أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - رشيد غويلب - عن صعود الفاشية في فرنسا والجبهة الشعبية الجديدة















المزيد.....



عن صعود الفاشية في فرنسا والجبهة الشعبية الجديدة


رشيد غويلب

الحوار المتمدن-العدد: 8065 - 2024 / 8 / 10 - 02:12
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
    


بقلم:إتيان باليبار*

الكارثة السياسية التي اجتاحت فرنسا، بعد انتخابات البرلمان الأوربي في التاسع من حزيران فاجأت الكثيرين منا، على الرغم الإعلان عنها منذ فترة طويلة. في البدء عبر استطلاعات الرأي، حتى وان كانت غير موثوق بها دائمًا. يعود ذلك إلى صعود جبهة التجمع القومي (يمين متطرف- المترجم) على مدى عقود في الانتخابات وفي الرأي العام، والذي تسارع اخيرا وامتد إلى المزيد والمزيد من الناس.

ولهذا الصعود أسباب كثيرة، وكلها معروفة بالتفصيل. هناك أخطاء السياسيين «الجمهوريين» الذين ظنوا أن بإمكانهم استغلال لوبان وابنته. والقبول المتزايد لفكرة أن "الهجرة مشكلة حقيقية"، وليس فقط اقتصادية (رغم أن فرنسا لن تعمل بدون المهاجرين، بما في ذلك غير المسجلين)، بل أيضا التنوع الثقافي والديني الذي تنتجه الهجرة في المجتمع الفرنسي وبقية انحاء العالم. وهناك أيضا الوسطية في التعامل مع السياسة الأمنية والأيديولوجية الاستبدادية التي ينشرها حزب الجبهة القومية بلا كلل. وأيضا حقيقة مفادها أن المخاوف والمعاناة التي تخلقها العولمة المدمرة في المجتمع يتم تجاهلها أو التقليل من شانها، ما يشجع اليوم صعود النزعة القومية في كل مكان. وهناك تراجع في الحوار السياسي لصالح الحكم القائم على افتراض "جهل الناس" وغزو الفضاء العام من خلال "الشبكات الاجتماعية" التجارية. ونتيجة لذلك، فإن كل الحركات التي صاغت مطالب المجتمع في السنوات الأخيرة، وبالتالي استعادت المشاركة الاجتماعية، تعرضت للتشويه من الأعلى أو للقمع بواسطة العنف. وأخيرًا هناك الإحباط والارتباك الذي ينشأ بين اليسار بسبب الانشقاقات، الركود الثقافي، وتشكيل الزمر، والتغيرات الانتهازية في المسار، والخيانات المتكررة، كلها عوامل أثارتها أحزاب كان تاريخها مقدر لها أن تمثل بديلاً للنظام الاقتصادي السائد - الرأسمالية المالية متزايدة العدوانية والغطرسة.

ماذا كان يمكن للمرء أن يتوقع غير مسيرة شعبوية وحشية، عَمِلَ ورثة الفاشية الفرنسية القديمة، منذ فترة طويلة، من أجل تحقيقها؟ وهذا بالضبط ما حدث الآن. وكما تقول كتب الفلسفة: "لقد تحول الكم إلى كيف". وفي اثناء يوم واحد نجد أنفسنا في مشهد مختلف، بل حتى في عالم مختلف، وبشكل خاص في مستقبل مختلف. ان إدراك حقيقة ما حدث في مساء الانتخابات "غير الحاسمة على المستوى الوطني"، أن ما يسمى اليمين المتطرف (التجمع القومي بالإضافة إلى حزب "الاسترداد" بالإضافة إلى جزء لم يتم تحديده بعد من "الجمهوريين") من المحتمل أن يمثلوا الأغلبية في البلاد كان لها ملامح مؤلمة. اذ يمكن تصور ما سيعنيه وصول مارين لوبان وجوردان بارديلا وفريقهما إلى السلطة: انقراض الحريات العامة لصالح قوة شرطة متحررة من كل سيطرة والتزامات، واحتكار إمبراطوريات وسائل الإعلام المحافظة للغاية وسياساتها. التأثير على الثقافة والمعلومات، وخفض الحقوق الاجتماعية، وتفكيك الخدمات العامة، والتشجيع وحتى الدعم الرسمي لكراهية الأجانب المميتة، ونظام الأخلاق والنظافة والعقاب.

هذه الصدمة الأولى أعقبتها مباشرة صدمة ثانية ذات عواقب أكثر تناقضا: الإعلان "الملكي" الصادر عن رئيس الجمهورية، الذي تلقى ضربة قوية من نجاح خصمه المختار، بحل الجمعية الوطنية والإعلان عن انتخابات دون أي حملة انتخابية تقريبًا. لأن هذا الانقلاب، الذي دبرته حفنة من المستشارين غير المسؤولين دون علم الحكومة، أثار استياء مؤيديها، ويحمل في طياته خطراً وشيكاً بتغيير النظام، قد وضع البندقية على صدر كل الذين لا يريدون ببساطة أن يتركوا الليل يهبط دون ان يحركوا ساكنا. تعلمنا الكثير من التجارب التاريخية أن هذه الليلة لا يمكن تركها تمر إلا بثمن باهظ. هذا إذا كان ذلك ممكنا.

بالنسبة لنا كمواطنين، لم يكن هناك مجال لترك الأمور تسير وانتظار إثبات عدم كفاءتهم (المقصود اليمين المتطرف وداعميه – المترجم)، بل كان واضحًا لنا أن النهوض والتجمع، والتعبئة أمر ضروري. وفي غضون ساعات قليلة، صدرت النداءات المكتوبة. وأخذت مجموعة صغيرة من المسؤولين اليساريين، الذين حافظوا على علاقات الثقة وقوة التصور فيما بينهم على أنقاض التحالف اليساري القديم، الاتحاد البيئي والاجتماعي الجديد الشعبي، زمام المبادرة لدعوة الأحزاب، وتهميش أولئك الذين انسحبوا لخلاف أيديولوجي وشخصي يتعلق بالمنافسة على الأصوات. ودعت النقابات العمالية، التي ظلت متحدة منذ الحملة ضد إصلاح نظام التقاعد، إلى وحدة نضال القوى الاجتماعية والديمقراطية. وطرح النائب المستقل عن حركة فرنسا الأبية فرانسوا روفين فكرة إنشاء "جبهة شعبية" جديدة. وقد حظي مقترحه بموافقة فورية، وتم استكماله بإشارة صريحة إلى البيئة، وان اسم التحالف يرتبط بوحدة اليسار وبالمقاومة الجمهورية ضد التهديد الفاشي. وعززت هذه الفكرة، منذ ذلك الحين، وضع استراتيجية وبرنامج الحملة الانتخابية للأحزاب الأربعة الساعية إلى الحصول على الأغلبية في الجمعية الوطنية الفرنسية المقبلة، وشكلت أفق التظاهرات والاتفاقات الناشئة.

أنا أبسط بالطبع. لم تهدأ الصدمة، ولم تنقلب موازين القوى في البلاد، بل انفتح أفق المقاومة والبديل، وبالتالي عاد الأمل. والأسوأ من ذلك أن الهزيمة الجماعية المعلنة قد تتحول إلى هجوم مضاد إذا اجتمعت العديد من الظروف المواتية.

أضع نفسي بالكامل في هذا المنظور. أريد أن أساهم كمواطن ومثقف، كما يفعل كثيرون آخرون على المستوى المحلي أو المهني أو الوطني. ومع ذلك، ليس لدي أي حق على الإطلاق في التأثير على القرارات والمفاوضات أو تقديم مبادئ التوجهات. بدلاً من ذلك، بالنسبة لي وللآخرين الذين قد يضعون فرضيات مختلفة، أود أن اناقش فكرة الجبهة الشعبية، مع تسليط الضوء على صعوباتها وإمكانياتها. من المؤكد أن هذه الفكرة لم تأت من العدم، لكنني أرى أيضًا أنها تحتوي على شيء من "الاكتشاف"، والذي ستُظهر الممارسة ما إذا كان ايجابيا أم لا. انا معجب بعدد المبادرات التي تحفزها فكرة الجبهة الشعبية، وبالرفض الذي تثيره. فمنذ البداية، خلقت هذا الاستقطاب، الذي يمكن أن يستمر في التطور (ونأمل أن يؤدي إلى توضيح المحتوى بدلاً من إعلان النوايا). ان هدفي ليس تطوير "نظرية" بل استخدام الأسئلة التاريخية واللغوية والاستراتيجية للإشارة إلى العقبات التي أتوقعها ومناقشة الطرق التي يمكننا من خلالها معالجة هذه العقبات.

"مخاطرة" ماكرون ولعبة اليمين: السيناريو الثالث

السؤال الأول الذي أعتقد أنه يحتاج إلى مناقشة، حتى لو ظلت أي اجابة عليه، في ضوء هيكل المؤسسات والأسلوب المحدد للحكومة الحالية، بالضرورة جزئيا تخمينية، يتعلق باستراتيجية الرئيس والخيارات التي يدرسها. منذ البداية، نشرت الصحافة عبارة مفادها أن ماكرون "يخوض مخاطرة كبرى" أو "يلعب بوكر".

وهذا يصح فقط، إذا تم في الوقت نفسه توضيحه، أن الخطر بالنسبة له ولاتباعه مادي ووجودي، ولكنه يهدد أساسا الآخرين، الوطن، وبالتالي يهددنا جميعا. هناك خطر عرقلة تشكيل الحكومة أو حتى الفوضى والصراعات العنيفة التي تمهد الطريق لمبادرات استبدادية: إن دستور الجمهورية الخامسة، الذي تمت كتابته جزئياً تحت تأثير أفكار شمت (كارل شمت، مفكر الماني، انتمى للحزب النازي، كان خصما لليبرالية المفتوحة- المترجم) بشأن "حالة الطوارئ"، يقدم الكثير في هذا الصدد. هناك خطر حدوث أزمة في الميزانية، الأمر الذي من شأنه أن يعرض للخطر استمرار وجود المؤسسات العامة والسياسة الاقتصادية بسبب انفجار الديون.

ان خطر فقدان شرعية النظام السياسي التمثيلي وارد.. الخ، وبقدر تعلق الامر بأهداف الرئيس، أرى أن التحليلات تأخذ في الاعتبار بشكل أساسي احتمالين فقط:

التجديد" غير المتوقع لمعسكر ماكرون، الذي يتمكن، خلافًا لكل منطق، من طرح نفسه مرة أخرى باعتباره حصنًا ضد استيلاء اليمين المتطرف على السلطة، وانتصار حزب التجمع القومي (المدعوم الآن من قبل العديد من الحلفاء)، الذي سيحصل على الأغلبية المطلقة ويفرض التعايش القسري (سلطة تنفيذية بمعسكرين سياسيين متعارضين: ماكرون واليمين المتطرف- المترجم). والاحتمال الأخير سيكون مثقلا بجميع أنواع الصدمات الداخلية والخارجية. لقد ابتعد ماكرون من النموذج الديغولي الذي يقلده في بعض الأحيان، واستبعد الاستقالة في حال هزيمة معسكره.

