أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - وعـي اللحظة الراهنة















المزيد.....


وعـي اللحظة الراهنة


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 675 - 2003 / 12 / 7 - 01:28
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


الموضوع الحقيقي للعمل السياسي هو اللحظة الراهنة:القوى الفاعلة فيها، تناقضاتها وتوتراتها، ممكناتها ومحدداتها، آفاقها وعطالتها، بذور الجديد فيها وأثقال القديم … لذلك فإن لوعي الراهن دور حاسم في رسم ملامح التوجه السياسي المستقبلي. ستحاول هذه الورقة النظر إلى بعض أهم عناصر لوحة اللحظة الراهنة السورية.
لا زال يصح القول إن المرحلة الراهنة في سوريا مرحلة انتقالية، رغم أن رصيد الممكنات  الإيجابية آخذ بالتآكل والاضمحلال، ورصيد الوقائع السلبية آخذ بالتراكم  والرسوخ. يستلزم الحديث عن مرحلة انتقالية طرح أسئلة من أين؟ وإلى أين؟ وقبل ذلك تعريف المرحلة الانتقالية ذاتها. المقصود  بالمرحلة الراهنة الفترة الممتدة بين  وفاة الرئيس حافظ  الأسد حتى اليوم. أما لماذا هي انتقالية فلأن أخص خصائص مراحل الانتقال هي  عدم استقرار قواعد  ممارسة السلطة واضطراب منوال العمل العام، الاجتماعي والحكومي، وانعكاس  ذلك في تشوش نظام  التوقعات الذي كان مبنياً على المنوال السابق وقواعده المستقرة. خلال العام الأخير اتصفت الحياة السياسية في سوريا بدرجة عالية من السيولة وبتسارع  تغير التوقعات (وإن يكن  غير متناسب مع إيقاع تغير الوقائع) وبتوسع حيز الأنشطة المستقلة السياسية وشبه السياسية. مجموع  هذه التظاهرات  وما ارتبط بها من آمال هو  ماسمي "ربيع دمشق" الذي "صيّف" في شباط الماضي .
المرحلة الانتقالية باختصار هي مرحلة اضطراب قواعد سير المؤسسات القديمة قبل تبلور قواعد ومؤسسات جديدة؛ على أن نبقي في بالنا أن نمط ممارسة السلطة في سوريا، أي طبيعة الدولة ونوعية علاقتها بالمجتمع، لم يكن مؤسسياً وخاضعاً لقواعد عامة مستقرة في أي وقت من العهد السابق. هذا يعني أن سوريا كانت تعيش بالفعل، بالمعنى التاريخي وبالمعنى البنيوي، مرحلة انتقالية طويلة، وكلنا نعرف التعبير القانوني المضاد للقانون عن هذه المرحلة الانتقالية: حالة الطوارئ التي "طرأت" في البلد منذ 4 عقود. من الزمن، وخاصة بعد عام 1980، تحولت حالة الطوارئ إلى نظام طوارئ، أي إلى سياسة حرب وتعبئة واستنفار، وثقافة –أو بالأحرى- خطاب كوارثي وتعبوي وحربوي، واقتصاد وحياة اجتماعية لم يعودا خاضعين لقواعد تنموية أو لمعايير وطنية أو أخلاقية واضحة. وتحولنا من نظام غير ممأسس إلى نظام مضاد للمأسسة.
