أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - التشكيلة الاجتماعية-الاقتصادية العبودية















المزيد.....



التشكيلة الاجتماعية-الاقتصادية العبودية


مالك ابوعليا
(Malik Abu Alia)


الحوار المتمدن-العدد: 8087 - 2024 / 9 / 1 - 12:34
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


مؤلف المقال: نيكولاي يوسيفوفيتش كونراد*

ترجمة مالك أبوعليا

الملاحظات والتفسير بعد الحروف الأبجدية بين قوسين (أ)، (ب)... هي من عمل المُترجم

إن وجود التشكيلة العبودية، أي المُجتمع الذي كان نشاطه الاقتصادي قائماً على العبودية ومُلكية العبيد، هي حقيقةٌ لا تقبل الجدل في تاريخ البشرية. وقد كَشَفَ لنا المؤرخون جوانب مُختلفة من هذه التشكيلة: تنظيمها الاقتصادي ونظامها الاجتماعي وأشكالها السياسية وقواعدها القانونية وأنظمتها الايديولوجية، ونمط ومُحتوى الثقافة المُرتبطة بها. كما يكشف التاريخ عن عملية ميلادها وتطورها وانحلالها. ويُمكننا، من خلال مُقارنة هذه التشكيلة بسابقتها وما يليها، أن نعي مكانة هذه التشكيلة في التطور العام للانسانية ونُقدر أهميتها من الزوايا الفلسفية والتاريخية. إن العبودية، وهي عمل بعض الناس لدى آخرين مقترناً بمُلكية هؤلاء الأخيرين لأشخاصهم وناتج أعمالهم، هي ظاهرة كانت موجودةً في ظل ظروفٍ تاريخيةٍ مُتنوعة، ناهيك عن الدرجات المُتنوعة لتملّك سيد العبيد لشخص عبيده، والمستويات المُختلفة للأهمية الاجتماعية والاقتصادية لعمل العبيد في البُنى الانتاجية العامة للمُجتمع المعني. إن التشكيلة العبودية، لا تتسم بالعبودية بمعناها الحرفي، بل بالنظام الاجتماعي الذي يُشكّل فيه عمل العبيد أٌسلوب الانتاج الذي يُحدد القاعدة الاقتصادية للحياة، في مرحلةٍ مُعينةٍ من تاريخ شعبٍ ما. فالعبودية، في مصر القديمة، على سبيل المثال، تُميّز طابع النظام الاجتماعي في مصر في ذلك الزمن. ومن ناحيةٍ أُخرى، لم تكن العبودية في حقول المُستوطنين الأوروبيين في أمريكا الشمالية في القرنين السابع عشر والثامن عشر هي أساس النظام الاقتصادي-الاجتماعي الذي قامَ في ذلك الوقت. كانت العبودية هُنا، مُجرَّدَ سمةٍ محلية نشأت في ظل ظروفٍ خاصة من ظروف الاقتصاد الرأسمالي، في بعض الأراضي البعيدة النامية حديثاً، أو المُستعمرات.
إن البُلدان التي وَجَدَ العُلماء النظام العبودي في تاريخها،، هي بُلدان الشرق القديم: مصر وبابل وآشور وفارس، ودولة كريت وميسينيا Mycenae، واليونان القديمة وايطاليا والهند والصين القديمتين. إن هذا التعداد، يُبيّن لنا، أن التشكيلة العبودية كانت حاضرةً في ذلك الزمن الذي نُطلِقُ عليه "العصر القديم"، وهي مُرتبطةٌ بالأشكال الأولى لنشوء الدولة في تاريخ المُجتمع، وأن هذه التشكيلة، نشأت بين تلك الشعوب التي كانت في ذلك الزمن، في طليعة التطور الثقافي التاريخي، وأنها كانت نظاماً عالمياً، أي تشكيلة عالمية احتلَّت موقعاً مُهيمناً. ومن هُنا يُستنتَج أن ظهور التشكيلة العبودية لم يكن حادثاً أو صدفةً تاريخية، بل كان جُزءاً من الانتظام التاريخي العالمي.
ولكن هذا الانتظام، لا ينطبق الا على حدود العملية التاريخية العالمية، وليس على العمليات التي تجري في تاريخ كُل شعبٍ أو بلدٍ بعينه. وبعبارةٍ أُخرى، مرَّت البشرية في تاريخها العام بمرحلة تشكّل المُجتمع العبودي، وكانت هذه المرحلة حتميةً بالنسبة لها. ولكن فقط أجزاءٌ مُنفصلة من البشرية لم تمر بها، ولم تكن عندها ضرورةً تاريخية. في افريقيا وأمريكا الجنوبية المُعاصرة، على سبيل المثال، هُناك شعوبٌ لا زالت تمر في مرحلة التشكيلة الاجتماعية المشاعية. لكن هذا لا يعني أنها لا بُدَّ وأن تنتقل الى التشكيلة العبودية، ثم الاقطاعية، الخ. ففي ظل ظروف التشابك العالمي اليوم، وعالمية النظامين الاجتماعيين الرأسمالي والاشتراكي، تُوجّه الأُمم التي تقدَّمت في التطور الاجتماعي العملية التاريخية ككُل. فإن كُل شعب تخلَّف عن هذا الطريق العام لا بُد أن ينخرط، أو يتم إدراجه في مرحلةٍ من تلك المراحل العالمية. ومن الطبيعي أن تتنوع هذه العملية وتختلف من حيث الدرجة والشدّة والطريق التي يسير عليها حسب الظروف(اشتراكية أم رأسمالية).
لم يكن مُمكناً أن تظهر التشكيلة العبودية، عند شعبٍ ما في ذلك الزمن، الذي كانت فيه الشعوب الأُخرى تعيش في ظلِّ نظامٍ اقطاعي، اللهم اذا كان ذلك الشعب معزولاً تماماً عن الشعوب الأُخرى. وكانت هذه العُزلة، هي التي جَعَلَت بالامكان وجود دولٍ عبودية في أمريكا الوسطى والجنوبية في زمنٍ كانت في شعوب أوروبا وآسيا وشمال افريقيا تعيش مرحلة الاقطاع. ولقد تفككت هذه الدول العبودية في اللحظة التي وَصَلَ فيها المُستعمر الاسباني، والذي كان في مرحلةٍ اقطاعيةٍ منذ أمدٍ بعيد. أخذت الدولة شكلها الكامل في اليابان في القرن السابع. كانت الدولة تقوم على أساسٍ اقطاعي، على الرغم من أن العناصر العبودية كانت موجودةً من قَبل وكان العمل بالسُخرة يحتل مكانةً هامةً في حياة المُجتمع الاقتصادية. كانت الصين في القرن السابع، والتي كانت على مُستوى مُرتفع من التطور الاقطاعي، تحتل مكانةً رائدةً في شرق آسيا. بالنسبة للشعب الياباني المُرتبط بحياةٍ تاريخيةٍ مُشتركةٍ مع بُلدانٍ أُخرى في هذا القسم من آسيا، كان من المُستحيل ببساطة الانتقال الى التشكيلة العبودية في ذلك الوقت. نظراً لأن القسم الرائد من أوروبا كان الدولة البيزنطية الاقطاعية، فكان سيكون قيام روسيا العبودية في القرن التاسع مُفارقةً حقيقية.
باختصار، في ظل ظروف المُجتمع الدولي، إما أن تفقد الشعوب المُتخلفة مكانها المُستقل في الحياة التاريخية العالمية، بل وقد تختفي تماماً، وإما أن تُحاول الوصول الى المُستوى المُتقدم الذي بلغته البُلدان الرئدة داخل هذا المُجتمع التاريخي. كان هذا "المُجتمع التاريخي" في السابق اقليمياً. أما اليوم، فهو عصرٌ عالمي. فالبُلدان الأكثر تخلفاً، تُحاول، كما هو الحال، "اللحاق" بالبُلدان المُتقدمة.لا يكون هذا نقلاً ميكانيكياً للأشكال الاجتماعية في البُلدان المُتقدمة الى البُلدان المُتأخرة. إن قيام دولة على أساس اقطاعي، وليس على أساس عبودي (أي تسريع العملية الاجتماعية وفقاً للمعاير التاريخية السوسيولوجية) كان نتيجةً إما للتطور الكثيف للعناصر الاقطاعية، والتي نشأت الى حدٍّ ما في تاريخ الشعب المعني، أو توجيهاً لتطور تلك العناصر العبودية نحو التطور الاقطاعي. على سبيل المثال: كان الاستغلال الاقطاعي في اليابان، التي شَرَعَت في السير على الطريق الاقطاعي في القرن السابع، يعتمد على نظام "الواجبات الثلاث": ضريبة الأرض وضريبة الخلوّ (على الصيادين والحرفيين) وخدمات العمَل، وهذه الأخيرة تعني الالتزام بعملٍ لعددٍ مُحددٍ من الأيام سنوياً في مشاريع حكومية. وليس من الصعب أن نرى في هذه الواجبات الثلاث، ظواهر مُعدّلة كانت تُميِّز العلاقات الأبوية-القبلية، عندما كان أفراد القبيلة يُقدمون لشيوخهم وزعمائهم جُزءاً من انتاج حقولهم وعملهم الحِرَفي (خاصة الصيد والنسيج)، وعندما كانو ينخرطون في العمل للصالح العام للقبيلة.
ومن هُنا، فإن دراسة التشكيلة العبودية لا ينبغي أن تتم الا على أُسس التاريخ الملموس للدُول العبودية. وهي الدول التي عددناها آنفاً في العصور القديمة. وبالنسبة للتاريخ بحد ذاته، فمن الهام بنفس القدر، دراسة نظام العبودية في مصر القديمة واليونان القديمة على سبيل المثال. لكن من أجل تحديد المُحتوى الاجتماعي التاريخي للتشكيلة العبودية، ومكانها ودورها في العملية التاريخية العامة، ومن أجل ابراز معناها الفلسفي والتاريخي، يتعيَّن علينا دراسة تلك الدول العبودية القديمة حيث تطورت هذه التشكيلة الى أقصى مدىً لها، والتي نعرف المراحل التي سبقتها والمرحلة اللاحقة لها عند الشعب المعني.
ولهذا السبب، ينبغي لنا أن نولي أهميةً خاصة لتاريخ تلك الشعوب التي عاشت عصراً كاملاً من التشكيلة المشاعية البدائية، ثم انتقلت الى عصرٍ التشكيلة العبودية، ثم شَرَعَت في طريق التطور الاقطاعي. بعبارةٍ أُخرى، تلك الشعوب التي مرّت في مجرى التاريخ دون أي تجاوزٍ للمراحل. هذه الشعوب كانت اليونانيين والايطاليين والفُرس والهنود والصينيين. لقد أقامت شعوب الشرق دولاً عبودية قبل الشعوب الأُخرى، ولكن هذه الدول باستثناء فارس، اختَفَت في العصور القديمة، واختَلَطَ تاريخها بتاريخ الشعوب الأُخرى. إن ما خلقته هذه الشعوب القديمة لم يختفِ دون أن يترك أثراً. لقد كانت اليونان القديمة، ومن خلالها روما القديمة، ورثةً لحضاراتٍ أقدم منها. ولكن، بما أن هذه الحضارات، الى جانب الدول التي أقامتها، لم تستمر، فإن التشكيلة العبودية لا تتمثل بأكبر الكمال الا في تاريخ هذه الشعوب الخمسة. ولهذا السبب تنبغي دراسة هذه التشكيلة من الناحية التاريخية والفلسفية عبر البيانات المُستمدّة من تاريخ هذه الشعوب.
ولكن من المُمكن أن تُواجهنا صعوبة في مسألة البيانات. من أجل وضع نموذجٍ تاريخيٍّ عالمي للتشكيلة العبودية، يجب أن نأخذ في الاعتبار التمظهرات والاحداث التي نشأت وتطورت بشكلٍ مُستقلٍّ عن بعضها البعض. ونحن نعتبر انها تشكيلة عبودية، هي تلك التي نشأت في منطقتين من العالَم القديم، بعيدتين جُغرافياً عن بعضهما ولا يربطهما أي مُجتمعٍ مُباشرٍ. ومن الحالات من هذا القبيل: التشكيلة العبودية في الصين، والتشكيلة العبودية في اليونان وايطاليا. لا شك أنه كان هناك سمات تُميّز نظام العبودية في كُلٍّ من هاتين المنطقتين. على سبيل المثال، كان نطاق ومُستوى استغلال العبيد في الصين أقل مما كان عليه في اليونان وروما، ولكن هذا الاختلاف لم يُغيّر جوهر علاقات الانتاج نفسها.
