مرت بضعة شهور على جلسة كنا فيها عدداً من رفاق الإطار لحزب العمل الشيوعي ورفيق
قيادي لإحدى قوى التجمع ربما بغاية تجاوز بعض حساسيات الماضي. والمواقف المسبقة أو
بغاية التعرف على بعضنا بالحد الأدنى.. فسابقاً وعلى الرغم من الزمن الطويل
والتقاطع في العديد من المهمات.. والتشارك بتجربة قاسية في مواجهة القمع
والديكتاتورية خارج المعتقل وداخله لم نستطع أن نتعرف على بعضنا، لم نجلس مع بعضنا،
وقيل الكثير في ذلك.. هناك تنافر.. هناك عداوة كار (على الشيوعية).. هناك شكوك وخوف
من أدوار غير نظيفة.. هناك اتهامات ـ قيل أن هناك اختلافات سياسية لا تسمح حتى
باللقاء.. وكانت هناك محاولات بالفعل لتلغي إحدانا القوة الأخرى.. وسأترك لكم حق
التخمين من هي وبعد التحيات والسعي الجدي بكل روح رفاقية لنبدأ مداولة في القضايا
الرئيسية المطروحة.. تكلم الرفيق بصراحة عالية قائلاً: «أنا لست مرتاحاً لما
تقوله.. لست مرتاحاً لطروحاتك.. أنا مرتاح لما يقوله أصلان» مضيفاً: «بشكل خاص لست
مرتاحاً لفهمك واستخدامك مصطلح المرحلة الانتقالية.. إنه يوحي يخلق انطباع إيجابي
في ذهن الناس عن الوضع في سورية.. عن المرحلة التي تعنيها.. يوحي أن الأمر سينتهي
نهاية إيجابية.. بالتالي يخلق وهماً عن النظام والوضع والرئيس.. الخ» أجبت فوراً مع
الصدق التام أنني صرت منفعلاً إذ شممت رائحة الماضي في علاقاتنا. وأحسست أن هناك
تقصداً في كل ما قاله بشكل خاص ذلك التمييز في ارتياحه بين خطابي وخطاب أصلان..
قلت: «يبدو لي أنك لم تقرأ كل ما قلته.. أو لم تقرأه بدقة.. أنا حددت بدقة مفهومي
للمرحلة الانتقالية في الدورة الكبرى بين تشكيلة وتشكيلة والدورة الصغرى لنظام أو
سلطة تعيد إنتاج نفسها وذكرت كل الأسباب التي دفعتها أو فرضت عليها ذلك (أعني
السلطة السورية) وأكدت أنه لا توجد أية ضمانات قانونية أو سياسية ذات مغزى.. مع ذلك
هناك فرق عن الماضي له أهمية كبيرة في تاريخ سورية..» ورحت أوضح الفروق مركزاً على
مسألة الاسترخاء وإمكانية النقد بصوت عالي.. والحوارات انتشرت على نطاق واسع..
وهناك حركة جديدة في المجتمع.. مقدماً الأدلة الكثيرة.. قال.. السلطة مضطرة لذلك..
قلت ألم أؤكد أنك لم تقرأني جيداً.. أنا شرحت ذلك بإسهاب شديد.. في مواقع عدة.. إن
كان في المقابلات الصحفية.. أو في المنتديات حيث داخلت مرت الأيام ولم نكمل شهراً
على تلك الجلسة والحديث.. وبينما أراقب برنامج الاتجاه المعاكس على شاشة الجزيرة
بين الدكتور عارف وعضو مجلس الشعب موصللي.. حيث كان مطلوباً مني أن أتصل وأتكلم..
وكان علي أن أتصل لكن مجمل الظروف التي أحاطت بمذكرة السجناء المجردين أو المتأثرين
اجتماعياً وأمنياً منعتني وأنا مقهور.. قدرت أن كلامي قد يؤثر سلباً على قضية ليست
شخصية.. في لحظة من لحظات البرنامج فوجئت أن الرفيق المعني يتكلم بمحتوى خطاب ليس
مشابهاً لمحتوى خطابي بخصوص المرحلة الانتقالية فحسب.. بل يستخدم بعض نفس
المصطلحات.. وغدا من زاوية التقييم السياسي الذي قدم بعض أشياء لم أكن لأجرؤ على
طرحها في حينه بينما كنت مقتنعاً بها.. كنت أداور حولها بالضبط درءاً أخلاقياً
وتكتيكياً لمثل اتهامات الرفيق في جلستنا الوحيدة.. اندهشت وفوجئت لأكثر من سبب..
لكنني فرحت أيضاً.. فها هو الرفيق يصل بمنطقة وفهمه الجديد حدود طرح إمكانية قيام
مصالحة وطنية على الأقل بين اتجاه في السلطة ـ الدولة.. والمجتمع بينما أنا كنت ولا
أزال بشكل عام أركز على الأمر من الزوايا الموضوعية.. زوايا الأسباب الحتمية التي
جاءت بالمرحلة الانتقالية والتي ستسمح باستمرارها.. هكذا حتى يتحقق الانتقال
الديمقراطي في الجوهر بمسار خاص.. بوتائر وزمن خاصين.. لا أزال أركز على تهيئة
الشروط الذاتية من حيث المفاهيم.. كي يلعب المجتمع وقواه الفاعلة (بالتغاضي عن قيمة
تلك الفعالية ومستوى ضعفها الآن).. دوراً مهماً في كل ما يجري..
لقد سررت لأن منطقاً جديداً بدأ يتقدم في الوطن.. لغة جديدة اللهجة ومصطلحات
جديدة.. ومنذ أكثر من عام حتى الآن تقدم كل ذلك أشواطاً هامة عند غالبية الأطراف في
سورية.. من صفوف المعارضة بشكل خاص.. وجزئياً من داخل بيت السلطة.. وغدا مصطلح
«المرحلة الانتقالية» على الرغم من وجود وجوه عدة لشكل ومضمون استخدامه دارجاً
وضرورياً.. وإذ أعتقد أنه يعبر بصورة صحيحة عن حالة انتقالية فعلية في سورية.. لها
أسبابها التي جاءت بها.. لها سماتها وآفاقها.. ومطلوب من الجميع أن يفعلوا شيئاً من
أجلها.
أتذكر أنني استخدمت ذلك المصطلح حتى قبل فترة قصيرة من وفاة الرئيس السابق ذلك
كتعبير عن الحالة التي دخل بها الوطن أو بدأ يعيشها تحديداً من فترة الضجة
الإعلامية التي رافقت قرار عقد مؤتمر حزب البعث وتسليط الضوء بصورة إضافية على ابن
الرئيس والأفكار التي يحملها.. أي ما سمي مشروع الإصلاح الإداري والاقتصادي.. وأنه
أمسك بملف مكافحة الفساد وهو جاد ومتشدد في ذلك وانتشر النقد واسعاً في وسط الناس
تجاه كل مظاهر الفساد بالترافق مع قصة رئيس مجلس الوزراء السابق (الزعبي) كما سمحت
السلطة لعدد كبير من الصحفيين والمراسلين دخول سورية لتغطية ما يجري.. ليقابلوا من
يريدون.. ليرسلوا ما يريدون وقيل وقتها أن ذلك سيحصل بدون الإعاقات القديمة
المعروفة.. من حينه فكرت بإمكانية استخدام مصطلح مناسب وكان يعني بعض أشياء محددة..
وتطور ذلك سريعاً ليتبلور المفهوم مع درجة من الثبات على بعض أهم أساسياته.. وعلى
ضوء العديد من المؤشرات التي بدت تقفز في سورية اعتقدت أنه غدا مطابقاً للواقع في
حالته وفي إطار احتمال تطوراته.. ليعني لي الآن:
«تكثيفاً دلالياً عن مرحلة الانتقال التي راحت تعبرها سوريا إلى الديمقراطية
السياسية بدءاً من لحظات التسليم الفعلي لبشار أكثر الملفات خطورة قبل وفاة والده
الرئيس وكدليل شبه قطعي بالنسبة للخبير العارف أن تلك الوفاة غدت شبه حتمية
وقريبة.. إنه انتقال سيحصل في إطار الصراع والخصومة.. التوافق والمصالحة.. التقاطع
وعدمه بين مشروع السلطة الذي يقوده بشار ولإعادة إنتاج نفسها بنفسها.. وتحسين شروط
وجودها وتكيفها في مواجهة عدد من الأزمات والعوامل الضاغطة.. بالإضافة إلى طموحه
الشخصي (مشروع إصلاحه) في إطار إعادة الإنتاج تلك.. وهي الطرف أو القوة الحاسمة في
كل ذلك حتى الآن ولزمن قد يطول. أعطت الضوء الأخضر في عدد من الأشياء وتتصرف بدرجة
عالية من محاولات الضبط والتسقيف والقوننة لكل شيء.. كل ذلك يقابله مشروع آخر لم
يتبلور أو ربما اكثر من مشروع.. ويعنيني هنا بشكل خاص مشروع القوى الديمقراطية
والوطنية أو الفعاليات السياسية الأخرى الواقعة خارج صف السلطة.. أي في المجتمع وهي
قوى منفعلة، ضعيفة.. مبعثرة.. وربما تنهشها الخلافات حتى الآن.
كما أنه تعبير دلالي يشير بوضوح إلى الفروق عن المرحلة الماضية إذ ليس صحيحاً أن
الزمن الماضي للعقود الثلاثة هو زمن انتقال.. إن ثلاثين عاماً ماضية من وجود السلطة
لها سماتها وميزاتها.. والآن تقدمت أو تطورت عوامل مهمة وسمات أخرى.. وأعتقد أنها
تقول لنا أن لا رجعة إلى الوراء لنسقط مرة أخرى. على الأقل في بعض العوالم الجحيمية
أو السلبية للمرحلة الماضية.. كيف أثبت ذلك.
أولاً: الأسباب العميقة المحددة التي تطلق المرحلة الانتقالية:
استشعرت السلطة بأهم مؤسساتها ومراكز عملها خاصة رئيسها.. رمزها السابق.. تعبيرها
المكثف الأكثر دلالة.. عدداً من الأزمات والعوامل الدافعة بصورة شبيهة حتمية إلى
ضرورة التفكير الجدي والممارسة الفعلية كي تعيد إنتاج نفسها.. تعيد ترتيب قواها..
أوراقها استعداداً لمواجهة الآثار المحتملة للأزمات في تطورها.. وتوافقاً مع ضغوطها
وضغوط العوامل الأخرى.. ذلك كي تبقى متماسكة. مستمرة في قيادة المجتمع والدولة في
إطار مصالحها الأساسية.. وبنيتها الرئيسية كما توجهاتها الرئيسية.
لقد بدا الأمر ملفتاً للنظر قبل عام من وفاة الرئيس السابق ذلك بسبب شكل ومحتوى
الخطاب الذي استخدمه الوريث المحتمل (ابنه بشار) وبسبب التركيز الإعلامي الداخلي
والخارجي على الابن بصفته بديل، «وريث» محتمل.. بصفته حامل مشروع في البداية
(للإصلاح الإداري والاقتصادي) بالإضافة لمحاربة الفساد.. ثم بالتدريج انطلقت عبارات
تفيد احتمال إجراء تطوير سياسي باستخدام مصطلح الرأي الآخر على شكل عمومي وملتبس
فهم منه بداية ما أسمي بالحرس القديم داخل تركيبة السلطة، ثم تجاوزت التحليلات ذلك
الوجه لتطال إمكانيته أن يعني الرأي الآخر خارج السلطة.. وفي آخر خطاب للرئيس
السابق أمام أعضاء مجلس الشعب كان واضحاً ويصرخ بهم.. بطاقمه الإداري والسياسي
والأمني (الجهاز الدولتي) أن يتجاوز الحالة القائمة بل وبخ أولئك المرضى وضعاف
النفوس الذين لم يتمثلوا ولم ينفذوا الأوامر والتوجيهات والقرارات العليا بصورة
جادة ومسؤولية.. بل فضلوا مصالحهم الشخصية.
