أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد حسين النجم - قراءة في كتاب ( اعترافات الغزالي )















المزيد.....


قراءة في كتاب ( اعترافات الغزالي )


محمد حسين النجم
استاذ جامعي / باحث اكاديمي

(Mohammed H. Alnajim)


الحوار المتمدن-العدد: 8066 - 2024 / 8 / 11 - 14:25
المحور: سيرة ذاتية
    


ضمن سلسلة خلاصة الفكر الاسلامي التي صدرت في اربعينيات القرن الماضي عن دار التاليف والترجمة والنشر بالقاهرة صدر كتاب ( اعترافات الغزالي او كيف ارخ الغزالي لنفسه ) للدكتور عبد الدايم ابو العطا البقري . باعتقادي انه كتاب جرئ ان يصدر في تلك الفترة الملتهبة على وقع طبول الحرب العالمية الثانية , الا انه , باعتقادي ايضا , كان جريئا بفعل هذه الحرب , التي اشغلت العالمين بالقلق والخوف على حياتهم ومستقبلهم , وهو ما يختلف عن ما حدث قبل ذلك بعشرين سنة , كما يحدثنا الدكتور زكي مبارك في مقدمته للكتاب حيث يقول بانه عندما كتب اطروحته حيث اثارت بعض العبارات فيها الجمهور في ساعات الامتحان سنة 1924 والتي عدوها تجاوزا على ابي حامد , كما ان صدور كتابه ( الاخلاق عند الغزالي ) وما اثارته الصحف والمجلات من ثورة ضده تنقلت في البلاد العربية جعلت جماعة من علماء بغداد , حين كان ضيفا فيها عام 1938 , اخبروه بان هجومه على الغزالي يصدهم صدا عن التسليم عليه , وبعد اربع سنوات فقط ياتي كتاب اعترافات الغزالي .
وكتاب اعترافات الغزالي , محور عرضنا , يتناول بالنقد والتشريح اهم عمل في السيرة الذاتية كتبه مسلم يشرح فيه مساره الفكري وتقلباته المعرفية وصولا الى التصوف الذي التزمه اخريات حياته , هذا العمل هو (المنقذ من الضلال والموصل الى ذي العزة والجلال ) للامام ابي حامد الغزالي .
وجرأة الكتاب تنبع من كونه قد وقف بالضد من جملة من الباحثين على راسهم قبيل من المستشرقين الذين أمنوا بمصداقية ما يرويه الغزالي من سيرته ليؤكد ان ما اورده ليس سوى حكاية تمنى الغزالي ان يكون بطلها , تحتوي على بعض ما يتعلق بمسار حياته ممزوجا بجملة من الادعاءات غير الحقيقية ولكنها متمناة .
الكتاب يتكون من سبعة ابواب مع مقدمة ( كتبها د.زكي مبارك ) , وتعريف او جواب وسؤال يتناول سيرة مختصرة لابي حامد .
في ابوابه السبعة يحاول الاجابة عن جملة من الاسئلة مثل :
كيف ارخ الغزالي لنفسه ؟
لماذا ترك التدريس بنظامية بغداد؟ وبعد عشر سنوات أو تزيد رجع للتدريس في نظامية نيسابور ؟
لماذا ترك العراق واختلى بالشام عشر سنين او تزيد ثم رجع الى العراق ثانية ؟
لماذا حمل على الفلسفه وسفه المتفلسفين؟
لماذا ناهض الباطنية وكتب ضد التعليمية؟
يقول الغزالي( طلبنا العلم لغير الله فابى ان يكون إلا لله) فهل كان قوله حقا وصدقا؟ او الحق والصدق انه طلب العلم لغير الله وظل ينشره ويطلبه لغير الله كما بدأه؟ ويقول :
الإجابة عن هذه الأسئلة سيقصها علينا الغزالي نفسه في كتابه الذي كتبه في الأيام الأخيرة من سنه 499 هجري او الايام الاولى من السنة اللاحقة .
يعنون المؤلف ابواب كتابه , الاول ( لماذا الف الغزالي المنقذ من الضلال ؟ او لماذا قدم الينا اعترافاته ؟ ) ليناقش في الباب الثاني ( الشك بين الغزالي وديكارت ) والباب الثالث عنونه ( كيف بحث الغزالي عن الحق ؟ وكيف نقد علم الكلام وزيفه ؟ ) والرابع يتناول ( دراسة الغزالي الفلسفة , وتسفيهه المتفلسفين ) , اما الخامس فهو ( مجادلة الغزالي مذهب التعليمية ) والسادس ( الغزالي والصوفية ) ويختم كتابه بالباب السابع الذي عنونه ( اعتذاران ) . وسوف نحاول عرض الابواب الخمسة الاولى .
