أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالجواد سيد - البحث عن الوطن - سيرة حياة عبدالجواد سيد















المزيد.....



البحث عن الوطن - سيرة حياة عبدالجواد سيد


عبدالجواد سيد
كاتب مصرى

(Abdelgawad Sayed)


الحوار المتمدن-العدد: 8054 - 2024 / 7 / 30 - 02:23
المحور: الادب والفن
    


البحث عن الوطن
سيرة حياة






















تصدير:
ثم إنقضت تلك السنون وأهلها، فكأنهم وكأننا أحلام!!!
أ
الإهداء
إلى كل هؤلاء الذين شاركونى صنع حياتى، من ذكرت أسمائهم هنا، ومن غفلت أو تغافلت عن ذلك.














محتويات السيرة:
1- سنوات الطفولة
2- سنوات الإبتدائى
3- سنوات الإعدادى
4- سنوات الثانوى
5- سنوات الجامعة
6-سنوات الحيرة
7- سنوات السعودية
8- سنوات إندونيسيا
9- سنوات الإمارات
10- سنوات الثورة
11- أجازة طويلة
12- أساطير الدين والسياسة
13- غدر الحياة










مقدمة :
هذه هى سيرة حياتى، وسيرة الزمن الذى عشته ، والناس الذين عرفتهم، رويتها هنا بقدر ما إستطعت، وبقدر ماسمحت به ذاكرتى، وسمحت به مشاعرى، وقد رويتها عبر مراحل وسنوات طويلة متفرقة، ولم أستطع مراجعتها ولا إكمال الفصول الأخيرة منها بسبب ظروف مرضى المفاجىء ، وقد حذفت منها بعض تفاصيل لم أراها ضرورية، كما سقط منى عن غيرعمد بعض تفاصيل ضاعت من الذاكرة، ولكننى فى كل الأحوال لم أضف إليها شيئا من خيالى . أرجوا أن أكون قد نجحت فى التعبير عنها كما كانت بالفعل، وأرجوا أن يجد فيها من يقرأها شئ ينفع أو يمكن الإعتبار به، وبالنسبة إلى فكل ماأرجوه من نشرها على العالم ، هو أن أظل دائماً جزءً من هذا العالم وأن لايطوينى النسيان ،،،
عبدالجواد سيد
جاكرتا 2024


















1- سنوات الطفولة

سمعت من أمى أو بالأحرى زوجة أبى السيدة أمينة عوض يوسف أننى قد ولدت فى عيادة طبيب بحى فلمنج المجاور لحى باكوس الذى عشت فيه طفولتى وصباى وشبابى بمدينة الإسكندرية ، لكنى لم أعرف ابدأ إسم ذلك الطبيب ولامكان العيادة ولافى أى ساعة ولدت وكل ماعرفته هو أن أبى، سيد عبدالجواد إسماعيل ، وفى غمرة فرحه بمولدى قد إشترى فى ذلك اليوم 27 مارس من عام 1954م وللمرة الأولى والأخيرة فى حياته كيسا كبيرا من اللب وأخذ يتسلى به لساعات طويلة من ذلك اليوم ثم وبعد حوالى سنة من ذلك التاريخ حملتنى أمى السيدة زهرة عبدالحميد شكر كما اتذكر إسمها الآن وتركتنى أمام عتبة باب المنزل الذى كان يقيم فيه أبى مع زوجته الأولى السيدة أمينة بحى باكوس ثم إنفصلت عن أبى بعد ذلك وتزوجت بعد فترة برجل آخر هو والد أخى غير الشقيق ، وقريبى الوحيد تقريبا، عبدالسلام ولم أراها بعد ذلك سوى مرات قليلة فى حياتى كلها حتى وفاتها فى تسعينيات القرن الماضى ومنذ ذلك اليوم فصاعدا تولت السيدة أمينة تربيتنى حتى رحلت عنى عندما كنت فى العشرين من عمرى. كانت هذه هى البداية الدرامية لحياتى والتى لم أشعر بها بالطبع لكنى عرفتها من زوجة أبى السيدة أمينة بعد ذلك. وهكذا بدأت طفولتى فى حى باكوس، أحد الأحياء الشعبية الكبيرة لمدينة الإسكندرية، والذى لم يميزه عن سائر الأحياء الشعبية الكبيرة لمدينة الإسكندرية سوى أن الزعيم الراحل جمال عبدالناصر ولد به وعاش به فترة صباه.
كان أبى رجلا غريب الأطوار سئ الطباع هارب من الأيام لانعرف لماذا ترك أهله فى أحد واحات جنوب مصر ليعيش وحيدا هكذا وكان يعمل طباخا لدى بقايا العائلات الكبيرة التى كانت مازلت تعيش فى مصر فى حقبة الخمسينيات ثم بعد ذلك وفى بدايات الستينيات تمكن من الإلتحاق بالعمل بشركة الملاحة العربية وهى إحدى شركات القطاع العام التى تأسست فى الحقبة الناصرية وإنتقل بذلك من طباخ منازل إلى طباخ حكومى وإرتفعت مكانته الإجتماعية وأصبح يغيب عنا لأشهر كثيرة خلال السنة مع أحد عبارات الشركة ثم يعود فى أجازة ليرحل مرة أخرى مع عبارة أخرى وهكذا إستمر حتى تخرجت من الجامعة بعد ذلك فى أواخر السبيعينيات حيث تقاعد هو وبدأت أنا رحلة الغياب والرحيل.
