3 تموز 2003
يبدو إن الحديث عن ما سمي بالمقاومة الشعبية للاحتلال في العراق يأخذ بعدا إعلاميا كبيرا وأعتقد إنه أكبر بكثير مما هو عليه في حقيقة الأمر. الرئيس الأمريكي والوزير البريطاني يتحدثان عن هذه المقاومة ويؤكدان إن هذه الهجمات سوف لن تدفع المحتلين على مغادرة العراق بسببها، الإعلاميات العربية، صحفا كانت أو فضائيات، تحاول جاهدة أن تجد ولو إشارة بسيطة توحي بأن هذه المقاومة تمثل مقاومة شعبية ترقى إلى ملامح حركة تحرر وطني، إذ إن الحديث عن مقاومة ترقى إلى حركة تحرر وطني غير واردة على الإطلاق في هذه المرحلة على الأقل.
في إحصائية عالمية متفق عليها من قبل الجميع سواء كانوا عربا أو غير عرب، إن حصيلة الشهرين الأخيرين بأسوأ الأحوال تصل إلى 1,2 (واحد واثنين بالعشرة) قتيل في كل يوم كمعدل عام لنتائج هذه العمليات، وهناك إحصائية نشرها جماعة تؤيد هذا النوع من العمليات كحصيلة لشهر حزيران فقط كانت 76 (ستة وسبعون) عملية أي بمعدل 2,5 (أثنين ونصف باليوم الواحد)، منها 69 (تسعة وستون عملية) تقع ضمن ما أصطلح عليه بالمثلث السني العربي في العراق، وسبعة أخرى تتوزع على مناطق أخرى من العراق وهي بالتحديد الفاو (عملية بحرية) والموصل والدجيل والمجر الكبير والكوفة والحلة ومخمور. من هذا نستطيع أن نستنتج الآتي:
أولا: بالرغم من أن ما أصطلح عليه بالمثلث السني العربي يستحوذ على الغالبية العظمى من العمليات بواقع 91 % ( واحد وتسعين بالمائة) من العمليات، إلا إنه ليس كل المنطقة السنية في العراق، فالموصل التي حدثت بها عملية واحدة فقط هي تقع ضمن المنطقة السنية وكذا ومعظم مناطق كردستان، وكما هو معروف، سنية أيضا.
بتفحص مدن هذه المنطقة نجد إن جميع رجال النظام البعثي المقبور ترجع أصولهم لهذه المنطقة، فهم من يعتبر المسؤول عن كل جرائم النظام السابق وإنهم غارقون بالدم حتى آذانهم. وحتى العمليات السبعة الخارجة عن هذه المنطقة كانت بأيدي نفس الجماعة وهذا ما سنأتي على شرحه لاحقا في هذه المقالة. بمعنى آخر إن جميع هذه العمليات (100%) بلا استثناء كانت قد نفذت بأيديهم، ولم يشارك باقي العراقيين بأية عملية منذ سقوط الدكتاتورية يوم التاسع من نيسان ولحد الآن.
ضباط الجيش لنظام البعث كانوا من هذه المنطقة، والحرس الجمهوري وفدائيي صدام وضباط الشرطة والمخابرات المؤلفة من أحد عشر مؤسسة أمنية مختلفة الاختصاصات كان جميع ضباطها وضباط الصف فيها من هذه المنطقة، إذ إن النظام لم يكن يأمن لأحد ما لم يكن من هذه المنطقة. فلو كان هناك ضباط من مناطق أخرى فلن يستطيعوا أن يمسكوا أي منصب حساس. تخيل عزيزي القارئ وما زلنا نجد من يرفع عقيرته بالصراخ من أجل هذه الحثالة من البشر لكي تعود وتشكل الجيش الجديد والشرطة والمخابرات وتمسك بزمام الأمور من جديد وكأن شيئا لم يكن (وبراءة الأطفال في عينيه).
فهم من كان يقتل بلا رحمة ويعذب بوحشية ويسجن دون ما سبب ويغتصب النساء أمام ناضري رجالهن ويقتل الأطفال وهم بأحضان أمهاتهم ويدفن الجموع من البشر أحياء وأموات بعد قتلهم ببشاعة لا يمكن تصورها ولا حتى النظر لها إن كانت مصورة. وهم من سرق كل أموال الشعب وخرب كل بنيته.