يقول الغزالي بأنه كتب كتابه لان احدهم سأله , ويتسائل الكاتب فهل ساله احدهم فعلا او افترض ان احدهم ساله ؟ . ويستنتج من ذلك ان هذا يدل على وجود غموض في تطوره الفكري وسيره العلمي يحتاج الى شئ من تصويب وايضاح يريد كشفه حتى يرد على ما وجه إليه من نقد .
يسترسل الكاتب في تتبع مسار حياة الغزالي , كما رواه في المنقذ , وما شاب اعتزاله وتركه التدريس في نظامية بغداد لمدة عشر سنين لاسباب منكرة يذكرها ثم العودة الى التدريس في نيسابور للمواد نفسها كانت من الاسباب التي دفعت الغزالي لان يسجل اعترافاته مبررا ومدافعا .
يقول الغزالي بانه من المراهقة الى الان , اي من قبل العشرين الى الخمسين من عمره هو في حرب وجلاد ,يتقحم بحار العلوم ويخوض غمارها : فقرأ للباطنية , و ناقش الظاهرية وناضل الفلاسفة واتى على كلام المتكلمين وحرص على تعرف أسرار المتصوفين
لماذا كل هذا؟
يقول انه يريد ان يميز بين المحق والمبطل وبين المتسنن والمبتدع , وبأن التعطش الى ادرك الحقائق ( حقائق الامور ) دأبه وديدنه غريزة وفطرة وضعتا من الله في جبلته فليس له فيه حيلة واختيار.
ويقول بانه اذ رأى ان كل مولود يولد على الفطرة وابواه يهودانه او يمجسانه انحلت عنده عقدة التقليد وسعى للبحث عن الفطرة السليمة بدون تلقين . وهكذا حدد ابو حامد الحقيقة بانها العلم اليقين الذي حده ( إن العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافا لا يبقى معه ريب , ولا يقرب منه غلط او وهم ) وبناء عليه يقرر:
ان كل الحقائق التي لا يعلمها على هذا النحو من اليقين هي حقائق لا ثقة فيها ولا امان معها , اذن فهي ليست العلم اليقين .
وإذ حدد العلم اليقيني أخذ يفتش عن العلوم التي لها هذه الصفة فبدأ بالحسيات والضروريات :
1 - الحسيات هل يمكن الشك بها؟ الا يمكن ان تكون مثلها مثل التقليديات سواء بسواء وهي التي طرحها ظاهريا ؟ من هنا تامل اقوى حاسة من الحواس وهو البصر , يقول الظل نراه واقفا وهو يتحرك , ونرى الكوكب صغيرا بينما هو كبير , يقول بان الحسيات هنا كذبها حاكم العقل , اذن هنا حاكم العقل استطاع أن يبطل الثقة بالحواس .
2 - العقليات وهي المؤسسة على الأوليات كقولنا العشرة اكثر من الثلاثة , والنفي والإثبات لا يجتمعان , ولكن : الا يمكن ان يكون هناك من يكذب العقليات كما كذبت الحسيات ؟ يقول بان الثقة بالحسيات انهارت لوجود حاكم العقل , فمن يدرينا لعل ثمة حاكم اعلى من العقل يحكم ببطلانه مثلما بطلت الحسيات . ويقول الغزالي ان الاحلام زادته شكا على شك لانه بماذا يأمن وجود حالة ( افترضها هو ) تحيل مارآه في اليقظة ضلالا , كما احالت اليقظة ما رآه في المنام خيالا ؟ وهكذا
يسائل الغزالي نفسه: بم تامن ان تكون هناك حالة نسبتها الى يقظتك كنسبة يقظتك الى منامك ,وتكون يقظتك نوما بالنسبة لها , وعلى ذلك فكل ما تعتقده في يقظتك بحس او بعقل هو حق بالاضافة الى حالتك الان , اما لو عرضت لك تلك الحالة لتيقنت ان جميع ما توهمته بعقلك هو خيالات لا اصل لها , وهنا يفرض الغزالي ان تلك الحالة :
أ - اما حالة جذب كما هي عند الصوفية الذين يدعون رؤية أشياء لا تتوافق مع العقل
ب - او حالة موت . الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا .
اجتاحه الشك وبقي شهران على مذهب السفسطة , بعد الشهرين شفاه الله من ذلك المرض , وعادت النفس الى الصحة والاعتدال , ورجعت الأوليات العقلية والضروريات .
كيف شفي؟