كان متوسط القامة يميل إلى السمار كصفة أهل جنوب مصر وكان مظهره العام يتميز بتلك القبعة الصوفية الزرقاء المستديرة التى كان يرتديها دائما إخفاءً لصلعه الكامل. كان يطلق على قبعته إسم كاسكيتا ربما تحريفا من كلمة خوذة الإنجليزية (كاسك) التى أخذها المصريون عن الإنجليز ولم أكن أراه يخلعها أبدا إذا خرج ولكنه داخل المنزل كان يرتدى جلبابا منزليا وطاقية بيضاء على عادة أهل الريف المصرى . كان متأنقا يرتدى الملابس الإفرنجية ويعرف بعض كلمات إنجليزية وفرنسية من أسفاره وعمله مع العائلات الكبيرة لكنه كان أميا لايقرأ ولايكتب وكان يعشق النساء والشراب وينفق بسخاء على ذلك لكنه لم يكن كريماً بشكل عام. كان مكتئبا فى معظم الأحيان ولكن كانت تستولى عليه أحيانا نوبات من المرح فيصبح سعيدا حنوناً بدون سبب واضح ثم سرعان مايتعكر مزاجه ويعود إلى سيرته الطبيعية مرة أخرى وكثيرا ما كان ينهرنى لأقل الأسباب وأذكر أنه قد إحتضننى ذات مرة فى أحد نوبات السعادة تلك وأنا فى سن مبكرة جدا بحيث لم أستطع التنفس ولا الكلام ولولا أنه أطلقنى سريعا لربما زُهقت روحى وقد ظللت أذكر هذه الحادثة دائما فقد كانت الحادثة الأولى التى عاينت فيها الشعور بالموت . كانت المصادفة هى أن إسمه سيد عبدالجواد كان هو نفس إسم بطل ثلاثية نجيب محفوظ الكاتب المصرى الشهير الحائز على جائزة نوبل للآداب لكن المصادفة الأكبر أن طبيعته أيضا كانت مشابهة لطبيعة تلك الشخصية الروائية الشهيرة ولعله كان بذلك يمثل نموذجا للأب المصرى من ذلك الزمان.
كانت أمى السيدة أمينة من مدينة رشيد وكانت فى زيارة لبعض أقاربها فى مدينة الإسكندرية عندما تعرف عليها أبى وتزوجها ولم ينجب منها أبى ربما لإنها كانت قد تجاوزت سن الإنجاب وكان لها أبناء من زوجها السابق المتوفى فأصبحوا بطبيعة الحال إخوتى وظلوا هكذا لفترة طويلة إلى أن توفيت السيدة أمينة فى بداية سنة 1975م ثم تقطعت الصلات بيننا بمرور الأيام كما يحدث عادة فى الحياة. كانت السيدة أمينة سيدة من العصور الوسطى أمية لاتقرأ ولاتكتب و لاتعرف الفرق بين الشرق والغرب ولا الفرق بين إسرائيل والأردن وذات مرة سألتنى إذا كانت إسرائيل تحارب معنا أم ضدنا وكانت تقص على كثير من الحكايات الخرافية التى كانت تؤمن بها وتحفظها عن ظهر قلب فكانت تحكى لى عن عمليات الثأر المستمرة بين كبار العائلات فى مدينة رشيد مثل عائلة زيتون وعائلة أخرى نسيت إسمها الآن وكيف كان ذلك يتسبب فى ظهور الأشباح ليلا فى الأماكن التى كانت تقع فيها حوادث القتل وكانت تحكى لى عن النداهة التى تنادى على الناس بأسمائهم ليلا وعندما يخرجون ليستطلعوا عمن يناديهم تخطفهم وتختفى بهم فى باطن الأرض وعن الثور الذى يحمل الأرض على إحدى قرنيه وكيف أن الزلازل تحدث إذا ماتعبت قرن الثور التى تحمل الأرض فينقل الثور الأرض إلى القرن الأخرى فتهتز الدنيا . لكنها كانت أيضا إمرأة من زمانها ، مصر النصف الأول من القرن العشرين ، رحبة الصدر ، حنونة ، وأذكر كيف كانت تغنى لى بعض أغانى الأطفال الشائعة فى ذلك الزمن عند خلودى إلى النوم فكانت تغنى لى نام نام وأدبح لك جوزين حمام وتكمل الأغنية التى لم أعد أتذكر باقى أبياتها حتى أنام وأحيانا كانت تحكى لى عن أبى وشقائه وكيف ولماذا ترك أهله وقد أخبرتنى ذات مرة أن أهله طردوه لمخالفته الأعراف البدوية بحب إمرأة متزوجة وقد نسيت هذه الحكاية بعد ذلك أو أنها لم تكن تعنى لى شئ آنذاك. ولم تكن تمانع أبدا فى زيارات رفاقى الدائمة من أبناء وبنات الحى إلى منزلنا وهكذا أصبح منزلنا وبدون ترتيب مكان التجمع لأبناء الحى وأصبحت انا ومنذ طفولتى مضيفا وقائدا حتى دون ان أدرى. كانت هى أمى التى لم أعرف أم سواها وكان الناس ينادونها بأم بسيونى نسبة إلى إبنها الوحيد بسيونى الذى كان يعمل متعهد توزيع جرائد بمدينة رشيد ثم وبمرور الزمن أصبح إسمها ماما أونى بعدما اطلقت عليها ذلك الإسم صديقتى سامية إبنة الجيران. كانت بيضاء سمينة متوسطة القامة تجاوزت سن الشباب ردائها الدائم جلباب منزلى ومنديل رأس وكانت تضع الملاءة اللف السوداء إذا ماخرجت من المنزل على عادة أهل الأحياء الشعبية فى ذلك الزمن ، كانت تحب أبى حبا جما وتحبنى كما تحب أولادها الثلاثة فى رشيد بسيونى وسعيدة وتيسير والتى كانت تحبها أكثر من الأخريين وتفكر فيها كثيرا ربما لإن زواجها لم يكن موفقا تماما أو لإنها كانت أفقرهم أو ربما لإنها كانت أصغرهم أو لكل هذه الأسباب مجتمعة ولم أشعر أبدا أنها كانت زوجة أبى أو أننى كنت أفتقد إلى حنان الأم الحقيقية فقد كانت شديدة الرفق بى لدرجة أنها كانت تبكى إذا مافقدت أعصابها أحيانا ونهرتنى أو ضربتنى كما تفعل أى أم مع أبنائها إذا ماأفرطوا فى اللعب أو الشغب . هذه كانت كل أسرتى أبى وأمى وأنا الطفل الصغير عبده كما كان الناس ينادونى فى طفولتى . عالم محدود فقير فى حى شعبى ومدينة عتيقة وبلد حائر بين العصور. بداية لاتمنح صاحبها فرصة كبيرة لأى حياة ذات مغزى.
