سليم يونس الزريعي
الحوار المتمدن-العدد: 8078 - 2024 / 8 / 23 - 07:30
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
الفصل الثاني : أزمة الكيان أزمة بنيوية
المبحث الأول :لماذا هي أزمة بنوية ؟
لما كانت عملية زرع الكيان الصهيوني في فلسطين، هي عملية قامت على الاحتلال من قبل مجموعات عرقية لا رابط قومي أو عرقي بينها، فقد رافقت هذه العملية جملة من التناقضات التي طبعت هذا التكوين بطابعها فيما يعرف بالأزمة البنيوية للكيان. وهي تناقضات لها علاقة بتكون هذا الكيان كفعل طارئ في الزمان والمكان وليس أصيلا.
مطلب أول: مشكلة النشأة
من ذلك أنه بخلاف كل دول العالمـ فإن الكيان الصهيوني هو كيان استيطاني إحلالي، وهو آخر المشاريع الاستيطانية في العالم اليوم، ومشكلة هذا الكيان تتعلق بطبيعته، كمشروع صهيوني أقيم تحت لافتة دينية هي "يهودية الدولة".
ولذلك يدرك الإسرائيليون صعوبة أن يصبح الكيان دولة مستقرة على أرض للغير، وهي صعوبة تتعلق بتأمين الظروف الاجتماعية والجغرافية والتاريخية لإقامة دولة قابلة للاستقرار والاستمرار، في ظل عدم القدرة على تفكيك المسألة الفلسطينية، ليس فلسطيني الضفة والقطاع والشتات فحسب، وإنما عرب الـ48 أيضاً، والأهم هو الإخفاق في تفكيك مركزية المسألة الفلسطينية بالنسبة للعالم العربي والإسلامي(1). والواقع أن قدرة الكيان على "صهر" المكونات الواردة من أنحاء العالم لتكون "مجتمعاً واحداً"، تواجه صعوبات متزايدة، وثمة صدوع وخطوط انقسام اجتماعي ملازمة للتأسيس، إن أمكن التعبير، مما لم يمكن لسياسات الصهر الاجتماعي تجاوزه، سيما خطوط الانقسام بين الشرقيين والغربيين، وبين المراكز المدينية والمستوطنات، وبين المتدينين والعلمانيين، فضلاً عن التفاوت الاجتماعي في أنماط العيش والعمل والإنتاج والدخل(2).
المطلب الثاتي: اختبار أو استفتاء دائم
يعيش الكيان الصهيوني حالة اختبار واستفتاء دائما، لأن فكرة الدولة في "إسرائيل" غير مستقرة، وتبدو غريبة وشاذة في عالم السياسة اليوم، فهذا جعلها تحت اختبار دائم، أي في حالة استفتاء دائم بين اليهود في فلسطين، فهي من جهة "دولة لليهود" من كل أنحاء العالم، ولكنها لا تضمهم جميعاً، ولا تستقر الفكرة، من هذا المنظور، بوجود الفلسطينيين على الأرض نفسها.
وهي من جهة أخرى حيز جغرافي وسيميائي وتاريخي وسوسيولوجي جرى اغتصابه والاستحواذ عليه بقوة السلاح والحرب والتهجير والإبادة، ولكنه مع ذلك ليس محض جغرافي أو حيز لليهود، إذ إن البعد الفلسطيني أعمق وأقوى من أن يمكن لـ"إسرائيل" احتواءه وتفكيكه، ولا تزال نسبة الفلسطينيين داخل أراضي الـ48 كبيرة، بل وفي ازدياد مستمر، كون نسبة التزايد السكاني بالولادة كبيرة نسبياً، فضلاً عن العمق الوطني الفلسطيني في أراضي الـ1967 والشتات (3).
