أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - النبي ؛ هل كانَ جبرانُ نبأً كاذباً ؟















المزيد.....

النبي ؛ هل كانَ جبرانُ نبأً كاذباً ؟


دلور ميقري

الحوار المتمدن-العدد: 1772 - 2006 / 12 / 22 - 11:49
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    


1
لطالما كان جبران خليل جبران موضوعاً أثيراً ، مؤجلاً ، تتوجعُ له جعبة أقلامي . ككلّ رفاق الكلمة ، كنتُ في مبتدأ خبري ، المستهام بالأدب ، على علاقةٍ متولهة بهذا الكاتب المفضل أو ذاك . وكما أنّ الطفولة تأنسُ بلدّاتها ؛ فلا غروَ إذاً أن يكون إكتشافي لجبران ، في سنّ مبكرة ، هوَ خصوصاً نوعٌ من كشف الحجاب عن عالم ملغز ، كان غيرَ مألوف بعدُ على أعتاب سنّ المراهقة ؛ عالم الرومانسية ، بكل آماله وأحلامه وخيالاته وإختلاقاته . أتكلم هنا ، عن الكتاب الأول ، المتناهي بأجنحتي آنئذٍ إلى فضاءات الحبّ الأول : الحبّ ، الذي عثرَ في رواية جبران ، " الأجنحة المتكسرة " ، على بعض من توقده وألقه ، كما على خيبته وعثرته . أستعيدُ الآن ، أنا طريدُ فتوّة العمر وأثاله ، تلك العبرات المهرقة ـ كنبيذ النذور ، والمسفوحة على مذبح الوهم ذاكَ ، المسمّى عشقاً ، فيما كانت عيناي تترجفان بين سطور الرواية الجبرانية ، الرومانسية . من ناحية اخرى ، وبما أنّ هاجسَ كاتب السطور هذه ، كان يداور بين الكلمة والرسمة ؛ فلأقل إذاً أنّ فرحي كان عظيماً ، حينما فوجئتُ يومئذٍ بأنّ لوحات ذلك الكتاب ، الروائيّ ، هيَ من إبداع الريشة الرهيفة للمؤلف نفسه . ثمّ تسنى لي في زمن تال ، أن أطلعَ على صور من لوحات كاتبنا اللبنانيّ النابغة هذا ، طيّ ألبوم يحوي أساساً سيرته الفنية والأدبية . إلا أنّ تلك اللوحات ، الزيتية أو المائية ، الغالب عليها ثيمة العري النسويّ ، بقيتْ هناك في أدراج الذاكرة ، طالما لم تثر فيّ سوى الحنين إلى مراهقة عتيقة ، ذابلة . ثمة مفارقة اخرى ، تحيلُ إلى كشفي ذاكَ ، الموصوف : أنّ الأعوام التالية من عمري ، الناضجة ، قد فشى فيها رويداً ، ما يمكنُ وصفه بالبرود إزاء قراءتي لجبران ؛ روائياً على الأقل . ففيما يخصّ " الأجنحة المتكسرة " ، كما غيرها من رواياته ، ما عادت القراءة النقدية تعثرُ فيها على أكثر من محاولات ساذجة ، متعثرة ، إنشائية الأسلوب ورومانسية الأجواء ؛ محاولات ، ما قدّرَ لها أن تخلف من بصمة تأثير ، حقة ، على الآثار الأدبية الأكثر أو الأقلّ حداثة ، في الغرب والشرق على السواء .

