|
حلم محبط في فلسطين
بشير ابو منة
الحوار المتمدن-العدد: 1773 - 2006 / 12 / 23 - 09:57
المحور:
القضية الفلسطينية
ذي نيشن؛ 5 ديسمبر 2006. [مراجعة لكتاب القفص الحديدي: قصة الكفاح الفلسطيني من اجل إقامة دولة بقلم راشد الخالدي وكتاب بلد واحد: مقترح جسور لانهاء الازمة الاسرائيلية الفلسطينية بقلم علي ابو نيمة]
منذ احتلال الضفة الغربية وغزة في 1967، اصبحت اسرائيل الدولة الوحيدة ذات السيادة في ارض فلسطين تحت الانتداب البريطاني. اصبح الفلسطينيون يعيشون اما كمواطنين من الدرجة الثانية في الدولة اليهودية؛ او كسكان مستعمرات في الضفة الغربية وغزة دون اي حقوق سياسية او انسانية؛ او كلاجئين منتشرين او مضفورين في البلاد العربية المجاورة، غالبا في ظروف شديدة الصعوبة. فرص تغلب الفلسطينيين على منفاهم وممارسة حقهم في العودة الى الوطن تبدو بعيدة جدا كما كانت دائما. وبالكاد يلوح الوعد بامكانيات فورية لانهاء الاحتلال الاسرائيلي وتأسيس دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وغزة بالتوافق مع الاجماع العربي والدولي، القائم منذ 1967 تقريبا والمرفوض من الولايات المتحدة واسرائيل.
الكفاح المسلح من البلاد العربية التي لها حدود مشتركة ولا الكفاح المسلح من المناطق المحتلة ولا الحشد والتعبئة الشعبية ولا الكفاح السياسي كل ذلك لم يجلب التحرير ولا انهى الاستعمار. هزيمة او احتواء الانتفاضة تلو الاخرى لم يدعم ويقوي سوى وجود اسرائيل الاستعماري في الضفة الغربية. ورغم انسحاب 8 الاف مستوطن من غزة، المليون وثلاثمائة الف فلسطيني في القطاع هم الان تحت مقاطعة وحصار مشدد. منذ الصيف حوالي 400 فلسطيني تقريبا قتلوا، والعديد منهم مدنيين، مثلما حدث في مذبحة بيت حانون الاخيرة. ادلى الفلسطينيون باصواتهم، وقد اخبروا الولايات المتحدة بتعالي ان افتقاد الفلسطينيين "للديموقراطية" هو العقبة الكبرى امام السلام، في صناديق انتخاب المجلس التشريعي في يناير، فقط ليعرضوا للعقاب على اختيارهم الديموقراطي: تهددهم اسرائيل "بالتجويع" وتنكر عليهم اموالهم المستحقة لديها لدفع مرتبات موظفي الخدمات المدنية العامة، الذين يعيلون اغلب المجتمع الفلسطيني. الاسوار، نقاط التفتيش، العقاب الجماعي، سد الطرق، طرق مخصصة فقط لليهود، مذابح القصف بالقنابل، الاغتيالات، السجن والاعتقال الجماعي، معدل الفقر بنسبة 70% اصبح تعريفا لظروف الحياة الفلسطينية تحت الاحتلال.
فترة دبلوماسية اوسلو قد فشلت في تأسيس – حتى ولو جزئيا – الحقوق الوطنية الفلسطينية. في الواقع، للحد الذي تهتم به النخبة الاسرائيلية، اطار عمل اوسلو لم يكن المقصود به ابدا انهاء الاحتلال او تحقيق الانسحاب الى حدود 67. برهنت اوسلو على انها مجرد طبعة اخرى من خطة الون، التي عرضها لاول مرة بعد حرب 1967 نائب رئيس الوزراء الاسرائيلي ايجال الون على رئيس الوزراء ليفي اشكول. اقترحت خطة الون حكما ذاتيا مبتورا للفلسطينيين في الضفة الغربية (اقترح الون مناطق ذات اغلبية عربية توضع تحت السلطة القانونية الاردنية)، مع كمية ملموسة من الاراضي تلحق باسرائيل، التي سوف تسيطر على كل الحدود ونقاط الدخول الى المناطق ككل.
منذ 1993، وتحت تمويه صنع السلام، ضاعفت اسرائيل من عدد المستوطنات والمستوطنين (حوالي 400 الف) في المناطق المحتلة. بالنسبة لاسرائيل "السلام" و"الامن" يعنون سكانا فلسطينيين مقطوعي الصلة باسرائيل ولكنهم مع ذلك في نفس الوقت يعتمدن بالكلية عليها – وهي وصفة لاستمرار اخضاع الفلسطينيين ولاستمرار الهيمنة الاسرائيلية. نتيجة لذلك، مر الفلسطينيون بأقسى مراحل معاناتهم منذ انتزاعهم وممتلكاتهم من معظم ارض فلسطين في 1948 ومنذ احتلال اسرائيل عام 1967. وكما يضع جون دوجار، المحقق الخاص للامم المتحدة لشئون حقوق الانسان في المناطق المحتلة، الامر في تقريره الاخير، الفلسطينيون هم اول شعب محتل في التاريخ تفرض عليهم عقوبات دولية – عقوبات من الممكن "ان تكون الاكثر قسوة من بين العقوبات التي فرضت خلال الازمنة الحديثة". ويستخلص ان الديموقراطية الفلسطينية قد انزل عليها ستار بواسطة المجتمع الدولي بنفس الدرجة التي انزلت بها اسرائيل ستارا على حرية الفلسطينيين في الحركة.
