الاتحاد العام التونسي للشغل: استفحال أزمة القيادة

خميس بن محمد عرفاوي
(Arfaoui Khemais)

الحوار المتمدن-العدد: 8082 - 2024 / 8 / 27 - 14:23
المحور: الحركة العمالية والنقابية
    

يتغافل البعض عن الأزمة التّي يعيشها الاتّحاد العام التونسي للشغل ويتجاهل وجود معارضة نقابيّة داخله. والحال أنّ الوضع الذي آل إليه الاتّحاد من انقسام، وعجز لم يعد خافيّا على أحد وأنّ المعارضة لتوجّهات القيادة النقابية الموسومة بالبيروقراطيّة النقابيّة تعود إلى منتصف السبعينات. وقد خاض نشطاؤها نضالهم من داخل الاتّحاد العام التونسي للشغل(نقابة التعليم الثانوي في سبعينات القرن العشرين، واليسار النقابي في الثّمانينات، وجامعة البريد في التّسعينات،والتيار النقابي الديمقراطي(1))، والأطراف المكوّنة، حاليا،ل"اتحادنا للمعارضة النقابيّة"، ومن خارجه مثلما فعل مؤسّسو الكنفدراليّة الديمقراطيّة للشغل (2) التّي أعلن عن ميلادها يوم 5 ديسمبر 2001.
ولقد شكلّت المسألة الديمقراطيّة داخل الاتّحاد أهم محور في الصراع بين المعارضين والماسكين بالجهاز. وإن تعلّق الصراع بالفصل العاشر من القانون الأساسي طيلة السنوات العشر الأولى من هذا القرن فإنّ الصراع الحالي يدور حول الفصل العشرين.
ودون العودة إلى وقائع الفصل العاشر(3) سنقوم في هذه الورقة برصد أهم المحطات التّي تخلّلت المعركة ضد الفصل العشرين.