وأخيرا مهد بكل ذلك إلى احتلال البلد بخروجهم عن شرع الإنسان في أي مكان أو زمان، وهدد نظامهم كل دول الجوار واستباحها وسلبها ونكل بأهلها. وهدد العالم أجمع بأسلحته التي لا ندري لحد الآن أين طمرها أو أخفاها، وربما يكون قد أخفاها إلى وقت آخر ليقتل بها المزيد بعد أن توعد زعيمهم أكثر من مرة من أنه سيترك العراق خربة بلا بشر.
هم من مهدوا لهذا الاحتلال وهم من يقاومه الآن لكي يطيلوا أمده إلى فترات أطول أكثر مما يجب، وذلك بما يسمونه بمقاومة شعبية. إن الاحتلال سيجد كل الذرائع اللائقة ليبقى لو إن الوضع الأمني غير مستتب، وهذا ما تسعى له هذه القوى الآثمة بكل شرائع البشر.
لو إن العراقي ترك ليأخذ الثأر من هؤلاء القتلة، فماذا بوسعهم أن يفعلوا يا ترى؟ أتمنى لو كنت واهما، فإن هذه الحثالة من البشر سوف لن يبقى لها أثر على وجه الأرض بظرف أيام فقط. الأمر سهل للغاية على شعب يمثل فيه الضحية هنا أكثر من تسعين بالمائة مقابل حوالي خمسة بالمائة من السكان. فمهما كانت ترسانة السلاح التي بأيديهم كبيرة، فإن الغلبة ولا شك ستكون إلى الأغلبية العظمى من الناس، ولكن بعد أن يغرق العراق من جديد في بحار الدم ويلفه غبار الخراب.
لا يفوتني هنا أن أبين من أن قوى الاحتلال بوجودها في العراق تمثل حماية لهم وهم لا يعلمون، فإن الله قد ختم على قلوبهم فهم لا يفقهون. إن دولة القانون التي ننشدها جميعا بعد رحيل المحتل، هي من سيوفر الحماية الحقيقية لهم ويعيدهم إلى حقيقة البشر ويحمي أهلهم، إذ لا تزر وازرة وزر أخرى.
وهم أيضا نفس الفئات التي نراها تخرج بمظاهرات في الصباح يطالبون برواتب لهم ولباقي مرتكبي الجرائم الهمجية بحق الشعب، نراهم في الليل يخرجون مرة أخرى من أجل الإرهاب والعبث بمقدرات الشعب من جديد.
ولجرد باقي القوى التي تسمى بالمقاومة، يقال، وهناك أيضا الكثير من الدلائل تشير على ذلك، من أن الحركة الوهابية التي اندحرت بأفغانستان وتحارب في عقر دارها وبباقي الدول العربية والعالم أجمع، تجد لها في العراق ساحة لأخذ الثأر من الأمريكان في العراق، وهناك أرقاما لأعدادهم وأخرى لما يتلقاه المقاتل المرتزق من مال لقاء هذا العمل الذي يسمونه استشهادي، فأعمال الارتزاق بالقتل صارت تسمى استشهادية! يا له من امتهان واستهانة بالدين!
إذا باختصار شديد جدا، إن القوى التي تسمى اليوم مقاومة في العراق هي إما من المرتزقة (الوهابيين) أو من القتلة الذي لا يجدون لهم مكانا من جديد في العراق الحالي ولا عراق المستقبل، وإنهم بهذه الأفعال ينتقمون من البشر قبل أن يقول الحق كلمته فيهم والتي لا مناص منها، وذلك بعد أن تركهم أسيادهم الذين ورطوهم بارتكاب هذه الجرائم هاربين بالمليارات من الدولارات ومئات الأطنان من الذهب الخالص وتركوهم إلى هذا المصير الأسود، ولم يجدوا من يدافع عنهم غير عبد الباري عطوان وحثالة أخرى من الإعلاميين المرتزقة.
مما تقدم نجد من الواضح إن هذه الأعمال الإرهابية معزولة عن الشعب العراقي ولا تمثله على الإطلاق بل تمثل الأنفاس الأخيرة للنظام المقبور، فهي ليست حركة تحرر وطني ولا مقاومة وطنية ولا حتى مقاومة وطنية معزولة، إنها لا تنتمي لأي من تلك الأصناف بل أعمال انتقامية إرهابية لفئة كانت تقتل واستمرت بالقتل حتى يقول الحق كلمته.