هذه الصورة المقبضة تزداد قتامتها بالانقسامات الداخلية الخطيرة بين فتح وحماس، والتي خرجت في السنة الماضية الى الشارع في شكل مواجهات مفتوحة وقتل. لأول مرة في التاريخ الفلسطيني يحوم في الافق امكانية حرب اهلية. التناقضات السياسية بين اولئك الذين يبدون جاهزين للقبول باي شيء تعرضه اسرائيل (رئيس السلطة الوطنية الفلسطينية محمود عباس ونخبة فتح) وبين هؤلاء الذين يسعون الى الانهاء الكامل لاحتلال اراضي 1967 (حماس والعناصر القاعدية في فتح واغلبية الشعب الفلسطيني) تزداد حدة بسرعة. ورغم ان ثبات الفلسطينيين وتماسكهم صلب، العيش تحت حصار شبه كامل ودون اي امل في تغيير حقيقي فوري بإمكانه ان يكثف الميول نحو تدمير الذات، وهو افق يسعد قادة اسرائيل على تشجيعه.
اذا كيف يكون الرد على تلك الازمة الفلسطينية المستفحلة وعلى سعي اسرائيل الذي لا يهدأ نحو تثبيت وتوسيع مشروع المستوطنات؟ ولا توجد لهذا الحد اي حسابات ذاتية فلسطينية جماعية او وطنية. ولكن تبدأ المناقشات في ان تأخذ مجراها في المجتمعات الفلسطينية في جميع انحاء العالم. يبدأ الناشطون والمفكرون في طرح السؤال المحوري: ما هي طبيعة الازمة الفلسطينية اليوم، وكيف يمكن التغلب عليها؟
كتاب راشد خالدي وكتاب علي ابو نيمة كتابان هامان في هذا المقام. كلا الكاتبان لديهما سجلا طويلا من الانخراط في المسألة الفلسطينية: يحتل خالدي كرسي ادوارد سعيد في الدرسات العربية بجامعة كولومبيا، ونشر العديد من الكتب الرائعة حو ل القومية الفلسطينية وكان مستشارا للوفد الفلسطيني في مباحثات مدريد عام 1991؛ ابو نيمة هو محرر مؤسس ومساهم متكرر لموقع الانتفاضة الالكترونية، وهي مصدر لا غنى عنه للمعلومات البديلة عن الاحتلال. كلا الرجلان يسعيان، بطرقهما المختلفة، لاشعال جدل اكثر تركيزا ومناقشات حول الهموم الجوهرية الفلسطينية والاسرائيلية. كتاب خالدي القفص الحديدي يفحص اسباب فشل الفلسطينيين في اقامة دولة، من الانتداب البريطاني في 1922 حتى انتصار حماس الانتخابي الاخير، بينما كتاب ابو نيمة بلد واحد يطرح قضية خلق دولة واحدة للعرب واليهود في كل اسرائيل-فلسطين.
لماذا فشل الفلسطينيون في اقامة دولتهم قبل 1948، وما هو الاثر الذي طبعت به هزيمتهم على اهدافهم الوطنية بعد ذلك؟ هذا هو السؤال الكبير الذي تناوله خالدي في كتابه القفص الحديدي، عمل من التحليل التاريخي القوي كتب بروح الفحص الذاتي. ولو ان الفلسطينيون يأخذون مركز الاحداث في هذا المسح التحليلي لقيادتهم، وذلك ليس لأن خالدي "يلوم الضحايا". بالاحرى، خالدي يحملهم "المسئولية على اعمالهم وقراراتهم"، كما يطرحها هو. القيادة الفلسطينية المثيرة للسخرية كانت تسلية للوقت فعليا في عيون الغرب لوقت طويل، من عبارة ابا ايبان التي صارت مثلا "لا يضيع الفلسطينيون ابدا اي فرصة ليخسروا الفرص" الى خرافة ان عرفات وسط شعبه من اجل استمرار الاحتلال برفضه "العرض الكريم" الذي قدمه ايهود باراك في كامب ديفيد. في تباين لذلك، لم يفقد خالدي ابدا بصيرة الحقيقة بأن الفلسطينيين كان امامهم قليل من الاختيارات الطيبة، وان المعاكسات التي عرقلت كفاحهم من اجل حق تقرير المصير كانت فوق طاقتهم. هذه المعاكسات تدلل عليها بشكل جيد ملاحظة قالها وزير الخارجية البريطانية عام 1919 ارثر جيمس بلفور، الذي كتب وعد بلفور عام 1917 داعما قيام "وطن قومي" يهودي في فلسطين: "سواء صواب ام خطأ، طيبة ام شريرة، الصهيونية تضرب بجذورها في تقاليد من غابر الازمان، وفي احتياجات الحاضر، وفي امال المستقبل، ذات اهمية اعظم كثيرا من رغبات ومظالم 700 الف عربي يسكنون الان تلك الارض القديمة". مذاك، انكار الطموحات الوطنية الفلسطينية بات سياسة غربية صهيونية ثابتة في المنطقة، ويشدد خالدي على مغزى هذه السياسة الحاسم. ولا يفلت منه كلمة في تقييم السجل الامريكي: "في الممارسة الولايات المتحدة هي، ولمدة اكثر من ستين عاما كانت، واحدة من اكثر خصوم الحق الفلسطيني لتقرير المصير والاستقلال".
وكما يسلط خالدي الضوء بشدة على ان تلك الالتزامات البريطانية والامريكية نحو الصهيونية هي المسئولة محوريا عن استمرار فقدان الفلسطينيين لدولتهم وممتلكاتهم. ولقد كان موضوعا للجدل لوقت طويل ان الفلسطينيون—وحدهم بين الامم العربية—فشلوا في تأسيس استقلالهم بسبب ضعفهم الداخلي: المشاحنات الصغيرة والخيانات الصغيرة لنخبهم، ونقص تطورهم الاجتماعي، وحتى غياب الوعي الوطني المخصوص. في الواقع، كما يعرض خالدي، المجتمع الفلسطيني يرجح بشكل افضل في مقارنته، اقتصاديا واجتماعيا، بالمجتمعات العربية الاخرى التي خرجت من تحت نير الحكم العثماني. فعليا، المجتمع الفلسطيني "كان بشكل ظاهر متقدما بنفس الدرجة التي كان عليها اي مجتمع اخر في المنطقة، وبشكل ملموس اكثر تقدما من العديد منها".
