|
مذكرات تائب - ٤
محمد عبد القادر الفار
كاتب
(Mohammad Abdel Qader Alfar)
الحوار المتمدن-العدد: 8092 - 2024 / 9 / 6 - 20:29
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
*كانت سنة الثانوية العامة مفصلية في حياتي، تجربة مليئة بالتحديات التي كان عليّ مواجهتها وأنا أحمل عبء فقدان والدي، رحمه الله، خلال تلك الفترة الحرجة. رغم الحزن العميق الذي شعرت به، تمكنت بفضل الله من أن أتحلى بالصبر والتجلد، وحصلت على معدل مرتفع جدًّا، أهلني لدخول كلية الطب على النظام التنافسي. ولكن، تأثير وفاة والدي لم يختفِ تمامًا، بل بدأ يظهر بعد عدة أشهر، إذ بدأت أستوعب فداحة الخسارة التي أصابتني، وكان لهذه الفاجعة أثر عميق على نفسي.
خلال هذه الفترة، كان لدي تجربة قصيرة ومميزة مع التوبة، امتدت من أواخر 2005 إلى أواخر 2006. كنت قد ظننت أنني تجاوزت جميع النوازع التي ذكرتها في الأجزاء السابقة، لكن ما لبثت أن اكتشفت أنني كنت أقمعها دون أن أتحرر منها فعليًا. تلك التوبة لم تدم طويلاً، إذ انهرت بعد فترة قصيرة، لأدخل فيما أصفه بـ"العشرية السوداء"، وهي الفترة الأكثر ظلامًا وإذلالاً في حياتي، حيث ابتعدت تمامًا عن الدين، ودخلت في دوامة من الفشل الأكاديمي والعملي، وتدهورت أخلاقي وسلوكي بشكل كبير.
في تلك الفترة المظلمة التي امتدت من أواخر 2006 حتى أواخر 2016، اتخذت أسوأ قرار في حياتي، وهو ترك كلية الطب بعد ثلاث سنوات قضيتها فيها. لم يكن أدائي سيئًا في الطب، بل كان مقبولاً، لكنني اتخذت هذا القرار المصيري بشكل غير مبرر، والتحقت بتخصص هندسة العمارة. هذا القرار الذي أندم عليه أشد الندم إلى اليوم، فقد نزل بي من أعلى الاحتمالات المهنية إلى أدناها، وما زلت أدفع ثمنه حتى اللحظة، وربما سأظل أدفع ثمنه طوال حياتي.
لا أزال حتى اليوم أتساءل: لماذا اخترت هذا التخصص؟ خلال تلك الفترة أيضًا، فقدت صداقات غالية كانت تربطني بالشباب المتدين والناجح، واخترت أن أحيط نفسي بأشخاص فاشلين من ملحدين ويساريين، ممن كان سلوكهم متدهورًا أكاديميًّا وأخلاقيًّا. وللأسف، انعكست صحبتهم السيئة عليّ، حيث تأثرت بأفكارهم وسلوكياتهم الفاسدة.
كانت نهاية هذه العشرية السوداء بتوفيق من الله عندما حصلت على وظيفة تدريس في الجامعة، والتي أعادت ترتيب حياتي إلى حد ما. كان ذلك أول عمل طويل المدى ألتزم به، وكان له أثر إيجابي كبير في إعادة ضبط إيقاع حياتي. الخطوة الأهم كانت زواجي في تلك الفترة، والذي ساعدني كثيرًا في العودة إلى الطريق الصحيح، وإن كان ذلك بشكل تدريجي.
وبينما أخرجني توفيق الله من ظلمات تلك السنوات، فإنني مررت بفترة أخرى خطيرة بين أواخر 2014 وأواسط 2016، وهي ما أسميها بـ"الفترة الباطنية". كنت قد انتقلت إلى المملكة المتحدة لإكمال دراستي في جامعة برمنغهام، وكانت تلك الفترة هادئة ومريحة، وهو ما أتاح لي الغوص في أفكاري الباطنية. حينها، توهمت أمورًا خطيرة حول ما يسمى بـ"العلم الخاص" و"الكشف"، حتى كدت أظن أنني نبي يوحى إليه، وكتبت العديد من الخزعبلات الباطنية تحت عنوان "القادر من يعلم أنه قادر".
