أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبد الحسين شعبان - فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة الثانية)















المزيد.....

فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة الثانية)


عبد الحسين شعبان

الحوار المتمدن-العدد: 8064 - 2024 / 8 / 9 - 10:26
المحور: قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
    




التسامح: حصاد الفصول





إذا كان التسامح هو الشغل الشاغل للغرب منذ عصر النهضة(1)، فإنه لم يحظ في بلادنا بعد بالاهتمام الذي يستحقه من جانب النخب الفكرية والسياسية والأوساط الثقافية، فلم تصبح فكرة التسامح متداولة ، إلّا في نطاق ضيّق ومحدود، وإن كانت ثمة إرهاصات أولية، إلّا أنها ظلّت استثناءً، ولم تتحوّل إلى قاعدة بسبب التأويلات التي تعصف بها، بفعل استمرار ثقافة التعصّب ووليدها التطرّف ونتاجهما العنف والإرهاب، سواء كان الأمر بتبريرات نظرية أو أخرى عملية، فلم تتأسس لدينا ثقافة متسامحة بتطبيقات واقعية حضارية فيما يخص العلاقات مع الآخر، سواء في النظر إلى الماضي الذي ما زلنا ننوء تحت ثقله، أم إلى الحاضر الذي ما زلنا نتعامل معه بطريقة ماضوية وليست مستقبلية، ناهيك أن الفكرة ذاتها ما تزال ملتبسة، وفي أحسن الأحوال جنينية، ولم تفض إلى سلوك اجتماعي وقناعات سياسية ودينية، على صعيد الأفراد أو المجتمع أو الدولة، فضلًا عن ذلك لم توضع في قوانين لمنع التمييز والاستعلاء، يضاف إليها أنها في الواقع العملي والتطبيقي ظلّت هامشية. (2)
لقد مهد جون لوك (1632 – 1704) لفكرة التسامح في الغرب في رسالته الأولى في التسامح A Letter Concerning Toleration (1689)(3) ، والتي نشرها باللغة اللاتينية في هولندا، أي قبل قرن من قيام الثورة الفرنسية، وتُرجمت إلى اللغة الإنكليزية في خريف العام ذاته، علمًا بأنه فرّ من إنكلترا إلى أمستردام بهولندا قبل ست سنوات من هذا التاريخ، حيث كان مهتمًا بالنقاش حول التسامح الديني، خصوصًا بعد أن ألغى الملك لويس الرابع عشر في فرنسا مرسوم نانت(4)، الذي كان يضمن التسامح الديني للبروتستانت، وكان لوك قد عارض مفهوم توماس هوبز(5) في دعم التسامح لمختلف الطوائف المسيحية.
ويتلخص مفهوم لوك الأساسي بالتفريق الدقيق بين عمل الحكومة (المدنية) وبين التعاليم الدينية، أي أن وظائفهما منفصلة وبالتالي فإنهما يمثّلان مؤسستين منفصلتين، ودعا في رسالته إلى احترام شروط عبادة الكاثوليكيين ومعتقداتهم الدينية، التي ينبغي أن يمارسونها بحريّة، كما أنه مدّ مفهوم التسامح إلى غير المؤمنين أيضًا.
وأعقب لوك رسالته الأولى برسالة ثانية عن التسامح بعد عام واحد (1690)، وهي موجّهة لصديقه فيليب فان لامبورش، وفيها ارتأى على أنه ليس للحاكم أن يتدخل في شؤون الناس الدينية، بل يجب أن تنحصر صلاحياته في المسائل الدنيوية حسب، على اعتبار أن مسألة الدين خاصة بعلاقة الإنسان بخالقه، وليس من حق الحاكم أن يقرر مصير هذه العلاقة أو كيفية سيرها. أما بالنسبة للمخالفين في المذاهب فلا جدوى من محاولة إكراههم بالقوة لتغيير آرائهم، لكن يبقى لنا أن نقنعهم بأن يصبحوا "أصدقاء" للدولة، وأن من حقوق الفرد الطبيعية هو حق الحياة والحريّة والملكية الخاصة، ويتوجّب على أي حكومة أن لا تتعدّى عليها. (6)
