أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبد الحسين شعبان - فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة الثالثة)















المزيد.....

فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة الثالثة)


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 8066 - 2024 / 8 / 11 - 11:25
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    



التسامح: حصاد الفصول

III

(الحلقة الثالثة)
كانت نظرة كل من لوك وفولتير بخصوص التسامح أقرب إلى فريضة دينية، لكن فكرة التسامح بالتدرّج أخذت أبعادًا جديدة، لاسيّما الإقرار بالآخر كنوع من التعددية الثقافية، والتي تطوّرت لاحقًا لتشمل المجموعات الثقافية، سواء كانت إثنية أم دينية أم لغوية أم سلالية أم اجتماعية أم غيرها، وهو ما ذهب إليه إعلان اليونيسكو الذي تناول موضوع التسامح بصفته الشمولية، وذلك تجسيدًا لتطوّر فكرة التسامح على المستوى الدولي.
لقد حققت أوروبا والغرب عموماً بعد الثورة الفرنسية العام 1789 تطوّراً كبيراً في قضايا الحريّات والمساواة وحقوق الإنسان، ولاسيّما بشأن "التسامح"، التي كان قد مهّد لها فولتير ووظفها على نحو سليم بإبراز نزعتها الإنسانية المتميّزة، حيث اقترنت الفكرة باسمه واعتُبر “الأب الروحي” لها، حيث بشّر بضرورة تحمّل الإنسان للإنسان الآخر، فكلّنا بشر ضعفاء ومعرضون للخطأ، وعلينا أن نأخذ بعضنا بعضاً بالتسامح .
ولم يكن من السهل أن يصبح المفهوم متداولًا ومقبولًا، لاسيّما بعد فترة غلو وتعصّب وتشدّد وعنف وحروب ونزاعات لا حدود لها، لعلّ أبرزها حرب اﻟ 100 عام(1) وحرب الثلاثين عام (2)، التي انتهت بعقد معاهدة ويستفاليا في العام 1648(3)، خصوصًا وأن الحديث عن التسامح حينها كان يقصد به الدين، وهكذا تناول المفهوم حريّة المعتقد الديني والطائفي بشكل خاص، واحتاج إلى وقت ليس بالقصير ليتم تقنينه.
ولم تكن فكرة التسامح لتصبح أمرًا واقعًا بمعناها الثقافي قبل واقعها الاجتماعي، وفيما بعد القانوني، إلّا بعد تحقيق إصلاحات في المجال الديني، وخصوصًا إثر ظهور مصلحين من داخل الكنيسة، لعلّ أبرزهم مارتن لوثر، الذي انتقد ما سُمّي صكوك الغفران التي كان البابا ليو العاشر يصدرها لمغفرة الخطايا لتكون شفيعاً للمسيحيين، الذين يحصلون عليها لدخول الجنّة، حيث نشر 95 مادة ضدّها، وقام بتعليقها على باب كنيسة القلعة في فيتنبرغ بألمانيا، فردّ البابا بإلقاء الحُرم الكنسي عليه، وكان من جرّاء ذلك، ولصراعات كاثوليكية - بروتستانتية أخرى، أن نشبت حروباً دينيّة وطائفية دامية (1618)، استمرت عقوداً طويلة من الزمن، ارتُكبت فيها أبشع المجازر، وذهب ضحيّتها ملايين البشر.(4)
وبعد 5 قرون على ذلك الخلاف التاريخي بين الكاثوليكيين واللوثريين تمّ التوصّل إلى اتفاق ينهي الخلاف ويضع حدّاً للنزاع، وذلك في 31 تشرين الأول / أكتوبر 2016 ، حيث نُظِّمت صلاة للبابا "المتنوّر" فرنسيس والمطران المقدسي "الشجاع" منيب يونان رئيس الإتحاد اللوثري العالمي، إضافة إلى أمينه العام مارتن يونغة، تلاها الإعلان التاريخي الذي وقّعه البابا والمطران.
ولعلّ تلك الصلاة المشتركة كانت حدّاً فاصلاً للصراع العبثي، الذي استمرّ لقرون من الزمن، وشكّل الإتفاق منعطفاً كبيراً في حياة الكنيستين الكاثوليكية واللوثرية، وسجّل تاريخاً جديداً إيجابياً للعلاقة بينهما، حيث تمّ بموجبه إنهاء الصراع المعتّق الإلغائي والإقصائي والتحريمي والتشكيكي. وهكذا اجتمعت الكنيستان بعد "الإعلان" في ترجمة عملية للإيمان بالمحبّة ومعموديّة القلوب(5).
وكم حريّ أن يتعلّم ويستفيد المسلمون من الشيعة والسنة وغيرهم، من هذه التجربة الملهمة والاتفاق على إنهاء خلافاتهم المعتّقة والمعمّرة، والتي لا معنى لها بإعلان صريح وواضح من جانب أصحاب القرار الديني في الطائفتين الكبرتين، وترك أمر الخلافات لشؤون البحث العلمي وللدراسات الفقهية واللاهوتية، دون وضعها على طاولة حياتهم اليومية وعلاقاتهم الاجتماعية ومواقفهم السياسية، فالتاريخ مضى، ولا يمكن إعادته وعليهم الاتفاق حول المستقبل لتنمية بلادهم ورفعتها وسؤددها، بدلًا من الاستمرار في صراع بلا حدود وبلا أفق وبلا نتائج وبلا منتصر وبلا مهزوم، وإذا كانت ثمة انتصارات فإنها أشدّ عارًا من الهزائم. (6)
وكان هوبز هو القائل: لا إصلاح حقيقي إلّا بإصلاح الفكر الديني. وإذا كانت الحاجة ماسة آنذاك لتعميم قيم التسامح، ولاسيّما التسامح الديني، فإنها اليوم أكثر ضرورة في عصر العولمة والثورة الصناعية في طورها الرابع والذكاء الاصطناعي واقتصادات المعرفة، حيث تطوّرت تكنولوجيا الإعلام على نحو خارق، وتقاربت الشعوب واختلطت بعضها ببعض على نحو لم يكن له مثيل، وأصبح الخبر يصل إلى المتلقّي بلمح البصر من أقاصي المعمورة إلى أقصاها.

