لحظة قصف مقاتلات إسرائيلية ضاحية بيروت.. وحزب الله يضرب
...
-
خامنئي: يجب تعزيز قدرات قوات التعبئة و-الباسيج-
-
وساطة مهدّدة ومعركة ملتهبة..هوكستين يُلوّح بالانسحاب ومصير ا
...
-
جامعة قازان الروسية تفتتح فرعا لها في الإمارات العربية
-
زالوجني يقضي على حلم زيلينسكي
-
كيف ستكون سياسة ترامب شرق الأوسطية في ولايته الثانية؟
-
مراسلتنا: تواصل الاشتباكات في جنوب لبنان
-
ابتكار عدسة فريدة لأكثر أنواع الصرع انتشارا
-
مقتل مرتزق فنلندي سادس في صفوف قوات كييف (صورة)
-
جنرال أمريكي: -الصينيون هنا. الحرب العالمية الثالثة بدأت-!
المزيد.....
-
الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات
/ صباح كنجي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو
...
/ الحزب الشيوعي العراقي
-
المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت
...
/ ثامر عباس
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد
...
/ كاظم حبيب
-
لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|