إن المراقب الخبير بشيء من التدقيق كان سيعرف أن حياة الرئيس السابق بخطر.. فنظريته
في الحكم وكامل تاريخه الشخصي يؤكدان أنه ليس مستعداً أبداً لمشاركة أحد في
القرارات التي تتعلق بصلاحياته.. هو يطلب الاستشارات من كل جهة أو تأتيه بحسب منطق
العمل الإداري والسياسي والأمني بصورة دورية أو غير دورية أما أن يسلِّم أحداً حتى
لو ابنه ملفات خطرة وهامة جداً لا من أجل التدرب عليها كما في حالة الابن الأول بل
للتصرف بشؤونها.. فذلك كان يعني أن شيئاً خطيراً سيحدث.. كان ذلك بحد ذاته بمثابة
لحظات بدء لإطلاق الإشارات أن شيئاً سيحصل أو مطلوباً له أن يحصل في سورية.
إن مواجهة التغيرات الحادة في بلدان المنظومة الاشتراكية.. وموجة التطورات
الديمقراطية اللاحقة والمبادئ والأخلاقيات المتعلقة بها في العالم.. ثم استيعابها
في سورية مؤقتاً وبصورة تدريجية على مدى عشر سنوات تقريباً.. جوهرياً بمنطق القمع
والشمول والديكتاتورية.. بمنطق أيديولوجي وسياسي حذر مع محاولة التقاط العبر
والاستفادة مما حصل في بعض البلدان.. كان واضحاً أن منطق شمول القمع والتدخل
السلطوي سيستمران لضبط المجتمع وضبط مصالح السلطة والاتجاهات الرئيسية في
سياساتها.. وسلطتنا كغيرها من السلطات دخلت مرات عدة عمليات إعادة إنتاج مختلفة
القوة أو الأهمية.. تفاصيل وقرارات كثيرة حصلت.. لكن الآثار السلبية كانت تتراكم
وتتبلور الأزمات التي تكاد تصبح مستعصية في بعضها وعوامل أخرى ضاغطة دخلت على
الخط.. كلها دفعت السلطة للبدء عملية إنتاج ذاتية مختلفة هذه المرة.. ما هي تلك
الأزمات والعوامل المؤثرة.
1 ـ شدة الجمود البيروقراطي والترهل في المؤسسات والأجهزة والأشخاص في المواقع
الأكثر أهمية.. أي فقدان المرونة المطلوبة للتكيف مع الأزمات وتطلعات السلطة لتجديد
نفسها.. غدت المصالح الشخصية أكثر أهمية من العمل الوظيفي السلطوي ـ الدولتي.. بل
غدا الأخير يهدف إلى الثراء.. وهذا عامل مهم وذو قيمة كبيرة في أنماط السلطات
الديكتاتورية الشمولية.. أي مستوى الأداء.. مستوى اللياقة.. مستوى الاستجابة في
الدولة ـ الأجهزة.. يصبح مثل ذلك أزمة.. بل يتسبب في خلق ومفاقمة أزمات أخرى.. غدت
الحالة في سورية وكأن لا شيء لديه القدرة على تفعيل الحالة البيروقراطية الجامدة.
2 ـ استشرى الفساد ووصل كل المستويات السلطوية بلا استثناء، لقد زكمت روائح الفضائح
ولا تزال الأنوف.. على الرغم من صمامات الضبط السلطوية التي لم تسمح بمعرفة وانتشار
إلا القليل منها. وأصحابها ليسوا الأكثر فساداً و.. بل هم الأضعف.. ومثلوا حلقات
ضعيفة ليضحى بها في مهرجانات إعادة الإنتاج السلطوي (كما حصل في حالة الزعبي، وبعض
أعضاء مجلس الشعب والوزراء).. أعداد السرَّاقين واللصوص.. أعداد الملياردرية..
أنواع الرشوة ومستوياتها.. السرقات.. استحلاب المواطن بالضغط الأمني والوظيفي
وتعقيد شؤونه ثم فرض الخوات عليه.. لقد تجاوز الأمر زمن طويل كونه ظاهرة عالمية..
إلى ظاهرة خاصة متميزة في وسط السلطة والدولة السورية.
3 ـ يبدو الطريق مسدوداً.. والآفاق أمام السلطة لحل الأزمة الاقتصادية المتطورة..
وتتراكم آثارها السلبية لتصبح مدمرة في ظل عولمة لا ترحم.. لقد فشل أي مشروع تنموي
اقتصادي استراتيجي من قبل السلطة وانتهى الحديث عن مثل ذلك من زمن بعيد.. كما فشلت
كل الجهود المبذولة والقوانين والقرارات لخلق جو مساعد على الاستثمار وتطوير مؤشرات
الإنتاج وفرص العمل.. والمؤشرات الاقتصادية الرئيسية كما اليومية تكاد تخنق المواطن
بضغوطها المتزايدة وتتعاطى معها الدولة بسياسات آنية، غير منهجية، لا تلبث أن تزيد
بعد فترة في حدتها.
4 ـ جمود سياسي شامل في الوطن.. لم يعد مقبولاً إن لم يعد محتملاً بعد عمليات القمع
والضبط الطويلة والقاسية على عقود.. بعد أكثر من عشرين سنة من القمع الشديد
والرهابات.. توقف أي فعل سياسي تقريباً.. لقد طال الجمود السياسي والاجتماعي
والأيديولوجي والثقافي لا المجتمع فحسب بل أساساً السلطة.. غدت الأشياء مكررة
محجومة.. باهتة ألوان الأعلام التي تميزها.. حتى مؤتمرات حزب البعث انتهت، ماتت..
دور الشخص الزعيم، الديكتاتور والحماس والمصفقين له.. بهت.. كل السلطات
الديكتاتورية عموماً.. وعلى عكس ما يعتقد البعض فإنها بين فترة وأخرى تستشعر خطورة
ذلك العامل وتسعى لخلق حيوية جديدة مضبوطة موجهة خاصة في الفترات الضرورية لإعادة
تجديد الذات. يصبح تحريك الجو ضرورياً لكسب قوى جديدة حيوية من المجتمع بالمقارنة
مع قوى الأجهزة والدولة المترهلة.. قوى غير ملوثة.. كما يصبح ذلك ضرورياً لكشف وفهم
تلاوين القاع في المجتمع.. ولقد غدا صعباً أن ندير ظهرنا لكل التطورات حولنا على
الصعيد الديمقراطي.. أو أن نطنش ونبتسم ابتسامة صفراء على المجتمعات الحيوية حولنا
(لبنان، الأردن، فلسطين، مصر، تركيا) أصبح الأمر ضاغطاً وضرورياً في إطار عمليات
الاتفاق مع الأوروبيين والاعتماد عليهم في إيجاد موقع لسورية السلطة في العالم
المتزاحم.. بدأت عملية التحريك بطيئة تروعها.. تغلفها رهابات المرحلة القديمة..
5 ـ غدا عامل العولمة ضاغطاً بصورة جدية.. أساساً من منطلق الحاجات الداخلية
والأزمات الداخلية.. والخوف من احتمالات تطور وراثية في المجتمع والدولة السورية إن
ضربت الرجل البهيمية الحيوانية للعولمة في سورية وهي المرشحة لتضرب طالما أن السلطة
غير ديمقراطية.. ولم تبذل جهداً مهماً في تجميع طاقات الوطن السياسية والاجتماعية
والفنية والعلمية.. لمواجهة الجوانب السلبية في العولمة.. والتفاعل مع الجوانب
الإيجابية.. أي لم تقم بالاستعداد المطلوب حتى الآن.. إن الدولة والسلطات التي
ستدفع الثمن الأكبر.. أو بالأصح الأوطان.. هي تلك المحكومة من سلطات أكثر قمعية
وجموداً.. أكثر فساداً.. صحيح أن الصلابة في بعض المواقف تجاه العولمة مطلوبة.. لكن
ذلك شيء.. والمواجهة بالتصلب والجمود ومن دون قوى منظمة هو شيء آخر.. نحن نتأثر
بظاهرة العولمة في كل الميادين بدون استثناء.. ولهذا السبب مطلوب خطة عمل شاملة..
إن أيجاد موقع قدم في العالم المتزاحم المجنون يعني النظر إلى الداخل والاهتمام
به.. ويعني في حالتنا السورية استحقاقاً باهظاً يعني حتى الآن دفع ثمن قاسٍ نحن
لسنا الصين بأي مقياس.. الصين والعالم برمته محتاج إليها ويعتبرها بقيمتها
الفعلية.. الاقتصادية والسياسية والعسكرية.. دفعت ثمناً حتى على الصعيد السياسي..
فكيف سيكون الأمر عندنا.. إن التشابه في شكل الحكم الشمولي والديكتاتوري لا يجب أن
يسمح بالغباش من جهة السلطة والاعتقاد أن الطريق الصيني بنفس الوتائر هو شيء ممكن
في سورية.. العالم محتاج للصين ربما بنفس القدر الذي تحتاج فيه الصين للعالم.. أما
نحن فمن الذي يحتاجنا إلاّ لحاجاته السياسية وأغراضه ومصالحه الاقتصادية.. هذا
يفترض بالسلطة العمل على أكثر من صعيد.. ولا بد من جو جديد وخطة عمل جديد.. وإعادة
إنتاج سلطوي جديدة.
6 ـ الجمود الطويل والعميق في عملية التسوية.. ففي الأساس هي عملية معقدة تقوم على
مستوى من التناقض حقيقي بين جملة الشرط السوري بما فيه أساساً شرط النظام وعدم
استعداده لتسجيل أي سابقة عليه فيما يتعلق بالسيادة الوطنية.. والشرط الإسرائيلي
الصهيوني العنصري المعتدي.. الأكثر قوة.. ويتصرف على ضوء ذلك محاولاً دائماً تحقيق
مكاسب على أرض الواقع.. أما بعد مجيء شارون فإن الأمر تجاوز الجمود إلى الاحتدام.
فتركيب العملية من الجنوب اللبناني إلى الانتفاضة إلى الوضع السوري بتاريخه ومحصلته
العامة كموقف تناقض مع مستوى أطماع العدو الصهيوني (حتى وإن لم يكن ذلك الموقف
أمريكالياً في جوهره السياسي وفي الممارسة على ساحته وحدوده مفضلاً استخدام الأوراق
الأخرى ودعمها لوجستياً وسياسياً على جبهات ثانية).. إن حالة الصراع تلك مع العدو
تفترض الآن استعدادات وحسابات متنوعة ومختلفة.. وهذا العامل يمثل دافعاً للتفكير
الجدي من قبل السلطة للتفكير الشامل وهي تعيد إنتاج نفسها.
7 ـ ربما كان من أهم العوامل في المرحلة الانتقالية لإطلاقها والتأثير بها ورسم
طابعها هو قرار الرئيس السابق بتجاوز تقاليد حزب البعث ونظامه الداخلي واستبدالها
بعملية «تعيين توريثي» لابنه مكانه.. وإعداده من أجل ذلك.. كما ترتيب كل شيء ليصبح
ذلك الانتقال سهلاً طبيعياً بل ليظهر ضرورياً، حتمياً في أوساط السلطة.. إن تاريخ
مراكز القوى في السلطة خاصة في اللحظات الحرجة مثل مرض الرئيس.. هدد بالاحتراب
والانقسام هكذا سيقع أذى شديد يتعلق بوجود السلطة نفسها ومن تمثله في حال حصول فراغ
سلطوي بدون إعداد مسبق واتفاق مسبق.. على ملئه (ولو بقوة الأمر الواقع) مثل ذلك
المنطق والأيديولوجيا كان يعززهما الرئيس السابق وأن ملئ الفراغ من أي طرف آخر
سيعني إمكانية الفوضى والاهتزاز.. هكذا يصبح الابن الشاب يحمل قيمة دلالية رمزية
كوالده.. قيمة دافعة على تماسك السلطة وولاء جميع الأطراف.. خارج تلك الجوانب التي
أتقن لعبها الرئيس السابق ببراعة سامحاً لعدد من الأشخاص الذين اعتبروا أنفسهم
مراكز قوى أن يلعبوا حتى حدود الاحتراق.. فإن ما أتقنه أكثر هو الإمساك بمفاتيح
القوة الفعلية على الأرض.. فكل شيء غدا بيده.. قادراً على تحريك أي طرف بأي اتجاه
مستخدماً آليات عديدة.. مثل تنافس الأشخاص ومراكز القوى على التقرب منه وإثبات
الولاء. بينما عيونها على بعضها بالمراقبة ليهتم كل منها الآخر بسوء التصرف. وضعف
الولاء للرئيس ووضع بيده قرار تحريك أصغر رتبة عسكرية.. وعلاقات خاصة مميزة مع
الكثير من العسكريين تقوم على التسامح عند الغرق بالأخطاء والسلوك اللاأخلاقي في
الأداء الوظيفي بشرط استمرار الولاء.. كما تقوم على تأمين فرص النجاح المادي
المفتوح.. والأهم من كل ذلك اعتماده على جهاز عسكري خاص هو الأقوى بلا استثناء
والأكثر ضماناً في المؤسسة العسكرية (الحرس الجمهوري) خاصة بعد تجربته مع من حوله
وهو مريض حيث وصلوا حافة الاقتتال من حينه طور الرئيس السابق بشكل هائل تكتيكات
الإمساك بالقوى وتوجيهها.. والمنع الحازم لأي اختراق آني وسياسي مهدد لآليات عمل
السلطة بينما هو في قيادتها.. وهكذا مع اقتراب تنفيذ قراره بإعداد ابنه كرئيس بديل
مسح من الوجود نفوذ الأشخاص المعتبرين أنهم يمثلون حالة مراكز قوى أو يمثلون
تهديداً.. طاروا على التسلسل مع نقاط تأثيرهم.. علي حيدر.. رفعت الأسد.. وانتقال
قصة الشاليه والمسلحين.. كما طار أولاده الأكثر خطورة مع قسمهم على بعضهم على الأقل
ظاهرياً (مع وضد والدهم) ثم رئيس الأركان حكمت الشهابي.. وآخرهم وأخطرهم قاطبة رئيس
شعبة المخابرات العسكرية علي دوبا، ترافق كل ذلك بعملية تدريب كثيفة لابنه من داخل
القصر بإشرافه.. فتح له مكاتب خاصة وسمح له بنسج علاقات واسعة وإيصالها إلى كل
أطراف المجتمع.. ثم دفع إليه بأكثر الملفات الأمنية والسياسية خطورة لا للتدرب فحسب
كأخيه سابقاً.. بل للتصرف بها شيئاً فشيئاً كأنه رئيس حقيقي.. كما رتبا سوية علاقات
تساقط القوى في الجيش مع تركيز خاص على الحرس الجمهوري مستخدماً الابن وسائل ذكية
على الصعيد الشخصي إذ فوجئ كثيرون أنه على علاقات واسعة ومشعبة في ميادين كثيرة..