ومع ذلك هناك مرحلة انتقالية ومرحلة  انتقالية، وهناك عدم استقرار وعدم استقرار،  حسب مستوى التحليل. ففي العهد السابق يمكن أن  نتحدث عن عدم استقرار مستقر، أو عن مرحلة انتقال مؤبدة وغير مرحلية. لكن  كانت هناك   مؤسسة واحدة ثابتة وحقيقية تشرف على التأبيد والاستقرار وترمز لها هي الرئيس حافظ الأسد بالذات. فقد كان الرجل مؤسسة ورمز السلطة في البلد، والثابت الوحيد فيه، إلى درجة أنه يستحيل فهم تاريخ سوريا في  عقود  حكمه  الثلاث دون فهم هذا الموقع الاستثنائي. (…) والقصد أن التحليلات الاقتصادية أو الجغرافية- السياسية أو الثقافية غير كافية  لتفسير وفهم مرحلة سوريا الأسد. (…) وبهذا المعنى لا يزال المتغير الأساسي في البلد  غياب الرئيس حافظ الأسد  أكثر مما هو حضور غيره. لذلك بالذات نتحدث عن مرحلة انتقالية. هذه المرحلة الانتقالية تنفتح  على واحد من أفقين: إما الانتقال نحو الوراء،(…)، وفي هذه الحالة يمكن أن نتحدث عن  مرحلة انتقالية مجهضة. أو تأسيس استقرار جديد وإعادة هيكلة عامة للعلاقة بين السلطة والدولة وبينهما معاً والمجتمع، وفي هذه الحالة نتحدث عن انتقال ناجح . يتميز  كل واحد من هذين المسارين بتناقضاته.فصحيح أن الخيار الأول يمكن الطبقة الحاكمة من أن  تبقى طبقة مالكة ومشرفة على إدارة وتوزيع الثروة المادية والرمزية في المجتمع، لكنه أيضاً يحدُّ من سلطتها الفعلية، ويبقيها رهن مشيئة المركز الوحيد، قابلة للتبديل  والحذف، وغير مستقرة لأن عدم استقرارها هي شرط استقرار هذا المركز  الوحيد. (…)
وقد نجد تعبيراً إجرائياً وبسيطاً عن هذا التناقض في مصير التعميم الذي أصدره الرئيس بمنع صوره خارج الدوائر الرسمية. يمكننا  هنا أن نتحدث عن حرب صورٍ حقيقية التهبت في الشوارع والساحات، وهي حرب  لا تشير فقط  إلى أن الصراع على الماضي  هو صراعٌ على الحاضر والمستقبل، بمعنى أن  إعادة صور الرئيس حافظ الأسد ونشر صور الرئيس بشار الأسد هي تمديد رمزي للعهد السابق،  لكنها تشير أساساً أن الدولة التسلطية في سوريا  كالأنظمة  الشمولية لا تحكم  بأجهزة الأمن والعنف فقط بل أيضاً بالصور واللافتات والمهرجانات والاحتفالات … أي بالرموز. أي أن  منع  الصور قد يعني تحطيم البرواز السياسي كله، ثم إن غياب مظاهر القداسة يتطلب  حضور  البرامج  والخطط والسياسات العملية، وبالتالي المعلومات  والأرقام من ناحية، والمحاسبة من ناحية أخرى؛ وهذا مالا يبدو في أفق سياسات اليوم. إذن إلغاء الصور وحده يقتضي تغييراً عميقاً في النظام . سأخرج عن السياق قليلاً لمحاولة  رسم  مخطط مبسط لنظام السلطة في سوريا في العهد  السابق . فوق في الأعلى مؤسسة السلطة ورمزها أي "الرئيس . الجناحان هما أولاً الجهاز الرمزي، وهو ليس أجهزة الإعلام من صحافة وتلفزيون وإذاعة فحسب، بل أساساً جهاز  الصور وأخواتها، الجهاز الذي  ينبث في كل أنحاء المجتمع على يد " المنظمات الشعبية". وظيفة هذا الجهاز هي إنتاج  القداسة وما يرتبط بها من  هيبة ورهبة وخوف من ناحية، ثم  تسمية الأشياء بغير أسمائها من ناحية أخرى.
الجهاز الآخر هو الجهاز  القمعي وهو أيضاً لا يقتصر على أجهزة  الأمن على كثرتها وتداخل  اختصاصاتها، بل ويشمل "جيش الاحتياط" المكون من المخبرين  الهواة والمحترفين المنبثين بدورهم  في كل أنحاء المجتمع، والذين كان لهم  عزٌّ عظيم في الثمانينات خاصة، حيث  تحولت  كتابة التقارير من حاجة أمنية إلى واجب وطني. وظيفة هذا  الجهاز  هي إنتاج  الخوف المباشر من ناحية، ثم منع تسمية الأشياء  بأسمائها من ناحية أخرى.
وفي القاعدة ثمة  الجائزة  الكبرى، أي الثروة الجامدة بما فيها الأرصدة في البنوك  الأجنبية والسائلة. أشير بسرعة أيضاً إلى أن القاعدة المادية  للفساد  ليست القطاع العام  أو قطاع الدولة وحده بل هي  الدولة بالذات: صفقات التجارية الخارجية، مشاريع الاستثمار، أموال المساعدات… إن الاقتصاد  السياسي للفساد  وثيق الصلة بالاقتصاد  السياسي للاستبداد. تبقى إدارة القطاع العام والإدارة بشكل عام هي ملعب الفساد الصغير وقاعدته المادية.