وكتب رسالة ثالثة العام 1692 بالاتجاه ذاته، ويمكن تلخيص دعوة لوك عن التسامح بقوله "ليس لأي إنسان سلطة في أن يفرض على إنسان آخر ما يؤمن به أو يفعله لأجل نجاة نفسه هو، لأن هذه المسألة شأن خاص ولا تعني أي إنسان آخر".
والرسائل الثلاث في مجملها تعتبر العقل صفحة بيضاء، وأن ما هو مكتوب فيه مصدره التجربة، وبهذا المعنى فإن المعرفة ذاتها هي ثمرة العقل. وهكذا ربط لوك التجريبية بعقلانية المعرفة. وإذا استبعدنا العقل فليس هناك سوى معتقدات، وهذه الأخيرة في تناقضها مع العقل تفضى إلى عدم التسامح، الذي يقوم على التعصب وكل ما ينتج عنه من مساوئ اللّاتسامح، ومن هنا التزم لوك بالبحث عن أسباب التعصب وجذوره.(7)
أما فولتير (1694 – 1778)(8) فقد كان في البداية ضد فكرة التسامح وقد كتب في العام 1741 كتاباً ينمّ عن التعصّب الديني، لا سيّما إزاء الإسلام والمسلمين، وهو بعنوان "التعصّب أو النبي محمد"، لكنه عاد ونشر رسالة خاصة عن التسامح بعد عقدين ونيّف من الزمن، أجرى فيها مراجعة نقدية لآرائه، وهو شعور طبيعي إزاء تطوّر مفاهيمه من جهة، ومن جهة أخرى ربما يكون قد اطلّع على آراء وكتابات ومعطيات جديدة بخصوص الإسلام، ودفعه ذلك لاحقاً لتجاوز موقفه اللّامتسامح منتقلًا من ضفة اللّاتسامح إلى ضفة التسامح. ويمكن هنا استحضار مواقف مفكرين وأدباء كبار إزاء الإسلام وقيمه السمحاء، مثل الشاعر الألماني غوته والروائي الروسي تولستوي والزعيم الهندي غاندي والفيلسوف البريطاني برناردشو.
لقد صحّح فولتير موقفه في العام 1763 ليكتب رسالة عن التسامح، دعا فيها إلى التسامح الكوني والاعتراف بالآخر والعيش بسلام وتحت حماية الدولة، بروتستانت وكاثوليك ومسلمين وغيرهم، وذلك على هامش قضية جان كلاس البروتستانتي الذي انتحر ابنه بسبب خسارته في القمار، واتهمه المتعصبون بقتله لأنه أراد اعتناق الكاثوليكية وطالبوا بالاقتصاص منه، ونظرًا لحالة الفلتان التي عرفها الشارع الكاثوليكي وبهدف تهدئة الخواطر، صدر حكم الإعدام بحقه ممالأةً للمتعصبين، علمًا بأنه لم يكن للأب أي ذنب بانتحار الإبن.
وقد كتب فولتير رسالة التسامح الشهيرة التي سيُعرف بها، والتي جاء فيها "امسحوا العار"، وذلك دفاعًا عن الظلم الذي لحق بالأب استجابةً لهوس التعصّب الذي ساد ضدّه، مؤكدًا أن البشر أخوة، فالتركي شقيقي والصيني شقيقي واليهودي شقيقي والسيامي كذلك... نحن أبناء أب واحد ومخلوقات إله واحد في هذا الكون الشاسع اللّامتناهي الأبعاد، كما أفاد.
وانتقد فولتير بشدّة "حروب الفرنجة"، التي أطلق عليها ما أسماه "الهيجان الوبائي"، لاستخدامها الدين ضدّ الشعوب الأخرى، خصوصًا عندما أجرى مقارنةً بين ما فعله الغزاة الفرنجة بالقدس وأهلها وسلوك صلاح الدين الأيوبي عندما حرّر القدس مظهرًا مقدارًا كبيرًا من التسامح مع النصارى.(9)