( لم يكن ذلك بنظم دليل , وترتيب كلام , بل بنور قذفه الله في قلبه)( ذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف )
ويصف هذا النور بأنه ( يقذفه الله في القلب وعلامته التجافي عن دار الغرور والإنابة الى دار الخلود ) , ذلك النور يجب الترصد له( فان لربكم في ايام دهركم نفحات , الا فتعرضوا لها) ( من ذلك النور يجب ان يطلب الكشف ويرتجى العلم اليقيني وتفتقد الحقيقة والمعرفة )
***
لماذا أورد الغزالي حكاية شكه في المنقذ ؟ لان طريق المفكرين ونهج العلماء الاحرار هو عدم التقيد باراء السابقين , اللهم الا ما وافق ارائهم وحينئذ يعتنقونها , لا على انهم لها مقلدون , بل لانهم لما فيها موافقون , فكانهم لها مبتكرون .
يريد أن يدلل على جهده الفكري الذي دفعه لأن يبحث بالعلوم , فتدرج من حجج المتكلمين الى تعاليم التعليمية اي الباطنية ومن اراء الفلاسفة الى لمحات الصوفية فهو لم يقلد أحدا بل لاذ بالمعرفة واليقين بعد جهد, فقد كان عن بحثه الخاص, وتفكيره الشخصي واستقلاله الفكري , فقد طرح كل الحقائق وراء ظهره واحتفر لنفسه طريقا صخريا سار عليه .
ولكن : هل فكرة الشك التي حكاها الغزالي نبتت في نفسه وبزغت في تفكيره ولم ينقلها؟
الغزال يقول انه يعرفها من السفسطائيين كما نجد ذلك في فضائح الباطنية , فالسفسطائيون كذلك شكوا بالضروريات وزعموا أنها خيالات , ولكنه ينقدهم هناك ( ان قول السفسطائيين بالشك في المحسوسات والضروريات يجب ان لا يشككنا فيهما وكذلك النظريات فانها بعد وصولها من المقدمات تبقى ضرورية لا يتمارى فيها كما في الحسيات ) نعم هذه هي مشكلة الحاكم الحسي ومشكلة الحاكم العقلي , اما مشكلة الاحلام فيعتقد الغزالي انها زادته شكا على شك .لماذا ؟ لانه بماذا يأمن وجود حالة ( افترضها هو ) تجعل ما رآه في اليقظة ضلالا , كما احالت اليقظة ما رآه في المنام خيالا ؟ ولكن هذه الحالة الفرضية لابد ان يكون لها اساس ككل الفرضيات تؤسس عليه , ولابد ان يكون لها قياس ينتجها وهدف تتجه اليه .
يبدو ان الغزالي فرض هذه الحالة قياسا على الحاكم العقلي الذي عثر عليه وكذب به الحاكم الحسي , وهكذا افترض امكان ظهور حالة يمكن ان تكذب الحاكم العقلي كذلك . ولكن , هل اساس هذا الافتراض صحيح ؟
الغزالي شك بالحسيات مثل ماهو الحال بالظل الذي يراه واقفا وهو يتحرك , وشكه هذا كان بحاكم عقلي , كما اعتقد , فالحسيات اهتزت بفعل العقل , ولكن هنا لا يوجد حكم عقلي او حاكم فوق حسي , بل هنا حاكم حسي هو تحرك الظل كذّب حاكم حسي هو سكون الظل , اذن هنا حكم حسي خطأ وحكم حسي صواب , وان هناك حاكما حسيا خطّأ حاكما حسيا .
الغزالي اراد التدليل على ان الحسيات وجدت حاكما اعلى منها هو الحاكم العقلي ليكذبها , ومنها انطلق للقول افلا يحتمل ان يكون هناك حاكما اعلى من العقل يكذب العقل ؟ أن الغزالي يسير وفق افتراضات , فهو فرض تلك الحالة قياسا على افتراضه حالة الحاكم العقلي حينما عثر عليه فكذب به الحاكم الحسي , وعلى افتراضه حالة لا وجود لها قد تكذب الحاكم العقلي أيضا . ولاشك ان الركون الى مثل هذه الافتراضات يمكن ان لا ينتهي الى اي يقين , ذلك ان هذا افتراض يمكن ان يوجه الى اية حقيقة في الوجود , ويمكن افتراض حاكم اخر يخطئ الحاكم الذي افترضه حيث يتسلسل افتراض هذا الحاكم الى ما لا نهاية .
ما الذي دفعه لهذه الافتراضات ؟
انه على استعداد لان ياخذ اي فكرة من الفكر شرعية او فلسفية او صوفية او حتى سوفسطائية , كما هنا , متى احس بشبه حاجة لها , ثم يؤيدها بالأدلة ويؤكدها بالبراهين من أي نوع كانت او اسلوب . وجد نفسه بحاجة الى فكرة الشك فاخذها من الأقدمين , واذ استمر الشك عنده شهرين وخرج منه فإن السؤال كيف خرج من الشك ووصل اليقين في المحسوسات والمعقولات ؟