كان حى باكوس فى بداية الستينيات وعندما بدأت أعى الأشياء التى أتذكرها الآن مختلفا تماما عما هو عليه اليوم ، كان أكثر هدوءا وجمالا ، ربما مثل مصر كلها ، كانت فى تلك الفترة مختلفة تماما عما هى عليه اليوم. كان حيا كبيرا تقسمه ترام الرمل التى تقطعه إلى جانبين ، جانب أيمن يتجه شمالا ناحية البحر هادئ رقيق فسيح يغلب عليه الطابع الراقى وجانب أيسر يتجه جنوبا ناحية خط السكة الحديد ، صاخب مزدحم فقير يغلب عليه الطابع الشعبى ، كان منزلنا الكائن فى شارع الفتح والذى كان يسمى بمنزل النوبيين لإن صاحبه الحاج صالح كان نوبيا من أسوان وكان معظم سكان المنزل من ابنائه ، يقع بالقرب من محطة ترام باكوس فكان بذلك يقع بين هذين العالمين ، عالم الفقراء من الناس وعالم المستورين منهم. كانت المساحة التى أعيش عليها وأرى من خلالها العالم تشبه مستطيل يمثل شارعا الفتح الممتدين بالتوازى مع شريط الترام إلى ضلعيه الكبيرين أما ضلعيه الصغيرين فلم أكن أعرف لهما نهاية ولاحدودا.
كنت إذا نظرت من البلكونة أرى أمامى مباشرة على الجانب الآخر لشارع الفتح مبنى قديم من دورواحد ، يقع على ناصية زقاق، يشغل الدور الأرضى منه صيدلية والدور العلوى عيادة طبيب كان إسمه الدكتور خليل ، كان ذا ملامح يونانية ولكنه كان مصريا بالمولد، متوسط القامة ، أصلع يملك سيارة من طراز قديم ويحمل حقيبة دائما وجريدة يومية كان يقرأها معظم الوقت فى مكتبه المفتوح بنافذة تطل على الشارع مباشرة وبجوار غرفته كان هناك صالة صغيرة لإستقبال المرضى وبلكونة تطل على الشارع كانت ممرضته تطل منها معظم الوقت فقد كان مرضاه قليلى العدد بشكل دائم فكان يشغل معظم وقته بقراءة الجريدة بينما تشغل الممرضة معظم وقتها بالجلوس فى البلكونة ومراقبة الشارع. ظل هذا الطبيب هناك لفترة طويلة من الزمن ومن الغريب إننى لم أعد متأكدا من إسمه فقد تعرضت مرة لحادث بسيط أثناء سنوات الجامعة إذا إبتلعت دون أن أقصد شوكة سمك صغيرة أثناء تناولى الطعام وقفت فى حلقى وآلمتنى كثيرا وعجزت عن إخراجها فذهبت إليه فأخرجها ببساطة وأعطانى بعض المضادات الحيوية وقاية من أى إلتهابات محتملة ولم يتحدث كثيرا وإنصرف يقرأ جريدته كعادته أما ممرضته فلم تكن هى تلك التى إعتدت النظر إليها فى طفولتى فقد كانت تلك القديمة قد رحلت منذ زمن طويل وجاء بعدها عشرات الممرضات. لم يكن شئ يتغير فى عيادة ذلك الطبيب سوى الممرضات كن يجيئن ويذهبن بمنتهى السرعة بينما يظل هو كما هو هادئا يقرأجريدته اليومية. وداخل الزقاق خلف عيادة الدكتور خليل كان يوجد محل حلاق إسمه على بيومى كان يقوم بختان الأطفال بالإضافة إلى الحلاقة وهو الذى قام بختانى فى وقت مبكر من طفولتى وفى نهاية الزقاق كان يقع شارع مصطفى كامل الشعبى الكبير .
وعلى الجهة المقابلة لعيادة الدكتور خليل ، من ناصية الزقاق ، بإتجاه حى فلمنج ، كان يوجد محل سروجى تصطف بعده بعض المحال التجارية بينها مكتبة إسمها مكتبة الخولى ومحل ساعاتى إشتهر بالبلطجة وضرب زبائنه ومحال أخرى لم أعد أذكرها وقطعة أرض خاوية بنيت عمارة كبيرة بعد ذلك كان صاحبها رجل من جيراننا إسمه عم يوسف كان يملك محل فراشة شهير فى باكوس فى ذلك الزمن وكانت بناته نجيبة وسعاد وعفاف من أصدقاء طفولتى فإشترى قطعة الأرض تلك أولاً ثم بدأ فى بنائها بعدذلك لكنه مات فجأة بالزبحة الصدرية قبل أن تكتمل العمارة ، ثم أكملت عائلته البناء وإنتقلوا بعد ذلك من عمارتنا إلى عمارتهم الجديدة على الضفة المقابلة لشارع الفتح وإنقطعت صلتى بهم بمرور الزمن . وبعد عمارة عم يوسف كان هناك مقهى ثم ناصية شارع يواجه محطة الترام ثم بعض المحلات بينها محل خردواتى نسيت إسمه أيضا إشتهر صاحبه بعد ذلك بقصة حب عنيفة مع سيدة من سيدات الحى، ثم محل حلاق إسمه فياض ومحل ملابس رياضية ثم جزار إسمه بيرم ثم مقهى إسمه مقهى الطباخين كان أبى من رواده وكثيرا ماصحبنى معه إلى هناك فى طفولتى وعندما مات كان معظم من جاء لتعزيتى فى السرادق الصغير الذى أقمته فوق السطح من رواد ذلك المقهى وذلك دون أن يعرفوننى أو أعرفهم ولكن يبدو أن شخص ما قد اخبرهم أن احد الطباخين القدامى قد مات فهرعوا جميعا لتعزيتى دون أن يعرفوننى أو حتى يعرفون أبى؟ وبعد ذلك المقهى مباشرة، وعلى ناصية الشارع، كان يوجد محل خردواتى صغير يملكه عم حسن صديق والدى و أبو الأستاذ عبده، مدرس الإبتدائى الذى كنت أذهب إليه أنا وصديقتى سامية من أجل دروس خاصة عندما كنا فى نهاية المرحلة الإبتدائية وأعتقد أنه قد تحول إلى محل بقالة بعد ذلك لكنى لم أعرف شيئاً عن مصيرعم حسن والأستاذ عبده . وأمام دكان عم حسن مباشرة كان الشارع الكبير المفتوح على مزلقان الترام والذى يمثل إمتداداً لشارع طوسون الذى تقع فيه إذاعة الإسكندرية ،وفى داخل ذلك الشارع كانت تقع بقالة النجم الذهبى التى يملكها عم عبدالرحيم والد سامية والتى كانت من معالم حى باكوس فى ذلك الزمن، وعلى الجهة المقابلة من ناصية الشارع، كان هناك صيديلية فاخرة وخلفها كان شارع الفتح يمتد على مرمى البصر بإتجاه حى فلمنج.