إن أي حُكمٍ على التشكيلة العبودية لا بُدّ وأن يستلزم استعراضاً لتاريخها. وهذا الاستعراض التاريخي، لا بُدَّ وأن يكشف، بالدرجة الأولى أن التاريخ عبارة عن حركة، وأن هذه الحركة ذات مراحل مُحددة. وهُناك ثلاث مراحل مرت فيها التشكيلة العبودية: الأولى هي فترة ظهور النظام العبودي، والثاني هي فترة تجذّره وتطوره، والثالثة، هي الفترة التي بلغ فيها أوجه وبدأ ينحلّ في ذات الوقت. يُمكن لسمة المرحلة الأولى أن تقوم على أساس المواد المُستمدة من تاريخ الصين أيام مملكة تشو Chou، والتي كانت عبارةً عن مجموعة من الممالك شبه الأبوية وشبه العبودية (من القرن الحادي عشر الى القرن الثامن قبل الميلاد). وتُميّز المرحلة الأولى بيانات الدُول اليونانية القديمة "العصر الهوميروسي" (من القرن الثامن وحتى السادس قبل الميلاد)، وتاريخ ايطاليا، أي الدول القديمة في شبه جزيرة الأبيناينية Apennine Peninsula (القرن الثامن الى القرن السادس ق.م). ويُمكن أن تقوم المرحلة الثانية على أساس مواد تاريخ الصين من عصر ليه كو lieh-kuo (دولة المدينة)، أي الممالك العبودية المُسماة تشون تشيو Ch’un-ch’iu وتشان كو Chan-kuo (القرن السابع الى القرن الثالث ق.م). أما اليونان، في عصر دولة المُدن في فترة ازدهارها (القرن السادس الى القرن الثالث ق.م)، وايطاليا، فترة الجمهورية الرومانية (القرن الخامس وحتى القرن الثاني ق.م). ويُمكن أن تقوم المرحلة الثالثة على أساس مواد تاريخ الصين في فترة امبراطوريتي الهان في الشرق (القرن الثاني ق.م الى القرن الثالث الميلادي) والرومانية في الغرب (القرن الأول ق.م الى القرن الخامس الميلادي).
المرحلة الأولى هي فترة ظهور التشكيلة العبودية،وهي تتميّز بأربعة عمليات: الأولى هي التحوّل التدريجي على نحوٍ مُتزايد الى عمل العبيد، والذي كان موجوداً حتى ذلك الحين على مُستوى العبودية المنزلية، باتجاه جعله وسيلةً لتكثيف العمل الزراعي، وجُزئياً الحِرَفي. صار هذا التكثيف ضرورياً في ضوء تزايد المتطلبات الكمية، أي تزايد أعداد اعضاء العائلة والعشيرة، والمتطلبات النوعية الناجمة عن تزايد الحاجات المادية. العملية الثانية، هي تطوّر الانتاج من خلال الاستخدام الواسع لعمل العبيد، وبالتالي ظهور إمكانية مُراكمة السلع وتملّكها، والذي كان بمثابة الأساس لظهور المُلكية الخاصة. والعملية الثالثة، هي ظهور التمايز في المُلكية داخل المُجتمع: بعض الأعضاء الذين ورثوا وظائف الواجبات العامة، يحصلون على فرصة الاستيلاء على السِلَع المُنتَجة، والاستحواذ على العبيد ثم على الأرض. والعملية الرابعة، هي تبلور الطبقات الأولى داخل المُجتمع: العبيد وأسياد العبيد، المُتناقضة في علاقتها بالانتاج، وفي الوقت نفسه، ظهور علاقات تناحرية بين كبار ملاكي العبيد والأرض من ناحبة، والمُنتجين الصغار، من ناحيةٍ أُخرى. لقد تطورت هذه العملية في جوٍّ من التناقض بين عمل العبيد وعمل المُنتجين الصغار الأحرار، وبين الأخيرين وكبار ملاك الأراضي والعبيد، وبين الأخيرين والنبالة القَبَلية من عصر المشاعية البدائية. وقد أدى الصراع الحاصل بسبب هذه التناقضات الى انحلال مؤسسات النظام القَبَلي وتحولها الى هيئات ادارية، مما ولَّدَ الدولة كناظم للعلاقات بين الطبقات المُتصارعة، لصالح الطبقة المُهيمنة. والسمة التي تُشير الى هذا الوضع، في تاريخ الصين، الاصلاحات التي تمت في عهد مملكة تشي Ch i، أو Qi Kingdom في القرن السابع قبل الميلاد(أ)، وفي دولة لو Lù (622 ق.م) وممالك شين Cheng kingdoms في القرن الخامس قبل الميلاد(ب).وفي تاريخ اليونان اصلاحات صولون Solon (في القرن السادس قبل الميلاد 594-572 ق.م) واصلاحات كليثسنيس Cleisthenes (في القرن السادس ق.م)، وفي تاريخ ايطاليا اصلاحات سيرفيوس توليوس Servius Tullius (في القرن السادس ق.م).
المرحلة الثانية، هي الفترة التي ازدَهَرَ فيها شكل الدولة المُسمى البولس (دولة المدينة) في اليونان والسيفيتا civitas في ايطاليا، وكو kuo في الصين(جـ). إن هذه الأسماء تُشير بشكلٍ عام الى ذات الشيء: الدولة ذات المركز الواحد التي تُسيطر على كامل الأراضي الخاضعة، ودوُل المُدن هذه، كانت كياناتٍ سياسية واقتصادية بالطبع. وبهذا، كانت دولة المُدُن هي أساس المُلكية على النطاق الذي اتخذته في ذلك الوقت: كانت هذه المُلكية، تشمل: أولاً العبيد، وثانياً، الأرض. وكان الشكل السائد لتملّك العبيد خاصاً: ظَهَرَت المُلكية العامة للعبيد (عبيد الدولة) في مرحلةٍ لاحقةٍ من التشكيلة العبودية، وحتى في هذا الوقت كان هذا الشكل مُرتبطاً بفئات العبيد غير المُنتجة: الموظفين المُساعدين في أجهزة الدولة(د). وكان شكل مُلكية الأرض مُزدوجاً: مُلكية المشاعات، والمُلكية الخاصة، والأخير يحدث بتوسط الأول: فلكي يتملّك المرء الأرض بشكلٍ خاص، كان عليه أن ينتمي الى البولِس اليوناني او المونيسيبيا الرومانية، الخ.
ومن الجدير بالذكر، أن العمل العبودي في ذلك الوقت لم يكن له في الاقتصاد تلك الأهمية التي كانت له في وقتٍ لاحق. ويُمكن أن نُطبّق على هذه المرحلة، قول ماركس الشهير بأن "الزراعة الفلاحية على نطاقٍ صغير، ومُزاولة الحِرَف اليدوية المُستقلة" كان الأساس الاقتصادي "للمُجتمعات الكلاسيكية" بعد اختفاء الشكل المشاعي للمُلكية و"قبل أن تُسيطر العبودية على الانتاج بشكلٍ كامل". وينطبق هذا على اليونان وروما في العصر الكلاسيكي، ولكنه ينطبق أيضاً على المرحلة الثانية من مراحل التشكيلة العبودية في الصين: وهنا يُمكن أن نُطلِقَ على عصر ليه كو Lieh kuo (دول المُدن)، أي الممالك العبودية المُسماة تشون تشيو Ch’un-ch’iu وتشان كو Chan-kuo (القرن السابع الى القرن الثالث ق.م) بأنه عصر كلاسيكي.
إن العامِل الرئيسي الذي أدى الى الانتقال الى المرحلة الثالثة، وهي مرحلة الامبراطوريات العبودية الكبيرة، كان أزمة دولة المدينة في العصر الكلاسيكي. لقد تطلبت القوى الانتاجية المُتطورة، وتحسّن تكنيك الانتاج وامكاناتها الكمية المُتزايدة، نطاقاً انتاجياً واستهلاكياً مُختلفا. إن المجال المُغلق لدُول المدينة، المعزولة سياسياً واقتصادياً الى حدٍّ ما، لم يفتح أُفق للتطور. وظَهَرَ بديل: إما الابقاء على العُزلة، ومن ثم الركود، وهذا يعني أيضاً الانحلال، وإما الخروج من العُزلة، أي الخروج من حدود دولة المدينة وبالتالي الحصول على إمكانية التطور. كان هذا المُتطلّب الاقتصادي هو الذي يُفسّر الميل الى نشوء كيانات اقتصادية وسياسية أكبر وأوسع نطاقاً، وهو الميل الذي نشأ حقاً في نهاية العصر الكلاسيكي، إما في هيئة تحالفات، مثل إتحاد الآخايين Achaean League في القرن الثالث قبل الميلاد (280 ق.م)، والاتحاد الأثيني الأول Delian League (478 ق.م)، واتحاد كورنث (338-337 ق.م)، أو في هيئة اتحاد دول مُدن، مثلما كان الأمر في ايطاليا تحت سيطرة روما في القرن الرابع ق.م، أو في هيئة ابتلاع بعض الدول من قِبَل دولٍ أقوى، كما كان الحال في الصين، حيث نشأ هُناك منذ منتصف القرن الرابع وحتى منتصف القرن الثالث أربع دول قوية: دولة تشو Chu ودولة هان Han ودولة تشي state of Qi ودولة تشين state of Qin، حلَّت محل الدول الصغيرة نسبياً.
يُمكن تأريخ عملية التكامل السياسي والاقتصادي هذه، على النحو التالي:
في جزءٍ من العالم القديم، تشكّلَ ما يُسمى بالدول الهيلنستية في القرن الثالث ق.م، وخاصةً تلك الدول الكُبرى مثل مصر وسوريا ومقدونيا، والتي تقاسمت السيطرة على جميع أنحاء شرق البحر الأبيض المتوسط، وتشكلَّت كذلك الجمهورية الرومانية في القرن الثالث ق.م، ليس فقط كدولة ايطالية كبيرة، ولكن-بعد الحرب البونية الثانية-كدولةٍ مُهيمنةٍ في جميع أنحاء منطقة غرب البحر الأبيض المتوسط. وفي جُزءٍ آخر من العالَم، قامت امبراطورية واحدة كبيرة في الصين، في نهاية القرن الثالث ق.م، والتي حكمها في البداية أباطرة من سلالة تشين Chin لمدة عقدين من الزمن، ثم حكمها سلالة هان. فَرَضَت هذه الامبراطورية هيمنتها على منطقة هائلة تمتد من بُحيرة بايكال في الشمال حتى هضبة التبت في الجنوب، ومن المُحيط الهادي في الشرق، الى تركستان الغربية في الغرب. وفي القرن الأول ق.م، أضحَت الامبراطورية الرومانية كبيرة جداً بنفس القدَر في النصف الآخر من العالَم، وقد ضمَّت تحت سُلطتها منطقة البحر الأبيض المتوسط بأكمها بشقيها الشرقي والغربي (وهذا الشق الأخير كان يتضمَّن الأراضي المُجاورة في جنوب وغرب أوروبا).