الهوامش:
1. تعتبر حرب اﻟ 100 عام من أطول الحروب في التاريخ، وخلالها تعاقب 5 ملوك على فرنسا و 5 ملوك على بريطانيا، وكان من أطلق عليها تسمية حرب المئة عام هو المؤرخ الفرنسي فيليب كونتلمين في كتاب نشره في العام 1823، وصدر كتاب آخر للمؤرخ الفرنسي ثيودور باشليه بالإسم ذاته، وشاع بعدها هذا الاستخدام. وكانت الحرب قد اندلعت إثر الخلاف بشأن مقاطعة جاسكوني الموجودة في الأراضي الفرنسية، والتي تضم ممتلكات إنكليزية وترتبط بإنكلترا بعلاقات اقتصادية وتجارية وثيقة.

أنظر: شعبان، عبد الحسين - محاضرة بعنوان "النموذج الشرق أوسطي في الحياة المشتركة: سؤال شك أم سؤال يقين؟"، وذلك في الطاولة المستديرة التي نظمها مجلس كنائس الشرق الأوسط، بيروت، 24 آذار / مارس 2024.
2. حرب الثلاثين عام "Thirty Years War" (1618 - 1648)، وهي سلسلة من الحروب والصراعات الدموية التي وقعت معاركها ابتداء في أوروبا الوسطى، وخصوصاً في أراضي ألمانيا الحالية العائدة إلى الإمبراطورية الرومانية المقدسة، وامتدت إلى أراضي كاتالونيا "إسبانيا" وشمال إيطاليا وفرنسا، ولم تشترك فيها روسيا وإنكلترا، وبحكم التنافس المذهبي، قادت إلى حرب مباشرة بين فرنسا وأسبانيا وهي حرب دينية وطائفية بالدرجة الأولى بين طائفتي البروتستانت والكاثوليك، وقد شهدت أوروبا بسببها تدميراً شاملاً، وانتشرت خلالها الأمراض والمجاعات، مثلما عرفت هلاكاً لملايين البشر.
أنظر: المصدر السابق.
3. وفقًا لوستفاليا تم الاعتراف بالحريّات الدينية واحترام استقلال الدول (الإمارات - المقاطعات) المتفرّقة وسيادتها، ومنع أي اضطهاد ديني أو طائفي والتعاون فيما بينها لإزالة الحواجز الاقتصادية والعوائق التجارية وإنهاء الحروب الأهلية وعوامل التفتيت الداخلية، ووضع قواعد عامة أساسها عقد اجتماعي – قانوني جديد يستبعد أي إقصاء أو إلغاء.
أنظر: المصدر السابق.
4. أنظر: المصدر اسابق.