I. تحوير الفصل العشرين

نص الفصل العاشر للقانون الأساسي المصادق عليه من طرف نوّاب المؤتمر الاستثنائي المنعقد بجربة في 7 -8 و9 فيفري 2002 على أنّ أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد يتم انتخابهم لمدة خمس سنوات قابلة للتجديد مرّة واحدة.
غير أنّ التمسّك بالكرسي دفع بعض الأعضاء إلى السعي من أجل تعديل الفصل المذكور. كاد علي بن زمضان المسؤول عن النظام الدّاخلي بعد مؤتمر المنستير 2006 أن ينجز مؤتمرا استثنائيّا غير انتخابي وحدّد له تاريخ أفريل 2011 لكنّ ثورة 17 ديسمبر-14 جانفي أحبطت مساعيه وذهبت به وبالحالمين بالانقلاب على الفصل 10. ثمّ تواصلت المحاولات بعد رحيله. ففي مؤتمر 2017 الذي أفرز قيادة يتصدرها السيد نور الدّين الطبوبي أُدخلت تعديلات على القانون الأساسي وتمّ تحويل الفصل العاشر إلى الفصل العشرين دون تغيير في محتواه.
وفي وضع معيّن تميّز بتنامي دور قيادة الاتحاد في الحياة السياسيّة خلال العشريّة السابقة وخاصة إحكام قبضتها على كافة هياكل المنظمة وتراجع المسار الثوري في البلاد عزمت القيادة على المضي قدما في تعديل الفصل العشرين والتخلّص من تقييد عضويّة المكتب التنفيذي بدورتين. ولهذا الغرض دعت إلى انعقاد المجلس الوطني الذي التأم بالحمامات من 24 إلى 26 أوت 2020 وأقرّ الدعوة إلى عقد مؤتمر استثنائي غير انتخابي الغاية منه تنقيح القانون الأساسي قبل انعقاد المؤتمر العادي الانتخابي.
إنّ اللافت للنظر خلال هذا الطور من حياة المنظمة هو التغيير الكبير الذي حدث في تركيبة الاتحاد. فقد خلا آنذاك من القطاعات والجهات المناضلة التي عرفتها الساحة النقابية مثل قطاعات التبغ والوقيد والسكك الحديدية وتونس الجويّة والبريد وجهتي بن عروس وجندوبة وتمكنت القيادة في شخص السيد نور الدّين الطبوبي الذي شغل قبل ذلك منصب الأمين العام المسؤول عن النظام الداخلي من تدجين الهياكل من خلال فبركة مؤتمرات على القياس يتم خلالها تصعيد الموالين وأكثرهم من أتباع النهضة والقادمين الجدد أو من النقابيين المحسوبين علي اليسار أصحاب نظريّة التّموقع أو الموقع قبل الموقف والذين لقوا حظوتهم داخل هياكل الاتحاد مع إسماعيل السّحباني وفترة عبد السّلام جراد والّذين تغاضوا عن كلّ تجاوزاتهما والأضرار الّتي ألحقاها بالعمل النّقابي. ولضمان تمرير تنقيح الفصل 20 قامت قيادة الاتّحاد بتصفيّة المناضلين والمناضلات الرافضين للانقلاب على قوانين المنظمة وأدخلت تعديلات على تركيبة المجلس الوطني بحيث لا يشارك فيه إلاّ من كان سهل الانقياد.
ورغم خطورة ما أقدم عليه أعضاء المجلس الوطني فإنّهم صادقوا على الدعوة إلى عقد مؤتمر استثنائي غير انتخابي بنسبة 96 بالمائة، أي بموافقة 505 من أصل 560 من المشاركين(4). وهي نتيجة تبعث على الحيرة خصوصا في الظروف التّي تمّت فيها عمليّة الاقتراع (علني وأمام أنظار الأمين العام).
وفعلا انعقد المؤتمر الاستثنائي غير الانتخابي يومي 8 و9 جويلية 2021 بسوسة، في أوجّ الأزمة الوبائية وتمّ تعديل الفصل العشرين في اتّجاه السماح بتحمّل المسؤوليّة أكثر من دورتين صلب المكتب التنفيذي.
وتوّج هذا المسار بانعقاد المؤتمر الوطني ال25 للاتحاد في آجاله أيام 16 و17 و18 فيفري 2022 بصفاقس وانبثقت عنه قيادة تتركّب من خمسة عشر عضوا من بينهم خمسة أعضاء تولوا المسؤوليّة داخل المكتب التنفيذي للمرّة الثالثة من بينهم يساريّون طالما ساهموا في مقاومة تجاوزات قيادات الاتّحاد.
ولقد تزامن هذا المسار مع تفريط القيادة في مكاسب الشغالين وإهمال مشاغلهم ومطالبهم ونشأت أزمة متعدّدة الأوجه داخل الاتّحاد أفرزت معارضة نقابيّة كانت حاضرة في مختلف المحطات المذكورة.