أما على الجانب الآخر لعيادة الدكتور خليل، بإتجاه حى صفر، فقد كان هناك بناية من خمسة طوابق ذات فناء واسع كانت تشتهر بإسم عمارة الدكتور مصلى وهو جد لاعب النادى الأهلى الشهير فى السبعينيات، طاهر الشيخ، وكان هو وأسرته من أصول يونانية، مثلهم مثل الدكتور خليل، ولاأذكر إننى قد رأيت الدكتور مصلى هذا فى حياتى أبدا لكنه كان شهيرا جدا فى حى باكوس، ربما لإن إحدى بناته وكما سمعت من الناس كانت قد تزوجت بأحد إخوة الرئيس جمال عبدالناصر ثم إزداد شهرة بعد ذلك بشهرة لاعب الكرة . وبعد، عمارة الدكتور مصلى كان هناك مكتب بريد صغير يسمى مكتب بريد باكوس ثم عمارة ضخمة أخرى تحتها محل خردواتى قديم إسمه عبدالرؤوف كانت تسكن بها فتاة ساحرة من فتيات الستينيات إسمها منى كان كل شباب حى باكوس يعشقونها ومنهم جارنا عبدالمجيد وأذكر أن مشاجرة كبيرة قد نشأت بينهم بسببها إستخدموا فيها المدى والسكاكين لكنى لاأذكر ماذا حدث لمنى بعد تلك المشاجرة ولا كيف إختفت من ذاكرتى إلى الأبد . وبعد عمارة عبدالرؤوف كانت ناصية الشارع ومزلقان الترام المواجه لشارع رياض والمفتوح على شارع مصطفى كامل بكل صخبه وضجيجه ومعالمه الشهيرة فى ذلك الزمن، سوق السمك وسوق الخضار وسينما باكوس ومطعم الف ليلة وليلة وفتح الله البقال ومقهى البطل والشارع الطويل المؤدى إلى محطة السكة الحديد، بكل صخبه وضجيجه وأسواقه وإزدحامه ، وحياتة الهادرة التى لاتتوقف ليل نهار.
ومقابل كل ذلك فى الجهة التى كان يقع عليها منزلنا من شارع الفتح ، كان يوجد إلى اليمين منه، وبإتجاه حى فلمنج، بعض محال مازلت أتذكرها جيدا هى محل إبراهيم المكوجى الواقع على ناصية شارع صغير متفرع من شارع الفتح أسفل منزلنا مباشرة إسمه شارع الإخوان كان يربط شارع الفتح بشارع رياض وبعده محل الخياط شيبة وعلى حسن ومحل عم على النجار وفوق هذه المحلات كانت تقع عمارة الحاج الخميس صاحب مطعم ألف ليلة وليلة ووالد صديقى كمال ثم فيلا قديمة مهجورة تمتلئ بأشجار التوت والبامبوزيا كانت مرتعا للهونا أطفالا إشتراها بعد ذلك صائغ ذهب إسمهٍ جرجس وحولها لعمارة كبيرة ثم محل حلاق إسمه عبده ثم بعض المساحات الفارغة التى تحولت إلى بنايات بعد ذلك ثم ناصية شارع ثم محل ألبان شهير إسمه ألبان الغزال إشتهر أصحابه عائلة المكباتى بأنهم كانوا من الإٌقطاعيين الذين أصابتهم قوانين الإصلاح الزراعى الناصرية بضربة قوية ثم محطة الترام مقابل ذلك اللبان وبعده صيدلية وناصية شارع كانت تسكنه صديقتى وفاء ثم مبنى كنيسة باكوس الكبيرة الواقعة عند ناصية شارع طوسون حيث مبنى إذاعة الإسكندرية وحيث تقع حضانة سانت تيريزا المسيحية التى قضيت فيها سنوات طفولتى المبكرة ثم مطبعة على الجانب الآخر من الناصية فى مواجهة الكنيسة تحولت هى الأخرى إلى مقهى بعد ذلك ثم إمتداد شارع الفتح على مرمى البصر حتى محطة ترام فلمنج.