اخذ تاريخ فلسطين مسارا مختلف عن مسار جيرانها بسبب المصالح الخارجية التي لم تجتذبها اي مناطق اخرى في العالم العربي: رغبة الصهيونية في خلق دولة يهودية ورعاية بريطانيا لمشروعها الاستعماري الاستيطاني. فعلا، دون بريطانيا لما امكن قيام دولة يهودية. صنعت بريطانيا كل شيء في قدرتها لترعى نمو مؤسسات الدولة اليهودية ولمنع المؤسسات الفلسطينية من ان تأخذ شكلها، خالقة ما يقوله خالدي بكلماته، "نوعا من القفص الحديدي للفلسطينيين، لم ينجحوا ابدا في التملص منه". الاجحافات الجوهرية للسياسة حددت معالم الامبريالية البريطانية في فلسطين. في طوال معظم فترة الانتداب، يسرت بريطانيا ودعمت الهجرة اليهودية من اوروبا ضد رغبات الاغلبية الفلسطينية. رغم ان الحركة الصهيونية والبريطانيين اصطدما حول الكتاب الابيض في 1939 الذي حد من الهجرة اليهودية وشراء الاراضي، سياسات بريطانيا الاستعمارية في الاخير ادت الى سيطرة صهيونية على معظم فلسطين عام 1948، بينما كان اليهود ما زالوا يشكلون فقط ثلث سكان فلسطين ويملكون حوالي 6% من اراضيها.
يسأل الخالدي، لكن لماذا كان البريطانيون قادرون على تحقيق اهدافهم ضد رغبات اغلبية الفلسطينيين الواضحة؟ في الوقت الحاضر، تتلمس اجابته بشكل خطر حدود تقريبا مستديرة – لم ينجز الفلسطينيون دولتهم لانهم فشلوا في بناء هياكل الدولة التي تدخل في نزاع مع الانتداب البريطاني. ولكن من مسئول عن هذا الفشل؟ اجابة خالدي عنيدة ولا تتحفظ. بدلا من تأسيس "مصادر بديلة للشرعية" ومحاربة الانتداب، الاعيان الذين كانوا قادة للمجتمع الفسلطيني كانوا يضعون جل ثقتهم في البريطانيين كوسطاء، دخلوا معهم في "توسلات غير مفيدة". وهكذا حرموا انفسهم من الروافع السياسية ليؤثروا بشكل ملموس على، واقل كثيرا من عكس اتجاه، السياسة البريطانية الداعمة لخلق وطنا قوميا يهوديا. حقيقة ان القادة الفلسطينيون قد عينهم واحتواهم القفص الحديدي الذي صنعه الانتداب، كما يفترض الخالدي، كان ذلك جزئيا بسبب افتقادهم للاستعداد الحقيقي للتحرك ضد الامبريالية البريطانية حتى تنبهوا بعد فوات الاوان. (ميل النخبة الفلسطينية لوضع مصير شعبهم في ايدي القوى الامبراطورية سوف يعود للظهور مرة اخرى اثناء فترة اوسلو).
بل حتى اكثر من الاعتماد على نظام الانتداب، ما دفع القيادة الفلسطينية بعيدا عن النخب القومية العربية الاخرى كانت طبيعتها الدينية بشكل خاص. كان ذلك في الحقيقة امرا مضفورا، كما يصوره خالدي في مناقشة مذهلة للدور الذي لعبه الحاج امين الحسيني، مفتي فلسطين الاكبر. خلق البريطانيون منصبه – رافعين من مكانته حتي يساعدهم في ادارة الانتداب – واستثمروا في هذا المنصب سلطات لم يتمتع بها مفتي ابدا في تاريخ المؤسسات الدينية الاسلامية. وقد وضع ذلك الحركة القومية الفلسطينية في مرتبة متأخرة شديدة: "نقص وسائط فعالة في الطريق نحو بناء الدولة، سواء الموجودة من قبل، او التي وفرها البريطانيون، او تلك التي طورها الفلسطينيون انفسهم. وهب الى السكان العرب في فلسطين بدلا من ذلك زعامة دينية، تستمد سلطتها، وشرعيتها، ومدعومة ماليا بواسطة البريطانيين وفي نهاية المطاف تحت سيطرتهم".
فقط في بواكير الثلاثينات، مع نهوض حزب الاستقلال العربي، ان تحول الفلسطينيون الى المقاومة الجماهيرية ضد المشروع الصهيوني ورعاته البريطانيين. في تباين عن المفتي والزعماء الفلسطينيين الاخرين الذين يستهجنون البريطانيين في الاحاديث بينما يتعاونون معهم خلف الستار، دافع حزب الاستقلال عن الاستقلال الفلسطيني والوحدة العربية ورفض التعاون مع سلطات الانتداب. سرعان ما اثار حزب الاستقلال معارضة البريطانيين، والحركة الصهيونية ومعارضة المفتي، الذي لم يكن يطيق تحديا لزعامته الكاريزمية. (وكما يلحظ خالدي آسفا، "وكأن على الفلسطينيين ان يعانوا مرة اخرى لعقود طويلة فيما بعد من اختلاط القضية الوطنية بشخصية الزعيم المتغطرس في اواخر حقبة هيمنة ياسر عرفات على الحركة الوطنية الفلسطينية") تحت ثقل هذه الضغوط تفكك الحزب خلال سنتان من انشاءه. الا ان وجوده القصير اشار الى سخط متنامي للطبقة المتوسطة ضد استسلام النخبة وموجة مد لنضالية الجماهير، خصوصا فيما يتعلق النكبة المستفحلة للفلاحين الفلسطينيين وانتزاع اراضيهم المتزايد بواسطة الصهاينة. وبتحديد البريطانيين كعدو رئيسي للطموحات الوطنية الفلسطينية، عناصر حزب الاستقلال بعملها بنت ارضية للكفاح المسلح بزعامة الشيخ عز الدين القسام وارضية للاضراب العام والتمرد العنيف لسنوات 1936 – 1939.