II. المعارضة النقابية والمعركة ضد تنقيح الفصل العشرين

في البداية يجدر التعرّض لتركيبة هذه المعارضة. في الحقيقة تقلّصت قاعدة المعارضة النقابيّة نظرا إلى العوامل التّي ذكرناها سابقا. بحيث اقتصرت على مستوى الهياكل النقابيّة القائمة على المكتب التنفيذي للجامعة العامة للتعليم الثانوي الذي انتهت ولايته في بداية أكتوبر 2023. ولا يفوتنا أن نذكّر بموقف قطاع التّعليم الأساسي الذي قدّم مؤتمره توصيّة تدعو إلى رفض المؤتمر الاستثنائي غير الانتخابي ولكن الكاتب العام لم يلتزم بها.وتشكّلت تيارات نقابيّة معارضة من نقابيين ومجموعات نقابيّة في تنسيقيات مثل "لقاء القوى النقابيّة الديمقراطيّة" الذي اندثر ولم يعد له وجود ربما لأسباب سياسيّة ليس هنا مجال لذكرها و "حراك بن عروس" و"الملتقى النقابي من اجل ترسيخ الممارسة الديمقراطية واحترام قوانين المنظمة" و"الشارع النقابي بصفاقس" و"حركة التصحيح النقابي بتطاوين". ولقد توحّدت هده المجموعات باستثناء "حركة التصحيح النقابي بتطاوين" ضمن "إتّحادنا للمعارضة النقابيّة"(5). وتضمّ هذه التنسيقيّة الجديدة نقابيين من مشارب مختلفة يجمعهم قاسم مشترك يتمثّل في معارضة الانقلاب على قوانين المنظمة.
وقد تعدّدت ردود الفعل على توجّه القيادة النقابيّة لتنقيح الفصل العشرين وعقد المؤتمر الاستثنائي غير الانتخابي. فتوالت التجمعات ومنها التجمع أمام النزل الذي احتضن أشغال المجلس الوطني وكان آخرها تجمع 29 ماي 2024 ببطحاء محمد على.
ووجّهت بعض مكوّنات المعارضة النقابيّة رسالة إلى أعضاء المكتب التنفيذي بتاريخ 17 أكتوبر 2020 أي بعد انعقاد المجلس الوطني ببضعة أيام تعلمهم فيه "أنه في حالة انعقاد المؤتمر الاستثنائي الانتخابي فإنّ كل ما سيصدر عنه يعتبر باطلا وما بني على باطل فهو باطل". وذكّرتهم أنّ "المؤتمر العام هو سلطة القرار الأولى والمرجع الأول للاتحاد وفق ما ينص عليه الفصل 8 من القانون الأساسي والفصل 19 من النظام الداخلي" وأنّ "الدعوة لعقد مؤتمر غير انتخابي هو خرق للقانون الأساسي والنظام الداخلي اللذين لا وجود صلبهما لصيغة مؤتمر استثنائي غير انتخابي"(6).
ونظرا إلى إصرار المركزية النقابيّة على عقد المؤتمر الاستثنائي غير الانتخابي التجأت نفس المكوّنات إلى القضاء إذ قامت برفع قضيتين عدليتين الأولى استعجالية والثانية أصلية لدى المحكمة الابتدائية بتونس لإبطال مخرجات المجلس الوطني وإلغاء قرار عقد المؤتمر الاستثنائي غير الانتخابي.
ولئن لم تستجب المحكمة للشكوى الاستعجاليّة فإنّها أصدرت حكما يقضي ببطلان المؤتمر الاستثنائي في 25 ديسمبر 2021. غير أنّ القيادة النقابيّة طعنت في الحكم وحكم لفائدتها في طوري الاستئناف والتعقيب. ومن المضحكات المبكيات أنّ محاميي الدفاع تعلّلوا أمام المحكمة بانعدام الصفة النقابيّة للشاكين بدليل أنّه ليست بحوزتهم بطاقات انخراط في الاتّحاد واستظهروا فقط ببطاقات خلاص.
ومن ناحية أخرى وجّهت المعارضة النقابيّة بيانا إلى الإعلام والشخصيات الوطنيّة والمجتمع المدني للتدخّل من أجل احترام قانون المنظمة النقابيّة وقوانين البلاد(7). ولكن لا مجيب لأنّ البعض من هذه الأطراف كانت تربطه علاقات مصلحة مع قيادة الاتحاد والبعض الآخر لحسابات سياسيّة.
واشتدّ الضغط على القيادة النقابيّة بمناسبة انعقاد المؤتمر الاستثنائي بسوسة من جهة الهياكل المعنيّة بالوضع الصحّي في الجهة وهي المطالبة بتطبيق البروتوكولات الصحية القاضية ب"منع جميع التظاهرات التي تستقبل عددا كبيرا من المشاركين سواء كانت ذات طابع ثقافي أو رياضي أو سياسي أو علمي" ومن جهة القضايا المرفوعة من أجل إيقاف أشغال المؤتمر الاستثنائي لأسباب صحيّة وعددها ثلاث قضايا حكم فيها القضاء لفائدة قيادة الاتحاد معلّلا رفضه بعدم جديّة المطلب (بالنسبة إلى القضيّة التّي رفعها النقابيون)(8). ولكن إرادة السلطة ممثلة آنذاك في حكومة الوزير الأوّل هشام المشيشي العالق في براثن حزب حركة النهضة اقتضت مخالفة البروتوكولات الصحيّة وتعريض نواب المؤتمر وأهالي مدينة سوسة للخطر فصدر ترخيص من قبل وزير الصحة يسمح بعقد المؤتمر الاستثنائي.
لقد أدّى هذا المسار الذي أفضى إلى تولي القيادة الحاليّة إلى وضع الجميع في زنقة حادة. ولعل أبرز مظهر من مظاهر هذه الأزمة هو أنّ القلّة القليلة من النقابيين المعارضين سلّطت عليهم عقوبة الطرد من الاتّحاد والكثير أحيل على التقاعد ولم يبق في الاتّحاد سوى الموالين.
ورغم ذلك فالمعارضة النقابيّة ما تزال يحدوها الأمل في حلّ مشرّف يتمثّل في رفض الحلول الترقيعيّة ورحيل القيادة الحالية وتشكيل هيئة تسيير مؤقتة.