لقد بَلَغَت التشكيلة العبودية ذروتها في حدود هذه الامبراطوريات العالمية الكبيرة. وكان جوهر هذه التشكيلة هي تحوّل عمل العبيد الى العامِل الرئيسي في الانتاج. وقد لَعِبَ العمل العبودي الآن دوراً لم يكن يلعبه في عصر دولة المُدُن، أي في المرحلة الثانية من هذه التشكيلة. فقد تم استخدام عمالة العببد على نطاقٍ واسع في فروعٍ مُختلفة من الزراعة، مما أدى الى تقويض مواقع المُنتجين الصغار الأحرار. ولقد اقترَنَت هذه العملية بنمو مُلكية الأراضي الكبيرة القائمة على المُلكية الخاصة للأرض (اللاتيفونديا latifundia في روما والصين). إن ترسّخ مواقع امبراطورية تشين Chin في الصين، يُظهر مدى أهمية نشوء المُلكية الخاصة في هذا المجال: فقد مكّنَ هذا الترسُّخ الامبراطورية في نهاية القرن الثالث ق.م من توحيد البلاد بأكملها تحت سيطرتها. وفي القرن الرابع ق.م، أُتيحَ المجال لبيع الأراضي ورهنها في مملكة تشين، وأُلغِيَت القيود المفروضة على حجم حيازات الأراضي، وهذا كان بمثابة ضربة قاصمة للمُلكية المشاعية للأراضي، الأمر الذي قوّضَ وزنها في اقتصاد تشين.
إن نمو اللاتيفونديا القائمة على عمل العبيد، هي ظاهرة تُميّز الامبراطوريات العبودية، سواءاً في الشرق أو الغرب. وقد صاحَبَ ذلك بطبيعة الحال، زيادةً في أعداد العبيد، الأمر الذي أدّى بدوره الى التوسّع في استخدام العبيد في الانتاج الصناعي والحِرَفي أيضاً. وقد نَتَجَ هذا عن الطَلَب المُتزايد على السِلَع الصناعية من جانب سكان المُدن العديدة المُتقدمة ثقافياً والتي كانت تتسع بشكلٍ مُطردٍ في الحجم والعدد. وكان هُناك عاملٌ آخر، وهو التبادل المُتزايد بين المناطق التي كانت معزولةً في السابق، والتي صارت الآن، مُوحدةً في دولةٍ واحدة (سواءاً الأراضي الأوروبية-الافريقية-الآسيوية في عصر الدُول الهيلنستية، ثم لاحقاً في عهد الامبراطورية الرومانية، وكذلك الأجزاء الشرقية والوُسطى من آسيا الخاضعة لامبراطورية هان)، وقد اتخَذَ هذا التبادل في المقام الأول، شكل التجارة. وكانت السِلَع الصناعية هي موضوع التبادلات التجارية: ففي ذلك الوقت، كان هُناك طلب دولي عليها، ضمن الحدود الاقليمية لكل امبراطورية، بالاضافة الى ما بين الامبراطوريات نفسها، ويكفي أن نتذكر طريق الحرير من الصين الى المقاطعات الشرقية للامبراطورية الرومانية.
لقد حفّزَت التجارة المُتنامية انتاج الحِرَف اليدوية، مما تطلّبَ تحسين التكنيكات وزيادة انتاجية العمل.
إن مجموع هذه الظروف، لا يُمكنها أن تنشأ الا في المدينة، ولهذا أصبَحَت المدينة التجارية والصناعية، المقر الرئيسي للحضارة. ومن ناحيةٍ أُخرى، كان يُمكن للزراعة أن تظل على مستوى تكنيكي غير مُتقدم كثيراً عن المعايير القديمة: فقد تحقق التوسيع الضروري للمنتوج بشكلٍ أساسي من خلال زيادة أعداد قوة العمل، أي عمل العبيد. لهذا السبب، تُتعتَبَر هذه المرحلة المرحلة من مراحل التشكيلة العبودية، هي مرحلة الحضارة المدينية. بطبيعة الحال، كان التطور في هذه المرحلة غير متكافئٍ على نطاقٍ تاريخيٍّ عالمي. فقد تألّقَت الحضارة المدينية في العصور القديمة بكُل روعتها في مركز الحياة الثقافية الانسانية، أي بُلدان شرق البحر الأبيض المُتوسط، التي تحوّلَت في عصر الامبراطوريات، الى مُقاطعاتٍ شرقية تابعة لروما. يكفي أن نتذكر، أن الاسكندرية وبرغاموم Pergamum (مدينة يونانية) وأنطاكيا Antioch وأثينا وجزيرة رودِس Rhodes كانت تقع في هذه المنطقة. ولم يكن هُناك أي مكان يُشبه هذه المراكز الثقافية والتعليمية المدينية في أيٍّ من المناطق الغربية من روما أو في امبراطورية هان. ولكن هُناك أيضاً، أي في المناطق الغربية من روما وامبراطورية الهان، نشأت مراكز مدينية: في ايطاليا سرقوسة Syracuse في الفترة السابقة ولاحقاً جمهورية روما، وكذلك مدينتي تشانغان Chang an ولويانغ Loyang مدينتين كبيرتين في امبراطورية الهان. وفي الفترة الأخيرة من هذه الامبراطوريات، صارت المُدُن التي نشأت على أطرافها، وخاصةً في المُقاطعات الرومانية الغربية في بلاد الغال واسبانيا، مراكزاً للحضارة.
لقد شَهِدَت المرحلة الثالثة من التشكيلة العبودية عدداً من التطورات في أكبر مركزين تاريخيين عالميين. أول تلك التطورات، هو فُقدان العمل العبودي لأهميته السابقة، أي، لنَقُل، في شكله "الآلي". فلم يَعُد هذا العمل ضامناً للتطور اللاحق للاقتصاد، بل وحتى لم يكن قادراً أن يُحافظ على مُتطلباته الرئيسية. ومن أجل رفع الانتاجية، ليس فقط في الحِرَف اليدوية، بل وفي الزراعة أيضاً، لم يكن المُجتمع بحاجةٍ الى آلةٍ حيّة، بل الى فردٍ قادرٍ على تنظيم عمله. وعلى ضوء ذلك، ظَهَرَت بين العبيد شريحة مُثقفة ومُتطورة فكرياً. ولم تكن هذه الشريحة أدنى شأناً من العاملين من بين السُكّان الأحرار، وخاصةً المُزارعين. وبما أن وضع العبيد لم يتغيّر، فقد تناقَضَت أهمية ودور عمل العبيد في الانتاج بشكلٍ صارخٍ مع وضع العبيد في المُجتمع. وأصبَحَت مُساواة العبيد بالعاملين الأحرار، في مجال النشاط الانتاجي، ضرورةً اقتصاديةً مُلحّة. وكان هذا هو أول أعراض أزمة التشكيلة الاجتماعية-الاقتصادية العبودية. ولقد تجلَّت هذه الأزمة أيضاً في ازدياد تفاوت المُلكية. ومن سمات هذه الأزمة أيضاً وجود ما يُسمّى بـ"البروليتاريين" في المُجتمع المدني الروماني، أي بين السُكّان الأحرار، والذي صارَ ملحوظاً في وقتٍ مُبكرٍ من اصلاحات سيرفيوس توليوس Servius Tullius. كان "البروليتاريون" أُناساً لا يملكون شيئاً سوى ذُريتهم. وهكذا، حتى بداية المرحلة الثانية من التشكيلة العبودية، أصبحَ إفقار بعض قطاعات السُكّان الأحرار واضحاً. ومع تطور الاقتصاد العبودي، كان خطر الافقار الشديد (خطر التحول الى عبد) يلوح في أُفُق قسمٍ كبيرٍ من السكان الأحرار الذين يعملون في الحِرَف، وخاصةً الزراعة، لأن انتاج الفلاحين الأحرار الصغير، كانت تُقوّضه مزراع ملّاكي العبيد الكُبرى، بالاضافة الى الفِلَل العبودية المتوسطة، والذي كان الشكل الأكثر انتشاراً للانتاج الزراعي. ولما كان المُنتجون الأحرار يُشكلون أغلبية السُكّان، فإن وضعهم الاقتصادي جَعَلَ موقعهم يقف على نقيضٍ مع هذا النظام، الذي لم يضمن لهم الحد الأدنى من سُبُل العيش.
وبالتالي، تطورت الأزمة الاقتصادية الى أزمة اجتماعية، وأدَّت في نهاية المطاف الى تفكك النظام العبودي وانهياره. فقد استنفدت هذه التشكيلة-التي خَلَقَت ذات يوم الظروف اللازمة للتطور الاقتصادي-الاجتماعي والثقافي الانساني الهائل- نقول، استنفدت امكاناتهاا وتحوَّلت الى عقبة رئيسية أمام التقدم اللاحق.
يزعم بعض المؤرخين أن العبيد، كانوا القوة الرئيسية التي أطاحت بالنظام العبودي. بل أن هُناك تعبيراً يتحدث حول "ثورة العبيد". ويتضح لنا أن مثل هذه الادعاءات لا تتفق مع الواقع ولا تتفق مع العملية التاريخية الملموسة التي أدَّت الى حلول التشكيلة الاقطاعية محل التشكيلة العبودية. إن اندلاع النضال القوي من جانب العبيد هو بالطبع حقيقةٌ لا جِدال فيها. وفي بعض الأحيان، تحوَّلَت هذه التمردات الصغيرة الى ثورات مُنتظمة، كما حَدَثَ مع تحركات العبيد بقيادة سبارتاكوس في روما. ولكن هذه التمردات لم يكن من المُمكن أن تصير ذات تأثيرٍ خطير الا لو أنها اندمجت مع نضال السكان الأحرار العاملين. وكان هؤلاء الفلاحين والحرفيون الأحرار، أي الجُزء الأعظم من السكان، الذين تعرّضَ وضعهم الاقتصادي للخطر، هُم القوة الرئيسية التي وَضَعَت حدّاً للنظام العبودي(هـ).
إن المُقارنة بين ما كان قائماً في ظل العبودية، وما نشأ في ظل الاقطاعية التي حلَّت محلها، تُبرِزُ جوهر عملية إعادة البناء الهائلة لكافة أشكال الحياة الاجتماعية التي حَدَثَت في ذلك الزمن. لقد أدّى فُقدان العمل العبودي لأهميته الاقتصادية الرئيسية الى تلاشي العبيد كطبقة: في نهاية المطاف، اندَمَجَ العبيد مع جماهير صغار المُنتجين الأحرار. لقد أدّى الانهيار الاقتصادي للمزارع الكبيرة القديمة والمُنشآت الصناعية القائمة على العمالة العبودية الى تعزيز الأهمية الاجتماعية لعَمَل المُنتجين الصغار، وزوال خطر الافقار الشديد (خطر التحوّل الى عبد) الذي كان يلوح في الأُفق باستمرار، ومكَّنَهم من توسيع نطاق مُبادراتهم الاقتصادية. ولكن لم يَحِن زمن العمل الحُر بعد. فلم يكن من المُمكن لحياة المُجتمع الاقتصادية أن تتطور، الا بقيام الطبقة الحاكمة، أي اللوردات الاقطاعيين، بتظيم النشاط الاقتصادي للسكان العاملين لصالحها. ولَقَد مورِسَ هذا التنظيم بأساليب الاكراه، وبما أن الوقت لم يَحِن بعد لكي يتم فيه هذا الاكراه بوسائل اقتصادية، فقد تمّ بالاكراه الذي كانت قُوة السلاح وقوة القانون أدواته الرئيسية. وكان المُنتجون الصغار، أي العاملين، مُلزمين بانتاج السِلَع وتسليم جُزءٍ من الناتج الى اولئك الذين يُديرون الدولة، وكانوا مُجبرين على التنازل عن هذا الجُزء من الناتج بالقُوّة.
وبالتالي، فإن تحرّك العبيد لم يكن علامةً على انهيار النظام العبودي والانتقال منه الى الاقطاع، بل كان تحرّك المُنتجين الأحرار في البلاد العبودية، هو تحرّك مُقاوم للقمع الجديد المفروض عليهم. لقد حَدَثَ مثل هذا التحرك في الصين عند تقاطع الفترتين العبودية والاقطاعية. ونُشير هُنا الى ثورة العصائب الصفراء the Yellow Turban rebellion التي اندلَعَت في نهاية القرن الثاني الميلادي. وقد أدّى القَمع الذي مارسه جنرالات امبراطورية الهان ضد الثورة، وخاصةً الجنرال تساو تساو Ts ao Ts ao الذي كان الحاكم الأعلى الفعلي، الى إرساء أشكال جديدة من الاستغلال. وكان هذا يعني، إقامة مؤسسات قانونية وسياسية جديدة لدعم النظام الاقتصادي الاقطاعي الجديد. وفي تاريخ روما، كانت مثل هذه التحركات، هي الثورات التي اندلعت في القرن الثالث في أجزاء مُختلفة من الامبراطورية، وخاصةً في المُقاطعات الافريقية وبلاد الغال(و). كان القمع الوحشي الذي قامَ به جنرالات الامبراطورية الرومانية لهذه الانتفاضات، في فترة الامبراطور ديوكليتيانوس Diocletianus واصلاحاته اللاحقة، أي التدابير القانونية التي غيَّرَت من وضع الفلاحين، واقترنت باعادة بناء التنظيم السياسي والعسكري، بمثابة البداية للانتقال من العبودية الى الاقطاع في هذه المنطقة من العالم القديم.
