|
السيميوطيقا السياسية: التاريخ بوصفه نصا سياسيا (1) (العرب نموذجا)
وديع بكيطة
كاتب وباحث
(Bekkita Ouadie)
الحوار المتمدن-العدد: 8090 - 2024 / 9 / 4 - 00:00
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
مدخل
يمكن تقسيم التاريخ السياسي للبشرية على غرار التقسيم الفلسفي لمراحل التفكير والتطور البشري إلى ثلاث مراحل: سياسة السحر، سياسة الدين، سياسة العلم، وهو ما يوازيه على مستوى المقاربة السيميوطيقية بالإيقونية السحرية والإيقونية الدينية (أو المِثال) والإيقونية العلمية، وهي ثلاثة مفاهيم حاسمة لفهم طبيعة نوع الاستدلال في كل إيقونية وتقصي طبيعة الفكر السياسي المهيمن فيها. المرحلة الأولى، مرحلة السحر: يقوم الشامان باتخاذ السحر كسلطة لسياسة المجتمع البري، بحيث منه تنبع سلطته المباشرة وغير المباشرة في سياسة الصيد والقنص وجمع الثمار والتزاوج ... الخ. أما على المستوى السيميوطيقي، فإن الإيقونية السحرية، هي من يكون لها الكلمة العليا، ويتعلق الإدراك فيها بما هو عياني ومباشر، أي الفهم المباشر للعالم، حيث يغيب التمييز بين الدال والمدلول والشيء، وهو ما عبَّر عنه أفلاطون بالمستوى الأول من المعرفة "المعرفة الحسية" وعبر عنه بيرس بالأولانية... الخ. المرحلة الثانية، مرحلة الدين: يقوم رجل الدين أو الكاهن باتخاذ الدين كسلطة لسياسة مجتمع القبيلة. تستند الأديان في غالبيتها على نص مقدس، تدعي أنه وحي أو بِشارة أو إلهام أو كَشف، وعبر تقنية محاولة تطويع اللغة (أو اللسان) يعطي الزعيم الديني لأتباعه تفسيرا معينا للنص المقدس، يراعي فيه طبعا ودائما مصالحه ومصالح جماعته. أما على المستوى السيميوطيقي، فإن الإيقونية المِثال (أو الدينية)، هي من يكون لها السلطة العليا، ويتعلق الإدراك فيها بإدراك محور الاهتمام سواء كان فكرة مثل "طوطم" أو "نجم" "الرب" أو "الله"... والإيمان بالإيقونية واعتبارها فعل العالم وفاعِله ومفعولا لأجلها، وعليها تدور كل الأحداث. والعلاقة بين الشيء ومعناه الذي تنطوي عليه الإيقونية هي علاقة توقيفية. والمعرفة فيها هي معرفة بالمطلق وصورة عنه. المرحلة الثالثة، مرحلة العِلم: يقوم السياسي باتخاذ العِلم كسلطة لسياسة مجتمع المدينة. ومع تنوع العلوم المرتبطة بالواقع المعيشي يصبح لزاما على السياسي أن يكون مختصا، لأن فن سياسة المدينة هو اختصاص بحد ذاته، وهي مهنة السياسي وحرفته. أما على المستوى السيميوطيقي، فإن الإيقونية العِلمية، هي التي تهيمن، ويتعلق الإدراك فيها بفرضيات تقوم على مفاهيم وتصورات، تنحو دائما إلى اعتبار الرياضيات أرقى أشكال الاستدلال، في الهندسة والعلوم الأخرى... العلاقة بين الشيء ومعناه الذي تنطوي عليه الإيقونية هي علاقة نسبية ومتغيرة، تقوم على المبدأ الثقافي الذي هو نسبي، ينبني على تأويل العالم وترجمته. تندرج السيميوطيقا السياسية ضمن هذه الأخيرة ـ الإيقونية العِلمية ـ؛ وبما أن السياسة هي "علم أو فن تدبير المدينة" "أو فن إدارة الاختلاف"؛ فإن السيميوطيقا السياسية هي مقاربة تهدف إلى دراسة العلامات السياسية (أحداث، شخوص، رموز، شعارات ... الخ) وعلائقيتها، فموضوعها هو السياسة، ومؤولها هو المختص بالسياسة، ومرجعها هو العلوم السياسية. تهدف إلى تتبع حركية العلامات السياسية بين مؤوليها المختلفين، داخل لعبة صراع المصالح والفوائد وتدافع المجتمعات والأمم. كما يهدف السياسي إلى بناء مجتمع متمدن، له غاياته وأهدافه، في ضوء التراكمات السابقة، فهو لا يهدف إلى التحقق من مدى مصداقية تلك المرجعيات المختلفة؛ من تاريخ، اقتصاد، فلسفة، أخلاق... الخ. بقدر ما يهدف إلى خلق تركيبة من هذا كله، من أجل إعطاء رؤية عن المستقبل الذي يقودنا إليه. فهو كالبستاني يعتمد على العلوم الأخرى لبناء أجمل وأفضل حديقة، أي بناء الممكن والأفضل من العوالم الممكنة.