هذه الفرضيات تمتلك أساس جيد، ولكن يبدو لي أنه تم، بشكل متسرع استبعاد فرضية ثالثة، هي أكثر "خطورة" من الفرضيتين السابقتين وتنشأ من طبيعة القوى القائمة وتطور خطابها والتطورات الملحوظة دوليا: انها فرضية التحالف "غير الطبيعي"، وبالتالي تقاسم السلطة بشكل ودي بين ماكرون وحزب الجبهة القومية (اليمين المتطرف)، والذي يمثله بارديلا كرئيس للوزراء (ستبقى مارين لوبان بشكل او بآخر وراء الستار). بالطبع، لا تعني الصداقة التحرر من الدوافع الخفية والنوايا القاتلة: يمكن التوصل إلى اتفاق لمحاولة تدمير بعضهم البعض بشكل أفضل.

ومما لا شك فيه أن هذه الفرضية غير محتملة. وهناك عدد من الاعتراضات عليها. أولاً، المقاومة التي ستثيرها في كلا المعسكرين. وسوف تحدث "انشقاقات" (وخاصة على الجانب الماكروني، فبالنسبة للساسة اليمينيين المتطرفين الذين يتطلعون إلى عام 2027 (الانتخابات الرئاسية – المترجم)، فإن الاستيلاء على السلطة يشكل مكافأة تستحق أي تنازلات. بالإضافة الى مسائل الغرور الشخصي، والتي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتقسيم المسؤوليات والسلطات بين الرئاسة والحكومة، أي الطريقة التي يتم بها التفاوض على التنازلات. وأخيرا، الجانب المهم على الاطلاق: الاختلافات في البرامج والشعارات.

يعمل حزب الجبهة القومية اليميني المتطرف على توسيع قاعدة ناخبيه من خلال صياغة انتقادات حادة للـ "الماكرونية" وبشكل أكثر عمومية (في تقليد قديم لليمين المتطرف) لـ "النظام" عموما. لقد أعلن اليمين المتطرف نفسه مدافعًا عن مستوى المعيشة وكرامة الناس العاديين، ومعارض عنيد للتكنوقراطية، التي يجسدها ماكرون وفريقه. ويبدو أن استحضار حزب الجبهة القومية لمصطلح "السيادة الوطنية" يشكل نقيضاً للنزعة الأوروبية التي أعلنها ماكرون في جامعة السوربون والتي يزعم أنه زعيمها على المستوى الأوروبي. وينطبق هذا على الموقف تجاه روسيا وإدارة الحرب التي يخوضها الاتحاد الأوروبي في أوكرانيا، فضلاً عن حماية الشركات الفرنسية من المنافسة الدولية.

ومع ذلك فإن القرار الفوري الذي اتخذه بارديلا بإلغاء سحب إصلاح معاشات التقاعد من برنامجه يُظهِر أن المبادئ تتسم بالمرونة. وإذا فُسر على أنه يسهل التحالف مع اليمين "التقليدي" (الجمهوريين)، فإن هذا القرار يمكن ان يسهل الاتفاق ايضا مع ماكرون ودارمانين ولومير وشخصيات أخرى، أصبح إصلاح نظام التقاعد، الذي تم فرضه ضد الدولة بأكملها، بالنسبة لهم بمثابة صنم معبود. وفي السياسة الدولية، يمكن لنموذج جورجيا ميلوني "ذي التوجه الغربي" أن ينير الطريق، وفي الوقت نفسه يجعل من الممكن تخفيف بعض العلاقات، التي أصبحت خطيرة مع موسكو.

بطبيعة الحال، لا يمكنك المبالغة في ذلك، لأن الناخبين سوف يشعرون، منذ اليوم الأول بالاحتيال والغش (مثل ناخبي يسار، الذين صوتوا للرئيس هولاند في عام 2012). أو بتعبير أدق، يتطلب الأمر معرفة بعلم الازدواجية. ولكن إذا كان حزب الجبهة القومية لا يريد المخاطرة بأزمة مؤسسية سابقة لأوانها، فهو بحاجة إلى ماكرون والتكنوقراط المحيطين به، الى ان يتمكن من استخدام آلية إدارة الدولة، التي تعتبر ثقافتها وشبكات نفوذها غريبة عليه إلى حد كبير (باستثناء واضح للشرطة). من جانبه، يتعين على ماكرون أن يتجنب حرب السلطات بين القوى (التي لا تعطي عن التعايشات السابقة للجمهورية الخامسة سوى فكرة باهتة)، إذا كان راغباً في الاستمرار في تقديم نفسه باعتباره "سيد البيت" على الساحة الدولية (كما يمليه غروره) وتجنب خفض تصنيف فرنسا من قِبَل المؤسسات المالية الأوروبية والعالمية. ويمكن أيضا المراهنة باطمئنان، على ان المسؤولين والمتحدثين باسم الرأسمالية الفرنسية سيمارسون كل ما في وسعهم بهذا المعنى، مشيرين إلى الواقعية الاقتصادية والمصالح الوطنية والمخاطر "النظامية" المتمثلة في صراع سياسي مفتوح في قلب أوروبا.

لقد بدأت بالظهور الميادين لأولى، التي يمكن فيها حل النزاعات أو حتى التوفيق بين جميع المصالح. وأرى في هذا السياق ميدانين على الأقل. الأول هو كراهية الأجانب، أي السياسة القمعية الموجهة ضد المهاجرين واللاجئين، كما يتضح من اعتماد قانون الهجرة الجديد (نهاية عام 2023) بأصوات حزب الجبهة القومية، الذي يتضمن لأول مرة في فرنسا بـ "تفضيل قومي". (المفاضلة بين الفرنسيين والمهاجرين عند تخصيص المساكن وتوفير فرص العمل – مترجم النص الفرنسي). يضاف إلى ذلك الحرب ضد "المجتمعات الموازية" و"الانفصالية"، الموجهة ضد الملايين من السكان والمواطنين ذوي الأصول المهاجرة، والتي تقوم في نهاية المطاف على أسس عنصرية.

الموضوع الثاني هو برنامج استعادة "الاستبداد " البرجوازي والمدرسي والعائلي وتعزيز الوطنية (بالمعنى القومي – المترجم) في التقاليد المحافظة والعسكرية. ويتوافق هذا البرنامج إلى حد كبير مع الدفاع عن "العالمية" الهادفة إلى إلغاء حقوق الأقليات، الذي طالما دافع عنه الرئيس ماكرون، على الرغم من بعض النكسات. وهذا يتماشى تمامًا مع روح الجبهة القومية: الروح الخالدة لنظام فيشي (التابع للاحتلال النازي لفرنسا- المترجم). ورغم أن أوجه التشابه هذه لم تسفر بعد في "برنامج مشترك"، فإنها تشكل على الأقل نقطة انطلاق مشتركة.

وينشأ سيناريو يتطلب التغلب على العديد من العقبات، ولكن لا يمكن استبعاده منذ البداية: حرب "مريرة" بين قادة المعسكرين (بما في ذلك ماكرون نفسه) خلال الحملة الانتخابية، إذا تغيرت النتيجة، وكانت غير مناسبة للرئيس (ولم ينجح اليسار في قطع مسار العملية)، فسيتبع ذلك على الفور انقلاب جديد و"خطر" جديد: لصالح البلاد، وإنقاذ الموقف الدولي للجمهورية وفرنسا وإنقاذ البلاد. ومن أجل منع الفوضى (أي الجبهة الشعبية)، يتم جمع الوسط واليمين المتطرف (الذي يضم بالمناسبة اليمين القديم) معًا وجعلهما يعملان سوية.

وهذا يعني أن العودة إلى القطبية الثنائية في السياسة الفرنسية، التي تنبأ بها بعض علماء السياسة (على حساب تشكيل حكومات تدعي أنها «لا يمينية ولا يسارية») ستتحقق. وسيظهر واقع وحشي لا يرقى إلى مستوى الحرب الأهلية أو إعادة تنشيط "النزاع" السياسي الذي يتحدث عنه المنظرون الآخرون (والذي أسميته في مكان آخر "الديمقراطية الصراعية")، بل إلى تجريم الاحتجاج وتطبيع حالة الطوارئ. ويجب علينا التصدي أيضاً لهذا الخطر، أو بالأحرى: هذه التركيبة التي يجب أن تتحول سياسة الجبهة الشعبية إلى نقيضها، استناداً إلى موازين القوى والمشاريع السياسية المطلوب طرحها.

ما الفرق بين الجبهة الشعبية واتحاد اليسار؟

لهذا السبب، كما أرى، ليس هناك مضيعة للوقت في النظر إلى الماضي ومقارنة الظروف التاريخية. في المخيلة السياسية الفرنسية، تتم الإشارة باستمرار إلى "الجبهة الشعبية"، والتي من الممكن أن ننظر إليها برمزية بحتة، رغم أنها تثير تساؤلات جوهرية. وفي أغلب الأحيان، يتم الاستناد إلى "الجبهة الشعبية" للدفاع عن مكتسبات ترجع أصولها إلى تجربة 1936-1938 الفريدة (مثل الإجازة مدفوعة الأجر أو المدرسة الموحدة)، من أجل الإشارة إلى مدى تأثير وحدة أحزاب اليسار في مجالات قانون العمل، الثقافة، التعليم، والصحة العامة، باختصار، بمعنى الحكومة التي تخدم الغالبية العظمى من الشعب. وهكذا ظهر مرات عديدة في تاريخنا الحديث (خاصة بعد انتفاضة أيار 1968 عند تأسيس "اتحاد اليسار" ببرنامجه المشترك، الذي أدى في النهاية إلى انتخاب ميتران رئيسا). لكن الاتفاق الذي توصلت إليه أحزاب اليسار للتو يضيف عنصراً استراتيجياً يجبرنا على المضي قدماً في دراسة أوجه التشابه والاختلاف والبحث عن دروس عملية.

هناك سببان رئيسيان لهذا. الأول، الواضح، هو أن "الجبهة الشعبية" الناشئة تمثل، كما حدث في عام 1936، استجابة مباشرة لخطورة تهديد "فاشي" (أو، إذا لم يكن المرء متأكدا بعد من استخدام مصطلح "الفاشية")، إلى خطر استيلاء اليمين المتطرف على السلطة، مما يشكل تهديدًا مميتًا للديمقراطية). كيف يمكنك صد الفاشية أو حلفائها؟ ما هي قوى التي يجب أن تتضافر في المجتمع من أجل هذه المهمة، وما هو نوع التنظيم المناسب؟ هذا هو السؤال الأول الذي يجب أن ندرس فيه مثال الجبهة الشعبية "الأولى".