كانت تلك المرحلة من أصعب الفترات، إذ فتح الشيطان عليّ أبواب التميز الزائف، وأوهمني بأنني أمتلك قدرات روحية خارقة. استغرقني هذا الوهم فترة طويلة، حتى جاءت ضغوطات الحياة المادية في منتصف 2016 لتكون السبب في بداية خروجي من هذه الحالة، وليس وعيي المباشر. لطالما كان لطف الله بنا يتجلى في الصعاب التي نمر بها، كما في قصة العبد الصالح مع موسى عليه السلام، أو كما قال تعالى: *"وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم."*
بفضل الله، بدأت أتعافى تدريجيًّا من تلك الأفكار الباطنية، وإن كانت لمحات من تلك الخزعبلات تعود إليّ بشكل أقل حتى أواخر 2023، حين حدثت التوبة الكبرى. أشعر الآن بأنني تخلصت تمامًا من تلك الشوائب. كان لمحاضرات الدكتور هيثم طلعت، والجهود المتميزة لإخواننا في قناة "قرار إزالة"، دور كبير في إيقاظي من تلك الأوهام.
منذ التوبة الكبرى التي حدثت في نهايات 2023، وأنا أشعر بتحرري من أعباء كثيرة، منها تقدير رموز تاريخية زائفة كعبد الناصر، والنظرة الناعمة للحياة التي لم يعجبها تحريم الدين لأمور مثل الموسيقى أو الاختلاط، والانبهار بأفكار روحية زائفة. آخر هذه الأعباء كان تحرري من الربا بعد أن تورطت في قرض ربوي كبير، وخسرت دخلًا كبيرًا كان يأتي من تأجير منزل والدي رحمه الله لهيئة دبلوماسية. هذه الهيئة التي مكثت في المنزل لمدة 13 سنة، خرجت فجأة، لأجد نفسي في حرب من الله ورسوله. لم أستطع الخروج منها إلا بعد أن بعنا المنزل منذ أسابيع قليلة. كانت لحظة البيع مؤلمة لي بشكل كبير، إذ وقفت في ردهة المنزل أقول: "ابكِ مثل النساء ملكًا مضاعًا، لم تحافظ عليه مثل الرجال." كان والدي يشتري ويزيد، أما أنا فقد اضطررت للبيع والنقصان.
ومع كل الألم الذي شعرت به، فإن الجانب المضيء في هذا الحدث هو أنني تخلصت من الربا بحمد الله، وأسأل الله الآن: *اللهم زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا.*
أشعر الآن أنني حر من أغلال كثيرة، وأقف على عتبة مرحلة جديدة في حياتي. مرحلة خالية من الوهم والزيف، وأعلم أنني لن أضيع المزيد من الوقت في مطاردة السراب.
#محمد_عبد_القادر_الفار (هاشتاغ)
Mohammad_Abdel_Qader_Alfar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مذكرات تائب - ٣
-
مذكرات تائب - ٢
-
مذكرات تائب - 1
-
لا أستحق الحياة
-
صابر Sober - جزء ثان
-
رحلة إلى شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة (7)
-
رحلة إلى شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة (6)
-
لا تخالف كي تُعرف (قصيدة)
-
يا قوم قصوا لي لساني (قصيدة كاملة)
-
يا قوم قصوا لي لساني ٤
-
يا قوم قصوا لي لساني ٣
-
يا قوم قصوا لي لساني ٢
-
يا قوم قصوا لي لساني
-
كنتُ أضرب الطين
-
صابر Sober
-
الجنة الأبدية - سان جانيبيرو
-
زايون
-
حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 6
-
حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - الفصول الخمسة الأولى
-
حين أخفى تاكاهيرو ذاكرة الرجل المسكين - 5
المزيد.....
-
أبو عبيدة: الإفراج عن المحتجزة أربال يهود غدا
-
مكتب نتنياهو يعلن أسماء رهائن سيُطلق سراحهم من غزة الخميس..
...
-
ابو عبيدة: قررت القسام الافراج غدا عن الاسرى اربيل يهود وبير
...
-
المجلس المركزي لليهود في ألمانيا يوجه رسالة تحذير إلى 103 من
...
-
ترامب سيرحل الأجانب المناهضين لليهود
-
الكنيست يصدق بالقراءة الأولى على مشروع قانون يسمح لليهود بتس
...
-
عاجل| يديعوت أحرونوت: الكنيست يصدق بقراءة تمهيدية على مشروع
...
-
اللجوء.. هل تراجع الحزب الديمقراطي المسيحي عن رفضه حزب البدي
...
-
259 مستعمراً يقتحمون المسجد الأقصى
-
أستراليا: إحباط هجوم ضد الطائفة اليهودية قرب سيدني
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|