5. كنتُ قد سألت الصديق المطران منيب يونان الذي إلتقيته آخر مرّة في مؤتمر "القدس في الوجدان العربي" الذي التأم في عمّان في "مهرجان الأردن للإعلام العربي" (3 - 5 تشرين الأول / أكتوبر 2021)، كيف توصّلتم إلى هذا القرار الجريء ووضعتم كل الماضي الدموي التكفيري خلفكم؟ ومن أين استمديتم القوّة لوضع مقاصد المسيحية وروحها أمام جمهرة من الكاثوليكيين واللوثريين المتعصّبين؟ فأجاب: لقد وضعنا الخلافات والإختلافات والتي تعود إلى القرون الوسطى وراء ظهورنا، وتركنا أمرها للدراسات الفقهيّة المستفيضة للّاهوتيين من الفريقين ومن يريد أن يدلو بدلوه فيها ، واتّفقنا على أنه بالنعمة وحدها والثقة بالمستقبل يمكن تحقيق ذلك، خصوصاً الإيمان بما يعجّل الخلاص المسيحي، وهو أمر لا يعود لنا فحسب، فقد قبلنا الله وأعطانا الروح القدس الذي يجدّد قلوبنا ويدعونا للأعمال الصالحة... فحياتنا الجديدة مدينة للرحمة والغفران والتجديد، وهي عطيّة نتلقاها بالإيمان، ولا يمكن أن نستحقّها بأي وسيلة أخرى. وبالعودة إلى إعلان المصالحة الكاثوليكية - اللوثرية، فقد ركّز على ما هو جامع وليس مفرّق، فعظّم تلك الجوامع وقلّص تلك الفوارق، بحثاً عن المشترك الإيماني الديني والإنساني، ومثل هذه النظرة لا تخصّ المسيحيين وحدهم، بل أنها يمكن أن تنسحب على جميع المؤمنين باختلاف أديانهم، فما يجمع المؤمنون، مسيحيون أو مسلمون أو من أتباع ديانات أخرى سماويّة أو غير سماويّة هو واحد يتجسّد في المُثل والقيم الإنسانية التي تمثّل رسالة الأديان وروحانيّاتها. فقد شاءت الإرادة أن يحصل ما حصل، حين التقت الكنيستان الكاثوليكيّة واللوثريّة واتفقتا على رفع جميع الإدانات والتحريمات السابقة التي خطّها تاريخ الانقسام و التناحر.
أنظر: مجلة أفق، مؤسسة الفكر العربي 10 كانون الأول / ديسمبر 2021.
6. سبق للباحث أن دعا، منذ مطلع الثمانينيات إلى سنّ قانون لتحريم الطائفية وتعزيز المواطنة انطلاقًا من التجربة العراقية والتجربة اللبنانية وعدد من التجارب ذات البعد الطائفي التقسيمي والمجتمعي، وقد عالج ذلك في عدد من المقالات والدراسات وعدد من الكتب، أهمها: "النزاع العراقي - الإيراني" (1981)، و"المحاكمة: المشهد المحذوف من دراما الخليج" (1992)، و"عاصفة على بلاد الشمس" (1994)، و "من هو العراقي؟" (2002)، و"جدل الهويّات في العراق" (2009)، و "الهويّة والمواطنة - البدائل الملتبسة والحداثة المتعثّرة" (2016)، وظلّ اعتقاده راسخًا بأن محاربة الطائفية بالطائفية ستفضي إلى مزيد من التشظّي الطائفي واستشراء العنف واستفحال التعصّب ووليده التطرّف، وهو ما ساد بعد الاحتلال الأمريكي للعراق في العام 2003، لاسيّما في ظلّ نظام المحاصصة الطائفية والإثنية، والتي أجّجت نار الصراع وأعطته بُعدًا هويّاتيًا، حتى وإن كان زائفًا، خصوصًا في ظلّ الشحن الطائفي والتمترس المذهبي والذي زاد من غلواء الطائفية السياسية.