أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - لمواجهة نشاط قوى صدام حسين بعد سقوط النظام - الحلقة الخامسة عشر















المزيد.....


لمواجهة نشاط قوى صدام حسين بعد سقوط النظام - الحلقة الخامسة عشر


كاظم حبيب
(Kadhim Habib)


الحوار المتمدن-العدد: 533 - 2003 / 7 / 4 - 04:37
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    



 
تسلمت من أخ كريم وصديق عزيز رسالة تضمنت النص التالي:
"... أطمح أن تنشر ما كتبته في كتاب؛ لأنّه رؤيةٌ صائبة.
ولكنّ هذا لا يمنع أن أختلف معك ـ ولا أظنّك تغضب ـ في بعض المسائل اليسيرة ولا سيّما في موقفك من فتوى الحائري، فالذي ينسف الشرفاء الشهداء العراقيّين بالديناميت مهدورٌ دمُه حتى في شريعة مونتسكيو".
وفي الوقت الذي أحترم رأي الصديق الدكتور وكل رأي آخر, أرجو أن يسمح لي بالاختلاف معه أيضاً, إذ أننا نتحاور هنا حول مسألة مبدئية ذات أهمية فائقة تتعلق بالموقف من العنف والاستبداد والتعذيب في المجتمع أصلاً, والمستقبل الذي نريد أن نساهم في بنائه لأجيالنا القادمة وتخليصها مما عانته الأجيال السابقة وما عانيناه نحن جميعاً من مآس يصعب على الإنسان العاقل والسوّي حتى تصورها, ومنها النسف بالديناميت وأكثر من ذلك بكثير. فمن عاش في ظل هذا النظام يعرف معنى الاستبداد والقهر والتعذيب والموت المحتمل في كل لحظة. وعدد أموات العراقيين من الأطفال والصبية والنساء والرجال يؤكد ذلك بما لا يقبل الشك حتى من أصدقاء النظام والمدافعين جوراً وظلماً عنه.

أدرك تماماً وأعرف جيداً ما قامت به الطغمة الحاكمة من جرائم بشعة يندى له جبين البشرية كلها, ففي ذمة هؤلاء القتلة ما يقرب من مليوني إنسان, بين عراقية وعراقي, بين طفل وصبي وشيخ عجوز, وكذلك الضحايا الكثيرة جداً من مواطني بلدان عربية أخرى, إضافة إلى أولئك الذين هُجّروا قسراً أو الذين قبعوا في السجون والمعتقلات طوال ربع قرن أو يزيد, كما أعرف عدد الذين أصيبوا بالعاهات المختلفة والأمراض العصبية والنفسية, والنساء اللواتي اغتصبن وكذا الرجال, وكذلك وفاة ما يقرب من 700 ألف طفل نتيجة استمرار وجود النظام وسياساته وجور الحصار الاقتصادي. ويكفي أن نتذكر ولو سريعاً عمليات الأنفال وحلبجة في كردستان العراق والأهوار في جنوب العراق وضحايا انتفاضة 1991 في كردستان العراق وفي الوسط والجنوب, وأولئك الذين شوهت سمعتهم وقطعت رؤوسهم أو الذين جدعت أنوفهم أو صلمت آذانهم أو قطعت أيديهم وأرجلهم أو وشمت جباههم. يكفي أن أتذكر ما رأيته بأم عيني كيف كانوا يعذبون الآخرين وأنا أحدهم, ويكفي أن نتذكر أولئك الذين ما زالوا يعانون من كوابيس مدمرة وهي لا تفارق لياليهم ونومهم المتقطع أو حتى في نهاراتهم, فهم ما زالوا تحت تأثير كابوس النظام. وبعد هذا وذاك يكفي للإنسان أن ينظر إلى تلك الصور الحزينة والمرعبة لبقايا أو حطام كانوا بشراً يخرجونهم من مقابر جماعية, وكل عظم فيهم يرفع اتهاماً شديداًً لا ضد من ارتكب تلك الجرائم فحسب, بل ضد كل من سكت على ذلك وكان يعرف ما كان يجري في العراق. يكفي أن نرى المآتم التي تقام في طول البلاد وعرضها على بشر ماتوا قبل عشرين أو 15 عشر عاماً أو قبل يوم واحد أو حتى ساعة واحدة قبل سقوط النظام, ولم تكن عائلاتهم تعرف ذلك أو منعت من إقامة الفواتح أو اضطرت حتى على دفع ثمن الرصاص الذي قتلوا فيه. أعرف كل ذلك والحسرة تدميني والدموع تنساب مني وأنا أكتب هذه الكلمات.
وأعرف أيضاً يا صديقي العزيز أيضاً, أن هذا الذي حصل كان السبب وراء هجرة الملايين من العراقيين أو هجروا قسراً, كما أعرف أنه السبب وراء استمرار نضال العراقيات والعراقيين سنين طويلة ضد هذا النظام السياسي الفاشي, سواء في قوات البيشمركة/الأنصار في كردستان العاق أم في الأهوار وفي الوسط والجنوب, وأعرف وجهاً لوجه تلك الضحايا الغالية التي سقطت في ساحات النضال, وهم رفاق وأصدقاء وأحبة لا ينسون أبداً. وأعر ف أيضاً أن نضالنا كان موجهاً ضد هذه الأساليب الاستبدادية وقتل الرأي الآخر ومصادرة كل شكل من أشكال الحرية والديمقراطية واستباحة الحرمات والاعتقال الكيفي خارج القانون والسجن والتعذيب والقتل اليومي والتهجير القسري للأكراد الفيلية والأكراد والعرب من سكان الوسط والجنوب, وكذلك فرض الهجرة على الكلدان والآشوريين والتركمان والأكراد الأيزيديين. وأعتقد بأن كلاً منا قد أقسم مع نفسه بأن من واجبه أن لا يسكت على هذا الضيم وعلى ذلك النظام ويرفض أساليبه ويناضل في سبيل أن لا تمارس مثلها  ضد أي إنسان في المستقبل.