الآن إذا نظرنا إلى السياسة من موقع ما نسب إلى رئاسة الجمهورية من نيات إصلاحية نجد أنها هي الأخرى محكومة  بتناقض تكويني هو تناقض رغبة الإصلاح مع معادلة  الاستقرار والاستمرار، أو الرغبة السحرية  في تغيير أي شيء بشرط أن يبقى كل شيء على ما هو عليه. وجه آخر لتناقض السياسة الإصلاحية هو أنها رغبت في التجديد دون أي تجديد في الرؤوس أو بما في الرؤوس، في بلد تلعب في الرؤوس، أي الأفراد  (مقابل القوانين والقواعد) دوراً حاسماً. لعله لذلك انهزم التوجه الإصلاحي بسهولة وسرعة. فبنية السلطة في سوريا والاندماج  العضوي بين الفساد والتسلط  والفئوية قادران على امتصاص أية تطلعات إصلاحية لا تتوفر لها قيادة قوية ومشروع  واضح وقوى اجتماعية فاعلة.
أما الأفق الآخر، تأسيس نظام جديد، فيقتضي ثلاثة أشياء. أولاً حالة أزمة عامة لا تعود الحلول التقليدية ناجعة لمعالجتها، وثانياً وجود قوى اجتماعية فاعلة تستطيع أن تطرح في الميدان العام حلولاً (وليس مجرد مخارج) سياسية لهذه الأزمة. وثالثاً قيادة فعالة قادرة على تحديد الأهداف العامة ومخاطبة  أوسع فئات المجتمع وتحييد خصوم الإصلاح أو إضعافهم.
حالة الأزمة قائمة في سوريا، وهي ليست وليدة اليوم، بل عمرها 15 عاماً على الأقل. أهم عناصر هذه الأزمة انخفاض الدخول الحقيقية وازدياد شدة الفقر بحيث  أن  بعض الدراسات تقدر أن  66% من السوريين يعيشون تحت خط الفقر، معدل بطالة عالٍ يبلغ حوالي ربع قوة العمل في ظل دخول قرابة ربع مليون  طالب عمل جديد إلى سوق عمل راكدة، زيادة سكانية من الأعلى  عالمياً وتبلغ 35%، تدهور وظيفة الإيديولوجية الوطنية في تحقيق التماهي الوطني وتسكين مطالب  الناس، وتنامي الوعي الذاتي الفئوي، أزمة النظام التعليمي على كافة مستوياته، ولكن  خاصة انغلاق  المنظومة السياسية واحتكار الميدان العام من قبل نخبة حاكمة  ضيقة.
لا تنقصنا الأزمة إذن، لكن  هناك غياب واضح لقوى اجتماعية فاعلة ومبادرة. واستباقاً لما سيأتي نرى  أن هذا الغياب يفسر بروز دور المثقفين خلال العام الأخير، وهنا أيضاً نقطة شبه هامة مع الأنظمة الشمولية. لكن كيف نفسر هذا الغياب ذاته؟ من المرجح  أن جذوره تعود  إلى التكسير العميق الذي أصاب نوى "المجتمع المدني" السوري منذ أواخر الخمسينات، والذي حقق قفزة نوعية في أواخر السبعينات. ففي هذه المرحلة  الأخيرة حصل شيئان. عنف واسع النطاق أرهب المجتمع وكسر ظهره  سياسياً وعقّم من  قدرته على إنتاج  اجتماعيته وعموميته، ثم تَقَطُّع الروابط  بين الناس وتنامي الوعي الذاتي الفئوي كما أسلفت. الأطروحة التي  أتقدم بها  في هذا السياق هي زوال الشعب السوري كفاعل  سياسي وكإرادة عامة وكذات تاريخية. لا أعني  بالشعب مجموع السكان ولا مجموع العصبيات، لا "الجماهير" ولا "الكتل المليونية"، بل جماعة المواطنين كفاعلين  ومتدخلين في الشأن العام. الشعب بالتالي علاقة اجتماعية وليس كياناً أو  هوية أو مجموعاً، ولا شعب  إذن دون حقل اجتماعي مفتوح  تتداول فيه الآراء  والمواقف والأفكار والبرامج.. ولا شعب أيضاً دون ميدان عام مفتوح  تنحل فيه النزاعات  بين مختلف المصالح الاجتماعية، ويتعرف  فيه الجميع على وحدتهم. هذا يعني أن الشعب مفهوم سياسي لا مفهوم سكاني ولا ثقافي. إنه القاعدة الاجتماعية لإنتاج الطبقات والأحزاب والإيديولوجيات (الإيديولوجيات السياسية العامة لا إيديولوجيات الهوية)، والبرامج  والأكثريات والأقليات  العصرية (أي التعاقدية والسياسية لا الدينية والمذهبية).