هذه هي العملية التاريخية التي تطوّرَت فيها التشكيلة العبودية، كما يتبيّن من مركزين تاريخين مُستقلين نسبياً عن بعضهما البعض.
ما هو المعنى التاريخي لهذه التشكيلة؟ انها عظيمة جداً، ومُعقدة جداً.
تكشف التشكيلة العبودية، قبل كُل شيء، عن عملية ولادة المُجتمع الطبقي. لقد كان التاريخ الانساني اللاحق، حتى العقود الأخيرة، تاريخ مُجتمعٍ طبقي. وحتى في عصرنا هذا، لا يزال هذا المُجتمع قائماً، رُغم أنه لم يعد الشكل الاقتصادي الاجتماعي الوحيد(و).
ان التشكيلة العبودية تُثبت أن نشوء الطبقات يرتبط ارتباطاً وثيقاً بنظام الانتاج وبعلاقات انتاجية مُعينة. فقد نشأت الطبقات الأولى، العبيد وملاكي العبيد، على أساس الاستغلال، أي استغلال عمل بعض الناس من قِبَل أُناسٍ آخرين. كان هذا الاستغلال، في التشكيلة العبودية، ينطوي على التعامل مع العامل كأداة عمل حيّة. ولهذا السبب، كان يظهر تناحر العلاقات بين المُستَغَلين والمُستَغِلّين الى أقصى الحدود، بحيث لم يظهر بهذه الحدة بعد ذلك. في ضوء ذلك، من الهام دراسة التطور اللاحق ابتداءاً من نُقطة الانطلاق هذه.
تُظهِر لنا التشكيلة العبودية أيضاً كيف نشأت طبقات مُختلفة بين السكان. ويتجلّى هذا بوضوح شديد في الاطروحة الصينية "المِهَن الأربعة" The four occupations والتي استخدمها الكونفوشيون والحقوقيون في الصين القديمة بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد، في الوقت الذي تطوّرَت فيها المرحلة الثانية من التشكيلة العبودية في الصين الى أقصى حد. هذه الأُطروحة تُسمّى أربعة أنواع من الناس: المُحاربون والمسؤولون الحكوميون، الفلاحون، والحرفيون، والتُجّار. ومنذ ذلك الوقت، نُصادف مثل هذه المجموعات في كل تاريخ البشرية اللاحق. ومن الطبيعي أن مكانتها الاقتصادية وعلاقتها بالانتاج تغيّرَت تبعاً للتغير في التشكيلة.
أن التشكيلة العبودية تكشف عن عملية تشكّل الدولة باعتبارها تنظيماً سياسياً نشأ في المُجتمع وصاحبها تباين في المُلكية وتفاوتاً اجتماعياً. وتم التعبير عن هذا التفاوت، على الصعيد السياسي، في انقسام المُجتمع الى حُكّام ومحكومين، ولكي يحكموا، كان هُناك حاجة الى تنظيم سياسي: الدولة.
لقد ساهَمَت التشكيلة العبودية أيضاً في تطوير الأشكال الأساسية الأولى لسُلطة الدولة. ولقد طَرَحَ المؤرخ اليوناني بوليبيوس Polybius (210-122 ق.م) تعريفاً واضحاً ودقيقاً لهذه الأشكال. وعلى أساس الخبرة التاريخية التي يحوزها شعبه، يقول بوليبيوس أن هُناك ثلاث أشكال للُحكم: المملكة، وهي عندما يكون هُناك حاكمٌ واحد، والأرستقراطية، عندما يحكم القِلّة، والديمقراطية، عندم يحكم الكثيرون. ولكه سارَع على الفور الى الاشارة الى إمكانية نفي هذه الأشكال لذاتها وانحلالها. يقول بوليبيوس، في البداية تكون السُلطة المَلَكية مُفيدة للشعب، لأن الشعب يختار الملك وهو الوحيد الذي يتمتع بالسُلطة وهو الأكثر حكمةً بين الجميع. ثُم تتحول هذه السُلطة في نهاية المطاف الى مَلَكية تعسفية، أي سُلطة مُطلقة والتي عادةً ما تتحول الى شرٍّ اجتماعي. وفي هذه الحالة، يُطيح الشعب، بالملك الذي فوضوه ليحكمهم ذات يوم. وخوفاً من ترك السُلطة في يد رجلٍ واحد، يُفوضها الى عددٍ قليلٍ من الأشخاص. وهذا هو أصل الارستقراطية، أي حُكم النُخبة. ولكن الأرستقراطية تتحوّل بعد ذلك أيضاً الى حُكٍم الاوليغارشية التي تسعى الى تحقيق مصالحها الخاصة، وفي هذه الحالة، يُطيع الشعب بها أيضاً. وخشية أن تُترَكَ السُلطة في أيدي أقلية من الناس، يفوضها الشعب الى كثيرين، أي الى الشعب بأكمله من حيث المبدأ، وهذا الشكل من الحُكم يُسمى الديموقراطية. ولكن هُنا أيضاً، لا يزال الخطر قائماً: يؤدي وُجود السُلطة في يد الجميع الى حُكم الرُعاع، الذين يُطابقون مصالحهم بمصالح المُجتمع والدولة بأسرها. ولكن ما الذي يحدث بعد ذلك؟ هل يعود الشعب الى السُلطة المَلَكية، وهكذا دواليك؟ عادةً ما يتعامل المؤرخون مع مفهوم بوليبيوس هذا، باعتباره تجسيداً لفكرة الدورة التاريخية. ومع ذلك، من الأصح أن نعتبر أن تصور بوليبيوس ينطلق من فكرة أن كُل شكل من تلك الأشكال، يحتوي في داخله على خطر التحوّل من حُكمٍ معقول، الى حُكمٍ ضار. لذلك يحتاج المُجتمع الى شكلٍ من أشكال الحُكم يجمع بين السمات الايجابية لكُلٍّ من هذه الأشكال الثلاثة. رأى بوليبيوس أن هذا التوليف تجسَّدَ في الجمهورية الرومانية. فحُكم الرجل الواحد جسّده القناصل، وحُكم القلّة تجسّد في مجلس الشيوخ وحُكم الشعب، تمثّل في مجال الشعب.
ولقد تَناولَ المؤرخ الصيني سو ما تشين Ssu-ma Ch ien (145-86 ق.م)، وهو مُعاصر أصغر سناً لبوبليوس، مسألة مبادئ ادارة الدولة، وزعُمَ أن مبدأ "الاستقامة" كان الأساس الذي قامت عليه ممكلة شيا Xia التي كانت في رأيه أول دولةٍ في الصين. وتبيّنَ، في رأي سو، أن هذا المبدأ، أدى الى تحوّل "الناس الدنيئين"، أي أغلبية الشعب، الى الوحشية. ولكن حياة الناس، حياة المُجتمع، كانت تتطلّب قواعد ومعايير اجتماعية مُحددة. وانطلاقاً من هذا، فقد قَبِلَت مملكة التشين Chen، التي حلّت محل مملكة شيا، مبدأ "التبجيل" في صُلب ادارة الدولة، وهو مبدأٌ مُتأصلٌ في طبيعة الانسان وتُحدد موقفه من والديه، ومن الآلهة. لقد كان هذا المبدأ يُشكّل يُقيم الأساس لقواعد اجتماعية ذات أهمية عامة مُلزمة للجميع. ولكن ما الذي حَدَث؟ بالنسبة ل"الدنيئين"، تحوّل "التبجيل" الى "عبادة". والعبادة، كما يتبيّن من التاريخ كُله، ترتبط بالمعبودات، وهي آلهةٌ وشياطين. وما يُميّز سو ما تشين، أنه اختارَ للاشارة الى مفهوم "لعبادة"، رمزاً هيروغليفياً يدل على "الشيطان"، أي الإله الخصم. وهذا يعني أن عبادة السُلطة، ليست مُجرّد "خُرافة" بل تفتح بابها الى طريق الشر. وحسب سو ما تشين، أصبَحَت "الثقافة"، أي كُل أنواع قواعد الحياة الاجتماعية التي ابتكرها الانسان، هي مبدأ الادارة في مملكة التشو التي حلّت محل مملكة شيا، ولهذا كان من المُتوقع أن تقضي الثقافة على إمكانية عبادة السُلطة. ولكن ما الذي حَدَث؟ لقد تحوَّلَت "الثقافة"، أي مجموع أشكال وقواعد الحياة الاجتماعية التي ابتكرها المُجتمع، الى شيء مفروض على الانسان من الخارج، مما قَمَعَ السمات والتمظهرات الطبيعية لشخصيته. وفي الوقت نفسه، بدأت هذه القواعد تُعوّق السُلطة السياسية، وبدأ حاكم امبراطورية تشين، في مُحاربة "الثقافة" التب أعاقت نظامه الاستبدادي: فقد استخدَمَ وسيلةً بسيطةً للغاية، وهي إعدام صانعي الثقافة الرئيسيين، أي "الناس المُتعلمين" أو المُثقفين. وقد أدَّت هذه السياسية الى سُقوط امبراطورية تشين وسُلالته. وانتقلت السُلطة في الامبراطورية الى سُلالة هان، والتي أسست ادارتها مرةً أُخرى على مبدأ "الاستقامة". وبالتالي، ليس بوليبيوس، بل سو ما تشين، هو مؤسس النظرية الدورية في التاريخ.
تعود المقولات الراسخة التي نحوزها اليوم، مثل مقولة "القومية" و"الانسانية العالمية" الى التراث الذي تركته لنا التشكيلة العبودية. تتجذّر هذه المفاهيم في الأفكار التي نشأت في العصور القديمة. فقد أدَّت مرحلة دولة المدينة في التشكيلة العبودية قد خَلَقَت فكرة المُجتمع البشري المحلي على نطاق المجموعة القَبَلية المعنية. واتسع نطاق هذا المُجتمع المحلّي خلال فترة التحالفات والاتحادات. ومع نشوء الامبراطوريات، حل المُجتمع ما فوق الاثني محل المُجتمع الطبقي، أي تحوّلَ الأمر الى مُجتمع انساني عالمي. وفي ذلك الوقت، ظَهَرَت فكرة الانسانية ككيان عظيم واحد. وقد تجلَّت هذه الفكرة في مفهوم "العالَم". كانت تعني عند الرومان orbis terrarum وعند اليونان όλος ο κόσμος، وعند الصينيين T ien Hsia.
إن فكرة "الانسانية جمعاء" التي نشأت في هذا العصر القديم من تاريخ البشرية تُشكّل واحدةً من أهم المُساهمات التي قدّمتها شعوب تلك الفترة للجنس البشري.
إن فكرة الانسانية، هي بالدرجة الأولى، اعتبار الانسان القيمة العُليا، وحامل جميع المبادئ الأساسية للحياة الاجتماعية، وصانع الثقافة. ولقد عبَّرَت الاسطورة اليونانية عن هذه الفكرة بشكلٍ أكثر وضوحاً في أُسطورة بروميثيوس، الجبّار الذي سَرَقَ النار السماوية من زيوس. لقد كان هذا هو الأساس الذي تم استناداً عليه وضع طرح مسألة دور الانسان في الوجود، وبالتالي طبيعته، وهي مسألة ذات أهمية أساسية لنشاط الانسان. لقد تم حل مسألة طبيعة الانسان على المُستوى الأخلاقي. فقد أعتُرِفَ بالانسان حاملاً للخير، أي المبدأ الأخلاقي الأعلى. اعتَبَرَ الفيلسوف الصيني مينغ تسي Meng-tse (مينسيوس Mencius) أن الخير هو صفةٌ من صفات الطبيعة الانسانية ذاتها، فقد رأى أنها سمة فطرية في الانسان. وفي روما، لخَّصَ شيشرون الأفكار الهيلينستية، وأكَّدَ أن القانون الأخلاقي تُمليه الطبيعة الانسانية ذاتها. وفي الصين، اعتَقَدَ شان تزو Hsün-tzu أن الطبيعة الانسانية بحد ذاتها شريرة، ولكنه افتَرَضَ أيضاً أن الانسان قادرٌ، من خلال أفعاله، على التغلّب على هذا الشر الفطري والوصول الى الخير.