2
قراءتي للكتاب العجيب ، المُعجز ، " النبي " ، كانت كشفاً أكثرَ جدّة لعالم جبران ، الإبداعيّ . وتشديدي على صفة الإعجاز هنا ، إنما هيَ صدىً لذلك الكشف نفسه ، المماهي شغفي بالكاتب ؛ أو أسطورته ، بالأصح . كنتُ وقتذاك في أوائل عشرينات العمر ، مجتازاً للتوّ سراط التجربة المريرة ، الموسومة بـ " الخدمة الإلزامية " ؛ التجربة العبثية ، المقدّر على أجيال بلداننا ، البائسة ، المرور جميعاً على حافة جحيمها . قلنا أنّ خدمتي للوطن ، المُفدى ، قد أختتمتْ وحان وقتُ التسكع في شوارع البطالة ، بعدما أفقدتني تلك الخدمة ملمح الأمل ؛ بتفويتها عليّ فرصة الدراسة الجامعية ، قبل كل شيء . ولكن جبران ، أمسى رفيقاً لوحدتي ؛ فما كان يجوز لي الوحشة . وبلغ بي من تناهي الهوى بملهمي هذا ، أنني عمدت إلى إستنساخ لوحة غلاف كتابه " النبي " ( وهيَ بورتريت شخصي للمؤلف بالذات ) بقلم الرصاص ، ومن ثمّ تثبيتها ضمن إطار فوق سريري . كنت أيامئذٍ لا أملّ من سيرة جبران ونبيّه ، خصوصاً مع أصدقاء الأمسيات الشتوية ، وفي غرفتي الصغيرة رفقة الطقطقة البهيجة ، الدافئة ، لحطب الجوز في المدفأة الأنتيكية . يجدر التنويه هنا ، في مقام الحديث عن " نبيّ " جبران ، أنّ كلاماً كثيراً ، نقدياً وتاريخانياً ، قد جرى فيه تتبع الأثر المودي إلى أصله ؛ كتاب " هكذا تكلم زرادشت " لنيتشة . هذا الكتاب ، كان من مقتنيات أبي ، وقد حاولتُ مراراً ، عبثا ، المضيّ سطراً إثر سطر في معمياته اللغوية والفلسفية . لا غروَ إذاً ، ألا يتفق لي لدى قراءة " النبي " أمر مقارنته بذلك الكتاب ، الخالد ، للشاعر والفيلسوف الألماني الأشهر . فيما بعد ، وبسنّ أنضج ، تهيأتْ لأسباب مقدرتي ، المتواضعة فعلاً ، التفرغ لقراءة كتاب نيتشة ذاكَ ، ومن ثمّ إجراء مقاربة ذهنية بينه ، كأثر أصليّ ، وبينَ صداه ؛ كتاب جبران . بيْدَ أنّ هذا الأخير ، تهيأ له حظ الإنتشار عالمياً ، إلى حدّ أضحتْ فيه شعبيته الغامرة ، أمراً غيرَ مألوفٍ من قبل إلا في حالة الكتب السماوية ، المقدسة . يُضارعُ هذه الحقيقة ، مفارقة أدهى ؛ وهيَ أنّ " نبي " جبران مكتوبٌ أصلاً باللغة الإنكليزية ، ومنها ترجم إلى اللغات الاخرى ـ كالعربية ، بترجمة بديعة للشاعر يوسف الخال . وعطفاً على ما وسمناه بـ " المفارقة " ، نقولُ أنّ أمرَ ضعف إنكليزية جبران ، ما عاد يُمترى فيه الآن ، ونحن نستعيد ذكرى هذا الكاتب ، الخامسة والسبعين . ولو أنّ ضعفه اللغوي ذاكَ ، كان على كل حال حقيقة قابعة في الظل ؛ حقيقة ، بقيت هكذا مخفية ً لأعوام طوال ، إلى أن جرى حديثاً تسليط الضوء على علاقات جبراننا ، النسائية .