وعلى نفس هذا الجانب من شارع الفتح وفى مساحات ملاصقة لشريط الترام مباشرة كان هناك معالم أخرى تمتد بموازاة تلك المعالم تبدأ أمام منزلنا وتمتد حتى نهاية الشارع عند الكنيسة. فكأنها بذلك كانت شارعا ثالثا محصورا بين ضفتى شارع الفتح الكبيرين. كان هناك دورة مياه عمومية بنيت فى أسفل الأرض يقود إليها سلم سفلى ويعلوها قبتين مستطيليتين من أسمنت وزجاج كأنهما شاهدان لكنهما كانا بالنسبة إلينا مسرحا للعب واللهو حيث كنا نقضى اليوم نلعب فوقهما و نقفز من واحدة إلى أخرى ونختبئ من بعضنا البعض خلفهما فبينما كان الناس جميعا يعرفونهما كدورة مياه عمومية كنا نراهما كملعب كبير. وكان يجلس بالقرب منها كاتب عمومى إسمه عبدالغنى، كان رجلا طيبا فلم يحدث أبداً أن نهرنا أو أبعدنا عن مكان رزقه الذى كان مجرد طاولة صغيرة وكرسى وضعهما أمام دورة المياه العمومية ليستقبل فيهما زبائنه القليلين والذين كانوا فى معظم الأحيان أناس بسطاء لايعرفون القراءة والكتابة جاؤا لكتابة طلب أو عرضحال دمغة كما كان يسمى فى تلك الأيام فكان عم عبدالغنى يخبرهم عن النموذج المطلوب شرائه من مكتب البريد وعن ورقة الدمغة المطلوبة فيذهبون لشرائها من مكتب البريد الواقع على الجانب الآخر من شارع الفتح ثم يعودون إليه فيكتبها إليهم ثم ينصرفون لتقديمها هناك مرة أخرى. وفجأة مات عم عبدالغنى وورث طاولته وكرسيه إبنه محمد وكان شابا فى مقتبل العمر مهذبا مثل أبيه بسيطا أنيقا كعادة شباب تلك الأيام ثم ظهرت بجواره طاولة وكرسى آخر هما مكتب منافسه وغريمه طه أو لعلها كانت هناك منذ البداية . كان طه أيضا شابا طيبا بسيطا لكنه ربما كان أقل قوة و فتوة من محمد فكانا فى صراع دائم ربما بحكم تنافس أصحاب المهنة الواحدة أو ربما بحكم عوامل تحاسد أخرى لم نكن نفهما آنذاك لكن الصراع بينهما كان شبه يومى تقريبا فكثيرا ماتعاركا باللسان وكثيرا ماإشتبكا بالأيدى وفى معظم المعارك كان محمد هو المنتصر، وبذلك أصبح أول بطل داعبه خيال طفولتنا بسببب معاركه الظافرة مع طه ثم تغير الحال فجأة وإنتقل الخصمان اللدودان بمكتبيهما إلى الجانب الآخر من شارع الفتح وجلسا بجوار مكتب البريد مباشرة ربما بعد هدم دورة المياه العمومية أو ربما قبل ذلك وهناك وبجوار مكتب البريد الحكومى كان من الطبيعى أن تختفى المعارك والإشتباكات ثم إختفى محمد نفسه بعد ذلك ولانعرف أين ذهب أو رحل ومعه ذلك القدر الكبير من ذكريات طفولتنا وصبانا ثم إختفى طه بعده ولم نكن نعرف أين ذهب أيضا حتى إلتقيت به مصادفة بعد ذلك بسنوات طويلة فى مكتب التسجيل العقارى بالإسكندرية وكان يعمل موظفا هناك وذلك عندما كنت استخرج توكيلا لصديقى رفعت رسمى لمتابعة تحصيل الميراث الصغير الذى تركه لى أبى بعد وفاته بسبب إضطرارى للعودة سريعاً لإستئناف عملى فى أبوظبى. وقد تذكرنى طه جيدا وكان قد هرم وتقدم به العمر وتحدثنا طويلا عن ذكريات تلك الأيام لكننى نسيت أو ربما تناسيت أن اسأله عن محمد؟.
وإلى اليمين من دورة المياه العمومية كان يوجد شجرة ضخمة بجانبها مبنى صغير مهجور يتكون من دور واحد وسطح لعله كان من مبانى الحكومة القديمة المهجورة وكان عبارة عن غرفة كبيرة تمتلئ بالأوراق والقاذورات ويعيش ويعمل بها رجل إسكافى إشتهر بإسم عم إبراهيم الجزمجى. كانت الشجرة مسرحا كبيرا للعبنا ولهونا أيضاً فقد كنا نتسلقها ونقفز بين أغصانها التى كانت تمتلئ بالعصافير وكنا نحاول إصطياد هذه العصافيرالمسكينة بإستخدام آلة بدائية إسمها النبلة كانت عبارة عن يد حديد وشريط من المطاط مربوط بين طرفى اليد الحديد كنا نضع به مسامير صغيرة مثنية ثم نشده إلى الخلف فينطلق المسمار ويصيب إحدى تلك العصافير المسكينة فتسقط قتيلة وكان هناك نوع آخر من المصائد عبارة عن قطعة من الورق السميك المربوطة إلى عصا صغيرة وعليها مادة من الغراء الثقيل كنا نضعها فوق الأشجار فتلتصق بها العصاقير أحيانا فنصعد لإنزالها مع الصيد السمين الذى يكون قد فارق الحياة و أما الذين يكبروننا سنا من أبناء الحى فقد كانوا يستخدمون بندقية الرش لإصطياد تلك العصافير وكان ذلك يحدث غالبا فى الليل بإستخدام أضواء البطاريات للتفيش عن العصافير النائمة بين الأوراق وكنا نراقبهم فى شعور عارم من الإثارة والترقب وفرحة الإنتصار إذا ماسقط أحد تلك العصافير المسكينة . كان مبنى عم إبراهيم مكانا غامضا يمتلئ بالألغاز كان كالقصر المسكون فلم نكن نعرف من يملكه وكنا نشعر بالدهشة الشديدة