أنه استطاع خلق شبكة علاقات سلطوية تقوم على التأثير الشخصي والمساعدة في حل الكثير
من المشاكل الشخصية والعامة.. كما استطاع نسج علاقات اجتماعية تقوم أيضاً على
التأثير الشخصي والترغيب بمدلولات تلك العلاقة.. وإشعار تلك الشبكة (الأشخاص)
بأهميتهم وقدرتهم على التأثير والتغيير ومستوى نفوذهم المحاط بهالة أخلاقية إيجابية
مستمدة من ابن الرئيس الشاب الجاد في مكافحة الفساد في وسط فاسدين لا مثيل لهم..
وكحامل مشروع إصلاح.. وأول محارب للفساد.. مع التركيز على الأخلاق الشخصية
بالمقارنة مع السلطويين الكبار والأقارب الفاسدين جداً حوله.. كما يحمل مشروعاً
علمياً عصرياً.. «المعلوماتية». وسمح لوسائل الإعلام السورية بتجاوز كل القوانين
والتقاليد إذ بدأت التركيز عليه خاصة كحامل مشروع إصلاحي في الدولة والمجتمع ثم
أنذرت وسائل الإعلام الخارجية الجاهزة للاهتمام والتركيز على أي شيء يتعلق بالوضع
السوري الجامد المؤبد.. خاصة الرئيس وصحته واحتمالات قيام فراغ وكيفيات ملئه..
فساهمت بدورها في تقديم الابن كوريث بديل.. ليجيب على المقابلات بمنطق ثابت إيجابي
مفاده أنه شاب لديه طموحات للإصلاح والتطوير.. وهناك قوانين غير مسموح بتجاوزها في
سوريا تحدد آليات انتقال السلطات.. وهو جاهز في حال تطور الأمر واتخاذه شكلاً
قانونياً رسمياً.
هذا العامل إذن حرك الجو قبل وفاة الوالد وفتح آفاقاً واسعة جداً أمام التحليلات
والاحتمالات والبعض النادر توصل فعلاً إلى أن سورية ستعبر قريباً مرحلة جديدة..
بسبب وضع قمة الهرم السلطوي وترتيب البيت لوضع الابن مكان الابن.. وكان لابد من
مشروع طويل معقد متنوع الغايات والميادين لتقديم الابن كبديل، في ذلك الإطار طُرِحت
أفكار أولية شكلت ما سمي مشروع الابن افترضت لتقديم جهوداً كبيرة على الصعيد
الإعلامي كما افترضت لاحقاً درجة من الجهد لتنفيذ شيء من ذلك المشروع.. كما افترضت
التأكيد الإعلامي والأخلاقي أن الابن أو الرئيس فيما بعد لا يزال مصراً على
مشروعه.. كل ذلك مثل أهم سبب وخلق أكبر وأقوى طاقة دافعة لبدء المرحلة الانتقالية
واستمرارها حتى ولو جاء كل شيء كما قلت أساساً في إطار قرار السلطة بإعادة إنتاج
نفسها.. فذلك العامل لم يكن إلاّ مركز العملية ومحورها.
ثانياً: محتوى المرحلة الانتقالية ـ سماتها ـ مقارنة على الماضي:
سيتساءل البعض.. ما هو الفرق في كل ما عددته وذكرته من أزمات وعوامل دافعة للمرحلة
الانتقالية بالمقارنة مع الماضي على الأقل السنوات العشرين الأخيرة.. غير العامل
الأخير المتعلق حصراً بخلافة الرئيس وترتيب الأمر قبل وفاته ليكون ولده بديلاً عنه
في قمة الهرم، قصة الفساد، الجمود، والترهل، الأزمة الاقتصادية والموضوع
الإسرائيلي.. كلها تتقدم وتتراجع.. واستحقاقات العولمة لها من العمر عشر سنوات..
الكثير من الأنظمة اهتزت ودفعت المطلوب منها سريعاً في زحمة سقوط الأنظمة الشمولية
عندنا بقي الوضع متماسكاً.. الشيء الوحيد الجديد هو العامل الأخير.. بذلك المعنى ما
هو مبرر المرحلة الانتقالية بالنسبة لك خاصة وأنك تعتبر الأمر من حيث الجوهر أمر
إعادة إنتاج السلطة لنفسها مضطرة أكثر بكثير مما هو أمر مشروع إصلاح في داخل السلطة
يقوده الرئيس بشار.. وربما لا ترى أبداً وجود أي مشروع جدي.. ما هي الفروقات
الفعلية عن المرحلة الماضية.. وكيف تفرض تلك الفروقات منحى آخر مختلفاً، في كل
الأحوال ما هي ضمانات الأمر.. هل هناك ضمانات ثانوية أو سياسية داخلية أو خارجية
حتى تعتبر المرحلة انتقالية لا رجعة فيها؟
لا شك أنها أسئلة محقة.. لكن!!!
الأمر أولاً أمر فعل قانون التراكم في جملة تلك الأزمات.. إذ لابد أن هناك فرقاً
كبيراً في مستوى الترهل والبيروقراطية والجمود قبل عشر سنوات أو عشرين والآن..
ومستوى جاهزية الدولة ولياقتها للاستجابة لتطلعات السلطة في معالجة أزماتها والتكيف
وإعادة إنتاج نفسها.. بنفس المعنى عمل قانون التراكم على دفع المؤشرات الاقتصادية
الرئيسية والثانوية إلى سويات عالية بالسوء والتروي.. بعضها يهدد بالخطر. كما أنه
لم تجري أية محاولة جادة لمحاربة الفساد فكيف سيبقى ذلك العامل على حاله.. الإفساد
كان نهجاً داخل صفوف السلطة السورية.. كان وسيلة مهمة لضبط كبار الموظفين وضمان
إخلاصهم.. اسرق، انهب، خذ رشوة، استخدم نفوذك في السلطة والدولة لحماية نفسك وإخافة
الآخر «المواطن» في حال إبدائه لأية مقاومة وأنت تمارس عليه (السلطة) والخوة
والتشليح.. أرهبه بل عاقبته باستخدام نفوذك وصلاحياتك وهيبتك السلطوية.. المهم هو
إخلاصك الأمني والسياسي والشخصي لمن هو أعلى وأقوى منك في ترتيب الهرم وصولاً إلى
«أعلى العليين» وإلاّ كيف تكونت تلك الثروات الخيالية.. وذلك البذخ لكبار السلطويين
المتنفذين وصغارهم من دون محاسبة أو عقوبات أو كيف يمكن تفسير ولائهم وسلوكهم
الخانع وأدائهم القمعي الرهابي بدون تذمر.
وبسبب احتكار السلطة للفعل السياسي مما غيب فعاليات القوة الداخلية الضاغطة على
النظام لتطوير البلد وخلق شيء من الانفتاح.. فإن بعض العوامل المتمفصلة على الخارج
تأخذ دوراً اكثر أهمية في تحريك الجو بصورة مختلفة عن الماضي اعني هنا تحديداً
استحقاقات العولمة فعلى الرغم من شدة تأثير موجة الانهيار في المنظومة الاشتراكية
في تفعيل حالة ديموقراطية عالمية (بالتغاضي الآن الكيفيات التي أثيرت فيها واستغلت
من قبل المراكز الرأسمالية).. فإن النظام في سورية اقتضى ذلك ببعض الوعود العامة
وتفاصيل إطلاق سراح عدد كبير من السجناء الذين لهم سنوات دين /أمانة/ في ذمة النظام
ليس زيادة فقط عما لا يستحقونه.. بل زيادة على العقوبات التي فرضها النظام نفسه
عليهم..
مرت حوالي عشر سنوات على ذلك الزمن ولم يعد من الممكن امتصاص الأمر بالوعود، أو
بمسألة "العفو" في كل مرة عن عدد كبير من السجناء.. دخل الأمر الآن ميدان تنفيذ بعض
الاتفاقات مع الاتحاد الأوروبي وميدان وضع الكثير من المعاهدات الأخرى.. إنها
الاستحقاقات الفعلية للعولمة.. كما أنه لم يعد من الممكن الآن إدارة الظهر كالماضي
على قضايا حقوق الإنسان.. لم يعد ممكناً ممارسة قمع نوعي شديد في المجتمع.. العالم
ضيق واخترقته وسائط الإعلام اليقظة والمراكز التي تقف وراءها.. الحيادية أو
الأخلاقية منها.. أو المتحيزة والسيئة.. على مدار الأربع والعشرين ساعة.
أما العامل المتعلق بجمود عملية التسوية وتعقدها بعد ضعف الورقة اللبنانية
والاهتمام الزائد للعدو الصهيوني بوضع الانتفاضة وآثار الموضوع عليه بالمعنى الشامل
وتطور الوضع الانتخابي في إسرائيل نحو التشدد.. كل ذلك وبعد زمن طويل من استغلال
القضية الوطنية ويافطتها لكم الأفواه وممارسة القمع بحجة العدو الصهيوني المتربص
وبحجة ضرورات الصراع ضده.. ذلك الاستغلال لم يعد ممكناً الآن بالطريقة السابقة..
فالجميع يعرف على رأسهم البعثيون أن الاستراتيجية السلطوية السورية هي إستراتيجية
تسوية سلمية تعتمد أساساً المباحثات السلمية وتقوم في محتواها على قرارات الأمم
المتحدة.. الجانب الحربي فيها.. يقوم على أساسا انفعالي، رد فعلي، دفاعي.. وحالة
الفساد المستشري.. ميزانية الجيش وحاجاته ووضع عتاده والمستوى العملياتي
والجاهزية.. والوضع البيروقراطي.. كلها تؤكد حتمية استمرار تلك الاستراتيجية على
الرغم من وجود خطوط حمراء فعلية متعلقة بعدم مس السيادة.. ذلك يعني أن حالة
أيديولوجية ديماغوجية تستغل مسألة الصراع مع العدو بحيوية قمعية كالسابق.. غدت
شيئاً صعباً.. المطلوب الآن بشكل عام وفي كل الاحتمالات استرضاء الشعب والقوى
الفاعلة فيه مهما كان نفوذها تافهاً وضعيفاً.. المطلوب المراضاة في حالة جمود عملية
التسوية.. أو تعقدها والتصعيد في حالة الصراع.. أو عودتها لتوقيع اتفاقية مناسبة
لحالة النظام السوري.. كلها تقول بعد ذلك الزمن الطويل والتطورات أن الشيء الصحيح
والمفيد للنظام هو الاسترخاء في التعاطي مع المجتمع أو المرونة وتخفيف القمع وطرح
أفكار تقول أن شيئاً ما يحصل ضروري ويحتاجه الجميع.