3
" من غير الطبيعي أن يتكاسل الفنان أو ينتابه الطيش فيغدو مثله مثل أمير يهمل شأن شعبه . إن قادة الناس وموجهيهم خلقوا للعمل " (*) : بهذه الكلمات ، المقتطفة من رسالة طويلة ، تتوجه جوزفين بيبودي إلى صديقها الجديد ، جبران ؛ كلماتٌ فيها ما فيها من إطناب وتنفيج لفتىً لا يتجاوز السادسة عشرة من عمره . كانت جوزفين ، المفتتنة بجبران آنئذٍ ، قد تعرفت عليه حديثاً في معرض صور فوتوغرافية جرى في بوسطن . والرسالة تلقاها فناننا منها خلال وجوده في لبنان ، الذي سافر إليه لدراسة العربية في مدارسه ، وبناءً على إلحاح عائلته . باديء ذي بدء ، نتسقط مفارقة هنا ؛ وهيَ أنّ جبران كان " موديلاً " لفنان مصوّر ، مما سنح له الإلتقاء مع الإنسانة التي قدّر لها تغيير مجرى حياته . جوزفين بيبودي ، كانت شاعرة على جانب من الموهبة ، فضلاً عن انها تكبر جبران بحوالي ثمانية أعوام . من جهتها ، توسّمت شاعرتنا في " الشاب السوري " ـ كما دأبت على وسم جبران ـ مستقبلاً عظيماً : كان هذا ، عقب لقائه الأول بها مباشرة ، قد حفظ صورتها في ذاكرته ، النابهة ، ورسم لها من ثمّ " بورتريت " بقلم رصاص على الورق . وقد فاجأها في اليوم التالي ، حينما أرسل لها الرسم المتقن مع معلمه ، المصور الفوتوغرافي ، الذي كان واسطة التعارف بينهما . لم يك فتانا إذاً ، قد خط شيئاً من كلماته ، الخالدة ، لما إستحق من صديقته تلك ، الأمريكية ، ذلك التقريظ المبالغ فيه . ولا ننسى أنّ فن الرسم في الغرب ، كان من قوة الترسّخ أنه مرّ بلا مبالاة أمام محاولات جبران الفنية ، التالية ، والأكثر نضجاً : ونقصد هنا ، تلك الحادثة التي لن يسلوها جبران قط ؛ حينما كان طالب فنون في باريس ويعرض في صالونها السنوي إحدى لوحاته . كان النحات الأشهر " رودان " ثمة في ذلك المعرض ، وقد مرّ بلوحة جبراننا دونما أن يعيرها إلتفاتة . فما هوَ إذاً وجه المسألة هنا ، فيما يخص إعجاب شاعرة ناضجة ، حدّ الوله ، بفتى مغمور بالكاد يعرفه أحد كرسام ؟ إنني أحيله ، على رأيي البسيط ، إلى إشكاليّة العلاقة بين المتغرّب ومواطن البلد الأصلي . إذ تغدو تلك العلاقة بينهما حيناً كما لو أنها بين محتاج ومحسن . وقد عانى جبران طفلاً ويافعاً من هذا الوضع ، وتأثرت به مشاعره الرهيفة بشدة ، متأذية به ولا شك . وسيرة مبدعنا ، في سنواته الأولى تلك ، المهجرية ، تفيدنا بأنّ تعرّفه على معلمه ، المصور الفوتوغرافي ، كان من واردات الحالة البائسة ، الوضيعة بحق ، التي عاش فيها مع عائلته في بوسطن . ولكن قبل المضيّ في حديثنا هذا ، النسويّ ، دعونا نتعرّف عن قرب إلى ذلك الرجل الذي أثر في شخصية جبران وفكره ، وربما أكثر من أيّ كان ممن إلتقى بهم في حياته .