لقد كان الواقع التاريخي يُواجه الانسان بمسألةٍ لا تقل صعوبةً وحِدّة. فقد كَشَفَ النظام الاجتماعي العبودي عن اللامُساواة بين الناس، حتى بين الأحرار منهم. وعلى هذا، فقد انتقلت فكرة اللامُساواة الى الطبيعة الانسانية أيضاً. فبقدر ما كانت الطبيعة الانسانية تُعالَج على المُستوى الأخلاقي، كانت اللامساواة تُعزز انقسام الناس الى أفراد كاملي الأهلية الأخلاقية من جهة، وأفراد ذوي مرتبة أخلاقية أدنى من جهةٍ أُخرى. وقد أطلَقَ كونفوشيوس على الفئة الأولى اسم تشون تزو chun-tzu (الأسياد)، وعلى الفئة الثانية إسم شاو جين hsiao-jen (الناس الدنيئين). أما شيشرون فقد اعتَبَرَ الفئة الأولى هي الأقلية المُختارة التي تسترشد في تصرفاتها بمبادئ أخلاقية سامية، واعتبر الفئة الثانية أُناسٌ يسترشدون بالغرائز. ولكن العقل الانساني لم يتوقف عند هذه النُقطة. فقد أطلَقَ كونفوشيوس على الناس الذين يسكنون الأرض "وسط البحار الأربعة"، أي البشرية جمعاء، لقب الأُخوة. وقد عَرَّفَ "المبدأ الانساني"أي الجين Jen في كُلِّ امرئٍ بأنه "حُب الناس".
لقد كانت هذه قمة الانسانية التي بلغها المُجتمع في عالَم العبودية في أوج ازدهارها. وعندما دَخَلَ هذا المُجتمع مرحلة الأزمة، ارتقت فكرة الانسانية الى مُستوىً جديد. وقد حَصَلَ هذا لأن التفاوت الاجتماعي واللامساواة في هذا المرحلة أصبَحَت حادةً بشكلٍ خاص في أكثر أشكالهها وضوحاً، أي في تقسيم الناس بشكلٍ حاد الى أُناسٍ مُستحقين لأن يكونوا كذلك، والى فئة دُنيا، عبيد لا يُعتبرون بشراً.
لقد كان هذا التناقض الحاد بين بعض الناس وبعضهم الآخر هو الذي أدّى الى نشوء المرحلة التالية من الانسانية، وبروز فكرة المساواة الكاملة بين جميع البشر كأفراد، سواءً كانوا عبيداً أو أحراراً، بصورةٍ حادةٍ مُماثلة لا تقبل المُساومة. إن النشوء المُلِح لأطروحة المُساواة بين الجميع، والرغبة في جعلها مبدأً حتمياً قاطعاً، كانا مدفوعين بحقيقةٍ مفادها أن هذه الأُطروحة كانت تتبلور في آطار مقولات الوعي الديني، والتي كانت في ذلك الزمن تحوز قوة الأمر القطعي. لقد كان هذا هو الحال في اثنتين من أكبر الأنظمة الدينية التي نشأت في زمن العبودية: البوذية والمسيحية.
إن فكرة المُساواة بين جميع الناس، دون أي تمييز بين الأحرار والعبيد، كانت مُندمجةً بالدرجة الأولى، في التصور حول المُساواة بين الناس بسبب طبيعتهم ذاتها. صيغَ هذا المفهوم في المسيحية، في العقيدة المُتعلقة بالأصل المُشتَرَك للناس المُنحدر من الإله، وصِيغَ في البوذية، في فكرة تشكُّل الانسان، أي انسان، في مجرى الوجود المُشتَرَك لهم جميعاً.
كانت فكرة المُساواة بين الناس تتجلّى أيضاً في جانب العلاقات الانسانية، أي على المُستوى الاجتماعي والأخلاقي. وقد نشأت فكرة حب الناس على هذا المُستوى، وأُعلِنَ عنها في البوذية والمسيحية والكوفوشيوسية بدرجاتٍ مُتفاوتة الشدة.
لقد كان هذا أعظم انجاز روحي (ثقافي) حققته البشرية في عصر العبودية. لقد وفَّرَ هذا، أساساً أيديولوجياً لظهور التشكيلة العبودية وسقوطها في النهاية.
لقد كان مفهوم "الانسانية" في العصور القديمة ذو أهميةٍ كبيرةٍ بالنسبة لنشاط الانسانية اللاحق بأكمله، وخاصةً بعد أن أدَّت فكرة المُساواة الانسانية بين جميع الناس الى نشوء فكرة المُساواة الاجتماعية بينهم. وصارت هذه الفكرة الأخيرة، حجر زاويةٍ روحيّ لجميع الحركات التي تهدُفُ الى النضال ضد مُختلف أشكال ودرجات استغلال الانسان للإنسان. ولم تُسفِر هذه النضالات عن النتائج التي ابتغاها الناس. وفي زمنٍ لاحق، قامت الطبقات الحاكمة، بذكاء، بنقل فكرة المُساواة الانسانية بين الجميع، من المجال العَمَلي الدنيوي، الى المجال المثالي الآخروي. ولكن حتى هذه العملية، لم تسلب الفكرة أهميتها وقُوتها.
لقد أُرسِيَت الأُسس الأولى للإدراك العلمي للطبيعة والحياة الانسانية في عصر نشوء المُجتمع العبودي. وقد أدَّى تناحر الطبقتين الاجتماعيتين في عصر العبودية، والذي كان تناحراً حاداً للغاية، الى جانب مُلاحظة أبسَط الظواهر في الطبيعة، الى ظهور فكرة الأضداد. وفي كتاب اي تشينغ I Ching (والذي يعني "كتاب التغيّرات") 1000-750 ق.م، وهو واحد من أقدم الكُتُب في الصين، بتسمية هذين التناقضين باليين واليانغ. في البداية، كان هذا يعني الجانبين المُضيء والمُظلم من الجبل، ثم النور والظلام، ثم أي زوجٍ من الأضداد: الحرارة والبرودة، السماء والأرض، الذكر والأُنثى، وهكذا. رُسِمَ خط فاصل حاد بين الأضداد كرمز، عند الصينيين القُدامى. اعتَبَر فيثاغوروس، الفيلسوف والرياضي اليوناني، النور والظلام، السكون والحركة، اليمين واليسار، لذكر والأُنثى، بأنها أضداد. وصارت الأرقام الفردية والزوجية رموزاً للأضداد عنده.
إن فكرة الأضداد تُشكّل أساساً لفكرة أن كُل شيء مُترابط- وهي نُقطة البداية لأي دياليكتيك. وفي الصين، تم التعبير عن فكرة الترابط في الباغوا Eight Trigrams في الكتاب المذكور آنفاً، والذي يُحدد عناصر الوجود والعناصر الرئيسية للطبيعة: السماء والسهول والنار والرعد والمياه والرياح والجبال والأرض. وهذه العناصر الثمانية هي أساس لـ64 سُداسية تُظهِر تركيبات العناصر الأولية وتحولها، أي أنها تطرح صورةً للارتباط الشامل لظواهر الطبيعة. في الفلسفة اليونانية، صاغَ هيراقليطس هذه الفكرة، والذي قال، أن جميع الأشياء تتحوّل من شكلٍ الى آخر: النهار الى الليل، البرد الى الحرارة، الشتاء الى الصيف، والجوع الى الشبع. وقد تم سَحب فكرة الارتباط الشامل الى عالَم المُجتمع. وفقاً لفلسفة كتاب التغيّرات سابق الذكر، يتألف العلَم من ثلاثة قُوى: السماء والأرض والانسان. أعلَنَت الفلسفة الهيلينية، كما عبَّرَ عنها شيشرون الروماني، أن العالَم هو حالةٌ مُشتركة بين الآلهة والبشر. وعلى هذا، فإن المفاهيم التي صارَت أساس كُل المعرفة العلمية اللاحقة، قد نشأت في هذه المرحلة القديمة من المُجتمع البشري.
كانت هذه هي الخُطة الأولى نحو إدراك العالَم الخارجي. أما الخُطوة الثانية هي فكرة وجود عناصر أولية في وُجود الطبيعة. وقد اتخذَ هذه الخُطوة في شكلٍ مُميّز ثلاثة شعوب قديمة: الاغريق والهنود والصينيين.
إن العناصر الأولية الأربعة لامبيدوكليطس معروفة جيداً، وهي الماء والنار والهواء والأرض. ونجد نفس العناصر الأولية الأربعة في الفلسفة الشارفاكاسية Charvakas في الهند. وفي فلسفة فيدانتا هُناك 5 عناصر أولية: الماء والنار والأرض والهواء والأثير.وهُناك أيضاً فلسفة تشو تشينغ الصينية Shu ching (Book of Documents) 551-479 ق.م، الماء والنار والخشب والمعادن والأرض.
لقد اقتَرَنَت فكرة العناصر الأولية للطبيعة المادية بفكرة دورتها. فوفقاً لهيراقليطس Heraclitus، فإن النار عند اخمادها تتحول الى ماء، ومن خلالها، تتحوّل الى أرض، حتى تتمكن من الاشتعال مرةً أُخرى فتتحوّل الى أر ض، ومن ثم الى ماء، ومن خلال الماء، الى حالتها الأصلية مرةً أُخرى. وتعمل عملية "الاطفاء" و"الاشتعال" هُنا كقوةٍ دافعة. وقد زعمت مدرسة شارفاكاس الهندية أن كُل شيء في العالَم قد تشكَّلَ من تراكيب مُختلفة من العناصر الأولية الأربعة، وحتى الموت، الذي يحلّ بالناس والحيوانات والنباتات على حدٍّ سواء، يُحوّلهم في النهاية الى العناصر الأولية.
عبَّرَ الصينيون عن الدورة، في فكرة "التغلُّب". كُلٌّ من العناصر الخمسة الأولية يتحول الى عُنصرٍ آخر على النحو التالي: الماء يتغلّب على النار، النار على الخشب، الخشب على المعدن، المعدن على الأرض، الأرض على الماء، وهكذا. إن مفهوم التغلُّب، يجعل من الانتقال من عُنصرٍ أوليٍّ الى آخر، عمليةً بعيدةً عن أن تكون ميكانيكية صرف، بل تحمل مُحتوىً مُحدداً.
كانت الخُطوة الثالثة في إدراك العالَم، هي فكرة أصغر جُسيم من المادة. أطلَقَ ليوكيبوس Leucippus وديموقريطس على هذا الجُسيم اسم "الذرة"، وأطلَقَ الهنود عليه تسمية آنو Anu.
إن الكيفية التي تصوّر فيها الناس الأضداد في والعناصر الأولية للطبيعة المادية، وأصغر جُزيئات المادة وتحولاتها، هي موضوعٌ يبحثه مؤرخو الفلسفة. ما يُهمنا في هذا المقال، هو الفكرة القائلة بوجود تلك المقولات في ذلك العصر، وأن نعرف بأن أعظَم أُسس هذه المعارف قد طَرَحَها الانسان في عصر التشكيلة العبودية.
لقد خطا الانسان خُطوةً أُخرى ذات أهميةٍ أساسية على طريق المعرفة الانسانية: لم يسعى الانسان الى تحديد مُحتوى المعرفة، بل لجأ أيضاً الى إدراك عملية المعرفة نفسها. وهكذا، نشأ المنطق، باعتباره مذهب المعرفة، وطوّره الصينيون والهنود واليونانيون: الهندي أكشابادا غوتاما Akṣapāda Gautama (القرن الثاني م)، والصيني مو تزي Mozi (القرن الخامس ق.م)، وأرسطو (القرن الرابع ق.م).
وهكذا، فإن العصور القديمة، أي التشكيلة العبودية، قد وَضَعَت الأساس لتاريخ الانسانية اللاحق بأكمله. وقد بَرَزَت التناقضات والصراعات في هذه التشكيلة، وخاصةً في المجال الاجتماعي. واتضحَ أن أي عضوية اجتماعية تحوز على جانبين مُتناقضين، ساهَمَ أحدها في تقدم الانسانية، بينها أعاقَها طرفها الآخر. أحدها كان نوراً، والآخر كان ظلاماً. وكان هذين النقيضين في صراعٍ مُتواصل.