لا يمكن أن يكون بالعلوم الشرعية لأنه نقد التعليمية ورأى أن هذه علوم غير مفيدة , ولا بالكلام وقد نقدهم ولا بالفلسفة وقد سفهها , إذن لم يبق الا التصوف .
لكن التصوف لا صلة له بمحسوس ومعقول فهو لا يعترف بعقل او منطق او فكر أو مقدمات ونتائج , ومع هذا يرتمي باحضانه , كيف ؟ يقول بانه خرج من الشك بنور قذفه الله في قلبه . فكرة جيدة ولكن من اين اتى بها ؟
لقد وجد قولا عند الحارث بن أسد المحاسبي ( أن العقل نور يقذفه الله في القلب , به يستعد الإنسان لإدراك الأشياء) , إذن فهي فكرة يمكنها أن تخرجه من مازق الشك .
الغزالي وديكارت :
ان شك الغزالي يستدعي للذهن الفيلسوف الفرنسي ( رينيه ديكارت ) وشكه , فلو قارنا الغزالي مع ديكارت نلاحظ ان الاخير مر بذات المراحل ووصل الى مسألة الاحلام كذلك , الا انه اتجه بها اتجاها مختلفا , فمع صعوبة أن احدد من منهما الحقيقة , الحلم ام الواقع , الا ان ما نراه في المنام هو شبه او صورة لما نراه في الحقيقة . وعليه فجميع الصور التي نراها في أحلامنا , حتى ولو كانت خيالية , لها اساس بسيط من الحقيقة كبره الوهم وخلق منه انواعا .
في مرحلته الأخيرة يصل ديكارت الى نتيجة انه لا توجد حقيقة ثابتة في هذا العالم , اذ ان كل ما أراه من الاشياء يمكن ان يكون كاذبا , وما دمت قد قمت انا بهذا الفرض شخصيا , فانا اذن موجود وكائن , وما دمت قد فرضت وجودي وكينونتي فاذن انا افكر , اذن انا كائن مفكر.
انا افكر في اشياء لا تعرف الا بالفكر وحده . إذن جميع الأشياء تدرك بالفكر لا بالحواس , اذن يصبح فكري اساس العلم بالأشياء .
نقطة الالتقاء بين الغزالي وديكارت ان الاخير ايضا ادخل الاله في مجريات تفكيره حين قال بانه من الممكن ان يكون لله دخل في اثبات الحقائق او قلبها , أي قد تكون استنتاجاتي صحيحة ويقدرني الله على الخطأ والعكس بالعكس . الا ان الفرق بينهما أن الغزالي جعل الدين هو ميزان الحكم على الحقائق , وهو ما عمله مع المتكلمين والتعليمية والفلاسفة , اما ديكارت فجعل المنطق الارسطي هو الميزان , فهو يعتمد مقدمات ونتائج . لقد اختلف الفيلسوفان في النتائج التي وصلا اليها بسبب البيئة الفكرية التي حددت مسارهما , فديكارت الرياضي اعتاد المسير من المقدمات الى النتائج في حين الغزالي ابعد ما يكون عن هذا المسار , وهو ما اتضح من النتائج التي وصلا اليها . لقد وصل كلاهما الى اليقين , اليقين الديكارتي الذي لاذ بالانطلاق من التفكير لاثبات الوجود , فانا افكر اذن انا موجود , اتفقنا او اختلفنا على سلامة الاستنتاج الا اننا لا نختلف على ان الامر ينطلق من مقدمات الى نتائج وه ما يتوافق مع المنطق , ولكن حين ناتي الى الغزالي نبحث في المقدمات التي اوصلته الى النتائج فلا نجد , فالشك عنده واليقين بينهما هاوية لايمكن ردمها , فلا صلة بين شكه ويقينه , وعليه ماكان ينبغي له ان يشك .
يقول الكاتب ان الغزالي سار اولا سيرة سفسطائية مبنية على المغالطة , كما رايت في مناقشة المحسوسات ,الاوليات , والرؤى ليثبت الشك , مستنجدا بكلام الله او بكلام الرسول , وحين اراد اليقين لجأ الى التصوف .
المحصلة التي يراها الكاتب هي :
ان الغزالي آمن بالفكرة الصوفية وهي ( ان العقل نور يقذفه الله في القلب ) فاراد ان يلبس هذه الفكرة لبوس الفلسفة , فيستلف نظرية الشك السفسطائية , ويصورها , بل ينفخ فيها ليلبسها لبوس الحياة , ثم يرتقها بالافتراضات طورا , وبكلام الرسول طورا اخر, وبقول الله احيانا , واخيرا ياتي بالنظرية الصوفية ليلصقها بها لصقا .
