أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد رباص - جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الرابع)















المزيد.....


جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الرابع)


أحمد رباص
كاتب

(Ahmed Rabass)


الحوار المتمدن-العدد: 8054 - 2024 / 7 / 30 - 02:25
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
    


4 - قانون الحقيقة
رابط ضرورة صلة وصل بين الله والعقل: في ٱخر نص بقي لنا من شيلنج، لم يتم ذكر هذه الأطروحة بهذا الشكل فحسب، بل إنها موضوع قانون، وقانون متعال. يتعلق الأمر بمحاضرة ألقاها يوم 17 يناير 1850 على مسامع زملائه في أكاديمية برلين. فيها عبر عن الاهتمام الذي أبداه، في نهاية حياته، بالمسائل الكلاسيكية: وبالتالي، ليس فقط مسألة "to on" الموروثة من أرسطو، ولكن أيضا المسألة التي نوقشت كثيرا منذ العصور الوسطى حول ما يسمى "مصدر الحقائق الأبدية”. إن كون هذه المشكلة الأخيرة قد أثارت اهتمام شيلينج بشكل مباشر هو ما ستتناوله صاحبة هذه الدراسة بالتفصيل. أما الٱن، فتقول إن شيلينج، في هذا العرض، يستحضر قانونا آخر غير قانون العدالة لتوضيح أن الله مرتبط بالعقل أو بعالم الممكنات. إنه قانون وحدة الوجود والفكر ، الذي لا ينبغي الخلط بينه وبين القانون السابق، وهو قانون العدالة. هذا الأخير يتحقق بشرط أن يقرر الله بنفسه الفعالية: إنه "قانون الصيرورة"، قانون افتراضي، ومشروط. ليس هذا هو الحال بالنسبة لقانون وحدة الوجود والفكر، الذي هو قطعي أو غير مشروط: فهو يعمل في اتجاه منبع الفعالية، وبالتالي في استقلال عن الحركة الإبداعية. ولكن ماذا يقول بالضبط؟ أن "ما هو موجود يجب أن يكون له دائما في نفس الوقت علاقة بالمفهوم (Begriff) (was immer I s t auch ein Verhältniss zum B e g r i f f haben muss) وأن "اللا شيء، بعبارة أخرى، ما ليس له علاقة بالفكر ( Denken)، غير موجود حقا " (was Nichts ist, d. h. was kein Verhältniss zum Denken hat, auch nicht w a h r h a f t Ist). هذا يعني أن الله لن يوجد بالمعنى الدقيق للكلمة إذا لم يكن ذاتا مفردة بشكل أساسي مرتبطة بالكوني، بالفكر الأسمى، بمفهوم المفاهيم، أو بكل الممكنات.
في ما يتعلق بالله، يكون القانون المعني هو الأكثر إلحاحا: كونه نفسه الأسمى، فذلك لأنه ينطبق على الوجود الأسمى فوق كل شيء. وإلا فلن يكون له مجال للتطبيق. توضيح مهم لأن هذا القانون لا تفوته الإشارة إلى ما نسميه عادة "الحقيقة". لكن حتى بمعناها العادي أو الكلاسيكي، فإن الحقيقة تشير إلى علاقة انسجام بين القضية وواقع مرجعها الخاص، وهي العلاقة التي تفترض بالنسبة لشيلنج الوحدة المطلقة للذات والموضوع. وهذا يعني أننا لا نستطيع أن نتحدث عن الحقيقة حول حكم ما إذا كنا لا نفترض، خارج أحكامنا، مجالًا يقتضي فيه الحكم لأجل المطلق أن يطرح نفسه، أو يسند نفسه. هذه الطريقة في التحقيق في مسألة الحكم كحكم للحقيقة هي السمة المميزة للمثالية الألمانية. يربط شيلينج، منذ بداياته، بالمطلق، ويخضع للمطلق الانسجام الذي تشهد عليه قيمة الحقيقة في المعرفة الإنسانية: تتم إعادة إدخال التوافق في قلب المطلق، والمعرفة نفسها - في حد ذاتها ليست معرفة حقيقية إلا لأنها أولاً معرفة المطلق، المعرفة التي يولدها المطلق من نفسه. تظهر هذا المقاربة بوضوح عندما باشر الشاب شيلينج مهمة إعطاء أساس للمعرفة. يرتكز التوافق على الوحدة المطلقة المستمدة من تجسيد الذات المطلقة. وبالتالي فإن الحقيقة هي، في الأساس، وحدة الذات والموضوع المطلقين، أي وحدة الفكر والوجود الأسمى. ما يقدمه لنا الٱن شيلينج الأخير هو هذه الوحدة، ولكن بعبارات معكوسة، فالكلمة الأساسية ليست هي الفكر، بل هي على وجه التحديد الوجود، وليست المفهوم بقدر ما هي الله الذي يسبقه. دعونا نستبعد على الفور سوء الفهم الذي يمكن أن تؤدي إليه مثل هذه الصياغة.