*نيكولاي يوسيفوفيتش كونراد 1891-1970، مُستشرق ماركسي سوفييتي، دكتور في الفيلولوجيا وأكاديمي في أكاديمية العلوم السوفييتية 1958. تخرّجَ من القسم الصيني الياباني لكلية اللغات الشرقية في جامعة سان بطرسبورغ عام 1912. دَرَسَ اللغتين اليابانية والصينية والثقافة اليابانية الكلاسيكية في جامعة طوكيو أعوام 1914-1917. كان استاذاً في معهد لينينغراد للغات الشرقية الحية منذ عام 1926-1938. في الوقت نفسه عمل أستاذاً في المعهد الجغرافي لجامعة لينينغراد. كان باحثاً في معهد الدراسات الاستشراقية التابع لأكاديمية العلوم السوفييتية منذ عام 1931. وصارَ استاذاً في كلية موسكو للدراسات الاستشراقية في جامعة موسكو الحكومية منذ عام 1941-1950، وعضواً في قسم الأدب واللغة في أكاديمية العلوم السوفييتية منذ عام 1958.
كان مجال اهتمامه يشمل الأدب الياباني الكلاسيكي والحديث، والتاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ليابان العصور الوسطى ونظام التعليم الياباني والفلسفتين اليابانية والصينية واللغويات. نَشَرَ ترجماتٍ لعددٍ من كُتُب الأدب الكلاسيكي الياباني باللغة الروسية. حَصَل على وساميّ لينين عامي 1945 و1954، ووسام الشمس المُشرقة الياباني عام 1969. من مقالاته: (حول اللغة الصينية) 1952، (مُختصر تاريخ الأدب الصيني) 1959، (أدب شعوب الشرق ومسائل حول المعرفة الأدبية العامة) 1961. (شكسبير وعصره) 1964.