الخاتمة


إنّنا لا نأتي بجديد عندما نقول إنّ القيادات النقابيّة المركزيّة والجهويّة المكوّنة لشريحة البيروقراطيّة النقابيّة وجّهت العمل النقابي تاريخيّا في خدمة السلطة والأعراف ووظفتها في خدمة مصالحها نظرا إلى ما يمثله الموقع النقابي من امتيازات ومن نفوذ. ولتحقيق هذه الأهداف استعملت الترهيب والترغيب لتركيع النقابيين والتخلّص من النزهاء والتزوير لترقيّة الموالين في المسؤوليّة النقابيّة. وإن أفلتت بعض القطاعات سابقا من قبضتها فإنّ الأمين العام الحالي قام بتطويع كافة الهياكل تقريبا لإرادته وتحوّل إلى وقت وجيز إلى الحاكم بأمره.
ويبدو أن الوضع الذي أصبح عليه الاتحاد والمتميّز بعجز كامل لهياكله عن الدفاع عن منظوريهم يلائم السلطة ويطلق يدها أو على الأقلّ لا يشكّل لها مصدر إزعاج.

لقد كان يمكن للاتحاد أن يكون مدرسة للديمقراطية ومثالا في حسن التسيير وتمثيل منظوريه والالتزام بخط الأوّلين. ويمكن له أن يسير في هذا الاتجاه لو تمّ إلغاء كافة المغريات لتحمّل المسؤوليّة النقابيّة وتكّرسّت الاستقلاليّة التامة عن السلطة والاحتكام للديمقراطية في المؤتمرات وللشفافية في التسيير المالي والإداري. يبدو ضروريّا تجسيد فكرة النضال النقابي القائم على التطوّع وخدمة الغير والالتزام دوما بمصالح المنخرطين وقراراتهم.



الإحالات

1- عرفاوي، خميس، الحركات الاجتماعيّة في تونس من الاحتجاج إلى الثورة، تونس، دار سحر للنشر، 2020، ص 125- 182.
2- منهم على سبيل المثال: حبيب بن عاشور، الطاهر الشايب، منير كشوخ، منصور بريمة وخليفة مبارك والتحق بهم نقابيون يساريون. مجهول، "محاولة تقييمية :حول تجربة الكنفدرالية"، الشيوعي، العدد 14 - فيفري 2004.
3- عرفاوي، خميس، نفس المرجع.
4- قاطع البعض جلسات المجلس الوطني مثل الجامعة العامة للتعليم الثانوي.
5- أنظر الأرضية في صفحة اتّحادنا للمعارضة النقابيّة.
6- الرسالة بإمضاء حراك بن عروس والملتقى النقابي من اجل ترسيخ الممارسة الديمقراطية واحترام قوانين المنظمة وحركة التصحيح النقابي بتطاوين. أرشيف اتّحادنا للمعارضة النقابيّة.
7- رسالة إلى كلّ مكوّنات المجتمع المدني في تونس، بتاريخ 30 ديسمبر 2020، نفس المصدر.
8- قضية رفعتها المعارضة النقابيّة أمام الدائرة الاستعجاليّة بالمحكمة الابتدائية بتونس وقضيتان رفعهما النائب ياسين العياري والمحامي وسيم الكوكي لدى محكمة تونس ومحكمة سوسة.

#خميس_بن_محمد_عرفاوي (هاشتاغ)       Arfaoui_Khemais#          

---

اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين	حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل

كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على:

الفيسبوك

التويتر

اليوتيوب

RSS

الانستغرام

لينكدإن

تيلكرام

بنترست

تمبلر

بلوكر

فليبورد

الموبايل

كيفية إشراك-إيصال مواضيعكم أو مواضيع تهمكم  إلى اكبر عدد ممكن من القراء والقارئات