الجانب الثاني، وهو الوجه الآخر للأول، هو أنه في تاريخ بلادنا هناك فرق نوعي بين مختلف أنواع العمل المشترك: فإما أن يكون اتحاد أحزاب (حتى وان كان مدعوما بتعبئة واسعة) يمكن وصفها بأنها "كارتل") لتقديم "عرض" مشترك للناخبين، أو حركة جماهيرية ناشطوها هم المواطنون أنفسهم (بينما تمثل الأحزاب الإطار التنظيمي والأداة المؤسسية).

يتم تفعيل الصيغة الأولى بسبب موعد الانتخابات (حسناً، لا شك بضرورة الاستعجال). ولكنها بحكم التعريف تحت رحمة تقلبات الانتخابات وما بعدها، مما يعني أنها في حالة الهزيمة أو أثناء ممارسة السلطة يمكن أن تنهار بسرعة أكبر أو أقل مع تزايد إغراء الحلفاء بالانسحاب منها. وفرض برنامجهم الخاص وحشد الدعم الشعبي له. أما الصيغة الثانية، على العكس من ذلك، فتشير إلى أن هناك إلحاحاً تاريخياً يخلق تأثيرا مشتركاً في قلوب المواطنين. يسمح هذا التأثير لتنوع اهتماماتهم وأيديولوجياتهم بالتراجع الى الخلف ويمكن أن يخلق في الحياة اليومية ما يسميه الفيلسوف جاك رانسيير "مجتمع النضال الذي هو في نفس الوقت مجتمع الحياة"، أي مجتمع الذي لا يخدم برنامجا حكوميا فقط، بل يخدم مشروعا مجتمعيا محددا يهدف إلى تغيير الظروف القائمة.

قد يعترض المرء على أن هذه "النماذج المثالية" شديدة التبسيط، وأن واقع التجربة التاريخية يحدث دائمًا في مكان ما بين الصيغتين. فالمواطنون باعتبارهم "ذوات" ينضمون إلى الأحزاب أو يتبعون تعليماتها، يمتلكون خياراتهم اما بالاعتقاد أو شغفا بالتحول؛ والجموع التي تُعبأ من أجل مستقبل تعتقد أنها تستطيع اختراعه من خلال تحدي النظام القائم، تناضل أيضًا في مواجهة مشاكل التمثيل والانضباط والتكتيكات والقيادة التي تحدث في عالم السياسة الحزبية.

كان هذا هو الحال بوضوح في عام 1936 (فكر في مسألة "المشاركة الشيوعية في الحكومة")، ولكن أيضًا في المرحلة ما بين ايار 1968 وانضمام ميتران إلى الحكومة في عام 1981، أو بشكل أكثر دقة، إذا كان بإمكاني الوثوق بذكرياتي الشخصية، حتى أزمة اتحاد اليسار بسبب "تحديث البرنامج المشترك"، مما أدى إلى هزيمة الانتخابات عام 1978. لقد زُرعت بذور التوحيد على المستوى الشعبي (أو، كما قلنا آنذاك، "في النضالات") لسد الفجوة بين الحركة العمالية ذات التوجه النقابي الأكثر و"الحركات الاجتماعية الجديدة" المناهضة للاستبداد، لكن الحسابات والتحدي والتنافس بين الحزبين اليساريين (الحزب الاشتراكي والشيوعي) الذي كان قائما خلال الاتفاق الحكومي حرم القاعدة من قدرتها على التأثير في السياسات المتبعة بشكل مشترك، وهو ما انعكس في عقاب ما بعد 1981.

شعوري، وبكل بساطة، هو أن "جبهتنا الشعبية الجديدة" تتأرجح حاليًا بين الصيغتين. هناك تحالف انتخابي مدفوع بالحاجة إلى مقاومة موجة اليمين المتطرف من خلال تجنب الصراعات بين الأشقاء. ينشأ هذا التحالف أيضًا من الاقتناع بأن قوة حزب الجبهة القومية ترجع إلى حد كبير إلى "الفراغ" السياسي الناجم عن الافتقار إلى قوة يسارية مستقرة ومنظمة بما فيه الكفاية وموحدة أيديولوجيًا، تمتلك، على الأقل برنامجا مع مشروع مستقبلي بعيد المدى.

بعد بضعة أيام فقط من تأسيسه، أظهر هذا التحالف قدرة مذهلة على أخذ زمام المبادرة، كما أدى في واقع الأمر إلى زعزعة استقرار معارضيه (وخاصة في المعسكر الحكومي، الذين توقعوا أن المساحة على اليسار سوف تظل خالية استراتيجيا). ومع ذلك، أصبحت هشاشة التحالف واضحة (واستغلت الحكومة ذلك على الفور): فقد سمح الرئيس السابق فرانسوا هولاند بشكل مخجل بوضع اسمه على القائمة الانتخابية من أجل إظهار - كما يمكن للمرء أن يتخيل - رغبته في "الانفصال" عن الماضي الذي يجسده، لكبح جماحه بدلاً من دعمه؛ وأكد جان لوك ميلينشون مجددًا مطالبته بالسلطة في الحزب الذي أسسه "شخصيًا" ضد النواب المستقيلين الذين يمثلون موقف التحالف في حركة فرنسا الأبية، وأوضح أنه سيهيمن على الكتلة البرلمانية من الخارج.

قبل كل شيء، باستثناء التحالف الانتخابي، لا توجد (أو حتى الآن) حركة مواطنين "على المستوى الشعبي" يمكنها دعم التحالف الحزبي وتشجيعه والسيطرة عليه، على الرغم من وجود دعوات أو تظاهرات أو اجتماعات أو تبادلات في شبكات التواصل الاجتماعي. ومن الواضح أن الحراك أو التعبئة التي يمكن وصفها بـ«الجماهيرية» لن تخرج من باطن الأرض بعد أيام قليلة لمجرد أنها ضرورية أو لأن هناك أصواتاً تطالب بها. ولكنني أعتقد أيضاً أن مثل هذه التعبئة ستكون صعبة (وبالتالي تتطلب قدراً كبيراً من الإرادة وقوة التصور)، وأن الأمر يستحق التساؤل عن السبب الذي يقف وراء ذلك. وهنا مرة أخرى، يمكن أن توفر مراجعة لتجربة عام 1936 مؤشرات قيًمة.

كيف يُكتشف الشعب؟

لكي أفهم بشكل صحيح: إنه اختراع جميل أن نشير إلى الجبهة "التاريخية" وأن نستخدم اسمها لمعارضة النصر المتوقع لحزب التجمع القومي، والذي أعطاه الرئيس ماكرون المزيد من الزخم. لأن اللحظة التي نجد أنفسنا فيها، كما في عام 1936، تتميز ببديل جذري. فإما أن توضع الدولة في خدمة مشروع شمولي لا ينبغي ان يخدعنا حديثه عن "التطبيع". أو يتشكل «شعب» مقاوم ويؤكد نفسه، واعياً للمصالح والأهداف الأساسية والمشتركة المطلوب تحقيقها، فيقلب ما يبدو أنه مصيره.

هذا هو التشابه الكبير بين الوضع في عام 1936، بعد محاولة الانقلاب المناهضة للبرلمان في شباط 1934، عندما وصلت الفاشية إلى السلطة في بلد أوروبي تلو الآخر، ووضعنا الحالي في عام 2024، عندما تتأثر فرنسا أيضًا بموجة شعبوية، "غير ليبرالية" وقومية تنتشر في جميع أنحاء العالم وخاصة في اوروبا. ولكن وبخلاف ذلك، إذا نظرت إلى الظروف الاقتصادية، القوى المجتمعية، الأيديولوجيات، والمؤثرات، لم يعد هناك أي شيء أو لا شيء تقريباً مما جعل تشكيل الجبهة الشعبية التاريخية ونجاحها (ولو مؤقتاً) ممكناً. لذا فإن الاختلافات هي السائدة، ولكن ماذا يعني ذلك بالضبط؟

للتعبير عن "1936 " بكلمة واحدة تتفق مع قمة ما وصل اليه الصراع الطبقي في بلادنا من الشدة والنقاء، باعتباره الحبل السري للنضال السياسي وشخصية فاعليه. لقد أدت المواجهة بين الديمقراطية والفاشية إلى تعميق هذا التكوين والإفراط في تحديده، بحيث اندمج كلا المنطقين بشكل يصعب التميز فيه بينهما في وعي الفاعلين. "خبز، سلام، حرية": المواطنون والعمال، أنصار وقادة الجبهة الشعبية دافعوا عن الديمقراطية معًا وبالطريقة الوحيدة الممكنة (أي من خلال توسيعها) وفرضها (من خلال الإضرابات واحتلال المصانع) وهذه أعظم "إنجازات" الطبقة العاملة" في تاريخ الرأسمالية.

وبلا شك يعود ذلك إلى اللحظة التي حدث فيها هذا الصراع: في أعقاب حرب وثورة وأزمة اقتصادية عالمية. إنها واحدة من تلك اللحظات التاريخية النادرة جدًا التي تصبح فيها الطبقات "مرئية" لنفسها ولبعضها البعض. ومن هنا كان وجود حركة عمالية قوية تقوم على النقابات والأحزاب (حتى لو كانت مقسمة على عدة منظمات)، والتضامن الطبقي الذي كان جزءا من الحياة اليومية (ويعبر عنه، من بين أمور أخرى، بدعم العاطلين عن العمل)، و "أفق الآمال" أو اليوتيبيا التي ضمنت أن العداء السياسي كان قادرًا على التشكيك بالرأسمالية في حد ذاتها منذ البداية (وأجبرها في النهاية على اختراع نماذج جديدة لتنظيم العمل و"تسوية اجتماعية"). بالإضافة إلى ذلك، أصبح السؤال الدستوري الذي مضى عليه أكثر من مائة مئة عام (بمعنى "الدستور المادي") والذي كان في الأساس في الهواء منذ الثورة الفرنسية ضروريًا والاختيار بين جمهورية أوليغارشية تحكمها "النخب" البرجوازية ، لصالح المالكين والديمقراطية الجمهورية التي تمارس فيها الطبقات الشعبية سلطة حقيقية، إن لم تكن مطلقة وتمثيلية.