أما العامل الحاسم المتعلق بإعادة إنتاج ملء الفراغ في قمة الهرم قبل وفاة الرئيس
السابق وبعدها.. فيكفي حقيقة لوحده كي يعطي زخماً خاصةً للحالة السورية.. لتكون على
درجة من التمييز بين الماضي والحاضر.. فكيف بالأمر والرئيس الجديد قبل تعيينه بزمن
طويل نسبياً يعلن يومياً وحوله وسائل الإعلام تؤكد وتعيد التأكيد أن لديه مشروعاً
للإصلاح.. وحتى بفرض الغياب الفعلي لمثل ذلك المشروع فيما يتعلق (على الأقل العوامل
الحاسمة فيه) كالقوة الاجتماعية التي اختارها الرئيس لتنفيذ مشروعه أو الوسائل التي
يتبعها، أو المؤسسات والأجهزة التي يستخدمها أو محتوى المشروع والخطاب المرافق..
حتى بفرض ذلك فإن عملية إعداده وتقديمه وتنصيبه رئيساً وكل ما قيل ولا يزال بخصوص
مشروع الإصلاح.. كل ذلك يفترض درجة من الالتزام من قبله على الأقل، التزاماً
أخلاقياً وسياسياً، التزاماً يتعلق بالوعود والكبرياء الشخصي ليكون متميزاً وغير
مقلد.. ليكون في الحد الأدنى من الوصف الذي قدم به أو طرحها على نفسه كل ما ذكر
يؤكد على الفوارق الكبيرة بين المرحلة الماضية والجديدة ـ المرحلة الماضية كانت
مغلقة على الجمود والقمع والشمول في التدخل بكل شيء على الطغيان الفردي.. على
الفساد الضارب فيه بصورة مختلفة عن الماضي.. مفتوحة بالحد الأدنى على تخفيف
الجمود.. على التغاير الجدي بالأزمات المتعددة.. على مراعاة عامل استحقاقات العولمة
ـ عامل مجيء رئيس جديد وما يعنيه الأمر أي يمكن القول أن شيئاً جديداً مهماً في نمط
التفكير الخاص بإعادة إنتاج السلطة لنفسها قد انزاح بسوية ما.. انزاح باتجاه تفعيل
الأمر خارج البيت السلطوي.. إنه مضطر للإنفتاح على المجتمع والعالم.. وغدا صعباً
جداً إن لم يكن مستحيلاً إعادة إغلاق الرتاجات القديمة للعودة إلى الماضي.. لابد من
الافتراق عن الماضي بعدد مهم من الأشياء هي التي تحدد محتوى وسمات المرحلة
الانتقالية العينية.. وأهمها ما يلي:
1 ـ سماتها:
1 ـ كان طبيعياً جداً.. بل هو بمثابة القانون أن يأتي قرار الحركة أو السماح بها من
قبل السلطة مثل سلطتنا السورية احتكرت على مدى عقود كل شيء.. صادرته.. منعت أي فعل
سياسي مستقل عنها.. جمَّدت الصراعات والتناقضات المولدة لها (ظاهرياً على الأقل) في
المجتمع، ضبطتها.. نقلتها إلى صفوفها تحت إيقاعات ووسائل المراقبة والضبط.. حتى ولو
كان الأمر.. تفاعلاً أو رد فعل على أزمات داخلية.. أو تكيفاً داخلياً على أسباب
خارجية ضاغطة.. وهكذا كان شيئاً مهماً بعد عقود من الجمود أن يصدر قرار داخلي
بإعادة إنتاج السلطة لنفسها بصورة مختلفة عن الماضي.. بحيوية مختلفة.. ببرنامج
مختلف حتى ولو انطلق الأمر به بصورة إعلامية أيديولوجية ونظرية صرفة في البداية..
حتى ولو استخدمت طبيعتها وبنيتها لوضع سقف لكل حركة.. لكل فعالية كان شيئاً مهماً
جداً أن تصدر أوامر إدارية أو توجيهات بتخفيف القمع الجسدي بحد ذاته.. مقارنة
بالماضي.. أو جحيم الماضي على صعيد القمع الجسدي كان شيئاً مهماً تخفيف العديد من
إجراءات القمع القديمة من حيث الشكل والمضمون.. ليس هذا فحسب.. بل السماح للمجتمع
وقواه الموجودة (على ضعفها وبؤسها) بالنقد ودخول عملية حوار علنية حول كل القضايا
المطروحة على المجتمع السوري.. كان شيئاً مهماً جداً أن تسمع السلطة النقد الواسع
المتنوع الذي طال كل شيء.. مهماً أن لا تقوم بردود الفعل القديمة الرهابية.. ربما
جاء ذلك على شكل أوامر إدارية خاصة.. بلزوم الحدود عند تطبيق أحكام الطوارئ
والقوانين العرفية.. تخفيف الاستدعاءات إلى الحدود الدنيا مقارنة بالماضي.. كان
مهماً عدم المحاسبة العقابية على أساس الطابع والمنطق القديمين (الاعتقال التعسفي
مع كل مظاهر التخويف والرعب، التعذيب الجسدي.. الأحكام العرفية من قبل أي جهاز أو
مسؤول أمني بصورة مفتوحة بدون حسابات).. ذلك على أي نقد أو رفع للصوت أو مطالبة
بحق.. عداك عن النشاط السياسي والأيديولوجي الهادف.. صحيح أن كل ذلك لم يصدر أبداً
ولم يقم بقرار تحميه صيغ قانونية من قبل مجلس الشعب.. أو الرئيس.. ولم يحمه منطق
الدستور وحيداً من دون قوانين استثنائية.. إلاّ أنه كان شيئاً مهماً جداً لسورية
وبه تبدأ المرحلة الانتقالية.. به يبدأ التنفس الأولي.. الشعور الأولي بالأمان أو
تحديداً عدم الخوف من القمع الجسدي أو الخوف الضعيف على الأقل.. أو عدم الخوف من
إيقاع أشكال متنوعة جداً من الأذى والتنكيل يغيب فيها شعور بالأمان.. وهذه واحدة من
أهم سمات المرحلة الانتقالية الجديدة.. وأعتقد أن الكثير من العوامل الداخلية
والخارجية تقول أنه لم يعد مسموحاً لم يعد ممكناً لم يعد يجوز بكل المقاييس
الأخلاقية العودة إلى نموذج القمع القديم..
2 ـ تتسم المرحلة بضعف الاستقرار.. أو يمكن اعتبارها حركية، غير مستقرة.. لكن لا
يجب التصور أبداً أن دينامياتها متوترة.. حرة.. قافزة.. إنما بالمقارنة مع الماضي
ستكون ذات دينامية خاصة حتى ولو قامت السلطة بعمليات ضبط جديدة لكل الأشياء من
زوايا رؤيتها.. ومن منطلق مصالحها إنها غير مستقرة لأنه قانون عام في المراحل
الانتقالية الكبرى أو الصغرى.. مهما اختلفت وتنوعت وتائر التطور والمتغيرات.. إذ
يصبح هناك قرار موضوعي إن صح التعبير (ضغط الشروط) وقرارات ذاتية من قبل السلطات
كقوة حاسمة محتكرة لكل شيء والمجتمع بفئاته.. وقواه في العمق.. في الإحساس.. في
اللا شعور الجمعي.. ذلك من أجل التطوير والتغيير.. وتبدأ تناقضات وصراعات عديدة
مختلفة بدرجات عن الماضي كل ذلك يخلق روحاً خاصة، منطقاً خاصاً، ديناميات خاصة
بالتغيير والحركة. ولأن الأمور تكون في أحسن أحوالها قائمة على تصورات عامة أولية
(غير محددة وغير دقيقة) فهي قابلة بحد ذاتها للتطور والتغير السريع.. قليلة هي
الأطراف التي تكون مستعدة تماماً على كل صعيد لتضبط كل شيء كما تريد وتدفعه
بالاتجاه الذي تريده حتى ولو استخدمت معادلات القوة والنفوذ والسيطرة لفرض إرادتها
ومحتوى التطور الذي تريده.. ذلك هو القانون العام.. واللاعب الأكثر اتزاناً هو
اللاعب الأكثر خبرة وقوة وصاحب الأولوية في الاستعداد.. وصاحب القرار.. مع ذلك كل
اللاعبين حتى الأقوى منهم.. غير محددي التفكير.. غير واضحين بدقة.. غير مستقرين في
معادلات المراحل الانتقالية. على ذلك الأساس اتسمت القرارات والتوجيهات الأولى
للسلطة بالالتباس وعدم الوضوح.. وفسرتها أطراف بيروقراطية وأمينة وسياسية تفسيرات
متنوعة كما تصرفت تجاهها بهوامش مختلفة أيضاً.. وكان ذلك شيئاً مختلفاً عن مسألة
وجود تيارات ومواقف مختلفة في السلطة تجاه المرحلة.. ومحاولة إعاقة الأمور بالوسائل
البيروقراطية الإدارية دون الجرأة على مواجهة الأمر بشكل صراعي تناقضي مفتوح..
كذلك فإن قوى المجتمع الأخرى السياسية أو غيرها خارج السلطة ـ الدولة ستتصرف بصورة
غير مستقرة.. في البداية خوف وحذر شديدين.. مع تشكيك ثم تتقدم النخبة التي تدرك أن
الأمر لم يعد يسمح بالخوف القديم وأنه لا يتطلب دفع ثمن باهظ كالسابق وتتسع الدائرة
ببطء.. ثم تبدأ المراجعات وتغيير الآراء.. ليصل الجميع بدون استثناء كما حصل
تقريباً حتى الآن عندنا إلى التغاير بمنطق جديد مختلف عن الماضي خاصة فيما يتعلق
بالتعاطي مع طروحات السلطة وأسبابها ووسائل فعلها وحركتها.. كذلك فيما يتعلق بقضايا
الوطن الكبرى.. الجميع راجع أو يراجع كل شيء.. فكل شيء مهم ورئيسي قد تغير في
العالم ومن حولنا في المنطقة.. إن رد فعل المجتمع وقواه إذن.. ستتسم كما المرحلة
بعدم الاستقرار..
3 ـ لابد من الانتباه أن المرحلة حتى الآن وربما لزمن غير قصير ستكون بدون ضمانات
قانونية وبدون ضمانات سياسية جدية، السبب الرئيسي في كل ذلك هو طبيعة السلطة
بنيتها.. تاريخها الخاص في الحكم.. عطالتها.. الطبيعة والبنية لا تزال ديكتاتورية..
وشمولية ـ كما تخاف من أي ظاهرة انفتاحية على المجتمع تخاف من أي رد فعل جديد غير
معتادة عليه وهكذا فستبقى على الكثير من أساسيات ضمان احتكارها وسيطرتها.. وتدخلها
أي أن السلطة ستكون بطيئة جداً وحذرة.. لن تعطي الضمانات القانونية إلا بالقطارة
ستستخدم وسائل للضمانات يسهل التملص منها..
إن الضمانات الأساسية في المرحلة تتركز أساساً وللأسف في استمرار الأسباب التي جاءت
بها أو ساهمت بمجيئها.. أي الأزمات والعوامل المتعلقة بالعولمة واستحقاقاتها ووضعية
الرئيس الجديد.. أي كل ما يتعلق بطبيعة الشخصية وطموحاته ومستوى تأثره بالتطورات
العالمية ونظرته إلى سبل تطوير البلد.. بشكل خاص سبل إعادة إنتاج السلطة بقيادته
لتجاوز الأزمات أو التكيف معها بالحد الأدنى وضبط ردود الفعل المحتملة.. أي يتعلق
بنهجه وقيمة العليا وخطة عمله..
أما الضمان الآخر باستمرار وتطور المرحلة فيتعلق فعلياً بالمعارضة، بالقوى الأخرى
خارج السلطة.. وقدرتها على بلورة وطرح خطة عمل جديدة مناسبة.. صحيحة وتأخذ بعين
الاعتبار طابع المرحلة.. طابع السلطة وأسبابها وتنظر بروح الجدية والمسؤولية إلى
تخوفات السلطة البعيدة عن الديماغوجيا.. والتي ترتكز فعلياً على أسس واقعية.. مثل
أهمية الصراع مع العدو الصهيوني، مسألة الاتصال بأطراف خارجية العمل السري.. قضايا
العنف، الخوف من هشاشة النسيج الاجتماعي وآثار الشحن الطائفي العميق الذي تتحمل
السلطة مسؤولية تجاهه أيضاً..