لقد عشنا الاستبداد والعذاب والقمع والأحكام القاسية طيلة آلاف السنين. وهي تتجلى بوضوح كبير في مسلة حمورابي حيث ورد فيها 52 مادة حكم تنص على زهق أرواح الناس لأسباب مختلفة. وعشنا عهود الأمويين والعباسيين والعثمانيين وحمامات وولائم الدم والأجساد المعلقة على أبواب المدن تشهيراً وتمثيلاً وحطاً لكرامة الإنسان, امرأةً كانت أم رجلا. وأسماء يزيد بن معاوية والحجاج بن يوسف الثقفي وزياد بن أبيه وزياد بن عبد الله والسفاح وأسماء كثيرة أخرى لقتلة الحلاج وعلي بن محمد والقرامطة وغيرهم كثير, إنها نماذج صارخة لبشر فقدوا الإحساس بإنسانيتهم وتربوا على ممارسة القسوة والسطوة والتعسف والقتل. وعشنا الاستبداد الملكي والاستبداد في العهود الجمهورية بمختلف صيغها وأسبابها أو حججها. وكان الضحية دوماً هو الإنسان, هي المواطنة والمواطن, وكان الجلاد دوماً هو الحاكم ومن يأتمر بأمره ويقبل بالعيش على فتات موائده. وكان الحاكم الجلاد يجلد حتى جلاديه بأساليب وأدوات مختلفة أو يقتلهم لأي خطأ يرتكبوه.
لقد عشنا كل هذه النظم الاستبدادية وكل هؤلاء الطغاة العتاة, وعلينا الآن تقع مسؤولية نزع هذا الجزء من التقاليد والتركة الثقيلة التي علقت في أذهاننا ونفوسنا وشخصيتنا وسلوكنا اليومي, علينا أن ننزع بعض ما فينا من شخصية صدام حسين وغيّه ونرميه بعيداً جداً عنا. أدرك تماماً أن القيام بثورة هو أسهل بكثير من عملية تغيير ما في النفس. ولكن علينا أن نخطو نحو هذا الهدف لا لمصلحتنا فحسب, بل لمصلحة أجيالنا القادمة ومصلحة جيراننا أيضاً. ونحن الذين ابتلينا بتقاليد الاستبداد وكانت لنا بصيغة ما أفكاراً استبدادية أحوج ما نكون إلى التخلص من هذه التركة الثقيلة, وأحوج ما نكون إلى تقديم النموذج الإنساني الذي يحترم الإنسان ويحفظ كرامته ويبعده عن السقوط تحت الظلم أو يبعده عن أن يكون ظالماً. لا ألقي موعظة, فلست من أهلها, ولكني أحاول أن أجسد خبرة تزيد عن نصف قرن في العمل السياسي في العراق, العراق الذي ورث الاستبداد والعنف وتميزت دولته بالاستبداد والعنف وعانى منهما الشعب العراقي كله.
إن الخطورة الكبيرة التي تكمن في مثل هذه الفتوى تبرز في أكثر من سبب. ويتطلب مني الإشارة إليها بتلخيص شديد, رغم أني أدرك بأن كثرة من نساء ورجال الشعب العراقي, وصديقي الفاضل منهم, يدرك أفضل مني ما سأكتبه الآن:
1. لا يحق لأي إنسان مهما علا شأنه وكبرت منزلته العلمية أو الدينية أو الرسمية أن يقرر حياة أو موت ليس فقط عشرات الآلاف من الناس, بل حياة إنسانٍ واحدٍ أيضاً. إذ لا يملك هذا الإنسان ولا غيره لا الحق ولا العصمة عن الخطأ ولا التفويض الإلهي بهدر دم الناس.
2. لا يجوز قتل إنسان أو أكثر دون العودة إلى القوانين الديمقراطية وفي ظل حياة دستورية ومحاكم مدنية تتسم بالشرعية والاستقلالية عن السلطة التنفيذية والتشريعية.
3. ليس من حقنا سلب حياة إنسان, بل من حقنا منع أذاه عن الناس  من خلال وضعه وراء قضبان السجون. وهي عقوبة قاسية بحد ذاتها, مع توفير مستلزمات العيش الكريم ومساعدته على إدراك حقيقة الجرائم التي ارتكبها.
4. إن الوضع الذي فرضه علينا نظام الحكام الطغاة خلال العقود الأخيرة لا يمت إلى القرن العشرين والحضارة الإنسانية الحديثة بصلة, وهو من مخلفات القرون الوسطى التي ما تزال سارية في بلدان كثيرة أخرى في العالم, ومنها الدول العربية, وليس من حقنا أن نعيد إنتاج هذا النظام الدموي بصيغ أخرى, إذ أن الاستعداد لذلك موجود في صفوف بعض قوى المعارضة التي ناصبت النظام الدموي في العراق العداء وناضلت ضده من أجل حقوقها, ولكن ليس من أجل حقوق الآخرين بالضرورة, وهي إشكالية نعيشها الآن. وهذه الفتوى تعود إلى قرون سحيقة لا يجوز إعادتها أو القبول بها مهما كان القهر الذي تعرض له الشعب العراقي والضحايا التي قدمها, فالدم ينزف دماً أبداً ولن ينقطع. إن هناك من البشر من يعيش الماضي في الحاضر ويريد إعادة الماضي للحاضر الذي نعيش فيه, ويفترض أن نعمل ونبذل كل جهد ممكن لمنع هؤلاء الناس من تنفيذ مشاريعه في هذا الصدد. ينبغي أن لا نخضع لمن يريد أن ينوب بصيغة ما عن الله وتحت أية تسمية كانت في قتل الناس, حتى إن كانوا مجرمين من أمثال صدام حسين. فالحكم على هؤلاء يصدر عن محاكم وليس عن أشخاص أو أي من آيات الله المحترمين عن طريق فتوى دينية.
5. إن من يصدر فتوى هذا اليوم بحق هذا الرجل أو تلك المجموعة, بغض النظر عن العوامل, يمكن أن يصدر مثلها ضد أشخاص آخرين أو جماعات أخرى. وخطر التداعيات وارد في هذا المجال أكثر من أي مجال آخر. ولنا في تاريخ العراق والدول العربية والدول ذات الأكثرية الإسلامية نماذج كثيرة لا تحصى في هذا الصدد.