تفكيك الماضي
يتناول الجزء الأول من كتاب "الشّوك المستعرض: الطريق إلى كهف الضبع، الجزء (1) و(2)" أدوات النظام العالمي القائم؛ والذي هدف سلفا إلى تفكيك الهلال الخصيب، وتدجين جزيرة العرب، وعمل على تدوير المشاريع الإمبراطورية: بداية بمشروع روسيا القيصرية وإيران الفارسية الصفوية وتركيا العثمانية الطورانية وصولا إلى توظيف الإرهاب. يعيد المؤلف في هذا الجزء قراءة الوضع السياسي للعرب كعلامة من منظور التاريخ السياسي للمنطقة، ويتتبع سيرورة العلامات الأخرى وتحركاتها، وبخبرة المؤول السياسي يصف طبيعة كل علامة وسماتها والمَعَانِم الدقيقة، التي ترافقها وتصاحبها، والحالات المتغيرة التي يمكن أن تعرفها. كما يحرص على معرفة تأثير قوى العلامات الأخرى على العلامة "العرب"، باعتبارها علامة إيقونية شاملة، ويجب أن تكون كذلك، لا أن تكون مجرد سمة أو صفة لإيقونية شاملة أخرى لها مصالحها بالمنطقة. إن القارئ الحريص على فهم الحقائق وهو يطالع هذا العمل ليجد نفسه أمام باحث يتمتع بالدراية والإلمام بالمواضيع التي يشتغل عليها في بحثه. وبدل أن يتيه الباحث، كما جرت العادة لدى باحثين آخرين، في استدعاء سرديات الآخرين ونقدها، طبقا للمتداول والمرغوب فيه عند القارئ العربي، نراه يبحث في الأسس الخاصة بعلامة العرب، وما يتعلق بها من أساطير وخرافات، والتي تمنعها من التحرك والتفاعل مع باقي العلامات بإيجابية في دائرة الصراع الإيقوني.
يقول الكاتب: "إن الأساطير التي نؤطر بها قضايانا، أشدُّ إمعانا في التضليل من الأساطير التي يؤسسون بها قضاياهم، ومع ذلك نمنح أساطيرنا صفةَ القداسة، رغم أنها ما فتئت تُلقي بنا في متاهات الضياع والتيه والحيرة. هم يعتمدون على ثلاث أساطير وربما على أربع فقط، أما نحن فنعتمد في كل تفصيلة من التفاصيل المتعلقة بواقعنا وبحياتنا وبمستقبلنا وبمصيرنا، على أسطورة قائمة بذاتها، حتى غدت حزمة الأساطير التي نؤسس ونفسّر ونؤصّل بها مشاريعنا وبرامجنا بعدد نجوم السماء". (2023:05).
