|
الثقافة المسيحية لأوروبا
فريدة رمزي شاكر
الحوار المتمدن-العدد: 8057 - 2024 / 8 / 2 - 02:47
المحور:
المجتمع المدني
كلما قلتُ لبعض السنافر من مُدّعي التنوير أن نهضة أوروبا قامت على ثقافة مسيحية خالصة، فكأن عقربة لدغتهم. يقولك أصل أوروبا فصلتْ الدين عن الدولة! وكأنه يريد أن يقول بالمسيحية إنتهت وأن اللي فيه أوروبا الآن من نهضة لا علاقة له بالإيمان ولا المسيحية بل بسبب السياسة والسياسيين!.
ــــ في الحقيقة أوروبا لم تفصل المسيحية عن شعبها. كل ما في الأمر أنها فصلتْ ( رجال الدين ) عن التدخل في الحياة السياسة للدولة. التراث الثقافي والإرث الحضاري المتراكم لأوروبا هو «تراث وإرث مسيحي» شاء مَن شاء وأبى مَن أبى، وساهم في بناء الحضارة الأوروبية، بدءاً من إنعكاس روح التدين على الفن والأدب القصصي والفلسفة واللغات وعلوم اللسانيات الأوربية، والموسيقى وفنون الرسم والنحت والزخارف المملوءة بالرموز المسيحية الكتابية. فالقسم الأكبر من هذه النهضة الحضارية الأوربية مأخوذ من الكتاب المقدس أو مقاطع وأحداث منه؛ لدرجة أن دور المسيحية في الحضارة الأوروبية متشابكًا بشكل معقد في تاريخ الكنيسة. كيف نتعامى عن دور المسيحية في تقدم هذه الشعوب وعصر الآلة، لمجرد أنك تحلم تغزوها وتفتحها بمعتقداتك وكأنها كانت بدون دين ولا تدين لشعوبها وكانوا ينتظرون ثقافتك التي هي بالتأكيد أقل من ثقافتهم بمئات من السنين؟!
ــــ ماهو مفهوم الثقافة والحضارة سوى ممارسات الشعب في حياتهم اليومية على أرض الواقع، وما يعكسوه على هذه الحياة بما يؤمنون به من عادات وتقاليد وثقافة مسيحية وفكر مصطبغ بما تربوا عليه من إيمان مسيحي ! الفنان الأوروبي عكس ثقافته المسيحية على فنه الهندسي المعماري المسيحي في عصر النهضة والباروك . من بناء الكنائس والكاتدرائيات ونقش سقفها وجدرانها باللوحات من الكتاب المقدس. أليس هذا تراث ثقافي مسيحي مُعاش؟!
ــــ لعبت المسيحية دورًا بارزًا في تطوير الثقافة والهوية الأوروبية، حيث تتمتع أوروبا بثقافة مسيحية غنية. فارتبطت فكرة «أوروبا» و« العالم الغربي» إرتباطاً وثيقًا بمفهوم « المسيحية والعالم المسيحي»، حتى أن الكثيرين يعزون المسيحية لكونها حلقة الوصل التي خلقت هوية أوروبية موحدة. المسيحية عصب الحياة في أوروبا حتى في ظل الصراع لمحاولة هدم حضارتهم، أثرّت المسيحية بشكل عميق على المجتمع الأوروبي ككل بما في ذلك الفنون واللغة والحياة السياسية والقانون وحياة الأسرة وحتى طريقة التفكير للعقلية الغربية تلونت بتأثيرات المسيحية ما يقرب من ألفي سنة من تاريخ العالم، كيف تريد أن تختصر وتسلب كل هذا الإرث الحضاري المسيحي ومظاهره هذه من حياة شعب أعطى مجتمعه من روحه وتفكيره وما تؤمن به وما علمه لأجيال متتالية؟!
ــــ الكنيسة كانت مصدراً رئيسياً للتعليم الأوروبي وإنشأت كُبريات الجامعات الأوروبيّة العريقة، أنشئت كلها بجهود الكنيسة كجامعة أوكسفورد وباريس وجامعة بولونيا تأسست من قِبل الكنيسة. حيث تأسست مدارس الكاتدرائية لتكون مقدمة للجامعة ومؤسسة للتعليم العالي ويشير الباحثين إلى كون الجامعة ذات جذور مسيحية. كانت هذه المداراس مراكز للتعليم الحديث، وبعض من هذه المدارس أصبحت في نهاية المطاف الجامعات الأولى في الغرب. فقبل قيامها رسميًا، عملت العديد من الجامعات في العصور الوسطى لمئات السنين كمدارس المسيحية ومدارس رهبانية، وعلّم فيها الرهبان والراهبات. وقدم الرهبان اليسوعيون، على وجه الخصوص، العديد من المساهمات الهامة في تطوير العلوم. ويشمل التأثير الحضاري للمسيحية في أوروبا الرعاية الاجتماعية، وتأسيس المستشفيات، والإقتصاد. ويرى المؤرخ جيفري بلايني أن الجامعة سمة مميزة للحضارة المسيحية. وقامت هذه المدارس بتدريس اللاهوت، الطب، الفلسفة والقانون. بدأت كمدرسة كاتدرائية أو مدرسة رهبانية ثم إنفصلت مع زيادة عدد الطلاب. وهناك أدلة تؤكّد أن المدارس المسيحية كانت مهد الجامعات الحديثة وقد تأسست منذ القرن السادس الميلادي. فسلطة الكنيسة لم تكن دينية فقط بل دنيوية أيضًا في مجتمعات مدنية.