وبصدد النقطة الخامسة أود أن أشير إلى الواقعة التالية التي نشرها عبد الغني الراوي على شكل مذكرات في جريدة الزمان اللندنية بتاريخ 9/4/1999, كما وردت في الكتاب القيم للزميل والصديق الدكتور عقيل الناصري, الذي صدر حديثاً, وهو بعنوان "عبد الكريم قاسم في يومه الأخير (الانقلاب 39). جاء فيه بصدد الفتوى نقلاُ عن عبد الغني الراوي ما يلي:
"[خابرني طاهر يحي, رئيس أركان الجيش, طالباً مني النزول إلى بغداد لمقابلته, وعند المواجهة أخبرني أن مجلس قيادة الثورة قرر تطبيق الشريعة الإسلامية في حق الشيوعيين بالقتل. وأن هناك في نقرة السلمان 9 آلاف شيوعي سجين, وهناك حوالي 2600 (ألفين وستمائة) شيوعياً موقوفين في مخافر الشرطة في جميع أنحاء العراق, وفي الوحدات العسكرية, وبما أنك رئيس المحكمة العسكرية التي حاكمت عبد الكريم قاسم (حسب ادعائه الناصري), إذن فأنت تكون رئيساً لهذه المحكمة أيضاً, وأنت بعد غد تذهب بالطائرة إلى نقرة السلمان بينما غداً تتحرك جماعة تنفيذ الرمي بالسيارات وأنت بالطائرة. وحسب ما تراه فالبريء يطلق سراحه مع منحه نقوداً عن الأيام التي قضاها بالتوقيف والشيوعي ينفذ به الإعدام فوراً ويدفنون في مقابر جماعية وسترسل بلدوزرات لهذا الغرض مع جماعة التنفيذ أيضاً مع نقود ومخصصات كثيرة توزع حسب ما تراه. فقلت له: إن هذا يتطلب تعيين حكام قضاة أثنين من علماء الشيعة حسب تنسيب السيد محسن الحكيم وأثنين من علماء السنة وأثنين من الحكام المدنيين, وهذا يتطلب منحي الفتوى (القاضية بتحريم الانتماء للحزب الشيوعي – الناصري) من الشيخ مهدي الخالصي رحمه الله والسيد محسن الحكيم رحمه الله وأثنين من علماء السنة.. وطلبت الفتوى من الخالصي وبأني مخول بنشرها وأمر ولده (الشيخ محمد مهدي الخالصي) ... بالكتابة [الشيوعيون مرتدون وحكم المرتد القتل وإن تاب,  وبين أن كان متوجاً وحكم الزوجة والأولاد وأن كان لديه أموال منقولة وغير منقولة وحصة الإمام]... وكان الأمر مع السيد محسن الحكيم الذي أمر ولده بالكتابة وهو يملي عليه: [الشيوعيون مرتدون وحكم المرتد هو القتل وإن تاب ... والشيوعيون نوعان الأول من آمن بها وحمد بها ولم يرجع عنها, فحكمه كما جاء أعلاه, والنوع الثاني من اعتبرها تقدمية ومعاونة المحتاجين, وهؤلاء يحجزون ويفهمون ويعلمون الصح من الخطأ, فإن تابوا يطلق سراحهم وإن أصروا عليه فحكمهم كما جاء في أعلاه...]. وفي اليوم التالي وقبل الساعة 11 صباحاً زرت طاهر يحيى في وزارة الدفاع وأخبرته, إذا طبق البعثيون الشريعة الإسلامية بكاملها وتركوا العلمانية والاشتراكية المؤدية للشيوعية والقومية, حينذاك الإسلام هو الذي يحكم... فنزل طاهر يحيى بالفشار والمسبة على كل من عبد الكريم مصطفى نصرت وخالد مكي الهاشمي وقال لي أنت أرجع واعتبر القضية منتهية وأني أعرف شلون راح أسلكهم]  .    