إذا كان الوجود أول (prius) وسابقا على المفهوم، فلا يعني ذلك من وجهة نظر شيلينج الطريق الأولى والأكثر قصرا إلى تحديدات لفكر المطلق: فالوجود، في هذا السياق، على العكس من ذلك، يعني "خارج المقولات"، أو المثال الذي يتجاوز جميع المقولات، أي الحر، المفرد المطلق، إله الأصول. يهاجم شيلينج هنا تألق المفهوم الذي كرسه هيغل والهيجليون.
في هذا العرض الموجز، لن تقر ألكسندرا ما إذا كان غير عادل تجاه هيجل. ومع ذلك، تلاحظ أنه من خلال جعل الغلبة للوجود على المفهوم، للواحد على الكوني، سعى شيلينج إلى إبعاد نفسه عن المفكر الذي هو قريب جدا منه؛ ذلك لأنه بالنسبة لشيلنج أكثر من هيجل نفسه، فالوجود لا يستبعد المفهوم.
أما سوء الفهم الآخر الذي يتعين علينا أن ننحيه جانبا فيتعلق بالحقيقة. فهل قانون وحدة الوجود والفكر هذا، لأن الوجود هو الأول، لا يشتق منه إذن؟ وهذا ليس على وجه التحديد ما يقترحه شيلينج، لأنه يرى أن هذا القانون لا يأتي من الله، وبعبارة أخرى من الوجود: كيف يمكن ذلك إذا كان صحيحا أنه يفسر هذه الرابط الضروري الذي يربط الله بالمفهوم؟ وبموجب هذا القانون، لا يمكن لله ألا يكون ذاتا قابلة للتنبؤ، ولا يمكن أن يكون الله مفهوم المفاهيم، أي شيئًا (سائلًا) (aliquid) بالمعنى الإجمالي للكلمة، الكل، الشامل. وبفضل هذا القانون يمكننا أن نقول حقا إنه موجود؛ أي ليس شيئا، ولا يمكن التنبؤ به: بدونه، هذه العبارة لن تكون حقيقة " (wäre keine Wahhrheit)، كما لاحظ شيلينج. ولهذا يمكننا القول إن قانون وحدة الوجود والفكر هو قانون الحقيقة. وبدونه لن يكون الله جماع الممكنات. إذا كان بإمكانه أن يقول "أنا الحق" (يوحنا XIV 6)، فذلك لأن القانون يربطه بعالم الحقائق، لأنه من الضروري أن يكون الله شيئًا، أو أن يكون الواحد هو الكل. ولذلك فإن قانون الحقيقة موجود في مبدإ المعادلة السحرية «الله هو الوجود»، وهي معادلة بدونها لا يكون لقانون العدالة أي معنى لأنه يفترض أن هذه المعادلة نفسها مكتسبة، لأنه يفترض أن الله يتصل إلى مجموعة شاملة من الممكنات. والمسألة إذن هي أن نعرف هذه المرة من أين يتلقى الله قانون الحقيقة بالضبط، إذا كان، كما يريد شيلينج، المطلب الذي يصوغه، أو الضرورة التي هو تعبير عنها، "يتجاوز" فعلا الله. للحصول على فرصة لتوضيح هذا السؤال، من المناسب أن نتناول القول العام، وليس المحدد فقط، الذي وردت فيه هذه الأطروحة: لأي أسباب تمسك شيلينج كثيرا بفكرة أن هناك رابطا ضروريا يصل العقل بالله، أو الحر مطلقا بمحموع الممكنات؟
5- تجنب مزلقين اثنين