أ- ربما يُشير الكاتب، الى الاصلاحات التي حَدَثَت في التاريخ الصيني، المُسماة (فترة الربيع والخريف) Spring and Autumn period، (685-643 ق.م) حيث في عهد خوان Huan of Qi، تم تدعيم السُلطة في أيدي الحكومة المركزية على حساب ارستقراطية الأراضي، وإقامة نظام المُقاطعات xiàn التي يحكمها وزراء بلاط الدولة مُباشرةً. تضمنت اصلاحات خوان الادارية أيضاً احتكار الدولة للملح والحديد.
ب- لم استطع أن أُحدد بالضبط ما هو الاصلاح أو الاحداث التي يقصدها المؤلف. ولست متأكداً، ما هي ممالك شين التي يقصدها كذلك.
جـ- كونراد يُشير الى دولة المدينة الرومانية بمصطلح سيفيتا. وعند التدقيق في الأمر وجدت أن هذا المُصطلح، يشيع في الأدبيات الغربية بوصفه مفهوماً حقوقياً، يعني التساوي في الحقوق الرومانية، والحق في المواطنة المتساوية، حيث يبدو أن الصراع الطبقي في روما الباكرة، قد أفضى الى هذا الشكل من المواطنة الحُرّة. يبدو أن دولة المدينة (سيفيتا) الرومانية، حسبما يُشير لها كونراد، هي المعروفة باسم المونيسيبيا municipia أو المُقاطعات، وهم الذين يعيشون خارج روما في مُجتمعات "مُستقلة" ويُديرون شؤونهم المحلية، ولكنهم تحت سُلطة روما المركزية.
أما بالنسبة للكو الصينية، فهي تعني دولة المُدن، وربما يعني الكاتب هُنا الفترة ما بين 600 ق.م-500 ق.م، حيث نشأ توازن قُوى بين أربعة دول حكمها أربع أشخاص من سُلالة تشو Zhou ، بالاضافة الى عددٍ من الدول الأصغر.
د- كانت هُناك مُلكية للعبيد المُنتجين في المناجم، في روما وفي مصر
هـ- وهُنا على الرفيق كونراد أن يسمح لنا بأن نختلف معه قليلاً. يقول كونراد أن "هذه التمردات لم يكن من المُمكن أن تصير ذات تأثيرٍ خطير الا لو أنها اندمجت مع نضال السكان الأحرار العاملين". ولكن هذا ما حَصَلَ فعلاً في حقيقية الأمر. كانت أغلبية المُشاركين في ثورة سبارتكوس 73-71 ق.م، من الفلاحين الأحرار الذين خسروا أراضيهم في الحرب الأهلية التي اندلَعَت بين ديمقراطيي ملاكي العبيد وأرستقراطيي ملّاكي العبيد بين عامي 83-82 ق.م. وكانت هذه الثورة تُشكّل تهديداً جدياً على روما، وعلى النظام الاقتصادي الاجتماعي العبودي نفسه، وقد أثّرَت تأثيراً بالغاً على الاجراءات السياسية التي اتخذتها الطبقة الحاكمة في روما بعد القضاء على الثورة.
ثانياً، كان هناك ثورات عبيد أُخرى، غير ثورة سبارتاكوس، مثل ثورة العبيد في صقلية بقيادة كليون ويونس 135-132 ق.م. واندلعت ثورة عبيد أُخرى في صقلية بقيادة سيلفيوس من 104-100 ق.م، كانت أغلبية المُشاركين في هذه الثورات من العبيد حصراً. ولذلك، ما المانع أن نُطلِقَ عليها "ثورات عبيد"؟ لا يجب على المسألة الكمية أن تكون حاجزاً في وصف طابع الثورة. بعبارةٍ أُخرى، ليست كميّة المُكوّن الأساسي للثورة هي التي تصف حالها، بل طابعها العام النابع من التشكيلة. ولو انطلقنا من نفس مُنطلق كونراد، لاعتبرنا أن فترات طويلة من الدولة الرومانية لم تكن عبودية، لأن الأغلبية العُظمى من سُكّانها لم يكن من العبيد، بل من الحرفيين والفلاحين الأحرار.
لذلك أعتقد، أن مفهوم "ثورة العبيد" ملائم تماماً، ولا يجب تجاهله، لأنه يُعبّر عن الطابع الرئيسي العام للتشكيلة المعنية.
و- على سبيل المثال، كانت هناك انتفاضة باغادي Bagaudae عام 284 م، وهي مجموعات من الفلاحين والعبيد، والجنود الفارين من الخدمة العسكرية الرومانية. جابَ الثوارمناطق الغال وهسبانيا وأغاروا على فِلل الأثرياء ومزارعهم وقَتَلَت رجال الدين الرومان. تم القضاء على هذه الانتفاضة عام 286 م.
ز- من وجهة نظر التشكيلات الاجتماعية، ربما يُمكن اعتبار الغاء الاتحاد السوفييتي، ثورةً برجوازية عالمية مُضادة على بداية التشكيلة اللاطبقية (انطلاقاً من ظروف داخلية فيها كانت تصبّ في صالح تلك الثورة المضادة).