من هذه الواقعة يمكن أن يستدل بأن الحكام قادرون على الحصول  على مثل هذه الفتاوى من بعض علماء أو رجال الدين, وهي ظاهرة كانت وما تزال منتشرة حيث تسود النظم الاستبدادية في العالم الإسلامي, كما أن طبيعة علماء الدين أنفسهم والظروف التي تحيط بهم ومشكلاتهم الداخلية والتنافس في ما بينهم يمكن أن يساهم في إصدار مثل هذه الفتاوى التي من شأنها دفع آلاف الناس الأبرياء إلى الموت المحقق. وعلينا أن نتذكر باستمرار بأن أحكاماً من هذا النوع تؤدي إلى استقطاب غير مبرر في المجتمع وتساهم في تعبئة البعثيين في موقع واحد, إذ أنهم يواجهون حكم الموت وبالتالي عليهم أن يتعاونوا ويتوحدوا للوقوف ضد من يريد قتلهم جميعاً, في حين تستدعي الضرورة تفتيتهم من خلال سياسة عقلانية إزاء المجموعات المختلفة منهم. أي كسب من يمكن كسبه من خلال طرح موضوعي لواقع البعثيين في فترة الحكم الصدامي, وتحييد من يمكن تحييده وتجميد من يمكن تجميده وليكن الباقي معرضاً للحساب العسير, بدلاً من إصدار فتوى تقود إلى توحيدهم تحت هاجس المصير المشترك الذي ينتظرهم: هدر الدم.