المبحث الثاني : مفهوم أو تعريف الأزمة البنيوية
تعددت التعاريف المستخدمة في تحديد مفهوم الأزمة البنيوية، ولكن قراءة معمقة لهذه التعاريف تؤكد أن تعددها يعود إلى اختلاف النظرة إلى الأزمة وإلى اختلاف الجانب الذي يجري التركيز عليه من بين الجوانب المختلفة للأزمة، الأمر الذي يتيح إمكانية القول إن تعدد وتنوع هذه التعاريف لا ينفي تمامها. ويرى وليم كونت(الأزمة بأنها تلك النقطة الحرجة واللحظة المناسبة التي يتحدد عندها مصير تطور ما) .
فيما يعرف (جوناثان روبرت) الأزمة بأنها (مرحلة الذروة في توتر العلاقات في بنية استراتيجية وطنية أو إقليمية أو محلية) ، وكذلك تعرف على أنها نقطة تحول في موقف مفاجئ يؤدي إلى أوضاع غير مستقرة ما بعد المصالح والبنية الأساسية، وتحدث عنها نتائج غير مرغوب بها، كل ذلك قد يجري في وقت قصير يلزم معه اتخاذ قرار محدد للمواجهة تكون فيه الأطراف المعنية غير مستعدة أو قادرة على مواجهة الأزمة، وتظهر الأزمة عندما تخرج المشكلات عن السيطرة.
و(الأزمة) كما يعرفها (ستيفن البير) هي )ذلك الحدث السلبي الذي لا يمكن تجنبه آيا كانت درجة استعداد المنظمة ) . ويعرف )بشير العلاق( الأزمة بمفهومها العام بأنها تعني تهديدا خطيرا متوقعا أو غير متوقع لأهداف وقيم ومعتقدات، وممتلكات سواء أكانت تابعة للإفراد أم المنظمات أم الحكومات أم البلدان التي تحد من القدرة على اتخاذ قرارات فعالة أو سريعة،
كذلك تعرف الأزمة (بأنها موقف مفاجئ يهدد مصالح المنشأة وصورتها قبالة الجماهير، مما يستدعي اتخاذ قرارات سريعة لتصويب الأوضاع حتى تعود إلى مسارها الطبيعي)، في حين يعرفها الدكتور (عبد الرزاق الدليمي)، فيقول هي (مشكلة تكبر وتنحرف عن المسار الطبيعي للإحداث، كما أن مواجهة الأزمة يستجوب عملا وتخطيطا غير عاديين بل يعمد إلى ابتكار أساليب ووسائل تمكن من الإحاطة بها واستيعابها ، ومعالجة إفرازاتها بشكل قويم) .
كما تعرف (الأزمة) بأنها: (حدث يكون له تأثير شديد في المنظمة ووظائفها وجمهورها الأساسي، وإذا لم يجري التعامل مع هذا الحدث بطريقة صحيحة، فإنّه يهدد قواعد المنظمة الأساسية، ويحد من قدراتها على القيام بمهمتها، والحفاظ على شرعيتها وسمعتها) (4).
المبحث الثالث: مكونات الأزمة البنيوية
قد يفاجأ الكثيرون أن الكيان الصهيوني الذي تعتبره الدول الغربية الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، أن هذا الكيان منذ أن زرع في فلسطين، لا يوجد لديه دستورـ الذي يعتبر أب القوانين. وذلك عن وعي ومع سبق الإصرار. ومن ثم فإن أحد المكونات الأساسية في أزمة الكيان الصهيوني البنيوية، يتعلق بغياب الدستور.
¬ مطلب أول: عدم وجود دستور
لقد شكل وضع دستور للكيان عند زرعه مسألة خلافية بين ما يسمى بالمؤسسين، بل إنها أحد أكثر المسائل التي اختلفت ¬ ولا تزال تختلف ¬ حولها آراء العديد من الأطراف الحزبيّة والسياسيّة والعقائديّة, ولهذا لا يمكن النظر إليها في إطار صراع العلمانيين والمتديّنين الذين يعتبرون أن توراتهم هو الدستور فحسب. بل إن جذور الخلاف داخل الحركة الصهيونية تعود إلى ما قبل زرعه في فلسطين.