بالنسبة لخالدي "سحق انتفاضة 1936 – 1939 حددت بشكل واسع نتيجة حرب 1948 ... بالنسبة للفلسطينيين". كان خالدي مدركا لأن الحشد والتعبئة المناهضة للاستعمار ربما من المحتوم ان تنهزم، مشيرا لأن مثل هذه الهبات لم تكن ناجحة في الفترة ما بين الحربين وقد نشر البريطانيون اكثر من 20 الف جندي والقوات الجوية الملكية ضد الثورة العربية. ولكن هذا التمرد ادى بالبريطانيين الى اصدار الكتاب الابيض، كتنازل صغير ومبهم رفضه المفتي. وهكذا، كما يكتب الخالدي، "فشلت الزعامة في ان تنتفع من ميزة الضعف اللحظي للموقف البريطاني او ان تظفر بأي مغانم سياسية من التضحيات التي بذلها الثائرين". ورغم اجتماع الحظوظ السيئة عليهم، كما يصر خالدي، "لم يكن لدى الفلسطينون خيارات، وبعضها ربما كان اقل سوءا من الاخرين"، ومنها التنظيم الجماهيري، ومقاطعة البريطانيين والتنازلات التكتيكية.
يقلل الخالدي عن حق من قضية الزعامة، التي تلعب دورا مهما، وفي اوقات دورا حاسما، في نجاح او فشل الحركات السياسية. ولكنها لماذا دائما ما تعود لتتلبس الفلسطينيين؟ المصالح الذاتية للنخبة وميلهم للتعاون مع البريطانيين هو جانب في حاجة للتفسير. هل كان هناك شيئا ما قائما في ظروف الحياة الفلسطينية تحت الانتداب مسئولا عن الاختيارات السيئة المستمرة للقيادة؟ ام ان هناك اسبابا اجتماعية اكثر تجذرا؟
الكاتب الفلسطيني وزعيم الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين صور بقوة المسألة الاخيرة في دراسته عام 1972 عن ثورة 1936 – 1939. طبقا لكنفاني، طبيعة المشروع الاستعماري الصيهوني اجبر المجتمع الفلسطيني على ان يمر "بتحولات عنيفة للغاية من مجتمع عربي زراعي الى مجتمع يهودي صناعي". هذا الامر، متحدا مع السياسة الاستعمارية البريطانية، انتج برجوازية فلسطينية ضعيفة وطبقة عاملة صناعية وحركة عمالية ضعيفة، لم يستطع كلاهما ان يبلغا مستوى تحدي فعال لهيمنة النخبة الفلسطينية السياسي. نتيجة لذلك، مقاومة الصهيونية قادها الفلاحون – الذين انتزعت اراضيهم، والغير منظمين على المستوى القومي، والمبعثرين جغرافيا وفي النهاية الذين لا حول لهم ولا قوة. كما كتبت منى يونس في كتابها الممتاز "التحرير والمقرطة: حركتي التحرير الوطنية الفلسطينية والجنوب افريقية: "بالفعل، بينما يستطيع الفلاحون والعمال المهاجرون ان يقوموا بعاصفة من خلال إحداث الشغب، فانهم يفتقدون الروافع التي يستطيعون بها ارغام البريطانيين او الصهاينة على اجهاض مخططاتهم الاستعمارية".
التمرد الجماهيري 1936 – 1939، وقد سحقها البريطانيون والحركة الصهيونية، وغير قادرة اما على اعادة تنظيم صفوفها او على اكتساب التأييد من الحكومات العربية التي كانت حريصة على الاحتفاظ بعلاقات ودية مع البريطانيين اكثر من حرصها على الدفاع عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، هذه الهبة في الاخير تفتتت الى شراذم واقتتال داخلي. وانفتح الطريق الى كارثة 1948. ربما كان من الممكن للفلسطينيين ان يعوضوا افتقادهم لروافع بنزعة وطنية معادية للاستعمار اكثر تماسكا تجمع معا بين حشد وتعبئة مبدأية للفلاحين والعمال وبين الهبات العنيفة. ربما لو ان الحزب الشيوعي الفلسطيني قاد مثل هذا الكفاح، كما فعلت الاحزاب الشيوعية الاخرى في البلاد المتخلفة النمو مثل الصين وفيتنام. الا ان الحزب الشيوعي الفلسطيني الذي كان اغلبيته من اليهود كان على درجة بالغة من الضعف وسط الفلسطينيين لا تمكنه من تحدي زعامة الاعيان. وعندما قرر ستالين ان التقسيم هو احسن الحلول للقضية الفلسطينية، التصق الحزب بهذا الخط الجديد.
الهزيمة الفلسطينية في 1948 بدلت المشهد السياسي بشكل درامي، ونتج عنها اقتلاع اكثر من نصف مليون من السكان العرب وخلق اسرائيل على حطام معظم ارض فلسطين التاريخية. وقد ترك ذلك الفلسطينيون مشتتين بلا دولة، وحتى بروافع اقل لاستعادة اراضيهم وتحقيق استقلالهم. واجه الفلسطينيون في المنفى تحدي تحويل اسرائيل من خارج حدودها، بينما هؤلاء الذين ظلوا في اسرائيل تم وضعهم تحت الحكم العسكري الاسرائيلي حتى عام 1966. من بداية 1948 حتى منتصف الستينات، في تصور خالدي، "لم يلق الفلسطينيون اهتماما يذكر لمشكلة ما هو شكل الدولة السليم في فلسطين" وعموما شرعوا اكثر قليلا في اسقاط الماضي الذي يتخيلونه على المستقبل... وفي محاولتهم هذه لاعادة عقارب الساعة الى الوراء، بدا على الفلسطينيين مرة اخرى انهم لا يفكرون جديا الا بالقليل في طبيعة العلاقة بينهم وبين اليهود الاسرائيليين الذين سوف يستمرون في العيش على ارض دولة فلسطين العربية التي يتصورونها في خيالهم، بالضبط كما في فترة الانتداب، لم يكن هناك اي تقييم للصهيونية بأي شيء اخر اكثر من كونها حركة استعمارية انتزعت اراضي الفلسطينيين.