إذا صح هذا التحليل فإن جذر أزمة الأحزاب السياسية في بلدنا  هو جفاف منبعها  الاجتماعي. فباختصار  شديد  لا أحزاب سياسية دون شعب. قد نضيف أيضاً أنه لا أحزاب سياسية دون سياسة، أي حين تكون  المنظومة السياسية مغلقة تحتكرها فئة  صغيرة لا تتجدد وتحرس  احتكارها للسياسة باحتكار العنف. وقد يكون  السبب الثالث  تقادم العتاد الفكري والإيديولوجي  والتنظيمي لكل  التيارات  السياسية في سوريا، وبالتالي "الاهتلاك المعنوي" –إن جاز التعبير- لرأسمالها الرمزي. فببساطة  العمر الإيديولوجي لأحدث أحزابنا يتجاوز الخمسين عاماً! أي أننا نستهلك  معانٍ لم ننتجها أو نعيد  النظر فيها، وهي معان ارتبطت فوق ذلك بالتعصب والنزعة الاحتكارية، أي أنها مولدة  للاستبداد لا تولد  شيئاً غيره. وهذا ماقد يناسب أن نسميه تهافت الوعي.
 لنلخَّـص إذن: هناك  أزمة اجتماعية جوهرها  نزع اجتماعية المجتمع وتعقيم قدرته على إنتاج  العام، وبالتالي قتل فرص بروز قوى اجتماعية  وأحزاب سياسية وطنية بالمعنى  الحقيقي للكلمة، أي أيضاً إجهاض إمكانية تقديم حلول عامة وعملية  وسياسية للأزمة . هذا يشير أولاً إلى أننا نعيش أزمة اجتماعية مركبة، أعني  أن طبيعة هذه الأزمة بالذات  تعوق تكون قوى اجتماعية قد تتصدى لمواجهتها . بعبارة أخرى ليس الوضع السيئ هو الأزمة بل قتل فرص تكون بدائل اجتماعية حيّة، وبالتالي استراتيجيات عمل ومشاريع  حلول مستقبلية . هذا يعني أيضاً أن  الأزمة في سوريا ليس أزمة نمو أو أزمة  "تقدمية"، بل هي أزمة "تعفنية" أو انحلالية. ويتقاسم رد الفعل الاجتماعي على هذه  الأزمة  موقفان. موقف الفساد والانحلال ثم موقف التعصب والجمود. وبينما يعني  الأول انجرافاً في التاريخ وتسليماً بقضائه وقدره، يعني الثاني خروجاً من التاريخ وأحياناً خروجاً عليه. (وأعتقد  شخصياً أن النزعة الجبرية التسليمية  تبرز  في المراحل التاريخية التي لا يستطيع  الناس  فيها التحكم بشروط حياتهم، والتي ترتفع فيها هذه الشروط  عن متناول أيديهم وعقولهم وتمثل بالتالي كقدر مقدور). ولعل أخطر ما في هذا الوضع هو أن التعصب والانحلال  حلاّن –أو بالأحرى مخرجان- من المشكلة أكثر مما هما المشكلة ذاتها فالفساد وسيلة لتحسين مستوى الحياة بالنسبة "لأولاد الدولة"، ولتيسير سير المصالح اليومية بالنسبة لعامة الناس. أما التعصب فهو وسيلة لإنقاذ جزر من التضامن الإنساني والحميمية وانسحاب من عالم  بلا قيم إلى قيم خارج العام. لكن القانون العام يقضي بأن  المجتمعات التي لا تستطيع  مواجهة مشاكلها وحلها تتحلل هي بالذات، وتفقد  قدرتها على المبادرة والإبداع، وتسلم أمرها للمقادير. هذا الوضع الانحلالي هو بالضبط ما تعيشه سوريا منذ عقدين من السنين.
فمهما أمكن للفساد والتعصب أن يكونا ناجعين كوسيلة تكيف أو كوسيلة احتماء، فإن هذا النجوع بالذات عقبة منيعة أمام التحرر الإيجابي والانفتاح والتضامن  الاجتماعي. وهكذا فإن الحلول بدورها مشاكل، أو بالأحرى مشاكل مركبة.