إننا نقف الآن عند مفترق طرق عسير وعلينا قبول التحدي في ولوج الطريق الصحيح والعمل من أجل نشر مبادئ لائحة حقوق الإنسان وملحقاتها في المجتمع, وجعل الناس يتقبلونها من خلال التعامل الواعي والإنساني في ما بينهم ومع الآخرين.
إن الوضع الراهن في العراق مستقطب ومشحون بحملات عدوانية من جانب بقايا عصابات النظام بهدف إشاعة الفوضى وسياسة القتل وحرق الأخضر بسعر اليابس وتأكيد أن الوضع لا يستقر للأجانب.
والقوى السياسية العراقية, كما يبدو, غير قادرة حتى الآن, رغم وجود إشارات في خطاب جورج دبليو بوش ما يؤكد بدء التفكير بأهمية وضرورة تغيير الأساليب التي مارسوها حتى الآن. وغالباً ما يتأخر العسكر في استيعاب القرارات التي تقلل من حالات القتل على أيديهم, ولكنهم يستوعبون بسرعة قرارات القتل, والتنفيذ يكون أسرع بكثير.
كان وما يزال في مقدور القوى السياسية العراقية الحريصة على التطور المستقل للبلاد أن تتقدم بمشروع عملي لمواجهة نشاط قوى صدام حسين من خلال ممارسة سياسات مختلفة ولكنها متجاورة تسعى إلى خدمة قضية مركزية واحدة, هي قضية الأمن والاستقرار للشعب العراقي وتوفير مستلزمات إعادة إعمار العراق. ويمكن أن تكون المهمات في هذا المجال على النحو التالي: رغم أن الذي يعيش في معمعان الأحداث يمكنه بلورة نقاط أوسع وأكثر ملموسية في هذا الصدد:
1. ,وضع خطة إعلامية يتم الاتفاق عليها بين الأحزاب السياسية العراقية تتضمن الكشف عن الجوهر الحقيقي لفكر النظام السياسي الذي حكم العراق والمضامين الشوفينية والعنصرية لسياساته ومواقفه وحروبه الداخلية والخارجية وعداءه الكامل لحرية الإنسان والديمقراطية وحقوق الإنسان, وابتعاده عن المفاهيم الديمقراطية للقومية.
2. تنظيم ندوات جماهيرية واسعة من قبل مختلف الأحزاب لتنفيذ هذه الخطة, إلى جانب مهمات أخرى عامة يمكن أن تطرح للمناقشة حول واقع ومستقبل العراق المنشود. ويتطلب الأمر نشر فكرة ومفهوم التسامح لا بمعنى "عفا الله عما سلف", بل بمعنى محاسبة الأكثر إجراماً ليأخذ الجزاء الذي يستحقه من جهة, وتثقيف الآخرين بأفكار الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان وشرح الجرائم التي ارتكبت بحق الناس خلال العقود المنصرمة من جهة أخرى.
3. الدعوة إلى التمييز الواقعي والصارم بين القيادات البعثية التي كانت في الوقت نفسه قيادات النظام وأولئك الذين نفذوا سياسات النظام باعتبارهم مسؤولين من جهة وبين الجمهرة الواسعة من البعثيين, سواء الذين فرض عليهم أن يكونوا أعضاء أم من الأعضاء الاعتياديين الذين لم توجه لهم تهم المشاركة في القتل والتعذيب من جهة أخرى. ويسمح هذا التمييز إلى تحقيق فرز واصطفاف جديد في القوى لصالح تقليص عدد أولئك الذين يمكن أن يتورطوا بعمليات جديدة ضد الشعب العراقي في المرحلة الراهنة.