يجب أن تأخذ المعارضة بعين الاعتبار ضرورة المساهمة الفعالة.. الديموقراطية،
السلمية، العلنية والمسؤولة بدرجة عالية لإنقاذ الوطن على أكثر من صعيد.. تطرح
خطاباً جديداً.. مصطلحات جديدة.. مهمات محددة وخطوات عملية جدية.. كله في إطار
أخلاقي متميز.. وديموقراطي.. واهتمام عالي بالمسألة الوطنية وقضايا الوطن الكبرى
تنظر إلى الماضي بمنطق الحاضر المتحرك والمستقبل.. وسيكون الأمر أمر واقع في إطار
تطوير المصالحة الوطنية.. تطوير الأمان الوطني.. تطوير الوعي الديمقراطي والنظرة
المسؤولة إلى الوطن والشروط التي يعبر بها إلى الديمقراطية السياسية.. إنها مواقع
ستتركها السلطة ببطء شديد وعطالة كبيرة وستتركها لأنها محتاجة لذلك بداية وستتركها
أيضاً عندما تتشبث بها قوى المعارضة بمنطق مختلف عن الماضي، بمنطق التشارك
بالمسؤولية بمنطق أخلاقي ديمقراطي ووطني عميق ودون الخوف من دفع ثمن ممكن.. لكنه
على الأرجح لن يكون أبداً مشابهاً للماضي.. كل ذلك سيشكل الضمان الآخر المهم في
استمرار المرحلة الانتقالية حتى تحقق محتواها الرئيسي واعتقد أن هذا الشرط سيتحقق
وإن كان بصعوبات جدية.. وهكذا يدخل في سمات المرحلة.
4 ـ على الرغم من كل ما ذكرناه عن طابع المرحلة أنها غير مستقرة.. وبدون ضمانات
قانونية ثابتة وفعالة.. إلاّ أنه مستمرة في إطار ذلك التقطع والموجات الباردة
والساخنة وحالة عدم الاستقرار والتغير بالوتائر التي تتحكم بها السلطة أساساً.. لا
أعتقد أن هناك إمكانية الرجعة إلى الخلف.. إلى المرحلة الماضية كما كنا.. على الأقل
هناك عدد من الأشياء من الصعب العودة إليها كما كانت.. كما ذكرت سابقاً من الصعوبة
بمكان العودة إلى مستوى القمع الجسدي القديم في الشكل والمحتوى.. كما من الصعب أن
يكون مستوى تدخل الدولة بنفس الشمول السابق.. إذ ستستمر الأجهزة بالمراقبة والتدقيق
ومحاولة معرفة كل شيء لكن تدخلها كما حالة الدولة برمتها.. لن يكون كالماضي، ستترك
السلطة، الدولة منافذ للمجتمع والقوى كي تتحرك بها ومن خلالها مع ضبطها، قوتها بين
فترة وأخرى من منطلق مصالح السلطة وتوجهاتها.. ومهما بلغت موجات السلطة الهجومية من
السخونة على الفعاليات المنطلقة ومستوى الحركة والتطورات.. فإن ذلك سيبقى الآن
مضبوطاً في إطار توجه المرحلة.
إن وعي ذلك الأمر من قبل قوى المعارضة سيعني الكثير ـ سيعني إمكانية وضرورة التشبث
بالمواقع بمنطق عقلاني ديمقراطي سلمي وأخلاقي وعلني.. ومما سيزيد من مستوى تفعيل
المرحلة وتطوير حيويتها.. إن ذلك قد يكلف ثمناً ما.. من قبل الدولة والأجهزة
القمعية، لكنه ثمن لن يصل أبداً المستويات السابقة وهو ثمن لو حصل سيقابله ثمن آخر
تدفعه السلطة هذه المرة في حال إصرارها على النكوص إلى الخلف وخلق انتكاسة. إنه ثمن
تجاه الرأي العام العالمي.. تجاه قوى الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم كما
ستدفع ثمناً آخراً فيما يتعلق باستحقاقات العولمة والاتفاقات مع الاتحاد الأوروبي
مع القناعة التامة أن العامل الرئيسي الحاسم الذي يحكمها من جهة الأوروبيين ليس
بالقطع قيم ومبادئ حقوق الإنسان.. إنما المصالح الاقتصادية والسياسية العليا.. لكن
حتى بذلك المعنى فإن وجهة نظر الأوروبيين تقول أن تلك المصالح تتحقق بصورة أفضل
بالمزيد من الانفتاح في سورية.. أما الثمن الأكبر الذي ستدفعه السلطة فيكمن في ردود
الفعل المحتملة في المجتمع تجاه الأزمات التي ستشتد وربما تأتي لحظة أو شرط يصبح
فيه توقع حدود ردود الفعل لتلافيها يصبح صعباً جداً وحيث ستكون السلطة المتضرر
الرئيسي في ذلك..
وبما لسان حال السلطة يقول بدون ضجة.. أن طريق الانفتاح والتطوير التدريجي البطيء
المحكوم بتاريخ وبنية طبيعية ومصالح السلطة.. هو الضمان الوحيد الآن لتعيد السلطة
إعادة إنتاج نفسها بصورة سليمة ومضمونة أو بأقل الخسائر.. أعتقد أن السلطة تدرك ذلك
وتتعاطى معه على ذلك الأساس.. وهذا ما يجب أن تدركه قوى المجتمع المعارضة أي أن
تدرك أن من أهم سمات المرحلة أن لا رجعة فيها إلى الخلف.. ذلك سيسمح لتلك القوى
بلعب دور كبير ومسؤول تجاه الوطن وتجاه القضايا التي تتطلب مشاركة إنقاذية.
ب ـ محتواها وخصوصيتها:
وحان الوقت لتحديد المحتوى الرئيسي للمرحلة الانتقالية والخصوصية التي تتميز بها في
سورية.
1 ـ محتواها الرئيسي الانتقال من الحالة الديكتاتورية والشمول والقمع.. التطوير
والارتقاء لتحقيق مكاسب ديموقراطية فعلية.. بدأت الآن بعدد من الخطوات بضوء اخضر من
السلطة تحت ضغط حاجاتها أساساً وحاجات الوطن. وهكذا عبر المسار الخاص المحدد بالشرط
السوري وصولاً إلى دحر الديكتاتورية بأي مظهر من مظاهرها واستبدالها بنظام ديمقراطي
سياسي شامل بجهود كل القوى الديمقراطية الفعلية.. كله بصورة علنية وسليمة.
2 ـ من حيث الجوهر هناك سلطة وعلى مر عقود ذات طبيعة محددة وبنية خاصة.. دكتاتورية
قمعية، تدخلية بصورة شاملة.. هذا الوضع هو الذي سيتغير بصورة تدريجية.. وبدأ يتغير
فعلياً، وإن بصورة بطيئة.. غير مستقرة وبلا ضمانات وبحذر شديد من قبل السلطة..
وهناك عدداً من العوامل الخاصة بالشرط السوري ستعطي ذلك المسار طابعه الخاص كأي
مسار آخر محدد بشروطه مما سيؤثر على وتائر التطور والمناحي القانونية والسياسية
ومستوى التناقضات وتطورها ووسائل حلها.. وبالإضافة إلى كل ما ذكرته من سمات السلطة
وبنيتها والعطالة التي ستتحرك بها.. فإن قاعدتها الاجتماعية التي تعتمدها بشكل خاص
الطابع الفئوي والطائفي كما العشائري والعائلي في وجودها الأمني والسياسي كذلك دور
الدولة الكبير في حياة البشر من الزاوية المعيشية وغيرها.
والتاريخ الخاص للصراعات الحديثة في سورية ومستوى الشحن الطائفي الذي تكون في العمق
ودور أطراف الصراع به (الحركة الدينية وبعث العراق والسلطة) وما يفترضه من ضرورات
مصالحة شاملة وعميقة في الوطن.. كذلك حساسية المسألة الوطنية ومستوى تعقيدها في
صراعنا مع العدو الصهيوني.. واشتباكها مع الميدان القومي والإقليمي.. وموقع سورية
الخاص (كجغرافية كتاريخ وسياسة سكاناً وسلطات وقوى) في البؤرة من الصراعات في
المنطقة.. وعجز المكونات السورية الداخلية عن حسم أمورها بصورة ذاتية مستقلة بدون
ذلك التشابك والتأثر الشديد بالعامل الخارجي العربي والإقليمي ـ التخوفات ورفع
النزاعات التي تقوم بها السلطة وغيرها بخصوص هشاشة النسيج الوطني واحتمالات
الانفجار الاجتماعي والسكاني تحت تأثير التطورات السريعة.. وتأثير بعض جوانب
العولمة.. تلك التخوفات التي تستحق الاهتمام تماماً والأخذ بعين الاعتبار.. وإذا
أضفنا الشرط الذاتي المتعلق بقوى المعارضة.. حالتها بعد القمع المرير من جانب
السلطة.. مستوى ضعفها وتمزقها بتناقضاتها والتاريخ الخاص من زاوية بنيتها ومفاهيمها
الملتبسة على الصعيد الديمقراطي.. تلك الشروط ستحدد المسار الخاص للانتقال
الديمقراطي في سورية.
3 ـ إن تأكيدي على الخاص كما يتضح لا يعني إلاّ الممكن في إطار الشروط وتطورها..
لكنه من جهة قناعاتي.. أرفض بصورة كلية وضع أي تناقض في محتوى المفاهيم الديمقراطية
المبدئية والأخلاقية المتعارف عليها عالمياً في ميثاق الأمم المتحدة ـ ومنظمات حقوق
الإنسان والقوى والفعاليات السياسية الديمقراطية وبين ما يطلق عليه البعض قيم
وتقاليد وأصول محلية.. وطبيعة شعب اعتاد الاستبداد وشعب متخلف لا يستحق ولا يقدر..
كل ذلك ليس أكثر من حجج تعزز القمع والديكتاتورية.. المفاهيم والمبادئ والقيم
والمعايير الديمقراطية معروفة هي الأساس والمقياس وهي التي يجب النضال من أجل
تحقيقها.
4 ـ إن مسار الانتقال وشكله تمثيلياً هو من فوق لتحت.. أي أنه سيبدأ سينطلق من
السلطة ـ الدولة بإرادتها وبدوافع مصالحها في إعادة إنتاج نفسها ـ وفي أحسن الأحوال
بسعي خاص من الرئيس الجديد لتحقيق الالتزام الأخلاقي والأدبي بمشروعه الذي طرحه
وقدمه الإعلام على نطاق واسع وزمن غير قصير.. ليأتي بطريقة متميزة ذات شكل ومضمون
خاصين به.. يميزانه وفترته كي لا يصبح الأمر أيضاً تقليداً ميتاً للماضي.. تقليداً
أعمى لسياسات في ظروف مختلفة حتى ولو كان والده يقودها.
إن ذلك المسار (الفوق ـ تحتي) هو بمثابة القانون في حالة النظم والسلطات
الديكتاتورية الشمولية التي تبقى قادرة على تحقيق معادلات التماسك خاصة باعتماد سبل
القمع الشديد بوسائط أمينة وعسكرية مضمونة من الزوايا الاجتماعية والفئوية
والسياسية.. مثل تلك السلطات المحتكرة والتي تصادر أي حركة في المجتمع تنشر الخوف
والرهابات هكذا تصبح الحركة.. أو ضرورات الحركة وقواها الدافعة كامنة بها أساساً
تحت ضغط أزماتها وضغط أزمات المجتمع وعوامل أخرى إضافية.. كما تبدأ الحركة منها
وبقرارها.. ذلك هو القانون العام.. وهذا ما حصل وسيحصل عندنا (للأسف) مما سيطيل زمن
الانتقال ويبقي الخطوات الرئيسية فيه والمحطات تحت تحكم السلطة من منطلق قناعاتها
وقراءتها ومصالحها.. خاصة بسبب حالة قوى المعارضة الديمقراطية تحت ضغط القمع
السلطوي الطويل.. بشكل خاص من دفع منها ثمناً باهظاً في المعتقلات ذلك الدور الذي
بدأ منفعلاً بخطوات السلطة.. وانطلق ضعيفاً مع ذلك تتوقف أشياء حاسمة في مسار
الانتقال مستقبلاً.. ومهما سمحنا لأنفسنا بالحلم بالمشروع بدور متقدم بل ومتفوق يجب
أن نصل إليه.. ومهما حلم البعض بضرورة وإمكانية تطوير (قوى مجتمع مدني) تحتية..