تتمثل أهم المظاهر الاجتماعية السلبية للتعصب في تنامي الوعي الذاتي الفئوي وحضوره الكثيف في  مختلف ميادين الحياة الاجتماعية والثقافية، وتلويثه للوعي الاجتماعي. والخطر الأساسي الذي يمثله  هذا العنصر هو إعاقة بلورة إرادة عامة وطنية، وإضعاف فرص تكون أحزاب عابرة  للطوائف. ثم إنه  يمكن من نقل التناقضات أو ترحيلها من ميدانها السياسي العام  إلى داخل المجتمع لتأخذ شكل صراعات مذهبية ودينية وطائفية، وليصبح النظام  التسلطي حلاً بدلاً من كونه مشكلة، أي يصبح هو الحَكَم الذي يمنع الناس من أكل بعضهم. وكما  نرى باتت أخطر  المشاكل الاجتماعية، الفساد  والتعصب والتسلطية، حلولاً  ونظاماً للحياة وقاعدة للسلوك. هذا يعني  أن مجتمعنا  يعيش على انحلاله الذاتي. وهذا هو المقصود بالأزمة "التعفنية".
أما من أفق صحي وتحرري إذن؟ لعل التحليلات السابقة تشير إلى صعوبة كبيرة، إن لم نقل إلى استحالة، هذا الأفق المأمول. فلننظر الآن  إلى  بعض العناصر المستجدة في اللوحة في العام الأخير. أهم هذه العناصر: الإفراج  عن قسم  من المعتقلين السياسيين، المنتديات، أنشطة  المثقفين، ميثاق الشرق الوطني" فلإسلاميين السوريين في الخارج ودعوة التجمع للمصالحة الوطنية.
تعاني هذه العناصر من 3 نقاط ضعف خطيرة : أولاً خلت من التنسيق وطغى عليها التشرذم  والبطء واضطراب التوجه (هدر كثير من الجهد والوقت مثلاً في مناقشات عقيمة عن شرعية مفهوم المجتمع المدني،  وأولويته على بناء الدولة أم العكس وأولوية  الإصلاح السياسي على الاقتصادي أم العكس) فكانت  لذلك أضعف من أن تشكل زخماً تجديدياً قوياً حتى قبل أن  تبدأ السلطة  هجومها المضاد في شباط  الماضي. وثانياً بقيت هامشية، لم  تتمأسس وتتحول إلى مكاسب اجتماعية  ثابتة يمكن أن يبنى عليها. فالإفراج عن المعتقلين السياسيين مثلاً لا يعني ولا يراد له أن يعني الإفراج عن السياسة.ثالثاً،  بقي 75% من الناس خارج هذا الحراك مما وسمه بطابع نخبوي علماً أن الـ 25% الباقين هم الجمهور الاحتمالي لهذه الأنشطة، أما جمهورها الفعلي فقد لا يتجاوز 1% .
كل هذا إضافة، إلى مؤشرات ذكرت سابقا،ً يدل على ضعف الحركة الديمقراطية السوري أو بالأحرى على عسر ولادتها. ومن أهم الدلائل على هذا العسر هو أنه  لم  تبرز لدينا حتى اليوم قيادات معنوية وازنة يمكن أن يتبلور حولها حد أدنى من الإجماع، علماً أن  بروز هذا النوع من القيادات هو من الخصائص المميزة أيضاً لمراحل الانتقال.
في رأيي أننا نعيش اليوم  وضعاً خطيراً في سوريا رغم مظاهر الاستقرار. وأخطر ما في هذا الوضع أنه ليس لدى السلطة برنامج عدا الكلام  الدعائي عن "الاستقرار والاستمرار" السلطة عاجزة عن الحكم والقيادة، ولا تحمل مشروعاً جدياً من أي نوع. في العهد  السابق  غطت  على هذا العجز بالتوسع في الإجراءات  القمعية والعقابية ثم بالشخصنة المفرطة للسلطة. لن تكون  إعادة هذا المنوال اليوم  إلا كاريكاتيراً مضحكاً، لكن نتائجه الاجتماعية والسياسية قد تكون مدمرة ومبكية .
ما العملّ بخصوصنا نحن، دعاة  التغيير الديمقراطي من مثقفين ومعارضين.
1- الإصرار على الانتقال  إلى العلنية ورفض السرية ونقدها.
2- تنسيق مبادرات العمل المشترك: بيانات، عرائض، منتديات، صحف.. الخ
3- تقديم برنامج اجتماعي واقتصادي مفصّل قدر الإمكان يتجاوز الاستهلاك التطفلي للخطاب الديمقراطي .