طبيعة الاختلاف الذي يصنعه مثل هذا "التقييم" للصهيونية بوصفها كلا من حركة قومية وحركة استعمارية، بينما كانت هذه الحركة بكل وضوح عاكفة على ازاحة الفلسطينيين ونزع وطنهم منهم، لم تتضح. فعليا، خالدي يظهر ان الاتفاق على ترتيبات مع الصهيونية لم تكن خيارا حقيقيا ابدا ويعود ذلك بدقة الى طبيعتها الانعزالية ورفضها الذي لا يهتز لحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم الوطني. بينما من الصحيح ان الفلسطينيين بين عامي 1948 و1967 افتقدوا للواقعية الكافية لفهمهم لاسرائيل، فالامر يحتاج الى دليل اكثر كثيرا من الميثاق الوطني الفلسطيني عام 1964 لدعم مثل هذا الادعاء القوي ماديا. من المؤكد ان ذلك لا ينطبق بشكل حقيقي على هؤلاء الفلسطينيين الذين وجدوا انفسهم اقلية محاصرة داخل دولة يهودية، او في المنافي مثل كنفاني، التي تعطي قصته القصيرة رجال في الشمس (1963) نقدا قويا للحنين الفلسطيني القوي نحو العالم الذي فقدوه.
من الهام ان ندرك، رغم ذلك، ان تحولا نوعيا في التاريخ السياسي الفلسطيني قد حدث بظهور منظمة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية منذ اواسط الستينات فصاعدا – وهي القصة التي رواها بتفاصيل مرهقة يزيد صايغ في دراسته الكفاح المسلح والبحث عن دولة. بالنسبة لصايغ ومعظم مؤرخي الحركة الوطنية الفلسطينية، منظمة التحرير الفلسطينية مثلت واقعيا دولة بالمنفى، تبحث عن قطعة ارض لتحكمها. يفترض خالدي، في اشارة الى الفشل الفظيع للسلطة الفلسطينية في تحقيق حتى محاكاة لشكل من اشكال السيادة والاستقلال، ان "الرواية بأكملها وحكايات منظمة التحرير الفلسطينية التي حدثت على اساسها، هي امر مفتوح على مصراعيه امام البحث". وقد وجد الكثير من "الادلة الواضحة على ان منظمة التحرير الفلسطينية لم تكن تحضر بجدية لبناء دولة فلسطينية وهو الذي كان هدفها الرسمي المعلن لعشرات السنين"، متضمنا ادلة على تناقضات بين الرطانة والممارسة، وبين الكفاح المسلح والدبلوماسية. مرة اخرى بعد اخرى، ينسب خالدي فشل منظمة التحرير الفلسطينية الى نقص استعدادها. بينما يقبل خالدي فكرة ان منظمة التحرير قد تبقرطت وانها قد تحولت "اكثر فأكثر الى شبه دولة واقل فأقل حركة تحرير وطنية"، فهو يتبنى وجهة نظر ان هذه العملية لم تتجذر ابدا الى "انتظام وتنظيم على اسس قانونية لهيئات منظمة التحرير الفلسطينية، ولا لديموقراطيتها، ولا لاستعداداتها للانتقال الى المناطق المحتلة".
ولكن اذا كان هناك القليل جدا من "اللوائح والتنظيم"، كما يضعها خالدي، كانت هناك عملية تحول بيروقراطي زائدة عن الحد بشدة، وزعامة سلطوية وافتقاد للقابلية للمحاسبة. الطريق الوحيد للتغلب على تلك الموانع هو صياغة، وليس نسف، الحشد والتعبيئة الجماهيرية والمشاركة الديموقراطية. ولكن نخبة فتح كانت دائما غير مستريحة للديموقراطية التشاركية. في مثل هذا الوسط، خداع الذات ضرب بجذوره بطريقة سهلة جدا في الزعامة. وهكذا كان عرفات قادرا في 1972، على تشخيص الثورة الفلسطينية بوصفها "سلسلة من النكبات المؤقتة حتى يحين موعد الانتصار النهائي". بغض النظر عن انه في 1971-1972 سحقت المقاومة الفلسطينية بوحشية في الاردن (في احداث ايلول الاسود) وطردت الى لبنان. ولكن كيف يمكن لمثل هذه الهزائم المدهشة ان تجلب النصر النهائي؟ كيف يمكن لتدهور ظروف العمليات يؤدي الى تغيير شامل دون اي اعادة تقييم متعمقة لاسباب الفشل ودون وضع مخططات وآليات لاستراتيجيات مقاومة اكثر نجاحا؟
كان تفكير عرفات هو السائد لحد بعيد جدا في الحركة الفلسطينية. لقد برزت هيمنته سياسيا، كما اظهر جيلبرت اشقر في كتابه الابريق الشرقي، بعد ما وصفه هو كتصفية "كارثية" لكوادر اليسار الفلسطيني الاكثر تقدمية والتزاما. هذه الهزيمة ادت الى سياسة زيادة الاعتماد على الديكتاتوريات العربية وعورش الخليج البترودولارية والى تعميق التبقرط والفساد في منظمة التحرير الفلسطينية، التي كان كيس نقودها يتحكم فيه عرفات.
لماذا سادت سياسات عرفات القومية المحافظة بعد 1970؟ الاسباب التي تكمن خلف تلك التطورات كانت خاضعة لجدل جدي في الحركة نفسها في تلك الفترة، خصوصا بين اليسار الفلسطيني، وكم يتمنى المرء لو ان خالدي قد فحص بشكل اكثر عمقا الفترة بين ايلول الاسود وطرد منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت في 1982، التي نحاها جانبا بعبارات سريعة مثل "عقم سياسات المنفى". لانه كان بالضبط في اثناء فترة المنفى في اوائل السبعينات، وبعد ايلول الاسود، ان تطور نقدا جديا وديموقراطيا لمنظمة التحرير الفلسطينية. داخل فتح، كان يمثله صوت حسام الخطيب، عضو اللجنة المركزية الذي اعترف بأن هزيمة المقاومة في الاردن لم تكن تدور فقط حول "مسألة القيادات" ولكن بسبب الوضوح الثوري، والهيكل التنظيمي والشكل السياسي. ما كان يرفعه الخطيب من شعارات كان "ثورة داخل الثورة"، كان يدافع عن تحولا داخليا لهياكل منظمة التحرير الفلسطينية لبناء مشاركة شعبية وتقدما في غايات المنظمة اكثر فعالية. وبشكل مثير، اشار الخطيب الى هذه العملية باسم "انتفاضة داخلية".