ذلك أن زعيم الحركة الصهيونية, تيودور هرتسل, كان يرى أن على الحركة الصهيونية أن تكلّف لجنة من رجال القانون لصياغة “أفضل دستور عصري ممكن, بشرط أن يكون ذا طبيعة مرنة ومعتدلة”(5).
من ذلك أن الجمعيّة العامة للأمم المتحدة عندما أصدرت مشروع تقسيم فلسطين ضمن القرار 181 في 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1947, أكدت غبى ضرورة التزام كلّ من الدولتين العربيّة واليهوديّة بأن تقوم الجمعيّة التأسيسيّة في كلّ منهما بوضع دستور ديمقراطي يكفل حماية الأماكن المقدّسة وحقوق الإنسان(6).
لكن لقوى السياسية في إسرائيل آنذاك انقسمت ما بين مؤيّد ومعارض لوضع دستور وكان لكلّ فريق حجمه وأسانيده, إذ كان المعسكر الديني ضمن الفريق المعارض, وأيّده في ذلك حزب مباي أكبر الأحزاب السياسيّة آنذاك. أمّا أحزاب حيروت والصهيونيون العموميون والمبام والحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) فكانت تؤيّد وضع دستور مكتوب(7).
وكانت الأحزاب المؤيّدة ترى أن الدستور المكتوب يشكّل الإرادة المثلى والفعّالة للحيلولة دون استبداد الأغلبيّة في البرلمان ¬ الكنيست ¬ في مواجهة الأقليّة, كما وأنه الأداة الكفيلة بصيانة الحريّات العامّة للأفراد ويحقّق الوحدة والتماسك في المجتمع ويعتبر الأداة الفضلى لتحديد السياسة التربوية والتعليمية...
أمّا الفريق المناهض لوضع دستور وهو الفريق الأغلب والأقوى ¬ ومن ضمنه دائماً الأحزاب الدينية التي رأت أن التوراة يجب أن تكون دستور هذه الدولة ¬ ومن ضمنه أحزاب علمانية أخرى كان في مقدّمتها حزب ¬ مباي ¬ بزعامة بن غوريون, التي رأت أن على هذه الدولة مهام يجب القيام بها ومن أهمّها تجميع يهود العالم في الكيان العبري والعمل على استيعابهم وتوفير الأمن العسكري والإقتصادي فيه. كما أن وضع الدستور من شأنه تقييد حريات القيادات السياسية بصدد الممارسات القمعية التي قد تراها ضرورية ضد غير اليهود حتى ولو حملوا الجنسية الإسرائيلية, والمقصود بهم العرب. هذا بالإضافة إلى أن وضع الدستور يعني تقييد حرية الدولة في ما يتعلّق برقعة الأرض التي تحتلّها, ويعني الحد من قدرة السياسيين على التلاعب في مجال عمليات التهويد والإستيلاء على أراضي وممتلكات أصحاب الأرض الشرعيين من العرب الفلسطينيين. (8)
كما من شأن وضع الدستور أن يؤدّي إلى وضع قيود على دور المؤسّسة العسكرية الإسرائيلية التي تقوم بالدور الأبرز في تنفيذ استراتيجيات السياسة الخارجية(9).