أرى أن نقل دعوة المصالحة الوطنية إلى أوسع فئات الناس خطوة بالغة  الأهمية. يجب أن تتصالح سوريا مع ذاتها لكي تستطيع أن تواجه التحديات الخارجية وتحديات البناء الداخلي في عصر انتهاء صيغة مدريد والعولمة.
سأختم هذه الورقة ببعض التخمينات أو "السيناريوهات" الافتراضية حول المستقبل العتيد التالي للمصالحة الوطنية المأمولة .
قد تتكون  اللوحة السياسية السورية في عهد الجمهورية الثالثة  من قطبين أو ثلاثة. القطب الأول هو حزب البعث المحرّر من السلطة، والثاني هو الحزب الإسلامي  المتحرر من العنف والوحدانية العقائدية والسياسية، وقد يكون الثالث هو أطياف المعارضة غير الإسلامية التي قد يلعب التجمع الوطني دوراً في تنظيمها ان استطاع التحرر من ركوده والحفاظ على وحدته والانتقال إلى المبادرة السياسية والفكرية والبرنامجية. وقد نرى أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية تقوم  بأعظم عمل في تاريخها، ألا وهو الانقراض، وربما باستثناء الحزب الشيوعي (جماعة يوسف فيصل) الذي قد يقترب من القطب البعثي أو القطب المعارض غير الإسلامي. النقطة الهامة على كل حال هي أن هذا قد يكون طريق بناء الديمقراطية السورية  لأنه يبدو أن نشوء قطب ديمقراطي حقيقي قادر على مواجهة السلطة وفرض تنازلات جدية عليها لمصلحة الحرية والاستقلال الاجتماعي غير وارد في المدى المنظور. الديمقراطية  الممكنة  في سوريا هي ديمقراطية توازنية تنبني على ضمانات متبادلة وعلى تعاهد صادق من الأطراف المشاركة في المصالحة الوطنية على نبذ العنف وتداول السلطة واعتبار الميثاق العالمي لحقوق الإنسان له قوة الدستور واستقلال السلطات وحرية الصحافة والنقابات .
هذا هو السيناريو الأفضل، أو السيناريو الحلم لكن هناك سيناريو آخر-الكابوس: انفجار عام للوضع في البلد تحت وطأة العجز عن قيادة الإصلاح ضعف القيادة واشتداد الفقر وعدوان إسرائيلي لا يمكن استبعاده في ظل شارون. هنا على الأرجح ستترك طبقة اللصوص البلد ليواجه مصيره ولن يردعها رادع من التلاعب بنقاط ضعف التماسك الوطني وستثبت أنها الجهة الوحيدة غير المستعدة للتخلي عن مصالحها ونزعتها الانتقامية.
شخصياً لا أظن أن العهد الحالي سيطول. سوريا محتاجة إلى دولة   قوية، دون أن يعني ذلك أنها عنيفة بالضرورة، وهذا غير متوفر اليوم.
قد يتوجب على المهتمين بالشأن العام وعي هذه الاحتمالات والارتفاع إلى مستوى المبادرة والوعي التاريخيين كيلا تأخذنا التغيرات على حين غرة كما حصل قبل عام من اليوم.
وقد تكون النقطة المركزية  لوعينا وعملنا هي ان  قضيتنا قضية الحرية وتطليق الاستبداد، مهما تكن إيديولوجيته ولونه، إلى غير رجعة . 
               



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295





- الحوثيون يزعمون استهداف قاعدة جوية إسرائيلية بصاروخ باليستي ...
- إسرائيل.. تصعيد بلبنان عقب قرار الجنايات
- طهران تشغل المزيد من أجهزة الطرد المركزي
- صاروخ -أوريشنيك-: من الإنذار إلى الردع
- هولندا.. قضية قانونية ضد دعم إسرائيل
- وزيرة الخارجية الألمانية وزوجها ينفصلان بعد زواج دام 17 عاما ...
- حزب الله وإسرائيل.. تصعيد يؤجل الهدنة
- مراسلتنا: اشتباكات عنيفة بين مقاتلي -حزب الله- والقوات الإسر ...
- صافرات الانذار تدوي بشكل متواصل في نهاريا وعكا وحيفا ومناطق ...
- يديعوت أحرونوت: انتحار 6 جنود إسرائيليين والجيش يرفض إعلان ا ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - وعـي اللحظة الراهنة