ترجمة لمقال:
The Slave-owning Formation, N. I. Konrad, 1967
this article is one of articles collection in book: West-East Inseparable Twain



#مالك_ابوعليا (هاشتاغ)       Malik_Abu_Alia#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- تعليق ايغور دياكونوف على مقال هنري كلايسِن (الديناميكيات الد ...
- المشاعات الزراعية في الشرق الأدنى القديم
- الدراسات الاستشراقية الكلاسيكية والمسائل الجديدة
- الدفن الانساني الطقوسي الواعي: العصر الحجري القديم الأوسط، ب ...
- حول مسألة دراسة تاريخ المُجتمعات البدائية انطلاقاً من الاثنو ...
- مسألة المُلكية الخاصة البدائية في الاثنوغرافيا الأمريكية الم ...
- المراكز المدينية في المُجتمع الطبقي الباكر
- تاريخ الري الزراعي في جنوب تركمانستان
- الشروط الايكولوجية لنشوء الزراعة في جنوب تركمانستان
- سوسيولوجيا الدين الانجلو أمريكية المُعاصرة: مُشكلاتها واتجاه ...
- الرد الثاني لسيرجي توكاريف على ستيفن دَن
- بعض الأفكار في طُرُق دراسة الدين البدائي- رد على سيرجي توكار ...
- الرد الأول لسيرجي توكاريف الأول على مُراجعة ستيفن دن لكتابيه ...
- مراجعة ستيفن بورتر دن لكُتب سيرجي توكاريف
- مبادئ تصنيف الأديان 2
- مسألة أصل ثقافة العصر البرونزي الباكر في جنوب تركمانستان
- مبادئ تصنيف الأديان 1
- تاريخ انتاج المعادن عند القبائل الزراعية في جنوب تركمانستان
- ردّاً على نُقادي فيما يخص مقالة -حول الدين كظاهرةٍ اجتماعية ...
- حول الجوهري والثانوي في دراسة الدين


المزيد.....




- «وبريات سمنود» مستمرون في الإضراب حتى الإفراج عن هشام البنا ...
- الضفة الغربية في عين العاصفة
- اليمين المتطرف يسعى إلى إحداث زلزال في الانتخابات الألمانية ...
- إدارة «وبريات سمنود» لن نُطبق الحد الأدنى للأجور.. والعمال م ...
- «أمن الدولة» تنظر تجديد حبس الصحفي أشرف عمر غدًا الأحد
- سوق قيسارية.. شاهد جديد على خسائر اقتصاد قطاع غزة
- بروفايل| زئير من الزنزانة.. مدثر طالب هندسة يتحدى السجن بالج ...
- متضامنون مع شباب التحالف الشعبي الاشتراكي
- هجوم على زعيمة الحزب اليساري الألماني بالطلاء في تجمع انتخاب ...
- جنين: معقل المقاومة الفلسطينية وتاريخ من الاستعصاء


المزيد.....

- إستراتيجيا - العوالم الثلاثة - : إعتذار للإستسلام الفصل الخا ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية(أفغانستان وباكستان: منطقة بأكملها زعزعت الإمبر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- رسالة مفتوحة من الحزب الشيوعي الثوري الشيلي إلى الحزب الشيوع ... / شادي الشماوي
- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي
- تحديث. كراسات شيوعية (الهيمنة الإمبريالية وإحتكار صناعة الأس ... / عبدالرؤوف بطيخ
- لماذا يجب أن تكون شيوعيا / روب سيويل
- كراسات شيوعية (الانفجار الاجتماعي مايو-يونيو 1968) دائرة ليو ... / عبدالرؤوف بطيخ


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - مالك ابوعليا - التشكيلة الاجتماعية-الاقتصادية العبودية