مستقلة عن الدولة.. مهما كان طابعها سياسياً أو اجتماعياً أو اقتصادياً.. أحزاباً
كانت في الصف الأكثر رقياً أو جمعيات من أي نوع.. فإن مسار الانتقال حتى زمن طويل
سيبقى (فوق تحتي).. من قمة هرم السلطة والدولة نحو المجتمع وهكذا فالدعوة إلى
المجتمع المدني كما يطرحها البعض ليست أكثر من (ثقافة مثقفين) متحصلة ومتأثرة من
منابع مختلفة.. وربما تغني في وادي والجمهور الشعبي في وادي.. على الرغم من ذلك..
فإن العمل والدعوة يجب أن يتركز بصورة شاملة على الفعل الملموس بتشكيل منظمات
مستقلة عن الدولة مهما كان نوعها خاصة في الميدان السياسي ذلك لتطوير دور القوى
الديمقراطية لتشريع وتائر التطور الديمقراطية ولعب دور متقدم في المسار السوري
الخاص بتخفيف الثمن الذي يمكن دفعه حتى المستقبل المنظور بسبب طبيعة السلطة
وعطالتها ورؤيتها لمصالحها.. ذلك ريثما يأتي وقت يتعدل بها ميزان القوى.. ترتقي
القناعات بخصوص الديمقراطية ربما في حينه سيغير المسار اتجاهه.. حتى ذلك الوقت
سيكون مساراً شبيهاً من بعيد بالمسار المصري مع الانتباه أن تعقيداته أكبر ومستوى
تدخل السلطة ـ الدولة به أعلى وسيستمر زمنياً وقتاً أطول وسيكون "حظنا" رائعاً مع
الأخذ بعين الاعتبار إمكانية الارتقاء بدور القوى الديمقراطية والعمل الجدي الشامل
على إنجاز ذلك.. هكذا سيكون حظنا رائعاً لو وصلنا الحالة المصرية بعد عشر سنوات..
وهي حالة لا تزال السلطة فيها سلطة ديكتاتورية وشمولية وتدخلية بالتصنيف المعياري.
مع ذلك هي حلم بالنسبة للحالة السورية في المدى المنظور.. من الزوايا القانونية
والضمانات من زاوية القضاء ودوره من زاوية مستوى الحركة وفعاليتها في المجتمع.. من
زاوية دور الدولة.
ثالثاً: مقاربة في مهمات العمل الوطني (تعالوا إلى خطوة عملية واحدة):
لقد فنينا جزءاً من أرواحنا سابقاً في نقاشات حول البرنامج والمهمات.. التناقضات
والصراعات.. وسائل وأشكال النضال.. خاصة في المعتقل.. ولابد أننا سنفني أجزاء أخرى
حول الاستراتيجي والانتقالي المهمة المركزية والأساسية المطروحة على التنفيذ
المباشر أو التي تستغرق مرحلة كاملة وترتبط بها بقية المهمات.. وإمكانية الانتقال
في مواقع المهمات بين المركزية والمباشرة ودور الناس في إنجازها... شعباً أو طبقات
أو فئات... كما دور النخبة في استنباط المهمات والتبشير بها... ونقل الوعي إلى
الناس.... إلى الشعب.
والعلاقة بين المهمة الديمقراطية والمسألة الوطنية.... والمسألة المعيشية
والاقتصاد.... الخ، متى يصبح المجتمع أو فئات منه جاهزة للصراع السلمي الديمقراطي
وأية قوى تؤثر بها وتشدها إلى ذلك لتنفيذ المهمات المطروحة.
في كل الأحوال وقبل بدء عملية الحوار الشاملة والجادة في كل ذلك خاصة من قبل قوى
المعارضة الديمقراطية، وغدا ذلك ضرورياً وملحاً لاختصار الوقت وعدم إضاعة الجهود في
نقاشات تدور على الذات... وتفرق في مسائل غير حيوية وغير ملموسة... وبعيدة عن
الرئيسيات في المرحلة الانتقالية... قبل ذلك ومعه الآن يجب التأكيد أن أي برنامج...
أي صيغة عمل برنامجية... أية مهمة كبيرة كانت أم صغيرة... تبرز تتضح تتحقق في إطار
معطيات وشروط موضوعية وذاتية أي شروط قائمة ملموسة ومتطورة في المجتمع... وتقوم في
أساس الفعل التناقضي والصراعي لتطور الحركة بنسبتيها وليس بإطلاقيتها... وكل ذلك لا
يتعلق بالرغبة الصرفة أو الإرادة الصرفة لأي طرف... ولا يتعلق عجز القراءة
والاستنباط والتبشير من قبل النخبة السياسية والمثقفة... إنها شروط تقوم بدرجة
أولية من الجاهزية والنضج ثم ترتقي بفعل الصراعات... بفعل دور القوى... والوسائل
التي تستخدمها.
الأمر ليس أمر نصائح أو طرح أحلام أو طرح صيغ خطابية وتقريرية، بل هو أمر تحديد
الشروط الملموسة... وبيان عملي بحالة القوى والعمل على تطويرها في إطار تلك
الشروط...
بالنسبة لي وكما أعتقد هو الأمر على الصعيد الوطني، أو كما يجب أن يتحقق على الصعيد
المفهومي فإن المرحلة الانتقالية غدت محددة بدوافعها وأسبابها... محددة بمحتواها...
بمسارها الخاص.. والدور الأولي للقوى فيها.. خاصة السلطة.. ثم بالدرجة الثانية حالة
قوى المعارضة حياة وفعل الصف الثاني الديمقراطي... برنامجه ودوره ووسائله، وهذا ما
سأحاوله بعد قليل...
لكن اعتبار محتوى المرحلة هو انتقالاً في الجوهر من حالة الديكتاتورية والقمع
والتدخل الشامل للسلطة والدولة... إلى الديمقراطية السياسية الشاملة والرامية لا
يعني أبداً أن المرحلة لا تحتوي... أو ليست ذات محتوى آخر وآخر يتعلق بالميادين
الرئيسية للحياة السورية... بل على العكس تماماً فهناك العديد من المهمات التي يجب
تحديدها والانتباه إلى أهمية موقع كل منها في تطور حركة التناقضات والصراعات وهناك
إمكانية موضوعية وذاتية فعلية لإنجاز أشواط جدية في بعضها، وربما ينجز بعضها
بالكامل قبل انتهاء المرحلة الانتقالية المعنية... ذلك يتوقف كما ذكرت على مستوى
التناقضات... وحركة القوى الفاعلة... واستعداد قوى المجتمع في كل مرة... للصراع
الجاد من أجل مهمة بعينها. قد تكون شيئاً يتعلق بمستوى المعيشة... أو الفساد... أو
في المسألة الوطنية أو حق جزئي من حقوق أقلية قومية. (كحق ثقافي أو حق تجنيس
للأكراد المؤجنبين... الخ)...
أو أية مهمة تفصيلية وما أكثرها في حقل الديمقراطية السياسي... إلغاء قانون قمعي
وضع قانون جزئي ديمقراطي في قضية بعينها ـ تشكيل أحزاب ـ صحافة ـ الخ، مثل ذلك
يفترض الانتباه والمرونة القصوى واللياقة في الحركة.... أما اليافطات والشعارات
الثابتة التي تحل المطلق محل النسبي.. تحل الأكثر بعداً مكان الملموس فإنها ستزيد
من الثمن والكلفة وستخلق التباسات وتعقيدات في مجرى المرحلة...
ومقاربتي هنا لمهمات العمل الوطني بعد هذه المقدمة ستقوم بصورة مكثفة على تعداد
المهمات وميادينها ومواقع أهميتها في المرحلة الانتقالية وترك أهم التفاصيل فيها
للنقاشات الملموسة، والجانب الثاني سيتعلق بوضع القوى الديمقراطية المعارضة إمكانية
وكيفية تحولها إلى مركز قوة فاعل... خطابها ووسائلها وموقفها من الدولة والمجتمع
والمهمات المطروحة...
أولاً ـ في مهمات العمل الوطني:
1 ـ الانتقال الديمقراطي من الحالة الديكتاتورية الشمولية والشرط السوري القائم
حالياً إلى الديمقراطية السياسية الراقية والشاملة... بوسائل النضال الديمقراطي
السلمي العلني حصراً.... مع الرفض المفاهيمي المبدئي والأخلاقي وأي عمل عنيف إرهابي
لأي عمل طائفي أو عصبي متخلف... ترسيخ العمل العلني المحض مهما بدا الثمن الذي يمكن
دفعه باهظاً... لا مستقبل إلا للبرامج والأعمال العلنية السلمية الديمقراطية
الواسعة الانتشار... المحصنة بالمزيد من العلنية...
في ذلك الإطار هناك الكثير من القوانين القمعية... والمشاكل العالقة من المرحلة
الماضية، العديد من المهمات الجزئية التي يجب ويمكن النضال لتحسينها على رأسها:
آ ـ العمل على تطوير الضمانات القانونية والسياسية للمرحلة الانتقالية بشكل خاص،
قرار جمهوري أو قانون من مجلس الشعب (لا مجرد توجيهات وأوامر إدارية) لتقنين العمل
بالطوارئ والأحكام العرفية لحصرها أساساً فيما يتعلق بالصراعات الوطنية الخارجية
والكوارث والحروب الأهلية.
ب ـ العمل الجاد على قفل الملف المتعلق بسجناء الرأي بدءاً من إلغاء الأحكام
والآثار المترتبة عليها والإعادة إلى الأعمال والوظائف ودفع تعويضات وإلغاء الآثار
الأمنية وإطلاق سراح المعتقلين المتبقين... وبقية الملف... ومنه الملف المتعلق
باللاجئين إلى الخارج.
جـ ـ إلغاء المحاكم الاستثنائية وآثار أحكامها السابقة.
د ـ العمل على إصدار مجموعة قوانين تتعلق باستقلالية القضاء ـ الصحافة ـ تشكيل
الأحزاب ـ حق التظاهر والتعبير عن الرأي الخ.
وبعض تفاصيل أخرى يمكن حصرها وترتيب أهميتها بالحوار حولها.
2 ـ طرح حوار شامل لبرنامج إنقاذ اقتصادي يتعلق بجانبين ـ جانب مشروع تنموي وجانب
الحياة المعيشية للشعب وبفئاته وطبقاته لأكثر فقراً.. مشروع تنموي تساهم به لقوى
الاجتماعية القادرة والوطنية فعلياً من زاوية غيرتها على قضايا السوق الوطني، يجب
نشر وعي اقتصادي نظري بذلك الخصوص بتحديد تلك القوى وتحفيزها على الفعل، من داخل
الدولة وخارجها، وإعداد الحالة في المجتمع من أجل ذلك بالحوار أيضاً يجب أن نحدد
المهمات الجزئية في الميدان المعيشي الذي يهم المجتمع الآن ربما أكثر من أي موضوع
آخر السلطة تدرك ذلك وتحاول ضبط مفاعيل هذه المسألة لحضورها وخطورتها.
3 ـ طرح مشروع مصالحة وطنية شاملة.. يعني ميثاق شرف عمل وطني يعني حق الحوار والنقد
الديمقراطي العلني والسلمي، ونبذ العنف والإرهاب وكل مظهر من مظاهر القمع، والتركيز
على العمل الوطني بالقوى الداخلية والنضال لتوفير الجو كي تعبر كل تلاوين المجتمع
وفعالياته عن نفسها في إطار تلك الشروط داخلياً، وخلق جو من الأمان... التخفيف من
حدود إلغاء وآثار الماضي في الصراعات الداخلية من زوايا الثأر والحقد وتحويل الأمر
إلى صراعات ديمقراطية بأساليب راقية.
4 ـ التيقظ التام وتهيئة أفضل الشروط في الصراع مع العدو الصهيوني لتحسين حالة
القوة السورية بكل فعالياتها... لقطع الطريق على أية إمكانية في اختراقات
السيادة.... وتحقيق تلاحم نضالي جدي على الصعيد القومي مع الانتفاضة للمحافظة على
أهم الأهداف الاستراتيجية في المسألة الفلسطينية وقيمتها الفعلية في العمل الوطني
السوري، كما التعبئة وتجنيد القوى لاحتمالات صراعات قادمة بخصوص الأهمية
الاستراتيجية للمياه وكل قضايا الصراع المفتوحة مع تركيا واحتمالاتها للمستقبل.