ويرى المؤلف أن الغزالي افترض انه شك لانه علم مما قرا ان هناك نظرية الشك السوفسطائية . وافترض انه وصل الى اليقين لأنه علم مما قرا ان هناك نظرية اليقين الصوفية , فاتى عليهما لا ليؤلف بين اجزائهما ولكن ليمعن في التبعيد بينهما , فيفترض ويحاول جهد المحاولة ليثبت الشك , ويحاول كذلك حتى يثبت اليقين .
ويستنبط المؤلف ما يأتي :
ان الغزالي اضطر لذكر حكاية الشك ليجعلها مقدمة لتاريخ حياته الفكرية , فهو يريد ان يجعل قارئه يؤمن بأنه سار في دراسة و مجادلة المذاهب الفكرية سيرة فلسفية حرة , لذلك شك بكل شيء وما أنقذه من الشك الا ظلال الصوفية , فهو يريد ان يقنعنا بأنه رجل الفكر الحر الذي اطّرح كل شيء إلا الضروريات , فهو اطرح الكلام وتعاليم الباطنية والفلاسفة ودخل بزمرة المتصوفة .
ولانه استند الى الطريقة السفسطائية في إثبات الشك , ولجأ الى التصوف لاثبات اليقين , فهذا يدل على انه قام بتحليل نظرية الشك ونظرية اليقين بعد دراسته للتصوف , مثلما انه درس الكلام والفلاسفة وغيرهم , وهذا خلاف دعواه انه شك في مقتبل حياته وقبل دراسة العلوم .
ان دعاوى الغزالي يضرب بعضها بعضا , فهو يقول بأنه شك في مقتبل حياته ومرض شهرين ثم عادت له الضروريات والمعارف التي شك بها , ولكنه يقول بانه درس العلوم والف بها وهذه تدحض تلك .
ان حالة الشك والخروج منها لابد ان تجعله أكثر دقة في البحث والبعد عن التسليم ببعض الاقاويل الضعيفة , في حين نرى في الأحياء وفي غيره مما كتبه بعد تلك الحادثة انه مملوء بالاراء غير الدقيقة .
كان المفروض ان يكتب لنا الغزالي تفصيلا عن تجربته الفكرية وانتقاله من الشك الى اليقين لكي يسير المتشككون على خطاه , بل انه يصرح بوضوح ( ان المقصود من عرض كل هذه الحكايات ( المناقشات السابقة ) هو ان يعمل كمال الجد في الطلب حتى ينتهي بنا ( هذا الجد ) الى طلب ما لا يطلب , اذن فهو كتب المنقذ ارشادا لطريق الحق , وحضا على طلب المعرفة , .وهو ما لم يفعله . فهو ليس تجربة معاشة , بل ( دليل ) .
الغريب بالامر ان الغزالي يقول بانه بعد ان شافاه الله من مرض الشك فقذف في قلبه باليقين , اخذ في البحث عن الحقيقة فوجد أنها لا تعدو أربعة : المتكلمون , او الباطنية ( أصحاب التعليم ) , او الفلاسفة او الصوفية , فان شذ الحق عنهم فلا يبقى في تركه مطمع. كيف وثق من وجود الحق عند إحداها؟
لماذا قصر البحث في هؤلاء الأربعة ؟ لأنه لا يعرف غيرهم
لماذا آمن بأن الحق لا يعدوهم؟ لانه عرف قبلا ان الحق عند الصوفية , فهو اعتنق الصوفيه ثم اراد ان يعمل مقدمات صورية للاستنتاج .
ولماذا لم يعتقد بوجود الحق عند غيرهم؟
اذن فهو حكم على نفسه بالعجز عن ابتكار أي سبيل للحق غير هؤلاء , فهو اذن مقلد معتصم بالتلقينات .
اعترض الغزالي على علم الكلام لانهم اعتمدوا على مقدمات تسلموها من خصومهم ( التقليد ) , او اجماع الامة او لمجرد انها من الاخبار أو القرآن , ويقول ان هذا قليل النفع في جنب من لا يسلم سوى الضروريات . وهكذا ثار على هذه , ثار على التقليد فهو لم يعتبره مصدرا من مصادر اليقين , وثار على اجماع الامة لانه لم يشف غلته , ولكن :
كيف يثور على كتاب الله وكلام النبي محمد وهو قد قال بانه قد عاد الى اليقين بنور قذفه الله في قلبه , فهل المقدمات التي اعتمدها الكلاميون جاءت من قرآن اخر غير قرآن محمد ( ص )؟ ام هذا الاله الذي استندوا لكتابه اله اخر غير اله القرآن ؟ هذا يدل على أنه قد جافى المتكلمين حتى بالههم ولاذ باله الصوفية , الذي هو ذاته . فهو يتابع الاله الذي يذكره الصوفية , فالامر امر عناد لا اكثر.