المطلب الثاني : أزمة الأيديولوجيا الصهيونية
لم تتعرّض الصيغة الصهيونية الأساسية الشاملة بعد بلفور لتوجّه الدولة الأيديولوجي, إذ يبدو أن الصهاينة التوطينيين كانوا واعين لحقائق الموقف في فلسطين, ولصعوبات الاستيطان, كما لم يكن توجّه الدولة الصهيونية يعنيهم من قريب أو من بعيد ما دامت تؤدّي الأغراض المطلوبة منها, مثل إبعاد يهود شرق أوروبا عنهم والقيام بدور المدافع عن المصالح الاستعمارية الامبريالية... وربما كانت الصيغة المراوغة التي توصّلت إليها المنظّمة الصهيونية العالمية بشأن الاستيطان كانت محاولة للتوفيق بين كلّ الصهاينة والجمع بينهم وراء الحد الأدنى الصهيوني... فالهدف هنا لم يعد يحدّد شكل الدولة الصهيونية, ولا شكل ملكية الأرض ولا المثل الاجتماعية أو العقائدية الظاهرة أو الكامنة, وإنّما تحدّث فقط عن الحصول على أرض فلسطين (أرض إسرائيل) كي تكون ملكاً للشعب اليهودي بشكل مبهم ومجرّد. ولهذا يصعب الحديث عن يمين أو يسار داخل الحركة الصهيونية, فمن الناحية البنيوية يتّفق الجميع على الحد الأدنى. (10)
أزمة الأيديولوجيا تظهر أيضاً في صعوبة الإجابة عن السؤال الجوهري والأساسي: هل الصهيونية قيمة دينية أم قيمة علمانية؟ آرييه درعي زعيم حزب شاس اليهودي الشرقي, يقول: “الصهيونيون الحقيقيون هم الذين يحافظون على شرائع التوراة”. والحاخام عوفديا يوسف, الزعيم الروحي المطلق لحزب شاس, يكفّر القضاة العلمانيين وكلّ من يتوجّه إلى المحاكم العلمانية الخاصة بالدولة, ويصف المهاجرين الروس بالأغيار “غوييم”. والجدير ذكره أن نوّاب حزب شاس في الكنيست, مثلهم مثل العرب ¬ لا يقفون عندما يعزف نشيد الدولة “هاتيكفا” ¬ الأمل في الكنيست, أو أنهم يغادرون القاعة, فيما يكشف صندوق الاقتراع ونقيس هنا على انتخابات 1999 كمثال، فالأحزاب التي خاضت تلك الانتخابات تحت لواء الصهيونية, فشلت في الوصول إلى الكنيست (رغم أن نسبة الحسم لا تتجاوز 1,5% من الأصوات) ومن بينها حزب “تسوميت” (الصهيونية المتجدّدة) بزعامة رئيس الأركان الأسبق الجنرال رفائيل إيتان, وحزب الطريق الثالث بزعامة الجنرال افيغودور كهلان) أو أنها فقدت الكثير من قوّتها التمثيلية مثل حزب مفدال (الديني القومي الصهيوني الذي انخفض تمثيله من 9 إلى 5 مقاعد), ناهيك عن تمزّق الليكود وانسحاب كتل منه مثل حزب الوسط وشاس وغيشر (الجسر) بزعامة دافيد ليفي.
من هذا المنطلق يمكننا الحديث عن شرذمة الهويات الدينية والقومية والسياسية. في إسرائيل, التي تعني تراخي قبضة الصهيونية التي لم تعد تتمكّن من احتواء التناقضات الداخلية المستشرية, إلى حدّ التصريح بالحديث عن مرحلة ما بعد الصهيونية وعن ضرورة تبنّي هويّة إسرائيلية فقط, وعن ضرورة تحوّل إسرائيل إلى دولة شرق أوسطية عادية.