4. دعوة سلطات الاحتلال إلى تبني فكرة فتح مكاتب خاصة حكومية بإدارة عراقيات وعراقيين في مختلف المحافظات والمدن العراقية بهدف دعوة الناس إلى تسجيل شكاواهم ودعاواهم ضد المتهمين بارتكاب جرائم بحقهم, حيث يمكن تجميع تلك الملفات وتشكيل لجان تحقيق متخصصة للتحقيق النزيه بتلك الشكاوى. إن هذا الإجراء سيسمح بتأمين ما يلي:
• الحفاظ على حقوق الناس من الضياع بسبب ما تعرضوا لهم من أضرار بشرية ومادية ومعنوية.
•  تأكيد استعداد الدولة على استعادة حقوق الناس أو تعويضهم عن الخسائر المادية التي لحقت بهم, إضافة إلى التفكير بسبل التعويض عن الخسائر البشرية وتكريم الشهداء وضحايا الإرهاب والقمع والحروب.
• إبعاد الناس عن فكرة الانتقام الذاتي المباشر ورفض هذا الأسلوب باعتباره لا يختلف من حيث المبدأ والممارسة الشخصية عن الأساليب التي مارسها النظام ذاته وأعوانه.
• تشكيل لجان تحقيق من القضاء العراقي للتحقيق بتلك التهم بشكل دقيق ونزيه والاستماع إلى ودراسة الشهادات الضرورية بهذا الصدد.
5. رفض الفتوى التي صدرت بهدر دم البعثيين باعتبارها تجاوزاً على القوانين السائدة وعلى حقوق المسؤولين والقضاء العراقي في معاقبة من ارتكب جرائم بحق الناس, وأنه مخالف لروح العصر والمسؤولية الحضارية للجنس البشري. ويفترض أن تتحرك القوى السياسية العراقية لرفض مثل هذه الدعوات الظالمة غير المميزة بشكل دقيق بين الناس وتضعهم جميعاً تقريباً في سلة واحدة رغم التمييز البسيط بيم مجموعتين كما جاء في فتوى آية الله العظمى السيد كاظم الحسيني الحائري.
6. تحميل من يصدر مثل هذه الفتاوى مسؤولية الدفع على ارتكاب جرائم قتل بحق من يتهم من قبلهم بارتكابه جرائم, أي مسؤولية من يقتل بسبب مثل هذه الفتوى وتقديم المسؤولين عنها إلى المحاكم.
7. التعاون في ما بين الأحزاب والقوى السياسية العراقية من جهة, وجماهير الشعب الواسعة من جهة ثانية, لتأمين عملية رفض وإدانة لما يجري اليوم من تخريب وقتل وتهديم باسم "المقاومة". وهذه المقاومة المزعومة ليست سوى جزء من الأعمال الفاشية التي كانت تقوم بها الطغمة الصدامية, وهم من أتباع النظام الدموي المنهار ومن بعض القوى العسكرية والأمنية التي سرحت من الجيش بسبب حله والتي تحتفظ هي الأخرى بكميات غير قليلة من الأسلحة التي بدأت تستخدمها في عملياتها الإجرامية بهدف إعادة الحكام السابقين أو من يماثلهم إلى السلطة.
7. إن من واجب الجماهير الشعبية, وليس من حقها فحسب, القيام بحماية منشآتها الحيوية, وخاصة مؤسسات الكهرباء والماء والمصافي ومحطات الغاز ودوائر الدولة والجسور ... الخ. من عبث عصابات الإجرام الصدامية وما شابهها. وهذا يتطلب تنظيماً حيوياً على المستوى الشعبي وفي المحلات والمناطق المختلفة, ويمكن تنظيم ذلك مع الأحزاب السياسية وعبر الجهات المسؤولة. إن خير من يستطيع العثور على المجرمين والقبض عليهم وتقديمهم للمحاسبة هم الجماهير الواسعة, شريطة أن يبتعدوا عن محاولة ممارسة إصدار الحكم عليهم أو قتلهم في الموقع, إذ أنها كلها منافية لما يفترض أن نسعى إلى تحقيقه في العراق.