اذن اعترافات الغزالي لا تظهر أنه فكر في هذا البحث , ولم يطلب ذلك اليقين الا حين تدوينه تاريخ حياته في المنقذ , ولهذا تناقض وتضارب .
***
ان حال الامام الغزالي بالتعاطي مع الفلسفة ودراستها ربما يختلف اذا ما استطعنا ان نعثر على ما يؤكد انه درس الفلسفة بحثا عن الحقيقة . يقول الغزالي بانه قد علم يقينا بان ما ذكر في كتب المتكلمين من الرد على الفلاسفة , انما هي كلمات معقدة مبددة , ظاهرة التناقض والفساد .
وعلم يقينا , ايضا , انه لن يقف باحث على فساد هذا العلم , الفلسفة , وكذا اي علم اخر , الا اذا حصله وعرف مغاوره تفصيلا وتدقيقا . بعد هذا يقول ( فشمرت عن ساعد الجد في تحصيل ذلك العلم , من الكتب بمجرد المطالعة من غير استعانة باستاذ ) , واذ كان مدرسا في نظامية بغداد فقد كان يطالع كتبها في اوقات مختلسة من وقته المزدحم . ويواصل القول بان الله اطلعه بمجرد المطالعة في هذه الاوقات المختلسة على منتهى علومهم في اقل من سنتين , والنتيجة التي يصل اليها ( امنت انهم مع كثرة اصنافهم , تلزمهم سمة الكفر والالحاد حيث ان الكل مجانب للحق ) . وعلى الرغم من ان هذه التصريحات في المنقذ تكشف الكثير عن حقيقة الاسباب الدافعة لقراءة الفلسفة الا انه يحاول ان يوهمنا بانه في جولته بين علم الكلام والفلسفة انما هو باحث عن الحقيقة بحكم ما وضع في جبلته من تعطش لدرك الحقائق .
ولكن : يقول في مقاصد الفلاسفة ( اني التمست كلاما شافيا في الكشف عن تهافت الفلاسفة, وتناقض ارائهم , فرايت قبل بيان تهافتهم ان اقدم كلاما وجيزا مشتملا على حكاية مقاصدهم .) . ويقول في تهافت الفلاسفة انه درس الفلسفة ليسفهها وينقضها , وانه الفه لهدم افكار الفلاسفة والتشويش عليهم , فهل هذه الاقوال تدلل على نية بحث عن الحقيقة ؟
***
ولم يكن بحثه في التعليمية ( الباطنية ) مختلفا , فهو في المنقذ يحاول ان يشير الى انه كان يامل بالبحث عن الحق عندهم ثم جاءته الاوامر السنية من قبل الخليفة بتاليف كتاب عنهم فكان كتابه ( فضائح الباطنية ) ,الا ان هذه الدعوى تضيع في المقدمة التي كتبها لكتابه التي تبين حقيقة الامر , لنكتفي بايراد اقواله هناك دون تعليق فهي كاشفة : ( فاني لم ازل مدة المقام , بمدينة السلام , متشوقا الى ان اخدم المواقف المقدسة النبوية , الامامية المستظهرية , ضاعف الله جلالها , ومد على طبقات الخلق ظلالها , بتصنيف في علم الدين ) لماذا ؟ (اقضي به شكر النعمة , واقيم به رسم الخدمة ,فاجتني بما اتعاطاه من الكلفة , ثمار القربة والزلفى ) , اذن فهو غرض اخر غير البحث عن الحقيقة , ويقول ( ولكن احتجت الى التواني , لتخصيص الفن الذي يقع موقع الرضا ) , اذن فهو لم يحدد اي فن ينبغي التصنيف فيه ( حتى خرجت الاوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية , بالاشارة الى الخادم بتصنيف كتاب في الرد على الباطنية ) , اذن فهو لم يتجه الى قراءة الباطنية الا بموجب اوامر عليا , فالامر لا علاقة له بالبحث عن حق , كما ان هذه الاوامر كانت واضحة في مقصودها بموجب الغزالي نفسه الذي يشير ان الاوامر ارادت ان يشتمل الرد على : الكشف عن بدعتهم وضلالتهم , وقوة مكرهم واحتيالهم , ووجه استدراجهم عوام الخلق وجهالهم , وايضاح غوائلهم في تلبيسهم وخداعهم , وسلالهم من ربقة الاسلام وانسلاخهم وانخلاعهم , وابراز فضائحهم وقبائحهم .
فاين هذا من البحث عن الحقيقة والحق ؟