تقدم الفيلسوف الماركسي السوري صادق جلال العظم بنقد مماثل لمنظمة التحرير الفلسطينية، والذي نسب هزيمة ايلول الاسود الى استسلام فتح للملك حسين وسياستها "بعدم التدخل" في شئون الانظمة العربية السلطوية. حتى تحقق منظمة التحرير الفلسطينية اهدافها، كان منطق جلال العظم، هي تحتاج الى ارتداء عباءة الديموقراطية والثورة في العالم العربي كله. فقط حينئذ يستطيع الفلسطينيون انشاء الروافع السياسية التي يفتقدونها كأمة في المنفى. ذلك سوف يساعدهم على تصحيح موازين القوى ويدفعون اسرائيل والغرب الى الاعتراف بحق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم. كان هذا الطريق بشكل قابل للجدل متاحا امام الفلسطينيين؛ على اقل القليل كان يجب يوضع في اعتبارهم كخيار من بين اختياراتهم التاريخية. مثل هذا الطريق الثوري لم يأخذه احد، وهو علامة على بديل محتمل في شرق اوسط السبعينات، تم تدميره بواسطة الوحشية السلطوية العربية، بدعم من اسرائيل والغرب. بإعادة فحص هذه الفترة الراديكالية في التاريخ الفلسطيني، قد يدرك خالدي بشكل جيد ان القيادة السيئة بعد 1948، بينما في فترة الانتداب، هي عرض من اعراض اسباب اعمق. رغم ذلك، كتاب القفص الحديدي يدفعنا الى التفكير بشكل اكثر عمقا في مشاكل ما زالت مستمرة في انتهاك الحركة الفلسطينية.
خالدي، وهو يركز على مصادر فشل الفلسطينيين في بناء دولتهم، لا يدافع بوضوح عن حل بعينه للصراع الفلسطيني الاسرائيلي (رغم انه منذ وقت طويل من مؤيدي حل الدولتان، فهو يعبر عن شكوكه في امكانية تحقيق حتى ذلك الحل، مع التسليم بالمعاكسات الهائلة التي تواجه الفلسطينيين الان). ومنذ حرب 1967، تبنت الحركة الوطنية الفلسطينية رسميا حلين كبيرين لانهاء الصراع مع اسرائيل: من اواخر الستينات حتى بداية السبعينات، دولة ديموقراطية واحدة في فلسطين، لتضم كل الجماعات الدينية والسكان الموجودين على الارض؛ ومنذ 1974، التزام ببناء دولة على اي جزء محرر من الارض، وصدر ذلك بشكل رسمي في اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في 1988 بالجزائر لتبني حل الدولتان القائم على اساس حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، في توافق مع الاجماع الدولي. وعلى عكس الحكمة السائرة في الغرب، حل الدولتان كان البرنامج السائد في الحركة الفلسطينية لوقت طويل، وما تزال تؤيده اغلبية بين الفلسطينيين وممثليهم، ومنهم بلا مراء حماس، رغم رطانة المزايدة. ورغم ان معظم الفلسطينيين لم يعتبروا ابدا ان خلق دولة على 22% من اراضيهم هو حل عادل للصراع، فإنهم ايضا يرون في انهاء الاحتلال شرطا ضروريا قبل امكانية مناقشة القضايا الاخرى، مثل حق العودة ووضع اسرائيل كدولة يهودية.
منطق علي ابو نيمة الرئيسي في الجدال في كتابه بلد واحد هو ان الاسرائيليين والفلسطينيين "مضفورين" جغرافيا واقتصاديا معا بعمق، كما ان الاحتلال متمترس بقوة لدرجة ان الثنائية القومية، او دولة ديموقراطية واحدة في مساواة وحق تقرير المصير لكلا الشعبين، هو "الحل الوحيد القابل للحياة". (نفس المنطق يطرحه في السنوات الاخيرة اشخاص من بينهم توني جوت، وفيرجينيا تيلي، وميرون بنفينيستي والمرحوم ادوارد سعيد). بالنسبة لابو نيمة، الثنائية القومية تسوي عديد من المشاكل الموروثة في الصهيونية: انغلاقها؛ تطهيرها العرقي للفلسطينيين (وهي النزعة التي تزاداد شعبية داخل اسرائيل، حيث انضم مؤخرا المستوطن الروسي المولد افيجدور ليبرمان، المحامي عن فكرة "الترانسفير"، الى وزارة ايهود اولمرت)؛ ووساوسها العنصرية المرضية من المشكلة السكانية. حل الدولة الواحدة ايضا سوف يسمح للفلسطينيين بالعودة الى اراضيهم المغتصبة والعيش في سلام مع الاسرائيليين على اسس مساواة.