المصادر والهوامش:
1- استخدم مصطلح Tolerence منذ القرن السادس عشر بمعنى أقرب إلى المفهوم السياسي والأخلاقي والسلوكي إزاء الآخر من المذاهب الدينية، في حين أن استخدامه كمفهوم قانوني Toleration بدأ بعد إصدار بعض الحكومات الأوروبية ،في القرنين السادس عشر والسابع عشر، مراسيم تدعو إلى التسامح وتطلب من موظفي الدولة والسكان تطبيق حكم القانون The rule of law وأن يكونوا متسامحين في سلوكهم إزاء "الأقليات الدينية الأخرى" مثل أنصار الراهب مارتن لوثر (مؤسس حركة الإصلاح الديني التي عُرفت باللوثرية). ومن القوانين التي صدرت في حينها: مرسوم هنري الرابع في فرنسا 1598 وقانون التسامح The Toleration Act الصادر عن ملك انكلترا 1689، في السنة ذاتها التي أصدر فيها جون لوك رسالته الشهيرة " رسالة في التسامح" تعبيراً عن الثقافة البديلة للتعصّب والتطرّف الديني التي كانت سائدة والتي دفعت أوروبا بسببها أثماناً باهظةً من الحروب والنزاعات وسياسات الإقصاء.
انظر: لوك، جون - رسالة في التسامح، ترجمة د. عبد الرحمن بدوي، طبعة جديدة، دراسات عراقية، بيروت، سنة النشر (بلا).
قارن: Habermas, Juergen- Intolerence and Discrimination in, Con, Vol.1 No 1, 2003,pp2-12. .

2- أنظر: تمهيدنا للطبعة الأولى من هذا الكتاب - فقه التسامح في الفكر العربي - الإسلامي: الثقافة والدولة، مقدمة المطران جورج خضر، دار النهار، ط1، أيار / مايو 2005، ص17 - 28.
3- أنظر: رسالة جون لوك الأولى، مصدر سابق.
4- مرسوم نانت هو أول اعتراف رسمي بالتسامح الديني قامت به دولة أوروبية كبرى (فرنسا). حيث وقَّع الملك هنري الرابع القرار في مدينة نانت بتاريخ 13 نيسان / أبريل 1598. سمح فيه للبروتستانت الفرنسيين الذين يُطلق عليهم اسم الهوغونوت بحكم حوالي مائة مدينة محصنة لمدة ثماني سنوات. كما منحهم حرية المعتقد، والمساواة الاجتماعية والسياسية مع الأغلبية الرومانية الكاثوليكية، ونوعًا من حرية العبادة. طُبق هذا القرار مبدئيًا حتى وفاة الملك سنة 1610، علمًا بأن الذي قام بإلغائه هو الملك لويس الرابع عشر سنة 1685. ونتيجة لهذا غادر نحو 200,000 هوغونوتي فرنسا.
5- توماس هوبز فيلسوف إنجليزي ( 1588 – 1679)، اشتهر بميدان فلسفة القانون والسياسة، وامتاز بمادية صرفة، حيث تصور أن كل شيء هو من أصل مادي، بما في ذلك أحاسيسنا، التي تعود في أصلها إلى ذرات الجسم أو الجزء القائم على هذا الإحساس. وأَوْلى هوبز الدين أهمية خاصة في تحقيق السلم الأهلي بين الشعوب الأوروبية. وعليه فإنّ مشكلة الدين تبقى ملازمة لمشكلة السياسة. وهكذا فإن هوبز كان من أنصار فصل السلطة الزمنية "السياسية" عن السلطة الدينية، ويعتبر ذلك بمثابة تبشير بالفكر العلماني في العصر الحديث.
6- تتعلّق رسالة لوك الثانية بالمجتمع المدني استنادًا إلى الحقوق الطبيعية ونظرية العقد الاجتماعي، وذلك بتأكيد أن كلّ الرجال سواسية في حالة الطبيعة التي أقامها الله، وأن شرعية الحكومة تكتسب فقط من موافقة الشعب عليها، ويمكن تغييرها إن لم تحصل على مثل هذا التأييد.
7- قارن: بنعبد العالي، عبد السلام - التسامح والحرية، مجلة يتفكّرون، العدد الأول، 2013.
قارن كذلك: صالح، هاشم - التسامح والحرية الدينية في الفكر الأوروبي، المصدر السابق.
8- أنظر: شعبان، عبد الحسين – فقه التسامح في الفكر العربي – الإسلامي، ط1، مصدر سابق.
9- قارن: فولتير، رسالة في التسامح ، ترجمة هنرييت عبودي، دار بترا للنشر والتوزيع، عمان، 2009.