هذا العنوان الفرعي وحده يعلن عن برنامج كامل. بالنسبة إلبنا، سوف ىيتعلق الأمر برؤية كيف أراد شيلينج أن يضع نفسه على رقعة الشطرنج الدقيقة للإجابات المتنافرة المقدمة لسؤال تم تناوله على نطاق واسع منذ العصور الوسطى: سؤال "العلم الإلهي" (scientia Dei) ليس فقط في ما يتعلق بما هو يسميه لايبنتز بالحقائق الفعلية (الموجودات المخلوقة، والاحتمالادت المستقبلية)، ولكن أولاً في ما يتعلق بحقائق القانون، التي هي ميتافيزيقية وبالتالي ضرورية (أي الجواهر والمبادئ الأبدية). هدف شيلينج هو تناول مسألة حقائق القانون، أي "الأبدية". والكلمات التي اختارها ليأخذها في الاعتبار مستوحاة بلا شك من لايبنتز: إن التساؤل عن مصدر هذه الحقائق هو التساؤل عن مصدر الإمكانات في مجملها. في الواقع، عند لايبنتز، تصبح الحقائق ممكنات: عندما تكون ضرورية، تغطي جميع الإمكانات؛ وعندما تكون مشروطة، تغطي بعضها فقط.
لكن شيلينج لديه مرجع آخر في ذهنه: فهو يستمد الدعم من كانط، الذي يرى، في العقل، أن هناك "فكرة الواقع الكامل (omnitudo realitatis)"، "وفرة من المادة التي يمكن أن تستخلص منها جميع محمولات الأشياء"، "المفهوم الأصلي" الذي يشكل بالتالي نسيج أي تعريف أو تحديد. لكن، بالنسبة إلى شيلنج، ليس هناك داع لأن تستبعد من الفكرة بهذا المعنى الإمكانات التي تسمح لنا لعبة القوى ببنائها.
وهكذا يضع شيلينج نفسه على الفور في منظور يعطي مسألة المعرفة الإلهية المسبقة دورا خاصا. عادة ما نتساءل: كيف يعرف الله المخلوقات التي خلقها؟ من أين تأتيه الأفكار عن المخلوقات؟ لأن الخلق بشكل أعمى، دون معرفة ما الذي تم خلقه، هو علامة على النقص. لا يستطيع الله أن يخلق كما يرسم رجل أعمى صورة عمياء. إذا كان الله لديه علم مسبق بكل شيء، فذلك لأنه لا يستطيع أن يخلق أي شيء دون أن يعرف مسبقا ما سيفعله – وقد لاحظ آباء الكنيسة المسيحية ذلك بالفعل. أليس من الضروري إذن أن يكون الله الخالق محكوما بشيء آخر غير إرادته؟ فيتلقى معلومات عن المخلوقات من هيئة غير هيئة إرادته؟ والسؤال هو أن نعرف ما هي هذه الهيئة الأخرى وما علاقتها بالذات الإلهية. لا يدعي شيلينج أنه صاغ السؤال بهذه العبارات: نحن مدينون للمدرسيين بصياغته. لكن ليس أيا منهم، لأن القديس توما الأكويني تجنب المشكلة، في رأي شيلينج: لقد حدد مصدر هذه المعرفة المسبقة مباشرة في الله، أو في الجوهر الإلهي. ولكن ماذا يشرخ بذلك؟ يرى شيلينج ببساطة أن الجوهر الإلهي يمكن للأشياء أن تشارك فيه وتحاكيه، وليس أن الأشياء يمكن أن تشارك فيه: “من لا يرى على الفور أن هنا جاءت لتحل محل فكرة قدرة الأشياء على المشاركة في الجوهر الإلهي أو تقليده [...] قدرة الجوهر الإلهي على السماح لنفسه بالمشاركة فيه أو تقليده. وبعبارة أخرى، فإن مثل هذا الحل ناقص إلى حد كبير : فهو لا يوضح بأي حال من الأحوال إمكانية وجود المخلوقات نفسها، لكنه يفترض ذلك مسبقا. إذ كيف يمكن لله أن يعتبر نفسه قدوة إذا لم يكن لديه علم بالمخلوقات الممكنة التي يمكن أن تقلده؟ إذا لم يحل إلى شيء آخر غير نفسه؟ هذه صعوبة كان مفكر مثل دونس سكوت قد أدركها بالفعل: كون الله قابلًا للتقليد لا يفسر أنه يعرف مخلوقاته الممكنة، وأن ذكاءه يأخذها في الاعتبار على هذا النحو، وأنه يضعها كأشياء؛ بل هذه الحقيقة (أن الله لديه علم بكل ما يمكن أن يقلد جوهره) هي التي تفسر الحقيقة الأولى (أن الله قابل للتقليد). إن إمكانية الخلق لدى الله وبالتالي تقليده تفترض، بمعنى آخر، أن الأشياء ممكنة؛ إنها تفترض، بالنسبة لشيلنغ، "إمكانية أصلية للأشياء" (ursprüngliche Möglichkeit)، أي مصفوفة مستقلة عن جوهر الله وإرادته.. في ما يتعلق بهذه النقطة الدقيقة للغاية، تعلم شيلينج درس لايبنتز: لا يمكننا أن نجعل مصدر الممكنات يعتمد على مرسوم سيادي، لكننا لا نستطيع فصل الأخير تماما عن الله سواء على حساب المجازفة بتأكيد اثنين بدلاً من واحد. إنها مسألة تجنب مأزقين بدلاً من مأزق واحد: المأزق الإرادي، ولكن أيضاً المأزق الثنائي. يعتمد شيلينغ هنا، بشكل واضح، على مقطع دقيق من "الثيوديسا" حيث يبحث لايبنتز عن نوع من الطريق الأوسط بين هذين المأزقين (§§ 182-186):
1/ أول ما امتلكه بيير بايل، وفقا لايبنتز، من ميزة التحديد الدقيق (§§ 182-3) يتوافق مع الأطروحة الديكارتية الصحيحة، والتي يدينها شيلينج بدوره باعتبارها خاطئة. تتحدث لنا هذه الأطروحة بالتأكيد عن “الحقائق” بالمعنى الضيق للكلمة، وهي أحكام، وبالتالي “عمليات الإرادة الإلهية” كما يقترح لايبنتز لصالح ديكارت. ولكن كما يؤكد شيلينج نفسه بقوة، لا يوجد سبب لإسقاط الفرق (البشري) على الله بين السمع والرغبة، بين المعرفة والإرادة: بالنسبة لإله ديكارت، فإن الأمر نفسه هو الرغبة (velle) والمعرفة (cognoscere) لذا، أخذ لايبنتز في الوقت نفس على محمل الجد التمييز بين الاثنين حتى يتم تجنب العواقب الشنيعة التي يمكن استخلاصها دائمًا من الأطروحة الديكارتية. هذه الأطروحة، بحسب لايبنتز، تركز كثيرًا على ما تسميه هي نفسها "حرية" إلهية، ولا تركز بشكل كافٍ على ضرورة ما يفلت من أي مرسوم على وجه التحديد - أي لبس فقط الحقائق بالمعنى الدقيق للكلمة، رياضياتية (نصف أقطار الدائرة متساوية)، ميتافيزيقية (لكي تفكر يجب أن توجد)، ولكن أيضا الممكنات، فكرة المخلوقات. الآن ترقى الفرضية الديكارتية، من وجهة النظر هذه، إلى التأكيد على أن الله يصبح واعيا بما يخلقه بفضل الحقيقة الوحيدة التي يخلقها: معرفة الله بمخلوقاته ترجع فقط إلى قدرته على خلق هذه المخلوقات. وهو ما يصل إلى القول بأنه يخلق بشكل أعمى، مما يعرض للخطر مكانة حقائق الأشياء التي يعرفها. تُجرد هذه الأشياء من أي ضرورة عندما نعتبر أنها يجب أن تكون مطلوبة حتى تكون معروفة. إن مثل هذا اللاتمييز في الصفات الإلهية يؤدي إلى ضرر بالموضوعات العلمية. يأخذ شيلينج هنا من لايبنتز الحجة التي بموجبها يخلط ديكارت لسوء الحظ بين مستوى الوجود ومستوى الجواهر. لأن الحقيقة لا تعتمد على الإرادة الحرة: فالحقيقة ضرورية، وليست الحقائق حقائق يقررها الله .