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- عبد الستار الدوري: السياسي العصيّ على التصنيف (الحلقة الثالث ...
- فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة الثانية)
- فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة الأولى)
- من أوراق نوري عبد الرزّاق: المثقّف الكوني وبداياته الوطنية
- عبد الستار الدوري: السياسي العصيّ على التصنيف (الحلقة الثاني ...
- شذرات من ذاكرة كردستانية (الحلقة الأولى)
- عبد الستار الدوري: السياسي العصيّ على التصنيف (1)
- الإضاءة في -المقدّمات- وهوية الشعر في -جواهر الجواهري-
- شمران الياسري- أبو گاطع- وأدب السخرية
- في جدليات الحركة الشيوعية: مقدمة كتاب د. علاء الحطاب -خطى ال ...
- الهويّة بين النظرة التفريقية والمساواتية
- قلم السياسة مغمّس بحبر الثقافة - مقدمة كتاب عالية فريد
- لمناسبة رحيل صلاح عمر العلي
- بعقلين و بعذران ودار النهار وعموم الشوف تحتفي بمظفر النواب و ...
- محمّد صادق الصدر - ملف الاغتيال السياسي: ثلاث زوايا في استهد ...
- ألق الذاكرة التي لا تأفل - الجواهري بجواهره..شعبان بخزائن مع ...
- قمة المنامة و ما ينتظرها
- من يتذكّر باقر ابراهيم؟
- غزة وبوصلة بعض المثقفين الغربيين
- غزة والحرب الأكاديمية


المزيد.....




- -جزيرة النعيم- في اليمن.. كيف تنقذ سقطرى أشجار دم الأخوين ال ...
- مدير مستشفى كمال عدوان لـCNN: نقل ما لا يقل عن 65 جثة للمستش ...
- ضحايا الهجمات الإسرائيلية على قطاع غزة تتخطى حاجز الـ44 ألف ...
- ميركل.. ترامب -معجب كل الإعجاب- بشخص بوتين وسألني عنه
- حسابات عربية موثقة على منصة إكس تروج لبيع مقاطع تتضمن انتهاك ...
- الجيش الإسرائيلي: اعتراض مسيرة أطلقت من لبنان في الجليل الغر ...
- البنتاغون يقر بإمكانية تبادل الضربات النووية في حالة واحدة
- الجيش الإسرائيلي يعلن مقتل أحد عسكرييه بمعارك جنوب لبنان
- -أغلى موزة في العالم-.. ملياردير صيني يشتري العمل الفني الأك ...
- ملكة و-زير رجال-!


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبد الحسين شعبان - فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة الثالثة)