ــــ للكنيسة دور رائد في رعاية وتطوير العلوم الحديثة قبل وخلال الثورة العلمية. حيث تطورت تحت قيادة الكنيسة مختلف أنواع العلوم، كالفلك، والرياضيات، والتأثيل، والفلسفة، والبلاغة، والطب، والتشريح، والفيزياء خصوصًا الأرسطوية ( أرسطو)، والفيزياء المكيانيكية خصوصًا أدوات الحرب، والكيمياء، والجغرافيا، والفلسفة، وعلوم النبات والحيوان. تطورت التخصصات المسيحية للفنون المعنية بعد ذلك إلى الفلسفة المسيحية والفن المسيحي والموسيقى المسيحية والأدب المسيحي وما إلى ذلك.
ــــ إقتصادياً : ظهر أثر المسيحية مع مفهوم أخلاق العمل والضمير المهني المجتمعي الذي هو أحد أسباب نشأة الثورة الصناعية وعصر الآلة. كانت المسيحية ركن القاعدة الأساسية للثقافية الأوروبية وفي مناسبات عالمية عديدة كانت الركن الوحيد لتحديد الهوية الأوروبية. حتى عندما سعت الكنيسة الكاثوليكية لبسط نفوذها الثقافي و السياسي على المجتمع الأوروبي، ظلت «الأممية المسيحية» للعالم المسيحي عبارة عن قوة سياسية ودافعاً فكرياً وعقائدياً وسياسياً أثر بشكل مباشر على مسيرة السياسية الأوروبية. ما يعني أن المسيحية فرضت نفسها على الحياة السياسية من خلال «الأممية المسيحية» فلم يتخلوا عن إيمانهم منذ دخول المسيحية لأوروبا، كما يظن أغلب السنافر في شرقنا البائس !.
ــــ وكل ما تراه الآن سيادتك نتيجة التأثير الثقافي المسيحي على حياة هذه الشعوب وحضارتهم وتراثهم المسيحي. ويوم أن أساء اليساريين والشواذ للمسيحية في حفل إفتتاح الأولمبياد الماجن انتفض الشعب الفرنسي والكنيسة رفضاً لتغيير مفاهيمهم وثقافتهم المسيحية. فلا تأتي سيادتك اليوم وتستنكر عليهم كل هذه الثقافة المسيحية بإرثها التاريخي التي بنت بهم حضارتها، تلك الحضارة التي ما تزالت تعيش في خيرها هذه الشعوب، وأنت في قرارة نفسك تحسدهم وتحقد عليهم وعلى هذا الخير لمجرد أنهم حشوا دماغك بأن هذه الشعوب كافرة وبلا دين ولا إيمان وأن هذه النهضة الأوربية نتيجة فصل الدين عن السياسة، تلك الجملة إللي علموها لك لما كبرت، وعلموك أنت وأمثالك ضرورة أن تغزوها وتفتحها وتصبغها بصبغتك الدينية لتغيير هويتها المتجذرة في حياة هذه الشعوب التي لا تنتظر قدومك، لأنك لاتمثل لهم أي إضافة فكرية وثقافية، بل أنت من تفرض نفسك عليهم ولا تحترمهم! ويوم أن يمنحوك الإعانات والتأمينات الاجتماعية والصحية والتعليم والسكن والعمل، ترفع صوت عليهم وتتظاهر لتطالب بتطبيق شريعتك عليهم !
#فريدة_رمزي_شاكر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فيلم رفعت عيني للسما
-
البوابة الشرقية الذهبية لسور أورشليم
-
النقوش العربية المسيحية قبل الإسلام؛ وعبارة «بسم الإله» !
-
مَنْ كان يعيش في فلسطين في القرن ال17 ؟!
-
يسوع أم عيسى؟! - الجزء الثاني
-
لوحة الخروج عن القطيع، وثقافة القطيع
-
حقيقة النور المقدس
-
هل يوجد مسيحيون عرب في شرقنا؟!
-
ماهو الدين الذي سيحكم العالم في نهاية الزمان؟!
-
شنودة، أيقونة متألمة!
-
أزمة مدينة سانت كاترين
-
الترجمة العربية المُبسّطة للإنجيل- نسخة مشوّهة
-
هويتنا المصرية وخطر الأفروسنتريك
-
حجر باليرمو أقدم السجلات الملكية لمصر القديمة
-
ألواح إيبلا تؤكد أن سفر التكوين من التاريخ وليس من أساطير ال
...
-
مريم إبنة يواقيم أم أخت هارون !
-
ألواح چورچيا وحقيقة نهاية العالم
-
التعريب وخطورته في إسقاط الهويات
-
أيقونات المسيح عبر الثقافات المختلفة
-
نجمة داود في الأديان (✡)
المزيد.....
-
الأمم المتحدة: الدعم السريع احتجزت شاحنات إغاثة في دارفور
-
RT ترصد خروج الأسرى من معتقلات إسرائيل
-
جماعة حقوقية في بنغلاديش تتهم الحكومة بالفشل في حماية الأقلي
...
-
وسط تواجد مكثف للجيش الإسرائيلي.. لحظة وصول الدفعة الثالثة م
...
-
-القسام- تبث مشاهد تسليم الدفعة الثالثة من الأسرى الإسرائيلي
...
-
الأمم المتحدة: الدعم السريع احتجزت شاحنات إغاثة في دارفور
-
مبعوث ترامب: صفقة الأسرى ووقف إطلاق النار في غزة يتقدمان بشك
...
-
وصول 9 معتقلين أفرج عنهم الاحتلال إلى قطاع غزة
-
نتنياهو يطالب الوسطاء بضمان سلامة الأسرى
-
أحد أقدم الأسرى الفلسطينيين.. ماذا تغيّر في غياب محمد فلنة؟
...
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|