إن العراقيين متهمون بالقسوة والعنف. وهؤلاء الذين يتهمون العراقيين بذلك لم يدرسوا جيداً تاريخ العراق الطويل ولم يطلعوا على العوامل التي جعلت منه شعباً متمرداً على القوانين الجائرة وعلى الدولة المستبدة وعلى الحكام السفاحين الأوباش من أمثال صدام حسين وطه الجزراوي وعزت الدوري وعلي حسن المجيد وقصي وعدي وغيرهم. إن العراقيات والعراقيين محبون للسلام والهدوء والاستقرار شريطة أن تتوفر لهم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, شريطة أن تتوفر لهم مستلزمات تحقيق الذات التي حرموا منها مئات السنين, إن لم نقل أكثر من ذلك. إن العراقيات والعراقيين قادرون على حكم أنفسهم بطبيعة الحال وينبغي أن نبدأ الآن بذلك مع مواصلة العمل للتخلص من تلك القوى التي تريد العبث باستقرار العراق وتريد إعادة الدكتاتورية الغاشمة إلى البلاد. وعلينا أن نكون صريحين وجريئين في وضع اليد على الجرح الذي شكل موقع نزيف الدم الدائم في العراق. إننا جميعاً على استعداد لممارسة الديمقراطية ولكن شريطة أن لا نسمح للدكتاتورية بالعودة ولا لمن يصدر مثل هذه الفتاوى الوصول إلى السلطة أو إقامة دولة الفتاوى في العراق. إننا نسعى إلى إقامة دولة دستورية ديمقراطية فيدرالية برلمانية حرة وتعددية تؤمن بالتناول الديمقراطي البرلماني النزيه للسلطة, وتقوم على أساس المجتمع المدني الحديث والعلماني, حيث تحترم الديانات كلها دون استثناء, وحيث يمارس أتباع تلك الديانات شعائرهم الدينية وطقوسهم بكل حرية واطمئنان, وبعيداً عن السلطة السياسية التي تضمن لهم كل ذلك. نريد عراقاً يحترم القوميات فيه ويمنحها حقوقها كاملة غير منقوصة, عراقاً مسالماً وصديقاًً لجيرانه وللأشقاء العرب ولكل دول العالم, نريد عراقاً لا جوع ولا حرمان ولا ذل فيه, هذا ما نريده وما نسعى إليه وسيقوم مثل هذا النظام الديمقراطي الحر في العراق قطعاً.

