|
الأنتقائية بين الفردانية و المناهج الفكرية المدرسية
مظهر محمد صالح
الحوار المتمدن-العدد: 8095 - 2024 / 9 / 9 - 16:12
المحور:
قضايا ثقافية
من المواضيع التي اثارها تاريخ الفكر الانساني هي مرونة التعاطي مع مفردة الانتقائية او النزعة الانتقائية eclecticism في الاستنباط او الاستقراء او الوصف ، والانتقائية هي ميل في ممارسة استخلاص الأفكار أو الأسلوب أو الذوق من مجموعة واسعة ومتنوعة من المصادر. وعلى مستوى تأريخ الفلسفة كان الانتقائيون الأوائل نمط من الفلاسفه الذين حاولوا مزج وتنسيق أفكار من مختلف التقاليد الفلسفية لتقديم تفسيرات وتطبيقات جديدة تتناسب مع احتياجاتهم الخاصة ، ولاسيما ان الانتقائية على سبيل المثال كانت ضرورية في العصر الهلنستي والروماني ،لأن الفلاسفة وجدوا أنفسهم في مجتمع متنوع من الناحية الثقافية والفكرية، حيث لم تعد الفلسفات الفردية وحدها كافية لتفسير التعقيدات الجديدة في العالم ، ما جعلهم يتجهون إلى الجمع بين الأفكار من مختلف الفلسفات لتطوير نظام فكري أكثر شمولاً واستجابة لتحديات عصرهم. وعلى راس اولئك الانتقائيين هو بوتامون الإسكندري (Potamon of Alexandria) الذي عُد من أوائل الفلاسفة الانتقائيين في العصر الهلنستي ،حيث عاش في القرن الأول قبل الميلاد وقام (بوتامون ) بتجميع أفكار مختلفة من مدارس الفلسفة القديمة، بما في ذلك الأفلاطونية والرواقية والأرسطية، محاولاً مزج ما عده الأفضل من كل منها. اما على المستوى المدرسي الحديث ، فقد عدت مدرسة مابعد الحداثة . (Postmodernisms) هي واحدة من المدارس التي تشكك في “الحقيقة” التاريخية الموحدة وتتبنى وجهات نظر متعددة. فقد استخدم المؤرخون الانتقائيون عناصر ما بعد الحداثة لتفسير التاريخ من خلال عيون متعددة ومصادر متنوعة، ومنهم على سبيل المثال جاك دريدا (Jacque Derrida - 2004-1930 وهو مؤسس نظرية (التفكيك Deconstruction ) التي تركز على تحليل النصوص للكشف عن التناقضات والغموضات التي تظهر فيها. اذ رفض دريدا على سبيل المثال الفكرة التقليدية التي تقول بأن النصوص تحمل معنى ثابتًا، مشيرًا إلى أن المعاني تتغير باستمرار حسب السياق. اذ تعد هذه الفكرة مركزية في الفكر ما بعد الحداثي الذي يرفض الثبات ويدعو إلى السيولة الفكرية.فهؤلاء الفلاسفة والمفكرون استخدموا نهجًا انتقائيًا من خلال دمج الأفكار والنظريات من مدارس مختلفة لتقديم رؤى متكاملة وشاملة تتجاوز الحدود التقليدية للتفكير الفلسفي. و على الرغم مما تقدم ، هناك مخاطر حقيقية تنصرف اليها الانتقائية الفردية individual eclecticism كمنهج شخصي ،حيث يستعين الفرد بأفكار أو أساليب أو معتقدات متنوعة من تقاليد أو مدارس فكرية مختلفة لتشكيل منظور فريد خاص به. بدلاً من الالتزام بأيديولوجية أو نظام واحد، اذ يقوم الشخص الذي يمارس (الانتقائية الفردية) بدمج العناصر الأكثر صلة أو فائدة من مصادر متعددة لتناسب احتياجاته أو ظروفه. ومن مخاطر تلك الانتقائية الفردية هي مسالتي التناقض والفهم السطحي : ففي غياب إطار توجيهي واضح، قد تتعارض الأفكار أو الممارسات أو تفتقر إلى التماسك وهو جوهر (التناقض ) الذي يعبر عن الاحباط. فضلاً عن (الفهم السطحي )الذي يؤدي اختيار الأفكار من تقاليد مختلفة دون فهم كامل لعمقها أو سياقها والتوجه إلى منظور ضحل أو مجزأ. وفي مقال مهم تصدى فيه المفكر السياسي ابراهيم العبادي الى ظاهرة اطلق عليها في عموده الاسبوعي:تشوهات الذاكرة السياسية في العراق ، اذ يقول العبادي بهذا الشأن: ((ان استعمالات الذاكرة السياسية تجري وفقا لسياق من التذكر غير الموضوعي ،تذكر انفعالي مريض او كما يسميه الكاتب البحراني الدكتور نادر كاظم (امراض التذكر ) فأهداف التذكر تخضع لتوظيف سياسي او ايديولوجي او طائفي واع،احيانا لايعي ولايقصد المتذكر استعماله لذاكرته واستدعاءه الانتقائي لصور الماضي لدعم محاججاته ومجادلاته ، اذ سرعان مايتراجع عن (المدح )غير المقصود للماضي السياسي البائس لكنه يبررها ببؤس الحاضر الذي يراه غريبا عنه ،انه لايحتمل حديثا مفصلا عبر وسائل الاعلام عن الفساد الملياري والفضائحيات السياسية التي تجري ،فيراها نمطاً من انماط العبث والاستهتار الذي ينبغي ان لايكون . غير ان وقائع الماضي المحجوب تفصيلا هي ماتجعله يرى الماضي افضل من الحاضر ،ولو ظهرت له التفاصيل لأذعن لخطأ الاستعمال الانتقائي للذاكرة والتاريخ …..