ويتابع درعي فيقول: “لقد تغيّرت وتفتّتت الصورة الأسطورة المأمولة لتحلّ محلّها صور أخرى عديدة لكلٍّ منها شرعيتها... بين اليهودي والعربي, والمتشدّدين دينياً (الحريديم) والقوميين الدينيين (غوش ايمونيم) والتقليديين والعلمانيين وغيرهم ممّن تمتدّ جذورهم إلى أصول عرقية مختلفة مثل السفارديم والأشكنازيم والمهاجرين الروس والأثيوبيين (الفلاشا) وغيرهم.(11)
المطلب الثالث: مشكلة التصدعات
كون هذا التجمع الذي يضم هذا الخليط البشري مكون من مجموعات من "اليهود" من كلّ بقاع الأرض ومن كلّ القوميات. استجلبت إلى أرض فلسطين في سياق مشروع كولنيالي استعماري، فقد صنف علماء المجتمع هذه المجموعات ضمن خمسة فروع (تصدّعات) أساسية: أولاً: التصدّع الديني - العلماني، ويُقصد به وجود مجموعة من الإسرائيليين العلمانيين مقابل غيرهم من المتديّنين؛ ويسبّب هذا التقسيم - مثل أي مجتمع- نوعاً من الفرقة والاختلاف حول الثقافة والهوية ونظام الحكم؛ وهذا خطأ جوهري له ميزة في إسرائيل عن باقي المجتمعات، وله علاقة بطبيعة المجتمع الديني في الكيان. وهذا الواقع موجود منذ ما قبل قيام الكيان واستمر طيلة العقود الماضية(12).
التصدّع الثاني هو ذلك القائم بين الشرقيين والغربيين، على قاعدة التمييز بين الشرقيين والغربيين المتحدّرين من أوروبا وأميركا؛ وخطورة هذا الانقسام تكمن في أن الصهاينة الأوائل هم أشكيناز، وهم يعتبرون أن الشرقيين جاؤوا فيما بعد، وقد اعتبرهم الغربيون بدائيين لأنهم أتوا من الدول العربية أو من أفريقيا، فتعاملوا معهم بفوقيّة وعنصرية؛ والأدبيات الإسرائيلية حافلة بالطرق التي تكشف كيف تعاملوا مع هؤلاء الشرقيين، والتراكمات التي نتجت عنها، ما أدّى إلى الانقلاب الكبير الذي حصل عام 1977، عندما صوّت الشرقيون لليكود، وقاموا بثورة في السياسة الإسرائيلية. ومنذ ذلك الوقت بدأ حزب العمل مساره التراجعي، حتى أصبح اليوم من أصغر الأحزاب في إسرائيل .
هذا الانقسام الشرقي- الغربي كان بالغ الحدّة في البداية؛ لكن هذه الحدّة تراجعت في العقدين الأخيرين، لأن الفجوة بين الشرقيين والغربيين تضاءلت نتيجة التطورات التي حصلت في المجتمع الإسرائيلي؛ لكن الانقسام لا يزال موجوداً؛ فنحن نعلم أن هناك بعض السياسيين الشرقيين مثل أرييه درعي- رئيس لحزب شاس المغربي؛ وبعضهم لا يزوّج ابنته لمغربي. والمتابعات أثبتت أن الغربيين يتقدمون على الشرقيين في كل شيء؛ حتى أن الرواتب والمناصب تختلف بين الشرقيين والغربيين(13)
التصدّع الثالث يتمثّل في التوتر السياسي بين اليمين واليسار؛ والاختلاف الأساسي بينهما هو حول القضية الفلسطينية. هناك تحوّل كبير على هذا الصعيد؛ بمعنى أنه في العقود الأولى وحتى الثمانينات كانت أغلبية الإسرائيليين تصنّف نفسها في اليسار أو الوسط؛ (14) بعكس ما هو قائم حاليا من تنامي ظاهرة الصهيونية الدينية التي تقف على يمين الجميع.