(يتبع)

نشرت في جريدة الوطن الجديد (العراقية) في 8 آب / أغسطس 2024.



#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة الأولى)
- من أوراق نوري عبد الرزّاق: المثقّف الكوني وبداياته الوطنية
- عبد الستار الدوري: السياسي العصيّ على التصنيف (الحلقة الثاني ...
- شذرات من ذاكرة كردستانية (الحلقة الأولى)
- عبد الستار الدوري: السياسي العصيّ على التصنيف (1)
- الإضاءة في -المقدّمات- وهوية الشعر في -جواهر الجواهري-
- شمران الياسري- أبو گاطع- وأدب السخرية
- في جدليات الحركة الشيوعية: مقدمة كتاب د. علاء الحطاب -خطى ال ...
- الهويّة بين النظرة التفريقية والمساواتية
- قلم السياسة مغمّس بحبر الثقافة - مقدمة كتاب عالية فريد
- لمناسبة رحيل صلاح عمر العلي
- بعقلين و بعذران ودار النهار وعموم الشوف تحتفي بمظفر النواب و ...
- محمّد صادق الصدر - ملف الاغتيال السياسي: ثلاث زوايا في استهد ...
- ألق الذاكرة التي لا تأفل - الجواهري بجواهره..شعبان بخزائن مع ...
- قمة المنامة و ما ينتظرها
- من يتذكّر باقر ابراهيم؟
- غزة وبوصلة بعض المثقفين الغربيين
- غزة والحرب الأكاديمية
- عن ظاهرة الترامبية
- القضية الفلسطينية أنبل وأعدل قضية بالكون


المزيد.....




- الجيش الأوكراني يتهم روسيا بشن هجوم بصاروخ باليستي عابر للقا ...
- شاهد.. رجل يربط مئات العناكب والحشرات حول جسده لتهريبها
- استبعاد نجم منتخب فرنسا ستالوارت ألدرت من الاختبار أمام الأر ...
- لبنان يريد -دولة عربية-.. لماذا تشكّل -آلية المراقبة- عقبة أ ...
- ملك وملكة إسبانيا يعودان إلى تشيفا: من الغضب إلى الترحيب
- قصف إسرائيلي في شمال غزة يسفر عن عشرات القتلى بينهم نساء وأط ...
- رشوة بملايين الدولارات.. ماذا تكشف الاتهامات الأمريكية ضد مج ...
- -حزب الله- يعلن استهداف تجمعات للجيش الإسرائيلي
- قائد الجيش اللبناني: لا نزال منتشرين في الجنوب ولن نتركه
- استخبارات كييف وأجهزتها العسكرية تتدرب على جمع -أدلة الهجوم ...


المزيد.....

- -فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2 / نايف سلوم
- فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا ... / زهير الخويلدي
- الكونية والعدالة وسياسة الهوية / زهير الخويلدي
- فصل من كتاب حرية التعبير... / عبدالرزاق دحنون
- الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية ... / محمود الصباغ
- تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد / غازي الصوراني
- قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل / كاظم حبيب
- قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن / محمد الأزرقي
- آليات توجيه الرأي العام / زهير الخويلدي
- قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج ... / محمد الأزرقي


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قراءات في عالم الكتب و المطبوعات - عبد الحسين شعبان - فقه التسامح في الفكر العربي الإسلامي (الحلقة الثانية)