إذا مارأينا أحد أبناء الحى الكبار يتسلق سطح هذا المبنى فلم نكن نعرف له مدخل سوى مدخله الأمامى حيث يقيم عم إبراهيم فى صالة كبيرة مظلمة تمتلئ بالقاذورات يعمل بها ويقيم بها فى نفس الوقت ثم وفى لحظة معينة لاأستطيع تحديدها زالت هذه المعالم واحدة فى أثر الأخرى فقد هدمت دورة المياه العمومية وسويت بالأرض وبنى فوقها مسجد أصبح فيما بعد مأوى للجماعة الإسلامية التى بدأت تنتشر فى حينا فى بداية السبيعينيات بزعامة إبن الجيران الطيب الخجول الدكتور عصام والذى أصبح فجأة زعيما بعد أن إلتحق بكلية الطب وإنضم إلى الجماعة الإسلامية وإتخذ من هذا المسجد منبرا لوعظه وزعامته المفاجئة . وعلى المساحات الفارغة بجانب المسجد بنى كثير من أكشاك بيع الصحف والكتب وكانت كلها أو معظمها تعود للجماعات الإسلامية أيضا أما الشجرة الضخمة مأوى العصافير ومسرح مغامراتنا فقد قطعت وسويت بالأرض وهدم مبنى عم إبراهيم وبنى مكانه جمعية تعاونية ظلت هناك إلى أن أحرقها المتظاهرون فى أحداث 18 و19 يناير سنة 1977م وربما أعيد بنائها مرة أخرى وربما ظلت هناك إلى الآن أما عم إبراهيم فلا أذكر هل رحل عن الحى أم مات وهل حدث ذلك بعد هدم مبنى الغامض أم قبله لاأدرى لقد إختفى تاريخه من ذاكرتى شأنه فى ذلك شأن معظم ذكريات الطفولة. وبعد مبنى عم إبراهيم كان هناك مقهى شهير إسمه مقهى زوغتو كان يديره رجل إسمه على رمضان و كان من أولى المقاهى التى أدخلت جهاز التليفزيون فى بداية الستينيات ، فكان مأوى لكثير من الناس من مختلف الأعمار ممن يحضرون لمشاهدة المباريات وخاصة مباريات الأهلى والزمالك وكان الدخول بمجرد المشروب فكان يزدحم بالناس والصخب والصياح ليل نهار ثم بدأ كل ذلك الضجيج ، فى الخفوت تدريجيا عندما بدأ جهاز التلفزيون فى الإنتشار لكن المقهى ظل مركزا لتجمع أهالى الحى ومركزا للعب الشطرنج وشاربى الشيشة ولعله مازال هناك حتى الآن . وبعد مقهى زوغتو كان هناك محل ساعاتى كان صاحبه نديما لعم على النجار والأستاذ عبدالسلام والد أصدقاء طفولتى خميس وأبو العلا ومحمد جار صديقى رفعت . شكل هؤلاء الأربعة لزمن طويل جماعة من السكارى المشهورين فى الحى وكان لهم حكايات ونوادر. كانوا يجتمعون فى كل مساء تقريبا فى دكان عم على النجار ويأخذون فى الشرب والتسامر حتى ساعة متأخرة من الليل حتى يحين موعد إنصرافهم إلى منازلهم حيث كانوا يضلون الطريق فى معظم الأحوال فيظلوا يتخبطون فى الشوارع إلى ماقبل الفجر ويتبولون على الجدران إذا ماإضطرتهم الحاجة ، لكنهم كانوا فى نهاية الأمر ، ولاأعرف كيف ، يعودون إلى منازلهم كالعادة. وكانوا أحيانا يتعاهدون على الكف عن الشراب ويقسمون على ذلك على مصحف صغير كانوا يحتفظون به فى دكان عم على فينقطعون عن اللقاء عدة أيام ثم مايلبثوا أن يحنثوا بالقسم ويعودون إلى سابق عهدهم فى الإجتماع والشراب وفى أحد المرات ومن فرط السكر قام أحدهم وهو محمد بعرض أبنائه وزوجته للبيع فأخذ يدق أبواب الجيران واحدا فى أثر الآخر ويسألهم إذا ماكان أحد منهم يريد شراء زوجته وأولاد بينما وقفت زوجته المسكينة تصرخ وتبكى طالبة منه الكف عن هذا الجنون وقد إستمر هؤلاء على هذا الحال لزمن طويل حتى تغير بهم الزمن كالعادة فهرم عم على ومرض ولم يعد يفتح دكانه وضعف محمد وهزل وتحول إلى خيال إنسان ومرض ولزم منزله وتاب الأستاذ عبدالسلام وإنقطع للصلاة والصوم ثم إنضم إلى أحد الأحزاب السياسية بعدما سمح السادات بإعادة الحياة الحزبية إلى مصر وأصبح الأستاذ عبدالسلام ممثلا لهذا الحزب فى حى الرمل لكنه مات بعد ذلك بفترة قصيرة ولم يسمح له الزمن بالإستمتاع بلذة حياته السياسية الجديدة . أما الساعاتى فلا أعرف ماذا حدث له وأين أختفى بعد ذلك الزمن . وبعد دكان الساعاتى كان يوجد محل خردواتى إسمه ريان صاحبه رجل اسمر جهم صارم لم أراه يبتسم يوما فى حياتى ثم محطة الترام وفى وسطها كان كشك خميس بائع الجرائد الذى إعتدت شراء مجلات وقصص طفولتى منه قبل أن أعرف الطريق إلى مكتبات محطة الرمل. وبعد كشك خميس كان يوجد حلاق ثم مقهى آخر ثم محل حاتى إسمه الطازة بدأ بسيطا بمجرد عربة صغيرة كان يقف بها فى الأرض الفارغة الملاصقة لشريط الترام بجوار ذلك المقهى ثم إشترى هذه الأرض وبنى عليها مطعما كبيرا أصبح من معالم حى باكوس حتى اليوم. وبعد مطعم الطازة لم يكن هناك شئ سوى مزلقان الترام المفتوح على شارع طوسون ثم شارع الفتح الممتد على مرمى البصر حتى محطة ترام فلمنج.