ولذلك يمكن القول بأن هذه الطبقات كانت تاريخيا في موقف هجومي، على الرغم من الصعوبات المادية التي كان عليها أن تواجهها والهجوم العنيف الذي كان يهدف إلى إرهابها. وقد أدركت ذلك في شكل "جبهة" كانت لغتها الخاصة بالتحول الاجتماعي مفهومة على الفور لمؤيديها وأعضائها. واليوم، نكرر، ليس هناك شيء مماثل أو شيء يمكن أن يكون مرادفا مباشرا لها.

إن سياسات اليسار، على الرغم من أنها تعتمد على مبادئ ديمقراطية واشتراكية وشيوعية وبيئية معقولة، لا تزال تبدو دفاعية بشكل أساسي: دفاعية ضد سياسات الليبرالية الجديدة لتدمير حقوق العمال وتدابير الحماية، ودفاعية ضد الخصخصة المباشرة أو غير المباشرة، أو تفكيك المؤسسات العامة. دفاعية ضد جعل الثقافة تجارية، دفاعية ضد الأشكال "غير النمطية" للأزمة الاقتصادية المتأصلة في الرأسمالية المالية، دفاعية ضد العولمة وضد ردود الفعل الشعبوية والقومية التي تولدها. دفاعية، ربما قبل كل شيء، ضد "الكوارث" التي تجعل الأفق مظلما، من كارثة المناخ إلى الثورة الرقمية إلى عودة الحرب. لأن كل واحدة من هذه الكوارث تورط اليسار في معضلات ليس لديه حل لها (مثل معضلة تراجع النمو وتقليص عدم المساواة)، وتدفعه إلى صراعات المصالح والمبادئ التي تمثل عقبات أمام المشروع، وتحرم وحدة العمل من أساسها التاريخي، الذي ستحاول السياسة تنفيذه وتعزيزه. ان الاسم وحده لا يغير شيئًا، ما لم يستحضر إمكانات غير ملحوظة في الموقف يجب تسليط الضوء عليها.

إذا كنت هنا متشككا للغاية، فلغرض تسمية المهمة التي يتعين على تحالف اليسار أن يتصدى لها الآن من أجل انشاء "الجبهة الشعبية" التي يرى نفسه حاملاً لها والتي بدا وجودها بالنسبة له وكأنه ضرورة حتمية من أجل الصالح العام. تنطوي هذه المهمة على جانبين مختلفين، لكنهما يتطابقان في الممارسة أو عمل سياسي جماعي واحد: فمن ناحية، يجب علينا أن نحول الموقف الأيديولوجي الدفاعي إلى موقف هجومي، لا يقوم فقط على ردود أفعال أو ردود جمهورية على الخطر، بل مشاريع حقيقية، ا تطلق "سلطة التعامل" - وبشكل أكثر دقة: قوة العمل المشترك نفسه - والتي تعيد تنظيم مخاوف وآمال الجمهور بشكل أساسي.

ومن ناحية أخرى، يجب علينا أن نجد "الشعب" الذي ما زال افتراضي، الذي سيتبنى المشاريع، ويخلق اللغة التي يمكنه من خلالها مناقشة مصالحه المشتركة، وقبل كل شيء، خلافاته وصراعاته، من أجل التغلب على خصومات وصراعات الحاضر، وتلك الموروثة تاريخيا. إذا عالج الشعب "النزاعات" التي تفصله عن نفسه ورجع بقدر الضرورة إلى أسباب الصراع فقط، فإن الشعب "المفقود" اليوم، المكون من جماهير غير متجانسة وغريبة تقريبا، سيجد وحدته وتماسكه وهويته السياسية. ان "شعب" الجبهة الشعبية ليس أمراً مسلماً به، بل يمكن القول، إلى حدٍ ما، إنه غير موجود، وأنه لا يزال في طور النشوء.

من الصراع الطبقي إلى تشابك الحركات

في هذه النقطة أود أن أقترح فرضية. وهذا بالطبع ليس المكان المناسب لإعادة تناول النقاش النظري بشأن بناء "الهيمنة" السياسية التي كانت حتى وقت قريب تشغل جزأ كاملاً مما يسمى بالفكر "الديمقراطي الراديكالي". وكذلك ليس المكان المناسب لمناقشة مشكلة كيف يمكن تحويل تعدد المصالح "التحررية" و"الذوات" التاريخية غير المتجانسة من دافع الشلل والخصومات الأيديولوجية المستمرة إلى قوة سياسية. من الواضح أن مشكلة "التناقضات بين الشعب"، أصبحت مشكلة ملحة جدا، وببساطة لسبب وحيد (سأعود الى ذلك في ادناه)، لأن حزب التجمع القومي، أصبح الان في وضع يسمح له بكسب المناصرين من جميع طبقات المجتمع الفرنسي تقريبا (وهذا بالضبط ما فشلت فيه الماكرونية تماما): يبدو أن اليمين المتطرف قد وجد حلاً يمكن وصفه بالشعبوي. في الواقع، إن التجمع القومي في طريقه للعثور على "شعبه". كيف سيكون حال اليسار؟ بين "الشعبوية" و"الشعبية" هناك عدم توافق وتقارب جذري، وهو مماثل مثير للقلق للسؤال المطروح الذي يجب أن يثير اهتمامنا أولا.

إذن هذه هي فرضيتي للعمل: لا أعتقد أنه يمكننا ترك الأمر للنهجين الكلاسيكيين لتشكيل الشعب بالمعنى السياسي، كما هي في التقليد النظري والاستراتيجي بشأن "الهيمنة" عند اليسار الأوروبي والعالمي، سوا كان ماركسيا ام لا، حيث كانت المبادئ الأساسية: من ناحية النهج الذي ينطلق من الفئات المجتمعية التي تحتاج إلى إدراج مصالحها والتوفيق بينها (العمال، أو بشكل عام، الأجراء، والعاملون لحسابهم الخاص، وخاصة المزارعين، وموظفي الخدمة المدنية وموظفي القطاع العام، والمثقفين والفنانين، وما إلى ذلك)، ومن جهة أخرى ما ينطلق من "الأحزاب" بالمعنى الأصلي للكلمة، أي من القرارات التي يتخذها الأفراد والجماعات على أساس القيم الأخلاقية الدينية أو العلمانية المتنافسة والتي يتم التعبير عنها في أنماط الحياة والعقائد. لا شك أن هذين الاسلوبين يمسان الظروف الأساسية للسياسة (بما في ذلك السياسة اليسارية)، والتي تتعلق دائمًا بمواضيع الموقع المجتمعي (الرفاه) والأيديولوجيات أو "الرؤى العالمية". لكنهما أكثر تجريدًا واستنتاجًا، ولهذا السبب بالذات غالبًا ما يواجهان المفاجأة غير السارة المتمثلة في أن "الطبقة" تطوي في داخلها مصالح وآليات استبعاد متناقضة، وأنه حتى الطائفة أو الأيديولوجية التقدمية ليست محصنة أبدًا، ضد التقلبات الشديدة بين الديمقراطية. والشمولية. ولذلك، يبدو لي، وارتباطا بالأمر الملح، فإننا بحاجة إلى تغيير أسلوبنا والبحث عن الإلهام في التجارب التي مررنا بها أو لاحظناها اخيرا. ولا ينبغي لنا أن نتخذ من الظروف المجتمعية أو الأفكار نقطة انطلاق، بل الحركات الاجتماعية والسياسية الحقيقية، التي يمكن القول إن جميعها "شعبية". وبطبيعة الحال، فإن هذه الحركات، حتى لو كانت جماهيرية، هي بحكم تعريفها أكثر تناقضا وعدم استقرار وقصيرة الأجل من الأشكال الاجتماعية أو الأيديولوجية. لكنها في بعض الأحيان تسلط الضوء على المطالب الحقيقية للوضع واللحظة الراهنة، والتي خلاف ذلك، لم نتوصل اليها.

شهدت فرنسا في السنوات الأخيرة عدة حركات، (ربما باستثناء الحركة النسوية، التي شهدت صعودًا وهبوطًا ولكنها لم تختف أبدًا) تم هزيمتها أو خنقها أو على الأقل عزلها من خلال مزيج من القمع والتلاعب والإرهاق. لكنها تركت ا آثاراً وربما تعود. أفكر بشكل خاص بـ:

1) حركة 2016 Nuit debout (الليلة الأولى) وكل التعبئة ضد " اصلاح قانون العمل" لحكومة الرئيس الفرنسي السابق هولاند، والتي تضافرت مع الدفاع عن حقوق العمال ضد منطق "القدرة التنافسية" للشركات. وتجارب الديمقراطية التشاركية (على غرار حركة "احتلوا " و"التجمعات" في انحاء أخرى من العالم.

2) حركة "السترات الصفر" 2018-2019 ضد ارتفاع أسعار الوقود التي أثرت على جميع العمال السكانين بعيدا عن موقع العمل وعمال العقود المؤقتة وأصحاب الأعمال الصغيرة: اختراعهم لـ "احتلال" رمزي للمكان ومطالبتهم بالمشاورات الديمقراطية (المبادرة الشعبية - الاستفتاء) تمكنت من كسب تأييد العديد من الفئات الاجتماعية قبل أن يتم قمع الحركة بقسوة من قبل الشرطة العسكرية وسخرية الرئيس.

3) تعبئة طواقم التمريض في المستشفيات والموظفين في المرافق البلدية خلال المرحلة الحادة لوباء كورونا: الذين عوضوا بعملهم عدم الاعتماد على الدولة وتراجع الخدمات العامة وبالتالي أيضا، ولكن وبطريقة مختلفة، أثارت التعاطف وجعلت المطالبة بالاعتراف مسموعة.

4) ثورة الضواحي ضد العنصرية المؤسسية وعنف الشرطة، والتي استمرت بأشكال مختلفة لم تخمد أبدًا منذ أوائل الثمانينيات، والتي اندلعت مرة أخرى بعنف مذهل بعد مقتل ناهل مرزوق في حزيران 2023، وتستمر حتى اليوم في حركة التنظيم الذاتي لهذه الأحياء (وصرح المتحدثون باسمها بشكل لا لبس فيه لصالح الجبهة الشعبية).

5) حركة الإضرابات والمظاهرات ضد إصلاح نظام التقاعد الذي رفضته الأغلبية الساحقة من البلاد بين كانون الثاني واذار 2023، والتي اتسمت ليس فقط بسعة المشاركين وتماسكهم، بل أيضا بتشكيل جديد لـ "تحالف نقابي" ديمقراطي، أحيى الصراع الطبقي، بقيادة شخصيات متميزة، اثبت قدراته التنظيمية التي اعتقد انها مفقودة.