2/ لكن هناك نقطة أخرى يعاب عليها لايبنتز، وهي المأزق المعاكس والذي من مصلحتنا أيضا أن نحدده كما فعل تومايوس (1655-1728): هذه هي الأطروحة التي دافع عنها تلاميذ دونس سكوت، والذين بالنسبة إليهم - كما قال لايبنتز (§ 184) – “الحقائق الأبدية ستبقى عندما لا يكون هناك فهم، ولا حتى فهم الله”. إنها أطروحة جذرية، وهي ليست بعيدة كل البعد عن أطروحة جميع الاسكتلنديين. لأن دونس سكوت أكد أن المعقولات ليست موجودة مسبقا في جوهر الله عند تعقلها؛ وأن العقل الإلهي هو الذي ينتجها. لذلك، يجب أن نكون اسكتلنديين بطريقة خاصة جدا لنذهب إلى حد القول إن هذه الأخيرة موجودة بمعزل عن الفعل الذي يراها الله من خلاله، أي يعرفها. وكما يؤكد شيلينج، فهي أطروحة لا تستحق إلا الاسكتلنديين "المتطرفين" (äussersten)، الذين وجدوا في الواقع - لم يقل شيلينج - في سكوت نفسه صيغا غامضة للدفاع عن عالم واضح لا يعتمد على نفسه. بأي حال من الأحوال على العقل الإلهي. ويمكننا أن نذكر هنا اسمين على الأقل، اسم جون ويكليف (1330-1384) الذي أصبحت أطروحته في زمن قياسي بمثابة إحباط للاسكتلنديين أنفسهم، واسم فاسكيز (1549-1604) الذي كانت أطروحاته، على الأقل على طرفي نقيض من ذلك، وكان لهم بعض الأتباع في الأوساط اليسوعية. وفقًا لهؤلاء المتطرفين، كما يؤكد شيلينج، فإن مصدر الحقائق لا يعتمد كثيرا على الله لدرجة أنه موجود "بمعزل عن أي علاقة بالله": يأخذ الاستقلال معنى مطلقا بحيث يقتصر إلى حد كبير على المظهر الخارجي؛ سوف يصبح الله واعيًا للحقيقة والممكن في عالم خارج فكره. وهي أطروحة يرفض شيلينج نفسه تأييدها، لكنه لا يتخلى عنها لصالح أطروحة لايبنتز. وهذا ما يجعل الرحلة التاريخية التي يدعونا إليها مثيرة للاهتمام. دعونا نرى الآن كيف تختلف عن أطروحة لايبنتز.
ومثل لايبنتز دون أدنى شك، فهو يسعى إلى إيجاد نوع من الطريق الأوسط بين المأزقين اللذين ذكرناهما للتو. لكن المصطلحات التي يفكر بها حول هذا المسار الأوسط ليست هي المصطلحات التي استخدمها لايبنتز. أعتقد أن لدينا دليلًا خطيرا للغاية، على الرغم من أنه متحفظ للغاية، حتى قبل أن يذكر شيلينج بدوره المأزقين الشديدين: فهو يذكر "الاسكتلنديين" بعبارات إيجابية ويقترح أن دونس سكوت قد ترك الباب مفتوحا لطريق مقبول بين الشعاب المرجانية. وإذا كان الاسكتلنديون "المتطرفون" الذين أشار إليهم لايبنتز لا يقدمون أي مساعدة ــ ولايبنتز على حق ــ فمن المؤكد أن هذه ليست الحال بالنسبة لكل اسكتلندي. إذا كان الأسكتلنديون المتطرفون يفرضون على الله عالماً معقولاً مستقلاً عن الله، فإن أسكتلنديين آخرين يحافظون على رابط الاعتماد والضرورة بين هاتين الهبئتين: فالجواهر، بالنسبة إليهم، مصدرها في مبدأ "متميز عن الله" ولكنه، في في نفس الوقت، هو "ضروري" (connecessarium). والأفضل من ذلك بكثير، وفقا لشيلنج، أن دونس سكوت نفسه كان سيميز هذا المبدأ في ما أسماه على نحو مناسب "Ens Diminutum"، والذي كان يعني بالنسبة إليه موضوع العلم الإلهي، وهو التمثيل. إن حجة شيلينج ليست مقنعة للغاية لأن الفكرة، بالنسبة إلى سكوتس، ("الوجود الموضوعي" للشيء) هي في الواقع إنتاج للذكاء الإلهي. ولكن يمكننا أن نجادل، لمتابعة معناه، وبالاعتماد على سكوت، أن كل شيء معقول هو قبل كل شيء ممكن، وممكن منطقيا، وغير متناقض، وأنه إلى هذا الحد يكون مستقلا عن الذكاء الإلهي، على غرار مبدإ عدم التناقض. لكن سكوت لا يقول بهذا المعنى أن الممكن يفرض على الله نفسه: فهو كممكن منطقي، ليس له اتساق.