د. عبد الدايم ابو العطا البقري الانصاري : اعترافات الغزالي او كيف ارخ الغزالي لنفسه , مطبعة لجنة التاليف والترجمة والنشر , القاهرة 1942



#محمد_حسين_النجم (هاشتاغ)       Mohammed_H._Alnajim#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- شلونك انت ؟ قصيدة تنزف وجعا
- لماذا لم يكن كامو وجوديا ؟
- البدء الفلسفي وحكم القطيع
- مكانة اللغة والاسطورة في نمط الثقافة الإنسانية
- ايروس او دافع الحب في محاورة ( المأدبة ) لافلاطون
- قراءة في كتاب علي حرب ( ثورات القوة الناعمة في العالم العربي ...
- وقفة مع الفلم الاسباني ( الحفرة )
- خبز العباس
- العشق ........والتاريخ


المزيد.....




- بعد -أنوار- ألعاب باريس الأولمبية... فرنسا تستعد لاستئناف مع ...
- الملك عبدالله الثاني: الأردن لن يكون ساحة حرب
- -غير مقبول-.. ألمانيا تدين مقتل مدنيين بغارة إسرائيلية على م ...
- حزب الله يهاجم إسرائيل بـ-سرب من المسيّرات-.. كيف يشكل الحزب ...
- مصدر إسرائيلي: يحيى السنوار يرغب في التوصل لاتفاق وقف إطلاق ...
- بعد مرور أيام.. زيلينسكي يشير إلى العملية العسكرية في كورسك ...
- لنوم هانئ في الليالي الحارة: كيف تتغلب على حرارة الصيف
- مصرع 18 شخصا على الأقل جراء انهيار مكب للنفايات في العاصمة ا ...
- فوتشيتش حول من يغذي احتجاجات بلغراد: أرادوا اصطياد عصفورين ب ...
- فشل المشاورات بين السودان والولايات المتحدة حول ترتيبات محاد ...


المزيد.....

- سيرة القيد والقلم / نبهان خريشة
- سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن / خطاب عمران الضامن
- على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم / سعيد العليمى
- الجاسوسية بنكهة مغربية / جدو جبريل
- رواية سيدي قنصل بابل / نبيل نوري لگزار موحان
- الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة / أيمن زهري
- يوميات الحرب والحب والخوف / حسين علي الحمداني
- ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية / جورج كتن
- بصراحة.. لا غير.. / وديع العبيدي
- تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون / سعيد العليمى


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - سيرة ذاتية - محمد حسين النجم - قراءة في كتاب ( اعترافات الغزالي )