برلين في 03/07/2003        كاظم حبيب
      
 

   تسلمت في الشهر الأخير الكثير من الرسائل والاتصالات الهاتفية التي استرعت انتباهي إلى ضرورة طبع هذه المقالات في كتاب يوضع بين أيدي القراء. أولاً أقدم شكري الجزيل على تقديم المقترح وأقترح من جانبي أن تأخذ أي دار نشر ديمقراطية على عاتقها طبع ونشر الكتاب على أن يكون نصف ريعه لدار النشر والنصف الآخر لصالح أطفال العراق, نساء ورجال المستقبل, فأتمنى أن يوافق أحد الأخوان على تنفيذ الفكرة. ك. حبيب
   الناصري, عقيل د. عبد الكريم قاسم في يومه الأخر (الانقلاب 39). دار الحصاد. سورية. 2003. ص 297.
ملاحظة: كتبت حتى الآن 15 حلقة. وهذ1ه الحلقات مستقلة عن بعضها رغم إنها تعالج موضوعاً أساسياً واحداً هو الوضع الجديد الناشئ في العراق. أي يمكن أن تؤخذ مجتمعة باعتبارها حلقات مترابطة يشدها خيط واحد أو أن تؤخذ كل منها بصورة مستقلة. ك. حبيب



#كاظم_حبيب (هاشتاغ)       Kadhim_Habib#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- أفكار حول الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي في العراق
- العوامل المحركة للقضية العراقية والصراع حول السلطة في العراق
- كيف يفترض أن نتعامل مع فتوى آية الله العظمى السيد كاظم الحسي ...
- موضوعات للحوار في الذكرى الأربعينية لثورة تموز عام 1958
- لِمَ هذه الخدمات المجانية لدعم غير مباشر لقوى صدام حسين التخ ...
- هل الدور الجديد الذي يراد أن تلعبه العشائر العراقية في مصلحة ...
- من أجل أن لا ننسى ما فعله الاستعمار البريطاني والنظام الملكي ...
- من أجل التمييز الصارم بين مواقف الشعب ومواقف أعداء الحرية وا ...
- قراءة في كتاب -دراسات حول القضية الكردية ومستقبل العراق- للأ ...
- انتفاضة السليمانية وثورة العشرين
- إجابة عن أسئلة تشغل بال مواطنات ومواطنين عرب ينبغي إعارتها ك ...
- من أجل مواصلة حوار هادئ, شفاف وبعيد عن الحساسية والانغلاق وا ...
- تحويل بعض بيوت الله من منابر للتسبيح بحمد الدكتاتور إلى مراك ...
- من أجل مواصلة حوار هادئ, شفاف وبعيد عن الحساسية والانغلاق وا ...
- الشفافية والمجاهرة حاجة ماسة في العلاقة المنشودة بين القوى ا ...
- من يقف وراء حملة التمييز بين مناضلي الداخل والخارج؟ وما الهد ...
- محنة الأكراد الفيلية في العراق!
- المشكلة الأمازيغية وسياسة الشوفينيين العرب
- إلى من تتوجه أصابع الاتهام في التخريبات الأخيرة والجارية في ...
- الدور الذي يفترض أن تلعبه قوى حركة التحرر الوطني الكردية في ...


المزيد.....




- رصدتهما الكاميرا.. مراهقان يسرقان سيارة سيدة ويركلان كلبها ق ...
- محاولة انقلاب وقتل الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا.. تهم من ا ...
- ارتفاع قياسي للبيتكوين: ما أسباب دعم ترامب للعملات المشفرة، ...
- الكربون: انبعاثات حقيقية.. اعتمادات وهمية، تحقيق حول إزالة ا ...
- قائد القوات الصواريخ الاستراتيجية يؤكد لبوتين قدرة -أوريشنيك ...
- روسيا تهاجم أوكرانيا بصاروخ جديد و تصعد ضد الغرب
- بيع لحوم الحمير في ليبيا
- توقيف المدون المغربي -ولد الشينوية- والتحقيق معه بتهمة السب ...
- بعد أيام من التصعيد، ماذا سيفعل بوتين؟
- هجوم بطائرات مسيّرة روسية على سومي: مقتل شخصين وإصابة 12 آخر ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - كاظم حبيب - لمواجهة نشاط قوى صدام حسين بعد سقوط النظام - الحلقة الخامسة عشر