إن هذه الجماعات الآثمة، وبعد أن جمعت صفوفها تحاول أن تجعل لأعمالها هدف لكي تحقق شرطا من الشروط الأساسية لكي ترقى ولو لحركة مقاومة. نجدها الآن تعمل على ضوء شبه برنامج، فما هي هذه المحاولات:
محاولات زج الشيعة في الصراع ضد القوات الأمريكية والبريطانية من خلال العمليات التي جرت في المجر الكبير والكوفة والحلة، ولكن من الواضح جدا إن الشيعة الذين يمثلون ثلثي السكان في البلد لا يرغبون بذلك لأنهم مازالوا يعتبرون أن ليس من مصلحتهم بهذه المرحلة محاربة الأمريكان والبريطانيين أو حتى دعوتهم للجلاء عن البلد لما لذلك من تداعيات خطيرة على الشعب العراقي بعد غياب السلطة. ففي مثل هذه الحالة ستكون الفوضى سيد الموقف وستنتهي الأمور حتما إلى ما لا تحمد عقباه. لذا نجد إن أهل المجر الكبير قد خرجوا بمظاهرة يؤكدون فيها إن من وراء تلك العملية هم بقيا النظام "اللعنة" كمحاولة لزجهم في صراع لا يجدون به مصلحتهم، بذات الوقت وبعد عملية الكوفة مباشرة وقف الحكيم في مسجد الكوفة ليعلن إن عملية الكوفة ليست إلا من فعل نفس العناصر الخائبة.
بنفس الفترة جاءت عملية خطف الجنود الأمريكان جنوب بغداد ومن ثم تركهم مقتولين في مناطق شيعية جاءت بنفس الإطار، فلا بد لعمليات البحث عن الجنود من أن تتم من خلال تفتيش البيوت وربما ترويع السكان وما إلى ذلك، مما سيدفع بالشيعة إلى حاضرة الصراع. ولكن الشيعة لم يفعلوا ذلك بعد أن عرفوا المغزى من هذه العملية، وكذا الأمريكان قد عرفوا أيضا الهدف منها وهذا واضح من خلال عمليات البحث التي لم تؤذي أحدا من السكان في تلك المناطق.
من أهداف هذه العمليات أيضا هو منع أية عملية تصدير للنفط لإعاقة عمليات إعادة البناء ومن ثم تذمر الشعب الذي ينتظر على أحر من الجمر عودة هذه الخدمات، وبالفعل كان لهذه العمليات أثرها المباشر وغير المباشر، خصوصا بعد قطع الكهرباء عن العاصمة ومدن أخرى كنتيجة إلى توقف الغاز الذي يغذي محطات توليد الطاقة في العاصمة وباقي المدن المحيطة بها. وبالفعل كان تذمر السكان كبيرا وألقوا باللوم على الأمريكان الذين يجدونهم قد فشلوا بحماية هذه الخطوط وتركوا مدنهم تغرق بظلام دامس في وقت يستعد به الطلبة للامتحانات وفي وقت الصيف الجهنمي في العراق. الهدف واضح هو محاولة زج فئات أخرى، ولكن لم يحصل ذلك.
آخر ما حاولوه هو حرق المطبعة التي تخرج منها أوراق النقد التي توزع كرواتب على مليوني موظف عراقي. فالهدف أيضا واضح هو زيادة التذمر حين تفشل الإدارة بصرف رواتب الموظفين ومنهم هم أنفسهم الذين وعدوا بصرف رواتب كمحاولة لإيقاف أعمال الإرهاب.
إن هذه العمليات لاشك فرضت حالة من الريبة والشك لدي قوات الاحتلال مما حدا بالأخيرة من زيادة عمليات التفتيش على مفارق الطرق والذي أدى بدوره إلى تذمر السكان وخصوصا حين يتعلق الأمر بتفتيش النساء، ودفع برجال الدين استنكار هذه العمليات رغم معرفتهم بأسبابها.
الخدمات وخصوصا الكهرباء كان أحد أهدافهم الأساسية، فسرقوا كل الأدوات الاحتياطية الأساسية وسرقوا الأسلاك الكهربائية وصهروها لبيعها خارج البلد، بالأمس فقط تم الإمساك بخمسة سفن في سواحل الخليج مهربة من العراق تحمل النحاس المصهور كنتيجة لسرقة هذه الأسلاك، هذا فضلا عن عمليات التهديد والترهيب والقتل لموظفي الكهرباء.
وهكذا نجد إن عملياتهم أصبحت تستهدف فئات واسعة من الشعب العراقي وذلك من خلال زيادة معاناته، وبذات الوقت تحميل قوات الاحتلال المسؤولية، هذا فضلا عن المحاولات المستميتة لزج فئات واسعة من الشعب في هذه العمليات القذرة.