أما إلى اليسارمن منزلنا، وبإتجاه حى صفر، فقد كان هناك منزل قديم يقع تحته محل الخياط أحمد عيسى وبجانبه محل زجاج الحاج جمعة الذى كان لى معه ذكرى فى طفولتى ولاأدرى كم كان عمرى آنذاك لكننى كنت فى سنوات المرحلة الإبتدائية عندما قام فتى إسمه زعبلة كان يسكن فى شارع رياض ويتزعم عصابة من الأطفال تنافس عصابتى المكونة من رفعت ، وكمال وعبدالفتاح وأخيه عبدالكريم وخميس وأخيه أبو العلا وسيد وأ خيه توتو وغيرهم لم أعد اذكرهم بإلقاء كيس محشو بالرمل فى وجهى فأعمانى على الفور وأخذت اصرخ من الفزع لولا أن اسرع الحاج جمعة وجلب سطلا من المياه وأخذ يغطس به وجهى ثم يرفعه وهو يصيح إفتح عينيك إفتح عينيك وهكذا حتى بدأت أبصر ماحولى مرة أخرى وقد مات الحاج جمعة بعد ذلك بعدة سنوات وظللت مدينا له بهذا الفضل الكبير فلولاه ماكنت أعرف ماذا كان قد حل بعيناى . وبجانب محل الحاج جمعة كان هناك مكتبة إسمها مكتبة الهلال إرتبطت بها فى طفولتى وصباى ، كنت أشترى منها ماأحتاجه وأقترض منها أحيانا وأترك بها حقيبتى أحيانا أخرى بعد عودتى من المدرسة إذا ماأردت اللعب قليلا قبل أن أعود إلى المنزل، كان صاحبها يدعى السيد هلال ولكن المسئول عنها كان فتاة جميلة إسمها سهير وبعد زواجها أصبحت أختها هدى الأقل جمالا هى المسئولة وظلت هناك حتى غادرت أنا حى باكوس فى أوائل الثمانينات وقد تقدم بها العمر دون أن تتزوج وقد سمعت بعد عودتى إلى مصر أنها قد ماتت دون زواج . وبعد مكتبة الهلال كان يوجد مقهى صغير يرتاده سائقو التاكسى بشكل خاص وبعده كان يوجد عمارة تقع على ناصية شارع رياض المفتوح على مزلقان الترام المواجه لعمارة عبدالرؤوف الخردواتى وشارع مصطفى كامل وسوق السمك وكان بها ستوديو شهير فى ذلك الوقت إسمه ستوديو شريف هو نفس الإستوديوالذى حصلت فيه على صورتى الكبيرة الوحيدة عندما كنت على وشك إنهاء المرحلة الإبتدائية وصورتى الوحيدة الأخرى مع أبى عندما كنت فى الصف الثانى الإعدادى ومازلت هاتان الصورتان معلقتين فى غرفة مكتبى فى منزلى فى إندونيسيا حتى اليوم لاأعرف متى تنزلان ولا إلى أين ترحلان بعد ذلك؟. وعلى يسار العمارة كان يمتد شارع رياض المرتفع كالتل حيث كانت مدرسة الناصرية الثانوية التى قضيت فيها الصف الأول الثانوى قبل أن أنتقل إلى مدرسة الثغر بلوران ثم إلى مدرسة جمال عبدالناصر العسكرية بحى السيوف بعد ذلك.
وأما من الجانب الخلفى من منزلنا والمطل على شارع الإخوان فقد كان هناك بناية متوسطة ملاصقة لبنياتنا مباشرة يسكنها أصحاب مكتبة الهلال وفتى إسمه أسامة منافسى فى حب صديقتى سامية وخلفها مباشرة كانت البناية التى يسكن طابقها السفلى صديقى رفعت رسمى أو حمادة كما كان يُعرف صغيرا ومقابلها بناية المعلم مقار صاحب محل الفول والفلافل الشهير فى باكوس فى ذلك الوقت وخلف بناية حمادة ، كانت بناية صديقى حسين المملوكة لوالده الحاج عبدالعزيز تمراز، الذى كان يعمل طباخا لدى كمال أدهم مستشار ملك السعودية ومدير مخابراتها فى حقبة السبعينات، تقف عالية عند تقاطع شارع رياض مع شارع الإخوان. كانت تلك المبانى الواقعة فى شارع الإخوان قليلة الإرتفاع كما كانت الأراضى الواقعة مقابلها مازلت شبه خاوية ولذا فقد كنت أستطيع أن أرى على مرمى البصر جانبا من حى زيزينيا بفلله ومساكنه التى هجرها الأجانب بعد حكم عبدالناصر وأشجار الياسمين التى ظلت شاهدة على أيامهم وألمح بعض مياه البحر كما كنت أرى برج إذاعة الإسكندرية وأرى ساعة الكنيسة الكبيرة واسمعها عندما تدق . ثم عندما بدأت البنايات فى الإرتفاع تدريجيا بدأت أمواج البحر والفلل وأشجار الياسمين تختفى عن ناظرى ولم يعد هناك سوى مبانى فقط . كانت تلك هى المساحة الصغيرة من العالم التى بدأت منها رحلتى مع الحياة.
تترائى لى أحداث طفولتى المبكرة كصور متضاربة متداخلة كثيرا ماحاولت ترتيبها ولكن دون جدوى فقد ظلت مجرد صور ومجرد ذكريات لايمكن وضعها فى ترتيب زمنى و لايمكن معرفة من حدث منها قبل الآخر ، فهى فقط ماتبقى فى ذاكرتى عن تلك الفترة الساحرة فى حياتنا التى تسمى الطفولة. الصورة الأولى التى أتذكرها لكنى لاأعرف حقا إذا ماكانت وهما أم حقيقة هى صورتى عندما كنت فى حوالى الثالثة من عمرى أو ربما أكبر أو أقل قليلا وكنت أجلس على أرض سطح المنزل ألعب بشئ ما وفوجئت أمامى بفتى وفتاة يونانيين من أبناء الجيران فهمت من أمى أنهما كانا راحلان عن مصر مع أسرتهما وأنهما قد جاءا لوداعى وإعطائى بعض الهدايا كنت فرحا جدا بهذه الهدايا ولم أفهم باقى القصة ظلا ينظران إلى طويلا وأنا ألعب بالهدايا التى قدماها إلى ثم غابا عن ناظرى.وقد ظلت نظراتهما الحنونة عالقة بخيالى طوال هذا العمر. كان ضمن تلك الهدايا بطة صغيرة مصنوعة من الألمونيوم والريش الملون تشحن يدويا بواسطة زنبرك صغير ملتصقا بأحد جانبيها ثم تترك على الأرض فتتحرك تلقائيا كأنها أوزة حقيقية ولكن دون أن يصدر عنها صوت سوى صوت الزنبرك وهو يفرغ شحنته ثم وعندما تنتهى الشحنة تتوقف الأوزة ويعاد شحنها يدويا مرة أخرى ويتم توجيهها فى أحد الإتجاهات فتسير عدة أمتار وهى تترنح وهكذا حتى تتوقف مرة أخرى. كانت هذه هى أكبر وأهم هدية طفولة حصلت عليها وقد ظللت ألعب بها حتى تجاوزت سن الطفولة فإحتفظت بها فى كنبة أبى ونسيت أمرها فظلت هناك حتى وفاته.