4
قلنا أنّ جوزفين إلتقتْ جبراناً ، صديقها الشاب ، لدى حضورها معرضاً لمصوّر فوتوغرافي . كان هذا الرجل ، المدعو فرد هولنداي ، فناناً غريب الأطوار . فعلاوة على تنكره لأصوله الأرستقراطية ، فإنه تبنى أفكاراً ثورية ؛ سواءً بسواء ، أكان ذلك في مجال الفلسفة أو الفن . لقد عاش فناننا هذا ، حياة حرة أقرب للبوهيمية ؛ ويمكن القول أنها كانت شاذة ، بعرف مجتمع مدينته ، المحافظ . لقد أفاضت الأقاويل ، أكثر من أيّ شيء ، في إبراز مثليته الجنسية ، كما في إستخدامه لعدد من الفتية ( وكانوا من مشارب أجنبية ، تحديداً ) كموديلات في مشغله الخاص . كان جبران ، كما سلف القولُ ، أحد أولئك الفتية ؛ وربما أكثرهم قرباً لهولنداي ، حتى أضحت العلاقة بينهما متواشجة ، كما المعلم وتلميذه . ثمة مجموعة وفيرة من صور تلميذنا ، محفوظة معظمها في المتاحف الأمريكية ، تظهره بعدسة المعلم ذاكَ ، الحاذقة . لا بدّ من التنويه ، ونحن نرتاض ذلك العالم ، المُكتشف للتوّ من لدن الفتى المهاجر ، أنّ هولنداي ـ ككلّ ما يمت له بصلة ـ تعمّدَ الغرابة في تلك اللقطات المصوّرة لموديله هذا ؛ إن كان لجهة حركاته أو الأزياء التي كساه بها : من تلك اللقطات ، أشتهرتْ صورة جبران وهوَ في زيّ عربيّ ، مماثل لما نعرفه عن وجهاء البدو ، وكذلك صورة اخرى في ملبس هنديّ لا يقل وجاهة . بيْدَ أنّ جبران ، في الأعوام التالية ، ما عتمَ أنْ روّج بنفسه الأسطورة تلوَ الأسطورة عن أصوله النبيلة ، اللبنانية ، وكذا عن جذوره .. الهندية (!) وما كان مجردُ أحلام يقظة ، مراهقة ، أمسى على مرّ السنين والحقب ، كما لو أنه الحقيقة المبرمة . غنيّ عن الإشارة هنا ، إلى ذلك القول الشائع : " إبحث عن المرأة " . فلا غروَ إذاً أن نبتدهَ بحثنا ، بالإشارة لنسويات جبران . إنّ ماري هاسكل ، هيَ المرأة الاخرى ، المقدّر لها لعبَ الدور الحاسم في فترة نضوج كاتبنا ، كما في تطويبه كـ " نبيّ " في هيكل الفكر والفن والكلمة . لقد تبنت صديقة جبران هذه ، وبلا أيّ تمحيص منها ، تلك الأساطير ، الموصوفة ، التي راح جبران يبثها لها في ثنايا رسائله أو خلال لقاءاتهما الحميمة . كان من الطبيعي ، في هكذا حالة ، ألا تسمع أيضاً إمرأة امريكية مثل ماري هاسكل بذلك المثل الكرديّ ، البليغ : " ليتني كنت عروساً للغرباء ، حتى أمتدح لهم أهلي " ! .. إلا أنه ، للإنصاف ، يتوجب علينا تفهّم مشاعر إنسانة لبقة ، مثقفة ـ مثل حاميَة جبران تلك ـ وهيَ في عصر يموج بالسيَر الرومانسية ، غير الواقعية ، بخصوص هذا الكاتب أو ذاك الفنان ، علاوة على ندرة أو إنعدام وسائل الإتصال الحديثة زمنئذٍ ، والمتيحة تبادل المعلومات بين القارات وتوثيقها . وربما ، إلى الأخير ، ما كان جبران بنظر ماري هاسكل سوى مغترباً من بيئة مشرقية ، ريفية ومتخلفة ، وجدَ نفسه في عالم مدنية ، مدهش ، جديد كل الجدّة عليه ؛ فما كان منه إلا مقارنته بواقع حياته الآفل ، المرير ، ومن ثمّ تدبيج تلك الأساطير عن ـ كذا ـ نبل محتده وغنى عائلته ووجاهتها . على كل حال ، فها نحنذا مجدداً أمام تلك الحقيقة / المفارقة ، التي سبق وأن شددنا عليها ؛ في كون هذه المرأة بالذات ، من دأبت على تنقيح نصوص جبران ، المكتوبة بالإنكليزية : وهي اللغة العالمية ، المتيحة لإسمه أن يذاع في أنحاء المعمورة ، وخصوصاً إثر صدور كتابه " النبي " . بالمقابل ، لا بدّ من التأكيد هنا ـ وليسَ دفاعاً عن ملهم فتوتي ـ أنّ نصوص جبران الموشاة بلغته العربية ، الأنيقة والمزخرفة ، لا يمكن لها إلا أنْ تنصِفَ موهبته وتبقيها حيث هيَ وفي المكانة التي إستحقتها دوماً : في صدر إيوان الأدب العالميّ .