التصدّع أو الانقسام الرابع يكمن في التوتر القومي؛ نحن لا نعتبر إسرائيل دولة قومية؛ وتعريف اليهودية بالقومية له اعتبار كبير في إسرائيل، التي تنقسم بين يهود وعرب (فلسطينيو 48 وليس كل العرب). في العام 1948 بقي ما يقارب 150 ألف فلسطيني من أصل 900 ألف كانوا يعيشون داخل أراضي 48؛ ونتيجة اعتبارات عديدة، وبعد فشل المحاولات الصهيونية لتهجير هؤلاء، فرِض عليهم حمل الجنسية الإسرائيلية؛ لكنهم ظلّوا عرباً؛ وبالتالي، عندما نتكلم عن الفلسطينيين يجب أن نفرّق بين عرب 48 الذين ينتخبون في الانتخابات الإسرائيلية وبين فلسطينيي الضفة والقدس. وحين نتكلم عن الصدع بين اليهود العرب، فإننا نتكلم عن التوترات الخطيرة التي تشهدها إسرائيل منذ عقود؛ فالصهاينة يعتبرون أن فلسطينيي 48، لأنهم من خارج اليهودية ويشكّلون خطراً على يهودية الدولة؛ خاصة أنهم أصحاب الأرض الفلسطينية الحقيقيين. وبالتالي، المشكلة بين اليهود وعرب 48 ليست فقط في الاختلاف القومي والديني؛ بل إن عرب 48 يسمّون في المجتمع الدولي بالقومية الأصلانية، لأنهم أهل الأرض؛ وهذا الوضع تختلف مقاربته في القانون الدولي من جهة الحقوق(15).
الصدع الخامس والأخير، هو الصدع الطبقي الموجود في كل المجتمعات، أي بين الأغنياء والفقراء.
هذه هي التقسيمات التقليدية، مع الرهان على تأثير هذه التقسيمات أو التصدعات بعد نحو ثمانية عقود على إنشاء "إسرائيل"؛ وهناك عامل التدخل الخارجي، والقادر على تفكيك المجتمعات؛ لكنه يعمل دائماً على حماية وتعزيز وجود الكيان.
يقوم نظام الحكم في الكيان على الانتخابات التي تعتبر إسرائيل دائرة واحدة ودوائر مقفلة. وعندما نتحدث عن مجتمع متنوع، فهذا يعني انقسامات سياسية؛ وكل قسم يتجلّى في حزب سياسي؛ وأغلب الأحزاب في إسرائيل هي أحزاب قطاعية، أي أنها تمثّل قطاعاً معيّناً؛ فمثلاً، هناك أحزاب يهودية وأحزاب عربية، من الناحية القومية؛ وهناك أحزاب يسارية وأخرى يمينية؛ وهناك أحزاب علمانية وأخرى دينية. والأسوأ أن هناك أحزاباً تمثّل جماعات معيّنة؛ فمثلاً هناك حزب يمثّل الروس وآخر يمثّل الشرقيين، وآخر يمثّل الغربيين. هذا الانقسام المجتمعي تحوّل إلى انقسام سياسي؛ وعندما يمثّل الحزب فئة معيّنة يكون همّه الأساسي الوصول إلى الحكم لتمثيل هذه الفئة(16).
ومن ثم يبدو توصيفا خاطئا القول إن النظام في إسرائيل هو نظام ديمقراطي. في ظل عدم استقرار الحياة الحزبية، فالأحزاب الإسرائيلية كثيرة الانشقاقات؛ والظاهرة الأخطر هي ظاهرة شخصنة تلك الأحزاب. فحزب الليكود تحوّل إلى حزب نتنياهو، الذي هو رئيس الليكود منذ عام 1993 باستثناء 3 سنوات تولّى فيها شارون الرئاسة؛ وأغلب الانشقاقات التي حصلت كانت عن حزب الليكود. وهناك حزب أفيغدور ليبرمان، وهو علماني يمثّل الروس؛ وهو رئيس الحزب منذ عام 1999، لكنه يعطي دروساً في الديمقراطية. وكذلك الأمر بالنسبة للأحزاب الدينية؛ فمثلاً، حزب شاس ليس فيه انتخابات، بل القرار هو للحاخامات، ويفتقد الحزب لأبسط القواعد الديمقراطية. أيضاً، أغلب الحكومات الإسرائيلية هي حكومات ائتلافية وتلبّي رغبات كلّ حزب من تلك الأحزاب.