ما ينقص فكرته، مع ذلك، هو غياب تقييم للاحتياجات الفلسطينية المباشرة واستراتيجياتهم. ورغم ان ابو نيمة يرسم عددا من الامثلة لدعم اقتراحه، بما فيها امثلة شمال ايرلندا وجنوب افريقيا، خلق دولة ديموقراطية واحدة ليس مطلبا ملحا لمعظم الفلسطينيين. فعليا، يتنازل ابو نيمة معترفا انه لا الفلسطينيين اليوم ولا الاسرائيليين يريدون العيش في معا في دولة واحدة. ما هو اكثر، لو ان الفلسطينيين يكافحون الان دون جدوى لتنفيذ حل الدولتان الاقل قبولا والمتوافق مع القوانين والقرارات الدولية التي تقف بقوة الى جانبهم، كيف نستطيع ان نتوقع منهم ان يعملوا من اجل نهاية اصبحت عسيرة التحقيق عما كانت عليه منذ ثلاثين عاما، وهي قضية انهاء الصهيونية السياسية؟ ابو نيمة يواسينا بتأكيده ان الاسرائيليين هم قوم "يطمحون نحو القيم التقدمية". من الصعب مشاركته في هذا الاعتقاد، مع ذلك، مع تآكل معسكر السلام الاسرائيلي ومجتمع يتجه بشكل دائم نحو اليمين. لذا لا يملك المرء سوى الاندهاش والعجب. هل من الانصاف ان نطلب من 3.5 مليون فلسطيني يعيشون تحت الاحتلال ان ينتظروا تخفيف معاناتهم اليومية والهوان القومي الى ان يتوفر دعما كافيا بين كلا الشعبين لحل دولة ثنائية القومية؟
عندما دافع الاشتراكيون الفلسطينيون واليهود، اشهرهم نعوم شومسكي وجماعة ماتسبن، عن دولة ثنائية القومية في السبعينات (وهو الامر الذي تجاهله ابو نيمة)، كان يعولون في تحقيقه على تحولات سياسية واجتماعية ضخمة: حركات راديكالية من كلا الطرفين، مع جمهور ناخبين قوي وفاعل، يجر احدهم الاخر نحوه وينهون الانفصال بينهم. عندما تبخر هذا الاختيار مع التوسع الاستعماري الاسرائيلي ونهوض الاصولية اليهودية، انحرف العديد من الاشتراكيين نحو الدفاع عن حل الدولتين، بينما ظلوا معادين للصهيونية السياسية. مع الانسحاب الكوكبي للسياسات الراديكالية منذ منتصف السبعينات، لم تعد هناك كثير اسباب للايمان بأن جمهورا مساندا لحل ثنائية القومية ما زال قائما اليوم في فلسطين-اسرائيل. "ثنائية القومية دون وسائط سياسية واجتماعية على الارض هي فكرة للقاء هنا ومقالة هناك"، هذا قول عزمي بشارة، الزعيم الفلسطيني للمجلس الوطني الديموقراطي في الكنيست الاسرائيلي، الذي، كمؤيد لفكرة دولة لكل "مواطنيها"، من الصعب اتهامه انه معادي لحل الدولة الواحدة. "هل هناك جماهير – حركات اجتماعية – ترفع شعار ثنائية القومية؟ انا اقول لا. لا توجد مثل هذه الاشياء.. بين الجماهير الفلسطينية، ما زال المزاج قوميا. قوميا-اسلاميا. مزاجا غير ثنائي القومية". واذا ما استمرت فكرة الثنائية القومية منفصلة لحد واسع عن الحياة السياسية، فهي بذلك ليست لها ارجل تقف عليها.
ابو نيمة يأتي على ذكر بشارة بصعوبة، وهو يتجاهل الكثير من ادبيات ثنائية القومية. لفكرة القومية المزدوجة تاريخ في كلا المجتمعين، ولا يمكن حصرها في مجموعة من المراجع العابرة في وثائق منظمة التحرير الفلسطينية وفي كتابات مارتن بوبر. وليس على منوال خالدي، ابونيمة يتغاضى عن كتاب نحو دولة ديموقراطية في فلسطين (1970)، الاقتراح الوحيد لحل الدولة الواحدة الذي صدر عن فتح، وكتبه بالانجليزية مجموعة من المثقفين الفلسطينيين في الجامعة الامريكية ببيروت. (كتب من اجل الاستهلاك في الخارج في ظل هيمنة مسئول منظمة التحرير الفلسطينية نبيل شعث، وسعت الوثيقة بشكل رئيسي الى اقناع الجمهور الغربي بأن الفلسطينيين يقبلون الوجود اليهودي في فلسطين). مناقشة ابو نيمة لمنظمة التحرير الفلسطينية استغرقت فقرتين، اولاهما هي عبارة عن اقتباس طويل. وانتهى بهذه الكلمات: "ولكن اذا ما كانت فكرة الدولة الواحدة امرا غير قابل للتفكير به في الماضي، فالعديد من الامور التي جعلته على هذه الدرجة من الصعوبة قد تغيرت الان. ربما ما هو اكثر اهمية ان اغلبية الفلسطينيين والاسرائيليين الان يفهمون ان المجتمع الاخر هو موجود هنا ليبقى".