5 ـ نشر ثقافة وحدة وطنية اندماجية في المجتمع السوري عبر المطالبة بالتطوير
الديمقراطي... ونبذ أي ثقافة عصبوية متخلفة خاصة مثل شروط الشحن الطائفي وآثارها
القائمة...
6 ـ الاهتمام الجاد بالمسألة القومية الثانية في الوطن (الشعب الكردي) بدون ذلك
سيصبح أي إنجاز ديمقراطي ناقص مبتور ومهدد... يل سيتهدد النسيج الوطني نفسه.. وهناك
العديد مثل المطالب الجزئية الخاصة بالأقلية المعنية التي ستزيد من اللحمة الوطنية
وستجعل أي طرح ديمقراطي ووطني سوري من جهة الأكثرية الحاكمة (القومية العربية)
سيجعله صادقاً أخلاقياً لا نفاق فيه..
7 ـ العمل والتحريض على فتح ملف الفساد على مداه داخل السلطة ـ الدولة مع مشاركة
المجتمع وفعالياته به ـ ليكون شفافاً وجاداً ولا أعتقد أن هناك أية عقبة في ذلك إلا
إذا أرادت قمة الهرم السلطوي الاعتماد على نفس القوى الاجتماعية ونفس المؤسسات
الفاسدة بدون أي تطهير ـ إن محاربة جادة للفساد ستخلق جواً من الارتياح الشعبي
وجواً من الثقة بآفاق التطور واحتمالاته.
ثانياً ـ تعالوا إلى خطوط عملية واحدة على الأقل:
بدون قوة فعل ديمقراطي وطني سلمي... بدون منطق وعقل جدين خاصين بذلك... بدون قطب
آخر في المجتمع قادر على نشر وعي مبدئي وأخلاقي ديمقراطي ووطني شامل ومتماسك
وفعال... فإن مسار الانتقال الديمقراطي سيأتي في الحالة الأكثر سوءاً وكلفة... بدون
قطب مدرك لتعقيدات المرحلة واشتراطاتها ومتطلباتها ربما تحصل بعض انتكاسات في مجرى
التطور والانتقال...
وعلى اعتبار الأمر بالنسبة لي ليس أمر يافطات وحلم ومجرد نشرة دعاوى من مثل فليضرب
الجميع المتضرورون في الميدان السياسي.. فلنضع جبهة من أقصى اليمين وإلى أقصى
اليسار من أجل الديمقراطية، فلنناضل لتحقيق المجتمع المدني... لنناضل من أجل ائتلاف
واسع ومرن أيديولوجياً وسياسياً.. بل على اعتباره أمراً ملموساً قابلاً للتحقيق في
البدء والتطور لاحقاً، فلابد من العمل الجاد أولاً على تشكيل مركز قوة ديمقراطي
سلمي علني استقطابي من القوى الديمقراطية السياسية التي تلقت القمع على مدى طويل..
ومن الفعاليات السياسية والثقافية الجديدة خلال العام الفائت، على قدر تبلورها
ووجودها.. لابد من تشكيل هيئة عمل ديمقراطي من أكثر الأشخاص تحصيناً وجرأة
واستعداداً للعمل الوطني السلمي المسؤول من تلك القوى والفعاليات.. بميثاق عمل شرف
وطني تطرحه... على كامل المجتمع والسلطة... وتعمل على نشر ثقافته هيئة ديمقراطية
بكل معنى الكلمة بعيدة عن كامل ملابسات العمل الوطني القديم... بعيدة عن كل الآثار
المترسبة من زوايا الإلغاء والاستبعاد والاتهام والتشكيك...ووضع مواثيق وأنظمة
داخلية على أساس المصالح الضيقة والمواقف المسبقة والتي لن تكون في هذه الحالة إلاّ
وجهاً قمعياً آخراً للقمع السلطوي مهما قدمت بالخطاب المعسول.. هيئة لا وجود لأي
مفاهيم بيروقراطية متخلفة فيها بل... مفاهيم للعمل الجماعي الراقي والمتطور...
تبدأ الهيئة باجتماعات تداولية واسعة يجري الحوار فيها حول المرحلة الانتقالية
وآفاقها والوسائل.. وحول الهيئة وضرورتها... الميثاق الذي ستطرحه على المجتمع
والدولة... وميثاقها الخاص ليتبلور الأمر سريعاً إلى القطب المعني وتحديد اسمه
ومهامه.
تبدأ المداولات بدعوة إلى القوى التالية: (التجمع الوطني الديمقراطي بقواه الفعلية
الشخصيات داخله ـ وحزب العمل الشيوعي وفعاليات ما أسمي بالمجتمع المدني وفعاليات
منظمات حقوق الإنسان.. والقوى الديمقراطية الكردية... وحضور القوى الفلسطينية
الديمقراطية كفاعلة إن شاءت أو مراقبة)، للاجتماع العلني السلمي والتداول بالأمر،
مع الحق الطبيعي لحضور أي طرف كمراقب بكل ما يعنيه مفهوم المراقبة على رأسها
السلطة.
ثم تحدد المداولات كل التفاصيل بهذا القطب أو القوة أو الهيئة خاصة من الوسائل
الإعلامية والثقافية التي ستستخدمها... وبرنامجها المكثف في كل ميدان من ميادين
العمل الوطني..
ـ غاية الدعوة والاجتماع والتداول وتشكيل الهيئة وبرنامجها: المشاركة الجادة
المبدئية والأخلاقية بأعلى حس من المسؤولية الوطنية بأرقى الأشكال الديمقراطية
التنافسية حتى حدود إحراج السلطة في ورشة العمل والتطوير الديمقراطي للمرحلة
الانتقالية...
كل ذلك لا يتناقض أبداً على الرغم من أهميته وأولويته وضرورته لا يتناقض مع ضرورات
العمل الحزبي المنظم الخاص.. مع ضرورة المراجعات الذاتية للتجارب السابقة ـ تحسين
شروطها الذاتية والتركيز فيها على الاستنهاض أو عمليات الاندماج المفتوحة بشكل خاص
داخل صفوف اليسار... ومثل ذلك شيء ضروري لنعطي الانتقال الديمقراطي باتجاهه العام
وتفاصيله الرئيسية محتوى خاص من منظور القوى الطبقية الشعبية الفقيرة ذلك كي لا
يتحول في المحصلة إلى عمل بالنيابة عن الرأسمالية... وفي صالحها... وفي صالح شروطها
الأقوى... بل علينا العمل لنعطي الديمقراطية السياسية التي نناضل من أجلها بعداً
اجتماعياً من منظور برنامج اليسار... ولقد تقدمت بورقة عمل خاصة بتجربتنا...
والموقف المطلوب عموماً في صف اليسار...و على هذا الصعيد يجب ويمكن عمل الكثير كما
هو مفترض... يجب تجاوز دروس الماضي السلبية وفتح حوار مباشر بين التجمع وحزب العمل
وقوى اليسار الكردية للعمل على برنامج حد أدنى لليسار.. والاتفاق على برنامج مشترك
في إطار مهمات العمل الوطني.
رابعاً ـ ملاحظات إضافية جديدة عل حوارات إضافية:
هي ملاحظات عديدة مكثفة وسريعة للمزيد من الوضوح في وجهة النظر هذه.
آ ـ حول قضايا المجتمع المدني:
1 ـ ليس صحيحاً أبداً أن المجتمع المدني والديمقراطية هما وجهان لعملة واحدة، ليس
صحيحاً ذلك ونحن نناضل لتكوين منظمات وهيئات وجمعيات مجتمع مدني لتشكل قوة ضد
الديكتاتورية والقمع وليس صحيحاً حتى بعد انتصار الديمقراطية السياسية... إذ في كل
الأحوال الديمقراطية كمفهوم وكقيمة أخلاقية ومبدئية وما تعنيه في شكل الحكم السياسي
ووسائل الدولة والمجتمع هي أكثر شمولاً وغنىً واتساعاً من مفهوم المجتمع المدني
وأكثر رقياً أيضاً بل تستوعبه... وطرح تلك المساواة يخلق التباساً وتشويشاً.
2 ـ من الطبيعي أن نستورد المفاهيم عندما لا ننتجها.. على الرغم من قسوة مفهوم
استيراد هنا لكن ليس من الطبيعي أبداً نسيان شروط إنتاج المفاهيم التاريخية...
الاجتماعية والسياسة وليس من الطبيعي أن ندافع عن الأمر بعيداً عن إمكانية وجود
تشويش والتباسات، بل اعتبار ه شيئاً صافياً مجرداً، منطقياً، هكذا ثقافة مبدئية
قابلة للانتشار في كل زمان ومكان خاصة عندما تأتي في سياقات معقدة من تطور العولمة
وتترافق بمصالح عليا للرأسمالية ليس بشيء في صالح الشعوب.
ففي بعض وجوه العولمة الأكثر سوءاً وسلبية محاولتها تزوير القوى السياسية دولاً
كانت أم أحزاباً، محاولتها إضعاف النشاط السياسي بالتالي فيما يتعلق باتجاهاته
الفاعلة ضدها محاولتها توزيع العمل السياسي إن كان لابد منه على وحدات بعيدة عن
المنطق الاجتماعي الطبيعي أو الفئوي ليشكل قاعدته ودعامة له في النضال ضد
الرأسمالية.
بذلك يصبح المفهوم ببعض وجوهه شاهد زور على ديمقراطية تعاني من النقص مشوهة أو
موجهة في صالح قوى تبحث عن التأييد إنها قوى الرأسمالية.
من الطبيعي أن يكون المفهوم ملتبساً لأنه حصيلة شروط وصراع سياسي متحرك ـ كما جاء
في إطار توظيف سياسي ـ وهكذا يمكن أن يخطئ المثقفون وتخطئ النخبة السياسية عندما لا
تفصل بصورة ناضجة القيمة المبدئية في المفهوم والقيمة الأخلاقية المعاصرة عن
التوظيف السلبي وهي تخطئ بالتأكيد بالمعنى الثقافي مرات عدة ـ مرة عندما تعتبر
الأمر إنتاجها فيما هو نتاج مختلف وتخطئ مرة أخرى عندما تعتقد أن مفاهيمها وثقافتها
ستعمم في المجتمع الطبقات والفئات أو في كل منها بصورة نمطية واحدة... إن صراع
الهيمنة الثقافي وكسب المواقع في المجتمع يحتاج لتطوير المفهوم البسيط للمجتمع
المدني إلى مفهوم الأداة والعقل الاجتماعي العامل على هيئة حزب بخلفية طبقة أو
اجتماعية لإضعاف جوانب التزوير والتوظيف السلبي ليكون الأمر فاعلاً حقيقة في
الميدان السياسي المركزي وخوفاً من انفلات الناس في بحثهم عن الهيئات المستقلة عن
الدولة وانفلاتهم وانشدادهم كل العصبيات المختلفة التي ستساهم في المزيد من التخريب
وتمزيق وحدة المجتمع.
3 ـ هل القصة بكاملها في سورية من قبل مجموعة من النخبة في البداية عند التفكير
بجمعية أصدقاء المجتمع المدني وصولاً إلى كل المسميات الأخرى مروراً بكل من يعتبر
نفسه داعية مجتمع مدني، واختار الأمر طريقاً للنضال... هل القصة تلك معروفة
للجميع... كيف ولماذا انطلق المصطلح؟. هل كانت المجموعة الأولى متفقة على معناه
والملابسات التي قد يخلقها أم انطلق هكذا لسبب أو مجموعة أسباب غاياتها مختلفة
متنوعة بعضها نفعي وبعضها يرغب بخلق دلالات خاصة وبعضها باتجاه مفهوم دلالي على
تجمع أو فعالية أو حزب جديد محتمل للمستقبل أو بعضها درءاً لردود فعل سلطوي محتملة
في حال استخدام مصطلحات أخرى كالديمقراطية ومشتقاته... أو مصطلحات توحي بالاقتراب
من مركز الفعل السياسي....اسمعوا القصة من أصحابها لتقدروا لاحقاً حماس البعض في أن
يكون داعية مجتمع مدني وأن يقصر نشاطه على برنامج محدد أو أن يدافع عن كل ذلك
الالتباس...