6) التحالف البيئي (انتفاضة الأرض)، وبشكل أعم، التعبئة ضد تغير طبيعة التربة وإزالة الغابات وضخ المياه الجوفية للزراعة المكثفة، والتي تم تأسس على المدى الطويل وترسخ مع "الأممية" الأكثر أهمية في الوقت الحاضر (أي أممية الحركات البيئية التي تواصل النضال على الرغم من أو على وجه التحديد بسبب فقدان أحزابها لقوتها).

7) الحركات النسوية، التي لا تختفي، رغم أنها بسبب الطابع "المتناقض" لـ "طبقة النساء" تنقسم باستمرار إلى فصائل وتتناقض مع بعضها البعض في مبادئها الفلسفية: Me Too لا تلخصها، لكن المصطلح عكس افضلية التأكيد على أهمية مكافحة الموافقة على سفاح القربى (زنا المحارم) والاغتصاب والوحشية الذكورية تجاه النساء.

هذه الحركات، التي يمكن أن ننسبها إلى «المجتمع المدني» (رغم عدم دقة هذا المصطلح)، تحمل شهادة بليغة على الذين لا يتحركون والمستسلمين. ولكنها غير متجانسة في جميع النواحي: المشاركون، الأصول أو المناسبات، المدة، أشكال التنظيم (أو العفوية)، التوترات الداخلية، المرجعيات الأيديولوجية أو الرمزية، درجة التطرف تجاه النظام الاجتماعي والعداء تجاه ممثليه (وهذا بالطبع يمثل جزئيًا المضاد لدرجات القمع المتفاوتة التي تتعرض لها هذه الحركات). ولا يمكن حتى إعطاء تعريف واضح لماهية "الحركة"، لأن كل واحدة منها أعادت اختراع هذا الشكل حسب الظروف والأهداف. لكنني أود أن أقول مبدئيا إنها جميعا (أو كانت) تتميز بالقدرة على تحويل الدفاع إلى هجوم، و"الرفض" الى (الغضب أو اليأس) لتأكيد الحق، والتضامن والإرادة لتغيير " العالم " بمعنى المساواة والعدالة. ولهذا السبب، فهي قابلة للتعميم بناءً على المواقف والظروف التي نشأت فيها. وبعبارة أخرى، هي "أعمال مواطنة"، كما يقول إنغين إيسين (أستاذ السياسة الدولية في الجامعات البريطانية والكندية- المترجم)، وحاملة لهذه اليوتوبيا الملموسة، والتي بدونها لا توجد سياسة تحررية. ان الامر لا يتعلق بدمج هذه الحركات أو استيعابها في "برنامج" واحد و"استراتيجية" واحدة، بل توجيه طاقتها إلى وضعنا الحالي (الكفاح ضد الجبهة القومية وما تمثله). لإعادتها إلى الحياة وإيجاد تشابكها المرن والمتطور لتعزيز تماسك الناس وقدراتهم على خلق مستقبل مشترك.

أتعمد استعارة مصطلح التداخل أو المشتركات من مقال لميتشل فيهر (فيلسوف ومنظر وأكاديمي بلجيكي – المترجم) نشر قبيل أحداث التاسع من حزيران (انتخابات البرلمان الأوربي). وفي المقال، يجادل فيهير ضد فكرة الحركة الاجتماعية المتجانسة، عندما يدعو إلى تحالف يبدأ بـ "تقاطع الأسباب الفردية"، ارتباطا توحيد اليمين، وهو ما يستشرفه بوضوح مثير للإعجاب. والفرق الوحيد (ولكنه مهم) هو أنني لا أعتقد أن الأسباب والحركات المفردة هي "أقلية": بل على العكس من ذلك، فأنا مقتنع بإمكانية تعميمها ورسمها في أفق الأغلبية الافتراضية التي يجب بناؤها من خلال الممارسة السياسية. فضلا، عن عدم السماح لتداخل الحركات او تشابكها (او ما يجعل خبرتها والهامها يمتد الى الحاضر)، ان يكون فارغا، لا من الأفكار، ولا من الرموز، ولا الشعارات، ولا من الفاعلين الملموسين، الذين يتحركون بينها، عندما ينتقلون من حركة الى أخرى، ويناقشون العلاقة فيما بينها (وليس المقصود هنا المنظمين المحترفين، مثل أعضاء حزب ما وكوادره). على سبيل المثال، في "الاجتماعات" كما اقترحت التنظيمات المنخرطة في «الجبهة الشعبية» في إعلانها الأول، والتي تحدثت عن ضرورة استكمال البرنامج، من خلال مناقشات مع المواطنين الراغبين بشأن النقاط العالقة أو المثيرة للجدل. قد لا تكون الأشكال التقليدية للممارسة السياسية الجماهيرية قديمة كما يفترض في بعض الأحيان (وكما تثبت قدرة النقابات العمالية على المقاومة)، ولكن هناك حاجة ماسة إلى أشكال جديدة وهي ضرورية لتشكيل "الجبهة الشعبية" في البنية الاجتماعية والمدنية.

قد يعترض المرء قائلًا إنني لم أحقق تقدمًا كبيرًا لأن هذا اللقاء الإبداعي بين الحركات، الذي بواسطة فاعليها، يمثل إشكالية مثل "الجبهة الشعبية" التي من المفترض أن تُعطى مضمونًا وتُرسخ في الحياة اليومية. وهذا صحيح تماما: لم أرد تقديم وصفة، بل تحديد أبعاد المشكلة التي نواجهها واقتراح طريقة للعودة إلى تلك الطاقة، والتي، على الرغم من الاختلافات العميقة في الزمن والظروف، سمحت للجبهة الشعبية التاريخية بهزيمة خصومها. وبنفس المعنى، أود أن أختتم باقتراح مناقشة ثالثة، حول الفرق (المذكور أعلاه) بين "الشعبوية" و"الشعبية"، والذي، في رأيي، يكمن في جوهر المواجهة المقبلة (خلال المرحلة المقبلة) خلال الانتخابات، بغض النظر عن نتائجها، وخاصة بعدها) بين المفهومين والممارسات للسياسة.

البنية النفسية للوبانية: الكراهية والخوف

ويبدو لي أن نقطة الانطلاق في هذه المناقشة تتلخص في السؤال حول ما الذي يشكل "قوة" حزب التجمع القومي في فرنسا المعاصرة، التي تنعكس في نجاحاته الانتخابية وترسخه في المؤسسات (وخاصة في البلديات). أعتقد أننا يجب أن نتحدث عما أود أن أسميه، محاكاة ساخرة لمصطلح مشهور، "البنية النفسية للوبانية" (نسبة الى جان -ماري لوبان الاب ومؤسس الحزب وابنته مارين- المترجم)، أي مزيج من المشاعر والأفكار التي تشكلها وتمنحها طاقتها. تحدث جورج باتاي (1887 – 1962، فيلسوف فرنسي. تأثر في كتاباته بنيتشه وبالنزعة السوريالية -المترجم) ذات مرة عن "البنية النفسية للفاشية". كان يشير إلى أن مشاركة الجماهير (في فرنسا، وخصوصا في ألمانيا وإيطاليا) في الحركات المبنية على العسكرة التي تمجد عبادة القائد كانت مدفوعة بالكراهية القاتلة للأجانب، والمثقفين، والشيوعيين واليهود وشكلت " "التعصب للحياة الطبيعية والهوية" الامرا لذي لا يمكن تفسيره بشكل مقنع بالمصالح الطبقية أو المعتقدات الأيديولوجية فقط. وأكثر من هذا، كانت الدوافع اللاواعية مهمة، حيث سلطت الضوء على الأساس الشهواني والمميت للنفسية الجماعية (الذي أشار إليه باتاي بـ "غير المتجانسة") ومقاومة ما هو طبيعي. تؤشر "اللوبانية" أوجه شبه مماثلة تبرر الاعتراف بفاشية محتملة، تستطيع إعادة تنشيط تلك التقاليد العنيفة التي صدتها السياسة "الليبرالية" أو همشتها، والتي يمكن أن تعود الآن برداء جديد. دعونا نتفحص أمريكا ترامب، وهند مودي، وروسيا بوتين: لا شيء يجعلنا محصنين ضد هذه الميول. ولكن هناك - على الأقل في الوقت الحالي - اختلافات تحتاج إلى تسليط الضوء عليها إذا كنت لا تريد الوقوع في فخ فكرة كفاية إيقاف مشروع الجبهة القومية على المدى القصير من خلال "التعبئة المناهضة للفاشية" في صناديق الاقتراع ثم البدء في قلب توازن القوى الذي انتجه في المجتمع. ان هناك نواة من الشباب العنصري في صفوف الجبهة القومية مستعدة للعنف العلني، لكن الجبهة القومية لا تجلب ميليشيات أو جماهير متعصبة إلى الشوارع. لان هذه ليست استراتيجيتها ولا تملك القدرة على القيام بذلك. والسبب وراء تأثيرها على عدد كبير جدًا من المواطنين ذو طبيعة مختلفة: فهو لا يعتمد على الكراهية بقدر ما يعتمد على الخوف أو الذعر من التغيرات التي تحدث في العالم والتي تؤثر عليهم. وبشكل أكثر دقة، فإن كراهية („الآخر" بشكل عام) يتم تطعيمها بالتأثير الأساسي للخوف، وهو الشعور بالعجز.