ينتقد الباحث في هذه العتبة "مقدمة الكتاب" مكونات العلامة الشاملة، التي يقوم عليها العقل السياسي العربي، الذي هو بطبيعته عقل غير علمي، مليء بالأيقونات الوهمية والمؤشرات التي لا تدل على شيء، ولا تؤشر على وجودٍ، سوى السراب، ورموز أكثر ما يقال عنها أنها فارغة دلاليا. لذا ومع هذه العلامة المفروغ من مضمونها وشكلها أيضا، يُعيد الباحث، من خلال تفكيك دقيق لهذه الأساطير، بناء العلاقات طبقا لتصورات جديدة، ويؤسس للأولويات في تصفيف تام مع ما هو ثانوي، يخدم سيرورة التحول نحو فهم مغاير للعلامات الكبرى والصغرى في الآن نفسه. وهو بذلك ينشد في هذا الكتاب بجزئيه، بحسب ما يقول إلى:
"تأسيس للمُكون السياسي الحركي لـ"المشروع النهضوي العربي، في قلب مشروع تغيير العالم لإنقاذ الأرض والإنسان"، وهي الرؤية التي سبق وأن تجسدت فلسفيا في كتابه "خطة الله لإدارة الكون، مشروعنا النهضوي ورسالتنا الحضارية إلى العالم، الفلسفة والتاريخ" (2023:06).
فالباحث يرى أن هذا التأسيس للعلامة الشاملة أو الإيقونية الشاملة، التي أسميتها "علامة العرب"، هو إنقاذ لكوكب الأرض وللإنسان، من هيمنة الإيقونية الشاملة الأخرى، التي أسميها "علامة الرأسمالية"، ومماثلاتها من العلامات ذات الفعل والتأثير المماثل، سواء كانت على رقعة جيو-سياسية، اسمها الصين أو روسيا أو أمريكا الشمالية ...الخ. لأن هذه العلامة الأخيرة لها تأثير سلبي على الإنسان بثقافاته المختلفة، وعلى مصادر عيشه وأسلوب حياته، ومن أجل تدعيم مرجعيتها، استدعت لنفسها مجموعة من المصادر والمراجع شبه العلمية وغير المؤصلة فلسفيا وأخلاقيا، لتصنع من نفسها النمط الوحيد والأوحد من العلامات، مُعلنة لنفسها نهاية السيميوزيس وتوقف التأويل. في ظل هذا الوضع الخانق للتأويل وللسيميوزيس، ارتأى المؤلف في كتابه "خطة الله" إعادة تأويل الماضي بالموازاة مع تحديد مفاهيمي صارم ودقيق، عرفه "مدخل" هذا الكتاب "الشوك المستعرض"، على مدى خمسة عشر صفحة (من الصفحة 05 إلى 15)، من أجل خلق تصور، يمكننا من خلاله فهم ما سيقدم لاحقا كمادة للتساؤل والتحليل والمناقشة، في إطار ما يسمى سيميوطقيا بالحد. بعد أن تجاوز المؤلف عتبة المفاهيم، امتد اشتغاله، بداية من الفصل الأول (ص 16) إلى نهاية الفصل الحادي عشر (ص 176)، إلى تفكيك السرديات المتوارثة والنمطية، والتي حكمت الإيقونية العربية على مدى قرون وعقود، وكان لها فعل ارتكاسي وانهزامي. لذلك هو يؤكد في افتتاحيته على ما يلي بخط عريض:
"إن أيَّ مشاريع للحوارات الدينية أو الفلسفية هي حوارات دعوية لا مكان لها في المشاريع السياسية. أي أن السياسي ليسَ مضطرا لأن يبدأ حواراته بحسم قضايا دينية أو فلسفية، فهذه المسائل تقع حُكما خارج نطاق الحوارات السياسية أصلا". (2023:16).
يفصل الباحث هنا بين طبيعة الاشتغال السياسي وطبيعة الحوارات الأخرى المتقاطعة معه "الحوارات الدينية والفلسفية"، والتي ليست من طبيعة الفعل السياسي إلا باعتبارها علامات وظيفية، يشتغل عليها السياسي في ظل الممكن، من التفاعلات والتجاورات مع العلامات الوظيفية الأخرى، المؤهلة لخلق مجتمع بمخرجات تراعي طبيعة تطور العصر وتقدمه، خاصة على المستوى الإنساني والعِلمي.