5
ربّ متسائل ، بخصوص ما ذكرناه للتوّ عن الأسطورة الجبرانية ، عما إذا لم يكُ حاضرُ المهجر الأمريكيّ آنذاك ، أشد مرارة وأدهى قسوة مما كانه حال تلك العائلة وهيَ في مستقرها الأول في " بشرّي " ؛ البلدة البعيدة ، الواقعة إلى الشمال من بيروت ؟ ربما كان الوضع كذلك ؛ على الأقل في مبتدأه ، حينما رست سفينة المهاجرين العملاقة في ميناء نيويورك ، صباح يوم 17 حزيران 1895 ، وكان على متنها إمرأة قوية الشكيمة ، إسمها كاملة رحمة ، صحبة أولادها الأربعة . منذ لحظة وصوله ، لازم اللبْس سيرة طفل العائلة الأصغر ، ذي الحادية عشر من عمره : لقد تمّ إعطائه إسم أبيه ، خليل جبران ، إختصاراً لتكرار الكنية ؛ وهوَ الإسم ، الذي سيُعرف به فيما بعد نابغتنا ، اللبناني ، في أرجاء المعمورة . إن تشديدنا هنا على إنتمائه لموطن الأرز ، يعودُ إلى حقيقة تاريخية ، معروفة ؛ وهيَ أنه في ذلك الوقت كان جميع المهاجرين من لبنان يُعرفون بـ " السوريين " ، بسبب كون موطنهم ذاكَ سنجقاً مرتبطاً بدمشق ؛ مركز الولاية الشامية ، المرتبطة بدورها بالخلافة العثمانية . ومن طرائف الملابسات وقتذاك ، أن رسالة التوصية المرسلة من إدارة المدرسة إلى فرد هولنداي ، كان قد ورد في مستهلها : " هل يوجد بين أصدقائك فنان يمكن أن يهتم بفتى آشوري ، هو خليل جبران ؟ " . قد يكون ثمة خلط بين إسمَيْ " سوري " و " آسّيري " ، لدى مرسل الخطاب ، ويُحيلنا إلى شهرة الآشوريين ، القدماء ، في الكتاب المقدس ، أكثرَ من معرفة بلاد منسية ، آنئذٍ ، منعوتة بـ " سورية " : إلا أنّ هذه المسألة ، على طرافتها ، ربما كانت من بواعث ثقة جبران الطفل بنفسه أمام أقرانه ، وبالتالي ترسّخ ميوله إلى أسطرة الذات وتضخيمها ، والتي سبق لنا أن وسمناها ، في مكان آخر . الأسطورة الجبرانية ، المحلقة لاحقا في سماوات النبوّة ، لا يمكن عزلها عن وعي عميق ، تاريخيّ وجغرافيّ ، بالوطن الأم ؛ جبل لبنان . قد تكون زيارة كاتبنا ، الدراسية ، لذلك الموطن هيَ من أتاحت لوعيه ذاكَ ، بالتناهي إلى المدى ، المفترض ، لإسطورة " النبي " ، الموصوفة : فقريته " بشرّي " ، مشرفة على وادي قاديشا ؛ المعروف بـ " الوادي المقدس " . كما أنّ غابة الأرز ، الشهيرة ، بالقرب من تلك المنطقة إستحوذت لسبب ما على نعت " أرز الرب " : المقدس ، إذاً ، صنوٌ للربّ ؛ وهما جديران بإبن الجبل ، الأكثر موهبة وشهرة ؛ بجبران ذاته ، وليسَ أحداً غيره . ولكي تكتمل سلسلة المصادفات تلك ، في مجاز الإبن والأب ، كان علينا أن نعثر على رحم النبوة إذاً ؛ على الأم العذراء ، المتجسدة في راعيته وصديقته وحبيبته ماري ( مريم ! ) هاسكل . ولكن جبران خليل جبران ، ما لبث مع تقدمه في العمر أن راحَ يتخلى رويداً عن أسطورته الشخصية وأوهامه وتخلقاته . كان عليه ، كفنان مبدع ، أن يدرك بشكل ثاقب أن مؤلفاته هيَ التي ستخلد إسمه ، وأنّ موقعه ثمة بين البشر وليسَ بين المختارين ؛ بين البشر المظلومين ، الفقراء ، الذين طالما تغنى بآلامهم في كتاباته ولوحاته على السواء . لا غروَ إذاً ، أنّ مبدعنا سيحطم تلك الأسطورة بقسوة ، وفي لحظة من صحوة فكره . كان يتمشى مع صديق غربته ، الحميم ، ميخائيل نعيمة ، ذات يوم نيويوركيّ من عام 1921 ، حينما إلتفت جبران إليه قائلاً بتأس ومرارة : " ميشا ! لستُ إلا نبأ كاذباً " .
(*) روبن ووترفيلد ، جبران خليل جبران ؛ نبيّ وعصره / ترجمة ميشيل خوري ـ طبعة دمشق عام 2003 ، ص 86 : وقد إعتمدنا في مقالتنا هنا ، بشكل أساس ، على هذا الكتاب القيّم ، الفريد