المطلب الرابع: القبائل الأربع
هناك تقسيم معتمد حالياً في التجمع الاسرائيلي هو تقسيم القبائل الأربع. وأوّل من أطلق هذا المصطلح هو الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين عام 2015؛ وهو يتحدث عن تحوّلات أو قبائل أربع في المجتمع الإسرائيلي: القبيلة العلمانية، والقبيلة العربية، والقبيلة الحريدية- المتدينون الحريديم، وقبيلة الصهيونية الدينية أو الصهيونية القومية(17)
هذه القبائل الأربع تشكّل خطورة على المجتمع الإسرائيلي، خاصة في دائرة التوازن الديمغرافي والتغيرات داخله. في العقود الأولى كانت الأغلبية هي أغلبية علمانية، وعلى هامشها كانت القبائل الصغيرة الأخرى. أما اليوم، فهناك شكل مختلف من التوازن؛ وفي ظل النظام السياسي الحالي، القوّة الديمغرافية هي قوّة سياسية واقتصادية وغير ذلك(18) لذا، عندما نسمع بالتهديد الداخلي للكيان، فإن جزءا من هذا التهديد هو من هذا المنظور. والخطر في أن هذه القبائل باتت تيارات مستقلة داخل الكيان؛ هذا هو واقع المجتمع الإسرائيلي. (19)
فالعلمانيون مستقلون عن الآخرين؛ وكل قبيلة تعيش في مكان مستقل عن الآخرين، ضمن حيّز جغرافي مختلف. ولكلّ قبيلة نظام تعليم خاص بها. في إسرائيل أربعة نظم تعليمية: الرسمي، والخاص بالعرب، والخاص بالحريديم، والخاص بالصهيونية الدينية؛ وكل قبيلة لديها عادات وتقاليد وثقافة خاصة. وهناك قبيلتان لا تخدمان في الجيش الإسرائيلي: الحريديم والعرب.
ونشير هنا إلى أن إسرائيل ذاهبة إلى مكان في المستقبل القريب، بحيث يصبح عدد الحريديم والعرب أكثر من نصف السكان؛ وهذا التطور فيه خطورة كبيرة على المجتمع الإسرائيلي. (20)
يجمع التيار الديني الصهيوني بين اليهودية والصهيونية؛ فهو أنشأ تآلفاً بين الدين والقومية، وأنصار هذا التيار هم أنصار أرض إسرائيل الكبرى؛ بمعنى أنه تيار متطرف، ولا يقبل بالتسويات، ويعتبر أن غرب الأردن هي أرض إسرائيل. وهؤلاء المتطرفون يخدمون في الجيش ويعملون على فرض سيطرتهم على الجيش وعلى المناصب في إسرائيل.
أما الحريديم فيرفعون شعارهم: توراتهم مهنتهم؛ وهم ينصرفون لتعلّم العلوم الشرعية فلا ينخرطون في الجيش ولا في الدورة الاقتصادية للبلاد. وهذه الشريحة من المجتمع الإسرائيلي عقدت اتفاقاً عند قيام "دولة إسرائيل" بإعفائها من الخدمة في الجيش وبالعطلة نهار السبت؛ في البداية كانت نسبة هؤلاء قليلة، وكان الرهان أن يذوبوا في المجتمع الإسرائيلي العلماني. لكن ما حدث هو العكس، حيث زاد عددهم وأصبح تأثيرهم مهماً في الحياة السياسية الإسرائيلية؛ وهم يشكّلون اليوم 14 ٪ من نسبة اليهود؛ والتوقعات أن النسبة ستصبح في عام 2055 نحو 27%، وعام 2065 قد تبلغ نسبتهم 31%. والمشكلة أنهم متزمتون جداً ولا يشاركون في الدورة الاقتصادية، ولا يحاربون في الجيش، ولا يدرّسون أولادهم العلوم العصرية في المدارس، بل يعملون فقط على العقيدة. إذاً، الحريديم زادت قوّتهم الديمغرافية كثيراً، وبالتالي زادت قوّتهم السياسية؛ فهم باتوا جزءاً أساسياً من الأزمة السياسية في إسرائيل منذ العام 2019 حتى الآن، حيث لا يستطيع نتنياهو تشكيل حكومة من دونهم، وهم لا يقبلون إلاّ بالحصول على موارد مالية كبيرة. والعلمانيون في الكيان يصفون أنفسهم بأنهم حمير الحريديم، لأن الحريديم لا يعملون (60% منهم)، ولا يدفعون الضرائب؛ فهم منصرفون لتلقّي العلوم الدينية، ولا يتعلمون العلوم الأساسية، ولا ينصرفون للعمل في السوق؛ وهم أكثر الفئات إنجاباً في المجتمع الإسرائيلي؛ أما العلماني فيُنجب ولداً وولدين.