تركيب
يستمر الباحث عبر أسطر هذه الفصول بتفكيكه المتواصل للأيقونات الصغرى في الذهنية العربية، وفي الآن نفسه، هو يعمل جاهدا على موضعة "علامة العرب" على رقعة شطرنج السياسة الأممية، التي هي مجال لصراع المصالح والقيم، لأن طبيعة الصراع هو في الأصل صراع علاماتي سيميوطيقي، بين قيم الإنسانية المختلفة، بين قيم الليبرالية الجديدة وقيم العرب، فالعرب من منظروه، ليس مُستهدفينَ لأنهم مسلمين، بل لأنهم عَرب. لذلك فهو يراهن على موقعَة "علامة العرب" عبر هذا المشروع السياسي العربي والإنساني في الآن ذاته، ويأمل: بـ"إرادات يجب أن تملكَ ما يكفي من "النضج المعرفي"، ومن الوعي التاريخي"، ومن "الحكمة الإنسانية"، ومن "الحنكة السياسية"، ومن "الرومانسية الثورية" لجعل مصير الإقليم موسوما ببصمتها هي". (2023:20) في هذا المتقطف يراهن الباحث على هذه المكونات، لأنها على أرض الواقع غائبة، فعلامة العرب لا تمتلك سمة من سمات النضج المعرفي أو الوعي التاريخي أو الحكمة الإنسانية أو الحنكة السياسية، ولا شيئا من الرومانسية الثورية لتجعل من نفسها علامة مؤثرة فاعلة وليس مفعولا بها. لذا فإن هذه الفصول هي إعادة تأويل للماضي وتفكيك لمعيقاته عبر منهج تفكيكي أركيولوجي معرفي. (يتبع ...)
#وديع_بكيطة (هاشتاغ)
Bekkita_Ouadie#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
شارل ساندرس بيرس: عن الشِعْرِ؟
-
التواصل بالماء
-
من هو الفَيلسوف؟
-
التاريخ والذاكرة
-
تنويعات المعنى
-
ثالوث الخَلق المصري
-
من هو العَالِمُ؟
-
العيد في تمبكتو
-
الختان (2)
-
الختان (1)
-
انهيار التعليم
-
الجمعية الدولية للدراسات السيميائية IASS
-
العيد الأبيض
-
النظرية المادية للعقل (بيبليوغرافيا)
-
النظرية المادية للعقل (5)
-
النظرية السيميائية عند لويس خورخي برييتو
-
النظرية المادية للعقل (4)
-
النظرية المادية للعقل (3)
-
النظرية المادية للعقل (2)
-
النظرية المادية للعقل (1)
المزيد.....
-
فوضى في كوريا الجنوبية بعد فرض الأحكام العرفية.. ومراسل CNN
...
-
فرض الأحكام العرفية في كوريا الجنوبية.. من هو يون سوك يول صا
...
-
لقطات مثيرة لاطلاق صاروخ -أونيكس- من ساحل البحر الأبيض المتو
...
-
المينا الهندي: الطائر الرومنسي الشرير، يهدد الجزائر ولبنان و
...
-
الشرطة تشتبك مع المحتجين عقب الإعلان عن فرض الأحكام العرفية
...
-
أمريكا تدعم بحثا يكشف عن ترحيل روسيا للأطفال الأوكرانيين قسر
...
-
-هي الدنيا سايبة-؟.. مسلسل تلفزيوني يتناول قصة نيرة أشرف الت
...
-
رئيس كوريا الجنوبية يفرض الأحكام العرفية: -سأقضي على القوى ا
...
-
يوتيوبر عربي ينهي حياته -شنقا- في الأردن
-
نائب أمين عام الجامعة العربية يلتقي بمسؤولين رفيعي المستوى ف
...
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|