ويواصل المفكر ابراهيم العبادي القول: اذ يجري هذا بشكل يومي في يومياتنا المترعة بالمهازل السياسية ،ففيما كان المفترض ان ترتقي الممارسة السياسة والسلوك السياسي الى مستوى توقع الجمهور بما يعيد لديه تنشيط واستنطاق الذاكرة السياسية بمنطق معقول ،لتكون هذه الذاكرة في خدمة مشروع بناء الدولة وليس العكس ،فنحن في خضم فوضى استعمال الذاكرة بما يدفع بعض الناس الى تجميل القبيح وتقبيح المقبول او الجيد ،لان الذاكرة صارت لعبة سياسية وليست سجلا للاعتبار والفهم واكتساب الخبرات والاحتراز من تكرار المهازل وارتكاب الاخطاء الفاحشة . فالاستدعاء الانتقائي لأحداث الماضي وصفحاته لايساعد على التفكر والاعتبار والتخلق بأخلاقيات الممارسة السليمة للسلطة وفق أسسها الدستورية واشتراطاتها الادارية والقانونية والاخلاقية والعرفية .)). وبناء على ما تقدم ، فان بلادنا هي ربما بأمس الحاجة الى مدرسة فكرية متكاملة تعتمد المنهج الانتقائي الذي يقود الى تحصين الافراد من الحنين المزيف Nostalgia for a fake past الى ماضي نظمي قمعي عاشه العراق في حقب سحقيه وامسى يخضع لمخاطر ( الانتقائية الفردية) .فبين الحين والاخر تمارس الانتقائية الفردية التشويش على البنية الفكرية الايجابية الوطنية للحاضر والمستقبل ولاسيما في مجال تناول الانتقائية التاريخية . في وقت تشير المدارس الانتقائية التاريخية إلى تلك التي تعتمد على مزيج من المناهج والأساليب المختلفة لتحليل الأحداث الماضية ،بدلاً من التمسك بنظرية واحدة أو منظور معين . اذ تسعى المدارس التاريخية إلى انتقاء الأفكار والعناصر من مصادر متعددة لفهم التاريخ بشكل أوسع وأكثر شمولاً. ختاما، نرى اهمية انشاء مدرسة في الانتقائية الوطنية ، بكونها طريقة تكيفية وتكاملية تعزز التنوع والشمول في الفكر والممارسة سواء في الفلسفة او الفنون والاداب او حتى مجال الطب و علم النفس ، فهي مهمة جوهرية لابد من ان تتولاها المؤسسات الثقافية الرسمية كالجامعات ومراكز الابحاث فضلا عن المؤسسات والمنتديات الثقافية نفسها ذلك لتحصين المجتمع من مخاطر ( الانتقائية الفردية ) ومشكلات التشتت الماضوي الفرداني وما يحمله من فقدان في الصدقية و من تحيزات فكرية خطيرة على انتظام مسارات الحياة الثقافية الحاضرة والمستقبلية في بلادنا.
#مظهر_محمد_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الذكرى الثالثة والخمسين في معتقل شرق المتوسط-قصر النهاية
-
نظرية المجال العام في حاضنة الأوليغارشية- القبلية
-
المناظرات العامة : بين الحياد والتحيز الفكري
-
حوار الاخلاق في الثقافة المشرقية.
-
البنوك المركزية تغادر الليبرالية الجديدة .
-
معركة ايديولوجية من انماط العالم الثالث
-
حروب الشرق الاوسط الكبير
-
ريتشارد مورفي ومستقبل الشرق الاوسط.
-
نحو صندوق عراقي للثروة السيادية: افكار تاسيسية
-
ملامح التنمية السياسية في الانماط الريعية المكوناتية
-
سايكولوجيا الجماهير في العالم الرقمي الراهن
-
ثقافة الفكر المشرقي : لمحات حياتية
-
البطل السياسي في الديمقراطيات الناشئة: رجل الدولة ام رجل الس
...
-
الثنائية في الفلسفة المشرقية الحديثة (حوار في القصة والرافد
...
-
عالم يتشكل من جديد … عالم مابعد غزة
-
الثقافة العضوية وانعطاف الوعي : الجامعات الغربية انموذجا ّ
-
جدي والغزاة: واقعة في ليلة الاحتلال البريطاني 1917
-
الشخصية العراقية في رحاب الجدل الاكاديمي.
-
صعود الدولة الامة وهبوطها : العراق بعد 9 نيسان 2003
-
المثقفون في حاضنة العنف الإديولوجي الشرقي.
المزيد.....
-
-جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال
...
-
مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش
...
-
ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف
...
-
ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
-
حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك
...
-
الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر
...
-
البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
-
الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
-
-أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك
...
-
ملكة و-زير رجال-!
المزيد.....
|