أي خوف هذا؟ بشكل اساسي، انعدام الأمن المتزايد الذي يعيش فيه هؤلاء المواطنون والذي يرون الآخرين (أقاربهم، جيرانهم، آبائهم، أطفالهم) يعيشون فيه. ويشمل هذا الخوف عدم اليقين بشأن المستقبل المهني والأسري والمدرسي (ترى من يتحدث عن العواقب المدمرة لتدهور نظام التعليم، وفقدان جودة التأهيل (الشهادات) وحدود الاختيارات المترتبة عليه، كما يطرحها مجلس التسجيل المركزي للقبول؟) بالإضافة إلى اليقين المتزايد بشأن تغير الوضع الطبقي، ارتباطا بمستويات المعيشة، الاستقرار أو عدم الاستقرار، ونوعية فرص العمل والبيئات الحضرية أو الضواحي، والتقدير من جانب الإدارة و"النخب" الرائدة. لا تؤثر هذه المشاعر على كتل المجتمع التي يمكن وصفها بـ „الهامشية" فقط، بل تؤثر أيضاً على نطاق واسع من الفئات الاجتماعية التي تقع في الوسط "بين" الأثرياء (الذين يزدادون ثراءً) والفقراء (الذين يزدادون فقراً). الذين تختفي الحماية والتضامن عندهم لصالح المنافسة التي لا ترحم والإهمال، إن لم يكن الازدراء (حيث يكون الخاسرون دائما أكثر من الرابحين). في هذا السياق، طرح علماء الاجتماع الجيدون الفئة الثاقبة لـ "الوعي الثلاثي"، والتي تهدف إلى التعبير عن أن الشعور بغربة الطبقات الشعبية، والتي تشمل بالتالي جميع الأفراد الذين ليس لديهم رأس مال مالي أو ثقافي، يشير في اتجاهين: مرة تجاه "الحكام"، والذي يتم التعبير عنه بالاستياء من إثرائهم الأكثر تطرفًا وغطرستهم و"عزلتهم" الاجتماعية؛ وتجاه "المستبعدين" الذي يتجلى في الاشمئزاز من المصير الذي يبدو أنهم يرسمونه للجميع. أما التأثير الثاني فهو أكثر عنفاً من الأول، لأن مواطني "الوسط" ليس لديهم أوهام بإمكانية تغيير أي شيء فيما يتعلق بتركيز الامتيازات والثروة (أي الرأسمالية)؛ وبدلاً من ذلك، فإنهم يخشون من تغير وضعهم الطبقي أو السقوط ويتملكهم هذا الخيال القوي. كانت استراتيجية الجبهة القومية (التي تعمقت منذ تحولها إلى التجمع القومي) هي استغلال الشعور بعدم الأمان الوجودي المقترن بالشعور العام بالعجز إلى أقصى حد، وذلك بإضافة عنصرين لتعبئة المخاوف "الأساسية" لعلم النفس الفردي والجماعي: من ناحية، تعبئة للخوف من العنف من خلال ربط انعدام الأمن الاقتصادي بالجريمة و" وهدم التحضر" وطمس الحدود بين الفقر والجريمة، ومن ناحية أخرى، الخوف من الآخر، من خلال دمج الخوف من تغير الوضع الطبقي مع الهوس، بعدم القدرة بعد الآن على تمييز نفسه عن "الأجانب" (أو عن هؤلاء المواطنين الذين ما زالوا يعتبرون أجانب ولهذا السبب الوقوف في المستوى الاجتماعي "الأدنى"). ونتيجة لذلك فإن تصورات المؤامرة والمخاوف من التراجع أو الإهمال (وخاصة من جانب الدولة) من الممكن أن تعزز بعضها البعض بطريقة دائرية: إذ يأتي الأجانب بأعداد كبيرة (أو يتم إرسالهم بأعداد كبيرة) "ليحلوا محلنا" ويستولوا على السلطة السياسية، والاستيلاء على الوظائف والمزايا الاجتماعية ويدفعون بنا إلى مكانتهم "الثانوية". إنهم ينخرطون في نشاط إجرامي ويفسدون من هم في السلطة (أو يضعونهم في خدمتهم). لقد "دمر" وجودهم نظامًا اجتماعيًا كان من الممكن أن يستمر إلى الأبد. ومن المفارقة (أو الفضيحة) أن الدولة (دولتنا) "تحميهم" أيضًا (أي أنها لا تطردهم أو تقمعهم، على الأقل ليس بشكل صارخ بما فيه الكفاية). ويبدو أن هذا يشير إلى أن الدولة أصبحت مجردة من الجنسية (القومية) بطريقة ما.

مركزية الدولة المتناقضة

وكل هذا معروف إلى حد ما. لذلك أنا لا أدعي الأصالة. لكن أود أن أبدي أربعة ملاحظات:

1) بالتأكيد لا ينبغي للمرء أن يقلل من شأن قوة التعبئة والإمكانات القاتلة للمشاعر التي تغذي كراهية الآخرين وتؤدي إلى الرغبة في "تفضيل" العنف، خاصة من قبل الشرطة، ضد الأفراد المصنفين عنصريا، الذين ما زالوا يُشار إليهم باسم "المهاجرين" حتى وان كانوا من أبناء الجيل الثاني أو الثالث أو الرابع (وفي الواقع لأمد غير محدد). ولا يجوز نسيان أن هذه المشاعر تجدد لأفكار التي خلفها الاستعمار واستياء العديد من المواطنين الفرنسيين تجاه السكان "غير البيض" الذين "حرمونا" من امتيازات الإمبراطورية الاستعمارية. ومع ذلك، يجب على المرء أن يدرك (على الأقل هذه هي الموضوعة التي أؤيدها) أن الخوف أعمق من الكراهية. وهذا يعني على الأقل أن استمرار الخوف هو الذي يجعل من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، تحرير النفس من الكراهية بواسطة القلب أو العقل. الأخير يركز على "الأشياء" (الأغنياء سابقًا، والآن الفقراء أو الأفقر)، لكن الخوف يفسر لماذا من المستحيل (أو من الصعب جدًا) الإيمان بإمكانية وجود عالم أفضل وأكثر مساواة أو عدلاً من شأنه أن يجعل العالم أكثر عدلاً وأكثر مساواة، مما يجعل من الممكن "عدم كراهية" الآخر المختلف.

2) الخوف هو شعور ينشأ وينتشر في المتخيل. ويمكن القول إنه وهم يتملك الأفراد، لا يمكنهم السيطرة عليه. ولكن انعدام الأمان الذي ينتج عنه ليس شيئاً خيالياً: فهو حقيقي تماماً وقد أصبح، في عالم اليوم، حالة تعم عدد متزايد من المواطنين. وفي المقدمة منهم المجموعات السكانية التي كانت حتى وقت قريب تتمتع بالحماية بدرجات متفاوتة بسبب انتمائها الوطني ونتيجة لنضالاتها وجهودها (مثل السكان العاملين في الدول البرجوازية "الإمبريالية" في "الشمال")، التي سقطت في هذا الوضع. وهذا نتيجة لسياسات الليبرالية الجديدة التي تمارس وحشية تجاه المجتمع بأكمله لتعزيز العولمة وإلغاء القيود المنظمة (حيث يلعب الاتحاد الأوروبي دورا الحماية الضارة المدمرة، وهو أمر مخيف للغاية، عندما يتجاوز السيادة كما يبدو). وهذه العواقب ملحوظة بشكل خاص عندما تتمتع دولة الرفاهية (التي وصفتها في مكان آخر باسم "الدولة الوطنية الاجتماعية")، كما هو الحال في فرنسا، بدرجة عالية من النمو بسبب النضالات الطبقية الطويلة، ولكن أيضًا من خلال توجه "الشراكة الاجتماعية" للدولة وسياساتها، تم تحقيق درجة عالية من العالمية والفعالية. لذلك، من غير المجدي على الإطلاق محاولة قمع الخوف والكراهية المستبطنة والجماعية إذا لم يكن لدى المرء الوسائل أو النية لمكافحة انعدام الأمن الاجتماعي "روبرت كاستل" (1933 – 2013 عالم اجتماع فرنسي - المترجم) وأسبابه الهيكلية والعالمية والدائمة. إن الوعد بـ "إعادة الاتصال بالماضي" الذي يوظفه حزب التجمع القومي في الدعاية قد يحمل كل سمات الخداع، ولكنه يستجيب لتجربة حقيقية.

3) بالدقة، ان الدولة هي المدار والنقطة التي ترتبط عندها العناصر النفسية والمحددات الهيكلية (الاقتصادية والاجتماعية). وبالطبع لا وجود لـ "الدولة" بصيغة المفرد. إنه مجرد اسم لمجموعة معقدة للغاية، وليست متماسكة بأي حال من الأحوال، من مؤسسات ذات أعمار وأوضاع قانونية مختلفة، وسلطة " أكثر معيارية" أو "وعنف قسري" غير متكافئ، يتم توزيعه في جميع أنحاء المجتمع... "رئيس الدولة" هو فقط جزء صغير من هذه المجموعة يتعرض باستمرار لخطر المبالغة في تقدير سلطته. لكن خلف هذا الاسم "الدولة" آثار حقيقية جداً تنعكس في وعي من لا يستطيعون العيش من دون الدعم الذي توفره أو تضمنه قانوناً لهم. خلال القرن العشرين، تغيرت الدولة في فرنسا وأماكن أخرى بشكل كبير مقابل حيوية كائن السلطة "السيادية" التي انبثقت من الإمبراطورية في العصور الوسطى والملكية، وتم "إعادة تخصيصها" من قبل الممثلين المنتخبين في العصر الحديث. وصف ميشيل فوكو (1926 – 1984 فيلسوف فرنسي – المترجم)، الذي يمكن تعميم صياغته، الدولة بأنها السلطة أو الهيئة المسؤولة التي واجبها تجاه المواطنين “صنع الحياة أو تركهم يموتون". انا شخصيا تحدثت عن "الدولة الوطنية الاجتماعية" لكي أوضح أن السياسة التي تقوم عليها شرعيتها لا تتعلق كثيرًا بـ "الدفاع عن المجتمع" ضد الأعداء الداخليين والخارجيين أو الخضوع لأيديولوجية مهيمنة، بل أكثر على القدرة على تنظيم مؤسسات عامة "كونيه" وضمان الموارد والدعم الشخصي بشكل قانوني (مثل إعانات الأطفال) في إطار وطني (وهذا لا يعني أنه يجب تحديد المستفيدين حسب قوميتهم: فهذا يعتمد على تصور الدولة ومواطنيها عن "الجماعة" التي تعيش وتعمل على أراضيها). ما لم يتغير هو حقيقة أن الضرائب المباشرة أو غير المباشرة، التي تشكل عبئا غير متساو على المواطنين، تجمعها الدولة لتوزعها بعد ذلك وفقا لسياساتها (ربما كان ينبغي أن أتحدث عن دولة مالية وطنية اجتماعية، بعبارة أخرى: الأخذ بفكرة فولفغانغ ستريك) (1946 عالم اجتماع الماني – المترجم). ولكن منذ الثلث الأخير من القرن العشرين، اهتزت هذه البنية: لقد أصبحت الدولة تعتمد أكثر فأكثر على الأسواق العالمية في مواردها وسياساتها (حيث استبدلت الضرائب بالديون)، وبدأت، تحت ضغط هذه الأسواق (أو بالأحرى الذين يهيمنون عليها)، بتفكيك الخدمات وأنظمة الضمان الاجتماعي التي رسخت شرعيتها السياسية. وهذا ما يسمى بالليبرالية الجديدة، والتي يمكننا أن نلاحظ عواقبها المدمرة اليوم على الثقة بالمؤسسات الديمقراطية.