#دلور_ميقري (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الهولوكوست اليهودي والهلوَسة الإسلاموية
- سياحات : دمشق بأقلام الرحّالة 2 / 2
- نادية : نهاية زمن الرومانسية
- العتبات الممنوعة
- العصابة البعثية والتفجير الطائفي
- سياحَات : دمشق بأقلام الرحّالة 1 / 2
- جرائم أجاثا كريستي ، اللبنانية
- الحزب الإلهي وأولى ثمار الحرب الأهلية
- ناصر 56 : الأسطورة والواقع
- رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 3 / 3
- النظامُ القرداحيّ والقرون اللبنانيّة
- رحلاتٌ إلى مَوطن الجرْمان 2 / 3
- صدّام ؛ صورٌ شخصيّة للطاغيَة
- مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 2 / 2
- مشاهدات : جولة في دمشق العثمانيين 1 / 2
- رحلاتٌ إلى مَوطن الجرمَان 1 / 3
- الحارَة ؛ بابُها وبشرُها
- مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 2 / 2
- زبير يوسف ؛ في منحَتِ الحَديد والتحدّي 2 / 2
- مشاهدات : جولة في دمشق صلاح الدين 1 / 2


المزيد.....




- مدفيديف: الناتو منخرط بشكل كامل في الصراع الأوكراني
- السعودية.. إحباط 5 محاولات لتهريب مئات آلاف حبوب -الكبتاغون- ...
- مصر.. الداخلية تكشف تفاصيل واقعة مصرع عامل دليفري بعد تداوله ...
- اليونيفيل: إصابة 4 جنود إيطاليين من قوات حفظ السلام في جنوب ...
- محمود الهباش: وجود إسرائيل في غزة لن يكتسب شرعية مهما طال
- مشاركة عزاء للرفيق رؤوف الحباشنة بوفاة جدته
- من هو الكاتب بوعلام صنصال وما مصيره منذ وصوله للجزائر؟
- خبير عسكري: الاحتلال يستهدف مربعات سكنية بسبب تعثر عمليته ال ...
- هل اكتشفت أم محمد هوية الواشي بنصر الله؟
- قوات الاحتلال تقتحم جنين ونابلس واعتداءات للمستوطنين في الخل ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - دلور ميقري - النبي ؛ هل كانَ جبرانُ نبأً كاذباً ؟