أيضاً، أحزاب الحريديم عند دخولها في الحكومات تشترط الحصول على موارد مالية لطلاّب المدارس الحريدية؛ العلماني يخدم في الجيش ويعمل ويدفع الضرائب، إضافة إلى دفع رسوم الجامعات والمدارس. من هنا تتأتى خطورة الحريديم على مستقبل إسرائيل.
بعد 30 أو 40 سنة سيتشكّل واقع ديمغرافي في إسرائيل، فيه ما يقارب 55 % حريديم وعرب و25% صهيونية دينية و25% علمانيون. وهذا الواقع معطوف على واقع آخر مهم، وهو أن الفلسطينيين اليوم باتوا أكثر من اليهود إذا ما جمعنا سكان الضفة الغربية وغزة والقدس (أرض فلسطين التاريخية) (21)
الهوامش
-----------------
(1) عقيل سعيد محفوض، أَزمَاتٌ كاشفة: ما الأسباب العميقة للاحتجاجات في "إسرائيل"؟ https://www.almayadeen.net/
(2) عقيل سعيد محفوض، المصدر السابق.
(6) عقيل سعيد محفوض، المصدر السابق.
(4) إحسان مرتضى، أزمة النظام الصهيوني وتجلّياتها البنيويّة والموضوعية،العدد 36 - نيسان 2001 https://www.lebarmy.gov.lb/
(5) إحسان مرتضى،المصدر السابق.
(6) د. خلف كريم كيوش التميمي، مفهوم الأزمة وتعريفها المؤلف : https://mail.almerja.com/
7) حسان مرتضى، أزمة النظام الصهيوني وتجلّياتها البنيويّة والموضوعية، العدد 36-نيسان2001أزمة النظام الصهيوني وتجلّياتها البنيويّة والموضوعية، https://www.lebarmy.gov.lb/
8 حسان مرتضى، المصدر السابق.
9 حسان مرتضى، المصدر السابق.
10 حسان مرتضى، المصدر السابق.
11 حسان مرتضى، المصدر السابق.
12 حسان مرتضى، المصدر السابق.
13 حسان مرتضى، المصدر السابق.
14 الدكتور عباس إسماعيل، التحوّلات البنيوية في المجتمع الإسرائيلي ودلالاتها، https://www.bahethcenter.ne
15 الدكتور عباس إسماعيل، المصدر السابق.
16 الدكتور عباس إسماعيل، المثدر السابق.
17 الدكتور عباس إسماعيل، المصدر السابق.
18 الدكتور عباس إسماعيل، المصدر السابق.
19 الدكتور عباس إسماعيل، المصدر السابق.
20 الدكتور عباس إسماعيل، النصجر السابق.
21 الدكتور عباس إسماعيل، المصدر السابق.
22 الدكتور عباس إسماعيل، المصدر السابق.
23 الدكتور عباس إسماعيل،المصدر السابق.
24 الدكتور عباس إسماعيل، المثدر السابق.
#سليم_يونس_الزريعي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