ولكن حقيقة انهم يعرفون ذلك لا تعني ان شروط ثنائية القومية قد بدأت في النهوض. ولا يعقل ان نصف العلاقة الاسرائيلية الفلسطينية على انها "ضفيرة"، كما يطرحها ابو نيمة في اغلب الاحيان. يستطيع المرء ان يدعي هذا الادعاء فقط اما على الفلسطينيين الذين يعيشون داخل اسرائيل، مهما كانت السبل الغير متساوية لوصولهم للسلطة والخيرات الاجتماعية على ما قد تكون عليه، او على الفلسطينيين بين عامي 1967 و1991، عندما بدأ رئيس الوزراء اسحق رابين تأسيس سياسته في الاغلاق والفصل. فقط حينئذ كانت اسرائيل تعتمد على الفلسطينيين وعمالتهم المهاجرة. وكما تجادل منى يونس، فقط حينئذ قامت الصهيونية بعمل استثناءا جزئيا لمنطقها الانغلاقي في الاستبعاد والخلع وادماج الفلسطينيين داخل الحياة السياسية الاسرائيلية كعمال خاضعين تابعين. وذلك بدوره اعطى الفلسطينيين الواقعين تحت الاحتلال بعض روافع للسعي نحو بعض اشكال معينة من الحشد والتعبئة. الانتفاضة الاولى كانت مثالا عظيما على ما يمكن ان تولده مثل هذه الديناميات المنفتحة، وقد منحت هذه الانتفاضة الفلسطينيين اقرب فرصة سنحت لتفكيك استعمار غزة والضفة الغربية. ولكن حتى في ذلك الوقت قوى الفلسطينيين الدافعة للتحول الديموقراطي حاصرتها بيروقراطية منظمة التحرير في المنفى التي خشت من فقدان سلطتها – وسحقها القمع الاسرائيلي. اليوم الوضع في المناطق المحتلة قد اصبح مختلفا تماما، واسوأ كثيرا مما كان عليه، تاركا الفلسطينيين مع اختيارات اقل من اجل التغيير والتحول اقل مما كان في السابق. قطعت اسرائيل بشكل احادي من اوصال الفلسطينيين واستبعدتهم من الوصول الى مناطقها ومستوطناتها، بل وحتى من الوصول الى مناطقهم المجاورة. كيف يمكن للجدار ونقاط التفتيش والاغلاقات ان توصف بأنها عوامل تضفير؟ في الحقيقة، لم تعد اسرائيل ولا بأي طريقة تعتمد على الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال، بينما يظل الفلسطينيون معتمدون على اسرائيل من كل السبل. وذلك، فعليا، قد يفسر على نحو حسن لماذا سادت الهجمات الارهابية الفلسطينية ضد المدنيين الاسرائيليين (التي علقتها حماس منذ 18 شهرا الماضية، بينما لا تزال اسرائيل مستمرة في استهداف المدنيين) كتكتيك مقاومة بعد اوسلو ومأسسة عمليات الاغلاق. التفجيرات الانتحارية مهما كان من الصعب الدفاع عنها اخلاقيا وغير ذات جدوى سياسيا، كانت هي السبيل الوحيد اليائس الذي شعر الفلسطينيون انهم يستطيعون به "ان ينالوا من" محتليهم. تصورات الاعتماد المتبادل، من ثم، هي ببساطة تصورات خاطئة، ويضيع منها ما هو جوهري في الاستعمار الصهيوني منذ 1991: صيغته الانعزالية القوية. المقارنة مع الاستعمار الاستيطاني الامريكي ومعالجته للامريكيين الاصليين هي لذلك، اكثر مناسبة من مقارنات مع اشكال الاستعمار الاستيطاني المنفتحة الاخرى مثل الابارتهيد في جنوب افريقيا. يأمل المرء في ان حركة التضامن الفلسطينية الا يتشتت انتباهها بمقارنات سطحية من الظاهر بين جنوب افريقيا وفلسطين، مثل مسألة العنف او المقاطعة، حتى نفهم الاختلافات الحاسمة – وانها تطمح لان تكون واقعية غير مساومة بنفس قدر معاداتها للصهيونية السياسية.
يدخل الفلسطينيون الان مرحلة حرجة في تاريخهم. الهياكل الاكثر اضطهادا وعسفا قد تأسست الان، وترفع امكانية نزع الملكية والانحلال الكامل. الفلسطينيون حول العالم ، بينما هم مقسمون سياسيا وجغرافيا، لا يعرفون لا اهدافهم المباشرة ولا مراميهم على المدى الطويل. مثل هذه الازمة العميقة تتطلب اشتباكا وجهودا جماعية بمقياس واسع. قد يكون من المفيد ان نتخذ وثيقة الاسرى الاخيرة للتصالح الوطني، والتي عدلتها ووافقت عليها كلا من فتح وحماس في 27 يونيو، كمنصة انطلاق للجدل والمناقشات الناهضة. يدعو السجناء بشكل واضح الى نهاية للاحتلال، وتفكيك كل المستوطنات، وتحقيق الحقوق الوطنية الفلسطينية. يدعم موقفهم اغلبية الفلسطينيين في المناطق المحتلة، الذين يدركون ان هذه الوثيقة قد تبرهن على انها اقوى اساس للوحدة الوطنية اليوم. تستطيع حركة تحرر وطني تحقيق نجاح فقط اذا ما كانت قائمة على قيم التنظيم الذاتي، والاستقلال والديموقراطية والمشاركة الجماهيرية النشيطة، متضمنة العمال والنساء. ما زالت حركة وطنية معادية للاستعمار ممكنة واكثر ضرورة ابدا. واذا ما كان نتاج انهاء الاستعمار قد ينتج ايضا جمهورا ذا صوت في اسرائيل يسعد بالعيش في سلام ومساواة مع الفلسطينيين دون اسوار ودون حدود، فأهلا ومرحبا وهذا للافضل. ولكن لا يوجد طريقا مختصرا يلتف على الكفاح ضد الاحتلال.
بشير ابو منة مدرس لللغة الانجليزية في برنارد كوليدج. هذه المقالة تنشر في عدد 18 ديسمبر 2006 من مجلة ذي نيشن.
#بشير_ابو_منة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مسؤول عسكري بريطاني: جاهزون لقتال روسيا -الليلة- في هذه الحا
...
-
مسؤول إماراتي ينفي لـCNN أنباء عن إمكانية -تمويل مشروع تجريب
...
-
الدفاع الروسية تعلن نجاح اختبار صاروخ -أوريشنيك- وتدميره مصن
...
-
بوريسوف: الرحلات المأهولة إلى المريخ قد تبدأ خلال الـ50 عاما
...
-
على خطى ترامب.. فضائح تلاحق بعض المرشحين لعضوية الإدارة الأم
...
-
فوضى في برلمان بوليفيا: رفاق الحزب الواحد يشتبكون بالأيدي
-
بعد الهجوم الصاروخي على دنيبرو.. الكرملين يؤكد: واشنطن -فهمت
...
-
المجر تتحدى -الجنائية الدولية- والمحكمة تواجه عاصفة غضب أمري
...
-
سيارتو يتهم الولايات المتحدة بمحاولة تعريض إمدادات الطاقة في
...
-
خبراء مصريون يقرأون -رسائل صاروخ أوريشنيك-
المزيد.....
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
-
معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو
...
/ محمود الصباغ
المزيد.....
|