وعلى هذا الأساس، من الممكن أن نفهم بشكل أفضل كيف يعمل شعار "الأفضلية القومية"، الذي يقع في قلب الأيديولوجية الشعبوية، ومن أي أزمة مؤسسية ونفسية ينبثق. كلما زاد فقدان المواطنين لحقوقهم الاجتماعية وإمكانية الوصول إلى الخدمات العامة التي كانت ممنوحة لهم في السابق أو التي وعدوا بها بشكل مثالي، كلما وجدوا أنه من غير المعقول أن يتم منح نفس الحقوق والخدمات (وإن كان على نطاق أضيق بكثير) للأفراد الذين لا يشكلون جزءًا من " "المجتمع الوطني" ينبغي أن يستند إلى معايير الأصل والأنساب. وكلما وجهوا سخطهم ضد الدولة، كلما طالبوا بأدلة واضحة على أن الدولة "ملكهم" (تماما كما ينتمون إلى الدولة، أي أنهم يعتمدون عليها) وأن هذه الملكية تمنحهم الأولوية. استخدام خدماتها. وتتكون هذه الأدلة من الطرد والتمييز والوصم وارتكاب أعمال العنف ضد المستفيدين غير المستحقين. ولتحقيق بعض التغيير في هذا الوضع، لا بد من وقف وإلغاء تفكيك الحقوق الاجتماعية والخدمات العامة حتى تصبح كونية (الدولة) مبررة. ويجب فصل انتماء الجسم السياسي أو المواطنة (ما يسمى في التقليد الجمهوري "الأمة") من مفهوم الامتلاك وتحويله إلى مفهوم للمشاركة في "القضية المشتركة". وهذان تغييران ثوريان حقاً مقارنة بواقع اليوم، ولا يمكن تصنيفهما ببساطة، حتى لو كان من الأهمية القصوى لسياسة يسارية متماسكة صياغتهما كهدف وتهيئة الظروف لهما. وينطبق هذا بشكل خاص على الإصلاحات الضريبية (وبالتالي شدة الجدل الحالي حول "الثغرات الضريبية" والتهرب الضريبي)، ولكنه ينطبق أيضاً على الأفكار السائدة حول الجماعة الوطنية (القومية).

4) وهذا يقودني إلى تعليقي الأخير، وهو إلى حد ما الأكثر أهمية وحساسية على الإطلاق. ويزداد الأمر أهمية بالنسبة لي لأنني أميل حتى الآن إلى النظر إلى شكل الأمة (أي معادلة المواطنة والجنسية) كعائق أمام العدالة والمساواة والحرية وليس كشرط أساسي لها. ويمكن تفسير ذلك بتأثير التقليد الأممي الذي انضممت إليه في شبابي تحت تأثير الحروب الاستعمارية. كنت متضامنًا مع الامتياز التاريخي الممنوح للصراع الطبقي كأساس للسياسة الديمقراطية، ثم وسّعت هذا النهج لاحقًا ليشمل حركات التحرر الأخرى التي كانت بطبيعتها عابرة للحدود الوطنية أو تشكك في سيطرة هيئات الدولة "السيادية" على السكان. وقد دفعني هذا إلى إساءة تقدير الأسباب التي دفعت الجبهة الشعبية (وخاصة الشيوعيين) إلى اعتناق الوطنية (حتى قبل أن تثبت نفسها كروح للمقاومة و"مجلسها الوطني"، ونقطة الذروة في مناهضة الفاشية).

إن الخطاب الشعبوي، الذي تشير مصطلحاته ونبراته إلى "القومية المتكاملة" (تشارلز موراس)، يدفعنا إلى مواجهة يتعين علينا فيها إعادة النظر في هذا التقييم بشكل كامل. إن البديل ليس بين التحرر أو المساواة "العالمية" من ناحية، وقومية حصرية كارهة للأجانب من ناحية أخرى، بل بين مفهومين للأمة (أحدهما منفتح على العالمية والآخر ليس كذلك). هاتان طريقتان لبناء الأمة مؤسسيًا كمجتمع من المصالح والقيم، وطريقتان لضمان "استقلال" الأمة من خلال الأنظمة فوق الوطنية (والتي تتعلق أهميتها اليوم بمكافحة تغير المناخ)، ولكن أيضًا من خلال تبادل (دوران) الأفراد واللغات والمرجعيات الثقافية العالمية. فمثلما هناك خطاباً شعبوياً وخطاباً شعبياً، هناك أيضاً طريقتان لبناء الأمة.

الأول يتجاهل تعدديتها وتاريخها الحقيقي لصالح صنمية "أماكن الذاكرة" والعادات المحلية ومعايير الانتماء الأيديولوجية ل التي تميز بين أعضاء الأمة "الحقيقيين" و"المزيفين". والثاني يقوم على المكونات الفعلية للأمة، التي لا يمكن اختزال تعدديتها في لحظة تاريخية معينة في نمط واحد، ويشير إلى علاقات متنوعة بين "داخلها" و"خارجها". وهذا المفهوم المنفتح للتطور، لا يرفض أي "هوية" جماعية منذ البداية، بل يحاول خلق "نحن" على أساس العلاقات المتبادلة والمصالح المشتركة. وتزداد القدرة على القيام بذلك مع مجموع الاختلافات - حتى لو ارتبط ذلك بصعوبات وصراعات. ومن الجدير بالملاحظة أيضًا أن غالبية مطالب الاعتراف (أو “الاحترام”)، كما تصيغها اليوم احياء الضواحي الثائرة على العنصرية والإقصاء، تصب في هذا الاتجاه تحديدًا. ومع ذلك، في الوقت نفسه، سيكون من الوهم تمامًا الاعتقاد بأن تسليط الضوء على هذا الواقع يكفي لنزع الشرعية عن مفهوم الأمة الإقصائي الذي يتماثل معه ناخبو التجمع القومي، والذي يتم التعبير عنه في انشغالهم المهووس بـ” كارثة الهجرة” التي يجب تجنبها بأي ثمن وبكل قوة ممكنة. لأن هذا الهوس هو المقابل للشعور الجماعي بالعجز الذي يعاني منه نسبة كبيرة من المواطنين الذين يعانون من انعدام الأمن والخوف. فالشعب «مفقود»، لكن في وجهتين متناقضتين: في حالة، تم إنكار غيابه بعناد في شكل إعلان الانتماء للأمة المثالية التي تم فيها القضاء على جميع الأعداء الداخليين. وفي الحالة الأخرى، فإن غيابه يواجه باستمرار مشروع تجميع "الجماهير" غير المتجانسة التي تريد الإفلات من عالم العجز وعدم اليقين والتفاوت الشديد. وهذا المشروع “طوباوي”، انطلاقا من تناقضه مع النظام الاجتماعي السائد، ولكنه يرتكز على الظروف الاجتماعية الحالية. شعب ضد شعب، أمة ضد أمة، جماعة ضد جماعة. وفي وضع اليوم: "جبهة" ضد "جبهة" (حتى لو كانت متنكرة في زي "التجمع القومي").

في سبيل "مكافحة الشعبوية": سلطة التعامل، والاستقلال، والمؤسسات العامة

أود أن ألخص اقتراحاتي وأفتح المناقشة ببعض الأطروحات الملخصة.

إن الشعبوية، كما يجسدها التجمع الوطني بخصائص فرنسية محدده تنتمي إلى تيار سياسي أوسع بكثير يمكن ملاحظته عالميا، هي فاشية محتملة. إنها تبين فعليا العديد من سمات الفاشية، ولكن لأسباب تكتيكية، ولعدم توفر كل شروط التعبئة الجماهيرية للقضاء على "الأعداء الداخليين" في إطار أيديولوجية قومية متكاملة، فإنها تتراجع عن اتخاذ الخطوة النهائية (وفي هذا الصدد فإن الأمور أكثر تقدماً في هند مودي أو في أمريكا ترامب). ولكن، لا يمكن قلب هذا التطور بقوانا الذاتية. ومن الواضح وعلى عكس ذلك، سوف يتسارع هذا التطور إذا تمكن حزب الجبهة القومية من السيطرة على إدارة الدولة، سواء بسبب الصلاحيات التي سيحصل عليها أو بسبب العقبات والمشاكل التي من شأنها أن تضع سلطة الدولة في مواجهة دوامة من التصعيد. ان السبيل الوحيد لوقف هذا التطور هو مواجهته بشعبوية مضادة واعية ومنظمة، كما يسعى ضمنا مشروع "الجبهة الشعبية الجديدة". والشعبوية المضادة ليست "شعبوية مقلوبة". رغم أنها تسعى أيضاً إلى تحقيق هدف "العثور على الشعب" وبناء إنشاء مجتمع وطني، إلا أنه يجب أن تمضي قدماً بطريقة مختلفة جذرياً.

والفرق الأساسي هو أن الشعبوية، وخاصة الفاشية، تعتمد على سلبية المواطنين كمبدأ لها. وينطبق هذا حتى وقبل كل شيء على السلبية الصاخبة والعنيفة التي تتسم بها التظاهرات القومية والحملات الانتخابية، حيث إن مبدأها هو تكرار الشعارات والخطابات التي يرددها القادة. فالشعبوية لا تتغلب على العجز الجماعي الذي يكمن وراءها. بل على العكس من ذلك، فهو يفاقمها ويجبرها على الدخول في دائرة مغلقة من خلال إخفاء الخوف وراء الكراهية والاستعداد لاستخدام العنف. سيكون من الوهم تمامًا الاعتقاد بأن مثل هذا المنطق مفقود في التعبئة التي تستحضر مناهضة الفاشية ولكنها تدخل أحيانًا في علاقة محاكاة مع الشعبوية: يقدم التاريخ القديم وحتى الحديث أمثلة كثيرة على العكس من ذلك. إن فعالية وأصالة النضال تكمن في ايجاد نوع مختلف من السياسة الجماهيرية: سياسة توسع سلطة "الناس العاديين" وتمنحهم الفرصة لتحرير أنفسهم بواسطة النشاط والتضامن والاستقلالية من الخوف (وبالتالي يفتح القدرة على مناقشة الأهداف النضالية والوسائل المستخدمة). ويمكن أيضًا صياغة الأطروحة بحيث يكمن الفرق بين "الشعبي" و"الشعبوي" في ان المواطنين في الدفاع عن الديمقراطية يجربوها في داخلهم، وبالتالي يصبحون نشطاء ام لا (ومن هنا التوتر المستمر مع "الشكل الحزبي"، الذي ربما لا تستطيع السياسة الاستغناء عنه داخل المؤسسات البرلمانية وخارجها).