من البديهي تماماً أنه من حق أي أحد أن يختار أي مصطلح دلالي لعمل سياسي... لحزب أو
تجمع أو نشاط شخصي دعاوي أو أيديولوجي.. لكن إن كانت المفاهيم الديمقراطية تستوعب
ذلك وإن كانت الأحزاب القائمة بميولها المختلفة تستوعب ذلك النشاط أيضاً تصبح دوافع
الأمر غير واضحة ولا تمثل شيئاً جديداً بديلاً عن القديم قادراً على استيعابه بل
ربما سيخلق تشويشاً كما حصل وربما يخلق المزيد من التفكك والتناقضات في الصف
الوطني.
4 ـ كل ما ذكرناه لا ينفي أبداً ضرورة النضال والتركيز على خلق مؤسسات ومنظمات
وجمعيات مستقلة عن الدولة.. وأن نوجهها أساساً إلى الميدان السياسي.. لتكون بمثابة
القوة الفاعلة إلى جانب قوى أخرى في تطوير مرحلة الانتقال وإيقاع الهزيمة
بالديكتاتورية ومرتكزاتها.
5 ـ بمقارنة واعية تفصيلية في المجتمع الغربي حيث نشأ المفهوم وأنتج ومجتمعنا ـ في
قضايا الأمة والدولة ومستوى تطورهما والمثقفين ـ والمجتمع المدني الوسيط لكبح
الدولة وتخفيف قمعها وضغوطها وتطوير العمل الديمقراطي الذي قام أساساً وغدا ناضجاً
في الجوهر، أليست الفروق كبيرة إلى درجة ستخلق الالتباس والتشويش، إن لم يعد إنتاج
المفهوم بكل المعاني المتعلقة بالميدان النظري وخاصة ميدان الممارسة.. وعلى اعتبار
أننا في سورية نناضل للانتقال الديمقراطي من حالة ديكتاتورية شمولية للدولة دور
أساسي وحاسم في ذلك الانتقال... مع اعتبارات أخرى أليس التركيز على العمل الحزبي
كأداة أساسية ومن التركيز على المنظمات والهيئات المختلفة الميادين المستقلة عن
الدولة... أليس هو الترتيب الصحيح للأولويات...
6 ـ وبمراقبة مدققة لنتاج فعاليات ما أسمي بالمجتمع المدني في سورية أليست تعبيراً
واضحاً عن تاريخ سورية الخاص في ضرورات العمل الحزبي المنظم وضعف العمل الديمقراطي
المستقل... ضعف المنظمات والهيئات المستقلة أليس خطاب تلك الفعاليات العام
والتفصيلي عبارة عن خليط من الأشخاص (على الرغم من قلتهم) الذين ينتمون أساساً إلى
أطر سياسية أو كانوا بها سابقاً أو يفكرون جدياً ببناء تنظيمات (بالتغاضي الآن عن
مبرر وجودها أم لا) أليست خطوة النائب رياض سيف بطرح الحوار حول حركة السلم
الاجتماعي وبعض الخلافات التي ظهرت في وسط نخبة المجتمع المدني هي دليل على ذلك؟.
وهل صحيح أن السلطة وأدواتها وأقلامها المأجورة قد انزعجت بحكم صحة المفهوم قد
تضايقت بسبب محتواه وخطورته عليها، أم بسبب المحتوى الفعلي للخطاب الذي راج هو خطاب
سياسي أقرب ما يمكن إلى خطاب الأحزاب المنظمة... ومخطئ من يعتقد أن السلطة أو
الدولة قد تنزعج من المفهوم بمعناه العام والمبسط خاصة عندما يبتعد الناس عن العمل
بالسياسة عن التركيز على السلطة الديكتاتورية وينظمون أنفسهم على هيئة جمعيات تهتم
بشؤونها الاجتماعية والاقتصادية بعيداً عن الدولة... سيكون ذلك هو الاتجاه الذي
ستروج له السلطة مستقبلاً بشرط ابتعاده عن مركز الفعل السياسي...
وستشجع عليه لأنه يخلق وهماً ديمقراطياً وسيذرر المجتمع حتى ولو أدى ذلك إلى
الاندفاع نحو أمان العصبيات المتخلفة في وجه قوة الدولة... وبالمناسبة هناك الآن في
المجتمع العديد من مظاهر التشارك الباحث عن الأمان وعلى أرضية عصبيات متخلفة مثل:
صناديق الأسر، والجمعيات الخيرية وبعض النوادي والمجالس العشيرية... الخ.
7 ـ بربكم إن كانت الأحزاب الديمقراطية الوطنية أحزاباً ضعيفة التأثير ـ أحزاباً
للنخبة ـ أحزاباً للأقليات في اليسار ـ فيكف ستكون منظمات وهيئات وجمعيات المجتمع
المدني الآن وللمستقبل ألن يكون ذلك أكثر وضوحاً ألن تمتد وتساهم في تنشيط العصبيات
المتخلفة وتفتح الباب أمام المزيد من ضعف الاندماج الوطني خاصة وبالضبط قبل
الانتصار الديمقراطي السياسي خاصة إن كانت في مواجهة الأحزاب السياسية أو بدون
برنامج سياسي مركزي أو بعيدة عن الفعل السياسي أو تدير ظهرها للسياسة.
8 ـ هل صحيح كما يقول الرفيق أصلان أو يمكن الجمع بين هذه الأشياء التي يقولها:
هناك مسألة متعلقة بالمجتمع المدني بصفته صيغة عمل قسرية علينا أن نعترف بذلك، نحن
نقول أن الوضع القائم الآن في سورية وفي كثير من البلدان المشابهة وخاصة في بلدان
أوربا الشرقية، ألجأ المثقفين ألجأ الساسة الذين لا يستطيعون أن يعملوا في حزب
سياسي (لأنه يمكن أن يقسم ظهر هذا الحزب من قبل الأنظمة الشمولية)، ألجاؤوهم إلى
الاختيار وراء الثقافة وراء الاجتماع وراء الأدب والفن والفكر، إذ من جهة هو صيغة
عمل قسري يُجبر الناس عليها لكنها من جهة ثانية هي صيغة اختيار حقاً يعني أنها ليست
قسراً فقط... إذ ثمة وعي عام يتقدم إيجابياً يعيد النظر في مفاهيمه وأدواته وآليات
تفكيره القديمة ويعيد الاعتبار للإنسان حقوقه حياته كرامته حريته.. الخ.
ويقول: إذن مادام الأمر كذلك علينا أن نكون يقظين تمام اليقظة وأن ندمج بين عملنا
في مؤسسات المجتمع المدني أو بين عملنا في السياسة كحقل نوعي خاص.. وأن نأخذ بعين
الاعتبار أهداف العولمة فيما يتعلق بالسياسة والمجتمع المدني وأن نتعاطى معها بعقل
نقدي مفتوح كي نستطيع فعلاً الإمساك بلغتنا.
ويقول: بصريح العبارة العمل هو ائتلاف جبهة موضوعية أو تنظيمية، وينبغي تركيز
الجهود بالضبط بالحلقة السياسية حصراً وضمن هذه الحلقة في نقطة محددة هي
الديمقراطية.
هل سأل نفسه الرفيق متى بدأ العمل بمصطلح المجتمع المدني ومحاولة تشكيل جمعية أو
منظمة بدلالاته..؟ لما يسأل... لقد بدأ ذلك مع الاسترخاء وتطور الشعور بالأمان
السياسي وضعف الخوف تجاه قضايا القمع الجسدي في سورية أي بعد وفاة الرئيس وما لم
يكن الأمر أبداً محاولة تكتيكية من المثقفين والساسة الهاربين خوفاً من السلطة بسبب
خطورة العمل في تنظيمات سياسية... لقد بدأ ذلك مع ارتقاء السقف السياسي في سورية
ولا يزال.
وهل سأل نفسه إلى أي درجة كان ذلك الخطاب والفعل السياسي مشابهاً لتاريخ سورية مع
عمل الأحزاب ودورهاً..
وكيف يهرب المثقفون والساسة إلى ميدان أقل خطورة ودور فعل السلطة عليه اضعف فيما
يطالب بكل قوة (وأوفقه بالطبع) بضرورة التركيز على الحلقة السياسية وهل حقاً
بالنسبة له ولغيره هناك اختيار جديد نوعي يعيد الاعتبار للإنسان.
ألا يمكن القيام بكل ذلك في الأحزاب القائمة، ما هذا التناقض الموضوع بين صيغ
الأحزاب وإمكانية تطويرها والادعاء أن هناك صيغاً جديدة أكثر رقياً من الزاوية
الإنسانية والأخلاقية المعاصرة (كمفهوم المجتمع المدني).
هل يوجد حزب ديمقراطي معاصر بدون موقف ناضج ومطلق من قضايا حقوق الإنسان
والديمقراطية المتطورة وحق الناس بإنشاء مجتمع مدني متطور للوقوف في وجه غرائز
الدولة لمد نفوذها وتطويره بالقمع لو سُمح لها.
وأخيراً أريد أن أسأل الرفيق أصلان إن كانت مطالبته بجمع التناقضات الغريبة في
سورية، الوطني واللاوطني الديني والعلماني.. الديمقراطي... وهل ذلك يشمل السلطة
أيضاً على أرضية مصالحة وطنية عامة أم تجب إدارة الظهر لها على الرغم من أهميتها
ودورها الكبير والحاسم في سياق المرحلة الانتقالية.
9 ـ هناك عدداً من الأسئلة يجب الانتهاء منها بعد الآن من مثل:
1 ـ هل حسمنا حكاية العمل العلني كشكل رئيسي أو حاسم في النضال الديمقراطي.
2 ـ هل نحدد بصدد إسقاط السلطة أم تغيير طابعها بدحره تدريجياً بالنضال الديمقراطي
العلني السلمي الذي يرفض أي عنف.
3 ـ هل يجب التسامح في الماضي من حيث الجوهر وفتح صفحة جديدة في إطار ميثاق شرف عمل
وطني وإطار مصالحة وطنية مختلفة جذرياً عن الوجود في صف السلطة أو صف الحركة
الدينية بل هي خلق شيء من الحوار العلني والديمقراطي ـ خلق جو من الأمان.
حول الحزب: أريد قول بعض الأشياء المكثفة جداً:
لا أعتقد أن من المفيد إضاعة الوقت بعد الآن بمثل الطروحات التي نسمعها ونتداول
معها. أو بحرتقات مثل الماركسية الصافية أو الثورية، بدونها لا يمكن أن يكون هناك
حزباً يسارياً أو بحجج الجديد المعاصر.. بحجج تطليق القديم المترهل الميت.
ما سجلته في مداخلتي الماضية لا يزال يمثل قناعتي بعمق ولا يزال تاريخ سورية
وضرورات العمل السياسي الفعال فيها... تتطلب استنهاض تجربتنا والارتقاء بعدد من
الخطوات التي تأخرت تحت ضغط عدد من الحسابات مثل: ألاّ نبدو متحزبين متعصبين.. ألا
نسرع في تأطير ذاتنا... أن نركز على العام في وسط اليسار... على التحالف والاندماج
.... الخ.
وحسابات الشرط السوري يسمح أو لا يسمح بالعمل الحزبي.. لقد تأخرنا قليلاً إذ ظهرت
كل الاشتراطات واضحة... والحسابات المعنية لم يعدلها معنى فهناك من يسعى لإلغائنا
يسعى لتشويه سمعتنا وتاريخنا وطمسه وهو قمع من طراز نعرفه في إطار ملابسات العمل
الوطني.. إن استنهاض تجربتنا لا يعيقنا أبداً عن المراجعة الجدية الشاملة عن طرح
الأشياء الجديدة في كل شيء يتطلب ذلك ولا يعيقنا أبداً عن طرح مبادرات جادة وجريئة
مع قوى اليسار الأخرى لا للتحالف فحسب... وهو شيء غدا متخلفاً الآن... بل حتى الدمج
والاندماج في إطار شروط عمل محتواه ديمقراطي ويساري فعلي، وأعتقد أنه حان الوقت
للإقلال من الكلام... لتخفيف الجانب النظري... حان لخطوة عملية واحدة إن كان في
إطار قوى المعارضة الديمقراطية أو في داخل أي تنظيم يرى ضرورة الاستنهاض.
وشكراً
فاتح محمد جاموس
4/8/2001منتدى اليسار للحوار
-10 -