لذلك من اللافت للنظر أن شيلينج يريد هنا بأي ثمن أن يجد في أفكار سكوت شيئا يعطي الماء لمطحنته الخاصة. في الحقيقة، بالنسبة لسكوت، فإن مصدر الإمكانات لا يختلف عن الله، عن عقله - وهي أطروحة، على أي حال، لا يمكن أن تستجيب لمقصد شيلينج، وهي التشكيك في مصفوفة الجواهر لأن هذه الأخيرة توفر غذاء للفكر ويمكنها جعل الله على اتصال مع الفكر. لكن هذا الأمر لا يمكن أن يوجد منفصلاً عن الله، مجردا عنه: يجب أن يحافظ على علاقة مع الله. وما قيمة الحل الذي يقترحه لايبنتز ضد الانفصال بين هذا المصدر والله؟
يكمن حل لايبنتز في هذه الكلمات القليلة التي يتحمل شيلينج عناء اقتباسها: "إنما، الفهم الإلهي، في رأيي، يشير لايبنتز، هو الذي يجعل الحقائق الأبدية حقيقية، [...] بدون الله، لن يكون الأمر ممكنًا فحسب. لن يكون هناك أي شيء موجودا، ولكن لن يكون هناك أي شيء ممكنا" هذا يعني أننا لا نستطيع أن نؤكد أن مصدر المعرفة الإلهية المسبقة لا يعتمد على الله بشكل مطلق أكثر من التأكيد على العكس من ذلك أنه يعتمد عليه بشكل مطلق: فهو يعتمد عليه بمعنى أنه بالنسبة إلى لايبنتز "ملكة" الله، أي فهمه؛ ولا يعتمد عليه بمعنى أنه ليس نتاج قوته. ومع ذلك، فإن هذا الحل ليس في الواقع حلاً من وجهة نظر شيلينج، وقبل كل شيء لأنه يترك دون إجابة سؤال معرفة "كيف يرتبط هذا الفهم" في الواقع بمجموع الإمكانات. فإذا اتصل بها على أنها كيانات "صاغها" (sich ausdenkt) من نفسه، "فلا نرى في هذه الحالة كيف يتم تمييزه عن الإرادة الإلهية"؛ ولذلك فإننا نعود إلى المأزق الديكارتي. إذا كان يرتبط بها ككيانات "يكتشفها" (entdeckt)، على العكس من ذلك، "على أنها موجودة هنا" (als schon da seyende)، فذلك لأنه يفترض مسبقا هيئة "سابقة" (Vorausgeseßtes) مستقلاة عنه، شيء يُسمع أو يُحدس، وأنه ليس هو نفسه إذ لا نستطيع أن نقول إنه الأصل؛ ولذلك فإننا لم نتقدم أكثر في ما يتعلق بمصدر المعرفة الإلهية المسبقة.
ونتيجة لذلك، فإن حل لايبنتز ليس حلا واحدا حقا... لذا يجب إعادة بدء البحث. ومن أجل إعادة إطلاقه، يظل شيلينج منتبها للمزالق التي أراد لايبنتز تجنبها والتي هي الحدود المتطرفة التي يجب أن نبحث عنها بدقة. ومع ذلك، يلفت شيلينج الانتباه إلى نقطة غابت عن لايبنتز: ما هو هذا "je ne sais quoi" (nescio quod) الذي هو ضروري مع الله والذي يكون للجواهر في الواقع مصدرها؟ لم يذهب لايبنتز إلى هذا المجهول لسبر أغواره، بل افترضه كموضوع ضروري للفهم الإلهي، ولكن دون توضيحه.