يمكن تحقيق نفس النتيجة، إذا تم الجمع بين فكرة بناء «الجبهة الشعبية» وفكرة التداخل بين الحركات، كما اشرت إليه أعلاه (أخذ صيغة ميشيل فيهر و"عكس" منظور الأقلية عنده إلى منظور الأغلبية): لا يمكن للحركات أن تندمج ببساطة مع بعضها البعض أو تتناسب مع بنية هرمية مشتركة؛ بل يجب أن تتكاثر وتنتشر لتغطي كل القضايا، كل أهداف التحرر التي تنشأ من التجارب السلبية أو الإيجابية (المعاناة والإبداعات) لما يسمى بـ "المجتمع المدني". ومع ذلك، يجب عليها أيضًا أن تجتمع وتكمل بعضها البعض في بناء مقاومة مشتركة ضد الاستبداد والشعبوية والفاشية. هذه الوحدة لا يمكن تحقيقها بوصفة، بل يتم اكتشافها وخلقها في تلك الأماكن التي تواجه فيها الحركات وفاعليها وأفكارهم بعضهم البعض: يمكن تسمية هذه الأماكن بـ "التجمعات" أو بأي اسم آخر استخدم تاريخياً لوصف عفوية التجمع وتجربة الديمقراطية التشاركية وغير الممثلة حصرياً للقاعدة: كمجالس ولجان ومنتديات... ومع ذلك، علينا ألا نخدع أنفسنا، فهناك دائمًا عقبات أمام إنشاء مثل هذه التجمعات واستمراريتها. هذه التجمعات، التي تمثل في حد ذاتها هدفًا لدستور "الشعب"، لا تعاني فقط من القمع والاستغلال السياسي، ولكن أيضًا من المسافة التي يجب على المشاركين فيها تجاوزها من أجل الاجتماع معًا وخلق شيء مشترك. سواء كان ذلك بسبب المسافة المكانية والثقافية (الأحياء ليست قريبة حتى من الجامعات في الضواحي الباريسية، المزارع بعيدة عن مناطق الدفاع، ومناطق المقاومة التي أنشأها نشطاء المناخ)، والمسافة الأنثروبولوجية (للجنسين والجنسانية – النشاط لجنسي-، والفئات العمرية والأجيال، والتأهيل والمهن) أو أخيرًا المسافة بين "الحركات" ذاتها، وتواريخها المنفردة ورموز (كلمة السر) التعرف عليها ثانية. إن فرضية "جبهة شعبية" في حد ذاتها تمثل يوتوبيا كبيرة لتلتقي كل هذه التجارب وتحويلها إلى "حركة الحركات". بدونها لن يحدث اي شيء، ولكن بالإشارة إلى ضرورتها تبدأ الصعوبات.

في "برنامجها" الانتخابي والحكومي المقبل، تسعى الجبهة الشعبية وتضع في مركز الاهتمام، من بين أهداف أخرى، في مجال العدالة الاقتصادية والاجتماعية والدفاع عن الديمقراطية، إلى ترميم وتوسيع المؤسسات العامة (أي الصحة والتعليم العامين. الثقافة المستقلة عن الاحتكارات التجارية، عدل في متناول الجميع، شرطة الأحياء، التخطيط المكاني والحضري، وسائل النقل المريحة وغير المكلفة والطاقة الصديقة للبيئة). وبهذا تشير الجبهة الى ما أصبح، في العقود الأخيرة، تحت تأثير سياسات التقشف والخصخصة الليبرالية الجديدة، سببا رئيسيا لتفاقم عدم المساواة وبالتالي الهشاشة (ليس فقط باعتباره إفقارا، بل "إقصاء"، أو ما أسماه روبرت كاستل "الفصل" في إشارة خاصة الى سكان الضواحي). وهذا يخص التطورات التي أعتقد، مثل كثيرين غيري، أنها مسؤولة عن الشعور بعدم الأمان الذي يزدهر عليه الطرح الأيديولوجي والعاطفي لحزب التجمع القومي. المؤسسات أو الخدمات العامة ليست "الدولة" - أيضًا لأن أسلوب عملها وفائدتها يعتمدان اساسا على احترافية وتعاطف الذين يقدمون هذه الخدمات للمرضى، والطلاب، والجمهور، والسكان، وطالبي القانون، باختصار توفير الرعاية اللازمة المواطنين. وعلى الرغم من ذلك، لا وجود لها في مجتمع مثل مجتمعنا، بدون الدولة، التي تمولها من خلال الضرائب أو غير ذلك من المساهمات، وتضعها في إطار قانوني، وبالتالي تدمجها بكائن متنامي (الذي شبهه الفلاسفة بوحش أسطوري عظيم). بهذه الملاحظة ندخل في توتر آخر موجود داخل الجبهة الشعبية: الصراع بين استخدام الدولة وتعزيزها (خصوصًا ضد “التجريد من الجنسية” (الغاء الدولة) الذي تنفذه الليبرالية الجديدة، وهو بالطبع تجريد انتقائي من الجنسية، ومبدأ إطلاق الاستقلالية الفردية والقدرة على التنظيم الذاتي والإدارة الذاتية للمجتمع وحركاته. لقد تأرجح التقليد الاشتراكي، وبشكل أعم، تقليد اليسار السياسي الفكري والحزبي، باستمرار بين هذه المبادئ أو سعى إلى التوصل إلى حلول وسط بين تعبيرات هذا التناقض، وهو ما أميل إلى القول بأنه يشكل السياسة كممارسة جماعية، او كما يمكن للمرء ان يقول في محاكاة ساخرة لفوكو "حكم الذات وحكم الآخرين". إن فكرة الجبهة الشعبية، بهذا المعنى هي أيضاً فكرة الحل الديناميكي للتناقض الذي يغيره من خلال العمل عليه. لكن ذلك لن يأتي إلا لاحقًا، هذا إذا حدث لاحقًا، أي إذا نجحنا في صد التطرف الآن. وليس هناك ما هو أكثر إلحاحا في هذه اللحظة.

*- يعتبر إتيان باليبار، المولود عام 1942، أحد أهم فلاسفة السياسة في فرنسا. عندما كان طالبًا، تأثر بشدة ببنيوية لويس ألتوسير، وبعد تخرجه من عام 1965 إلى عام 1967، عمل محاضرًا جامعيًا في الجزائر الثورية. وفي الثمانينيات، كان أحد أهم المدافعين عن سياسة الهجرة المفتوحة، وقام بالتعاون مع إيمانويل والرشتاين، بنشر كتاب "عرق طبقة أمة"، والذي يعتبر الآن عملاً أساسيًا في مناقشة العنصرية. وفي السنوات الأخيرة، وقف باليبار باستمرار ضد عنف الشرطة في ضواحي المهاجرين. نشرت هذه المقالة لأول مرة باللغة الفرنسية في موقع AOC الإعلامي على الانترنيت. والترجمة لنصها المنشور في جريدة |نيوز دويجلاند الألمانية بحلقتين في 30 حزيران و2 تموز 2024، أي قبل اعلان نتائج الانتخابات البرلمانية في فرنسا والتطورات التي تبعتها.



#رشيد_غويلب (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- على إثر موجة من الأكاذيب / جنون عنصري وإرهاب فاشٍ يعم بريطان ...
- انصار الحكومة والمعارضة يتظاهرون في كاراكاس /فنزويلا: مادورو ...
- حديث عن الصهيونية أو التصورات الخاطئة عنها
- ردود الفعل العالمية بعد الانتخابات الرئاسية في فنزويلا
- ماذا بعد بايدن؟ / هاريس تتلقى دعماً كبيراً من الحزب الديمقرا ...
- جورج لوكاش: لينين صاحب رؤية سياسية ومصدر إلهام لتجديد المارك ...
- ماكرون مصر على استبعاد اليسار من رئاسة الحكومة الفرنسية
- الفضائح تعصف بالجيش الياباني واهتزاز الثقة بالحكومة
- نتيجة لتحالف يميني وخرق قانوني / استبعاد مرشح اليسار من رئاس ...
- الشيوعي الفرنسي يدعو لأنهاء الازدواجية والغموض / هل يستطيع ت ...
- قوبلت باحتجاجات واسعة / حكومة الأرجنتين تدمر مؤسسات الذاكرة ...
- وصفت بأنها شريكة في حرب الإبادة / الحكومة الألمانية ترفض علا ...
- وصفت نتائجها بالهزة الأرضية / تحالف اليسار الفرنسي يفوز بجول ...
- أشباه البروليتاريا والحراك الاجتماعي والماركسيون المزعجون
- نهوض اليسار.. عشر نقاط يتناولها الحزب الشيوعي النمساوي بشكل ...
- حكاية محاولة انقلابية فاشلة في بوليفيا
- الصراع الطبقي في إعادة هيكلة عالم متعدد الأقطاب / حرب غزة وأ ...
- في قرار تاريخي.. محكمة أمريكية تدين شركة موز لتمويلها المليش ...
- انتصار انتخابي وتجربة نضالية / اليسارية إيلاريا ساليس من الس ...
- فوضى في معسكر اليمين واحتجاجات حاشدة ضده / اليسار الفرنسي يت ...


المزيد.....




- كيف ردت كامالا هاريس على متظاهرين طالبوها بوقف إطلاق النار ف ...
- حمدين صباحي: روسيا قادرة على لعب دورها في نصرة القضية الفلسط ...
- اغتيال هنية وشكر.. إسرائيل تستعد لمهاجمة لبنان وإيران
- محلية النجف للحزب الشيوعي العراقي: اعتداء آثم مدان
- مظاهرات كبيرة في لندن ومدن بريطانية أخرى مناهضة للعنصرية وعن ...
- حالة التأهب ترهق-اسرائيل-وجهود أميركا الإحتوائية لا تثمر.. ب ...
- لماذا يتدخل إيلون ماسك بأعمال العنف بسبب اليمين المتطرف في ب ...
- الحقيقة كاملة ومحاكمة الجناة في ملفات الشهداء والمختطفين جزء ...
- ماذا بعد تفويت السلطة الفلسطينية؟! (1)
- “طوفان الأقصى” وغياب اليسار الفلسطيني المؤلم


المزيد.....

- كراسات شيوعية (الشيوعيين الثوريين والانتخابات) دائرة ليون تر ... / عبدالرؤوف بطيخ
- كرّاس - الديمقراطيّة شكل آخر من الدكتاتوريّة - سلسلة مقالات ... / شادي الشماوي
- المعركة الكبرى الأخيرة لماو تسى تونغ الفصل الثالث من كتاب - ... / شادي الشماوي
- ماركس الثورة واليسار / محمد الهلالي
- تحديث. كراسات شيوعية (الهيمنة الإمبريالية وإحتكار صناعة الأس ... / عبدالرؤوف بطيخ
- لماذا يجب أن تكون شيوعيا / روب سيويل
- كراسات شيوعية (الانفجار الاجتماعي مايو-يونيو 1968) دائرة ليو ... / عبدالرؤوف بطيخ
- مقدّمات نظريّة بصدد الصراع الطبقيّ في ظلّ الإشتراكيّة الفصل ... / شادي الشماوي
- ليون تروتسكى فى المسألة اليهودية والوطن القومى / سعيد العليمى
- كيف درس لينين هيغل / حميد علي زاده


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية - رشيد غويلب - عن صعود الفاشية في فرنسا والجبهة الشعبية الجديدة