(يتبع)
________________________________
المرجع: https://www.cairn.info/revue-philosophique-2014-2-page-175.htm



#أحمد_رباص (هاشتاغ)       Ahmed_Rabass#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء ...
- لماذا لا تساهم الصناعة المغربية في إنتاج القيمة المضافة وخلق ...
- مدخل إلى فلسفة مارتن هيدجر
- المحمدية: قضية كنزة العاملة المنزلية وما عرفته من تطورات
- مدخل إلى فلسفة مارتن هيدجر (2/2)
- مدخل إلى فلسفة مارتن هيدجر (2/1)
- مكناس: احتجاجات عاملات وعمال سيكوميك مستمرة منذ 2017 ولا بار ...
- قراءة في كتاب -هيغل والإسلام- لحسين عزيز الهنداوي
- قراءة في كتاب -هيغل والإسلام- لحسين عزيز الهنداوي (الجزء الر ...
- عضوات في رابطة كاتبات المغرب يتقدمن بطعن في الجمع الاستثنائي ...
- عمداء كليات الطب والصيدلة وطب الأسنان يطالبون عزيز غالي بالا ...
- الائتلاف المغربي لحقوق الإنسان يراسل النيابة العامة طالبا من ...
- ردا على من ادعى أن عزيز غالي يريد الاستقواء على المخزن بلجوئ ...
- الهيئة المغربية لحقوق الإنسان تخلد الذكرى 14 لتأسيسها وهي تع ...
- خنيفرة: المجلس الإقليمي للحزب الاشتراكي الموحد عقد دورته الأ ...
- قراءة في كتاب -هيغل والإسلام- لحسين عزيز الهنداوي (الجزء الث ...
- فرنسا: لا أثر لمحمد عمرا الملقب ب-الذبابة- بعد مرور شهرين عل ...
- قراءة في كتاب -هيغل والإسلام- لحسين عزيز الهنداوي (الجزء الث ...


المزيد.....




- الاستخبارات الأمريكية تكشف عن جهود إيران لمحاولة عرقلة ترشيح ...
- سباق البيت الأبيض..تحديات تواجه المرشحان
- اتهام مذيع بي بي سي السابق هيو ادواردز بإعداد صور إباحية للأ ...
- قصف ونزوح قسري في مخيم البريج بعد تهديدات الجيش الاسرائيلي ب ...
- مجدل شمس تشيع ضحايا الملعب وتعلق صورهم في أجواء من الحزن وال ...
- جيش مالي يعلن تكبده خسائر كبيرة نتيجة الاشتباكات مع الانفصال ...
- العاهل المغربي يعفو عن آلاف السجناء بمناسبة عيد العرش
- تحالف إقليمي في أمريكا اللاتينية يهنئ فنزويلا على إعادة انتخ ...
- القاهرة تؤكد تضامنها الكامل مع بيروت وترفض أي تهديدات تستهدف ...
- علماء: نشاط الإنسان تسبب في تغير هطول الأمطار على الأرض


المزيد.....

- حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس / محمد الهلالي
- حقوق الإنسان من منظور نقدي / محمد الهلالي وخديجة رياضي
- فلسفات تسائل حياتنا / محمد الهلالي
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر / ياسين الحاج صالح
- الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع / كريمة سلام
- سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري - / الحسن علاج
- فيلسوف من الرعيل الأول للمذهب الإنساني لفظه تاريخ الفلسفة ال ... / إدريس ولد القابلة
- المجتمع الإنساني بين مفهومي الحضارة والمدنيّة عند موريس جنزب ... / حسام الدين فياض
- القهر الاجتماعي عند حسن حنفي؛ قراءة في الوضع الراهن للواقع ا ... / حسام الدين فياض
- فلسفة الدين والأسئلة الكبرى، روبرت نيفيل / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع - أحمد رباص - جولة للبحث عن مفهومي الحقيقة والحرية في قارة الفلسفة (الجزء الرابع)