كان بائع القصب صورة أخرى من صور طفولتى المبكرة. كانت السنوات الأولى من طفولتى سنوات وحدة كنت أقضيها ألاعب نفسى فى معظم الأحيان ، مرتديا ملابسى الداخلية أراقب الشوارع من بين ثنايا جدران البلكونة . كان هناك بائع قصب يمر يوميا بشارع الفتح أسفل منزلنا عند الظهيرة مناديا على القصب الذى كان يحمله على عربة كارو صغيرة يجرها حمار أسود اللون فكنت إذا سمعت صوته فى نفس الساعة من كل يوم أجرى لأراقبه وهو يعبر الشارع وأرى الحمار الصغير وهو يجر العربة المحملة بقصب أحمر اللون منظم فى لفائف طويلة فوق العربة. كان الشارع هادئا نظيفا ولم أكن أرى سوى بائع القصب والحمار والعربة وهم يمرون فى هدوء فى كل يوم من نفس الساعة وهكذا طبعت هذه الصورة فى خيالى دائما الشارع الهادئ النظيف والبائع والحمار والعربة ، ولاأعرف لماذا؟. كان إمتصاص القصب شائعا فى الأحياء الشعبية فى تلك الأيام فكان يُشترى ويُقسم إلى قطع أو عقل ثم تُنزع قشرته ويمتص مائه خاما من القصبة مباشرة كما كان لعبة رياضية شائعة أيضا إسمها لعب القصب ويعنى تكسيره باليد وعلى الأرجل لإختبار القوة ومن يفوز كان يفوز بالقصب لنفسه يأكله وحده ويدفع الطرف الخاسر ثمن القصب وكان هناك لعبة قصب أخرى تشبه لعبة النيشان أو الرماية يوضع فيها عود القصب على الأرض ثم يقف اللاعب بقطعة نقود معدنية فى يده ثم يأخذ فى النيشان على قطعة القصب فيدفع فيها قطعة النقود المعدنية بقوة فإذا أصابتها وإلتصقت بها يكون قد فاز ويفوز بالقصب وإذا كان العكس يكون قد خسر. وبمرور الزمن إختفت هذه الألعاب من الأحياء الشعبية وأصبح القصب يُعصر ويُشرب فى محلات العصير فقط .
كانت عمتى نظيرة صورة أخرى من صور تلك الذكريات . كانت الوحيدة التى عرفتها من أهل أبى. كانت تشبه سيدة من سيدات الصعيد سمراء تجاوزت سن الشباب ترتدى ملابس منزلية وتجلس على الأرض معظم الوقت فى ركن من أركان السطج ولاأعرف من اين جاءت لزيارة والدى و إلى اين ذهبت بعد ذلك فقد إختفت من ذاكرتى فجأة بملامحها السمراء المتجهمة ولعلها عادت مع أخيها الآخر الذى جاء مع إبنه لزيارة أبى ذات مرة لأخذ توقيعه أو بصمته على التنازل عن نصيبه فى ميراث أبيهم المتوفى عن قطعة أرض وبعض نخلات فى أحد الواحات. لاأذكر ملامح عمى هذا الآن ، لكننى سمعت عنه مرتين فى حياتى كلها ، مرة عندما جاء تلك المرة عندما كنت طفلا وكان معه إبنه الذى لاأذكر إسمه ولاملامحه لكننى كنت أسمعه يناديه إحشم فكنت أعتقد أن إسمه إحشم لكننى فيما بعد عرفت أن إحشم كانت تعنى تأدب بلغة البدو فالواقع أنه لم يكن يناديه ولكن كان يطلب منه التأدب والكف عن اللعب والضجيج. ومرة ثانية سمعت عنه من جارتنا الحاجة صفية عند عودتى من أبى ظبى بعد وفاة أبى، عندما جاء ليصحب أبى ليدفن فى دياره أثناء مرضه، ورفض أبى للعودة معه !!!
كان أبى يصحبنى معه إلى مقهى الطباخين فى بعض الأحيان وكان أصدقائه يحيوننى ويشترون لى الحلوى وكان ينادون أبى بإسم أبوعبده فكان يشعر بفرح شديد لهذا الإسم ومن بين أصدقائه لازلت أذكر عم خميس ، كان رجلا ضخما كريما يرتدى جلبابا أبيضا كثير الإعتزاز بنفسه وقد ظل صديقا لأبى فترة طويلة ثم باعدت بينهما الأيام بعدما اصبح أبى طباخا حكوميا فى الشركة العربية للملاحة البحرية وأصبح له اصدقاء جدد من الطباخين والبحارة على السواء. كان محمود محرم الحلاق صديق آخر من اصدقاء أبى وكان أبى يصحبنى للحلاقة عنده وأذكر نه كان يجلسنى فوق مقعد خاص مرتفع ويأخذ هو وأبى فى مداعبتى حتى تنتهى الحلاقة. كان دكانه يقع فى بداية الشارع المتقاطع مع شارع الفتح فى الجهة المقابلة لشارع طوسون وكان بجواره مقهى آخر إشتهر أيضا بجلوس الطباخين فيه ، ولاأعرف لماذا كان محمود محرم رجل شهير جدا فى حى باكوس فى ذلك الوقت، ثم فجأة مات عم محمود محرم ، مات عندما كان يدخل إلى دكانه فى صباح أحد الأيام ، مات رجل برة ورجل جوة ، هكذا سمعت أبى يردد هذه العبارة وهو يروى متأثرا كيف سقط عم محمود محرم ميتا عندما كان يدخل إلى دكانه. كان الدكتور ماهر شخصية شهيرة أخرى من شخصيات حى باكوس ولاأدعى إننى رأيته أبدا لكن ذكرى وفاته قد هزت حى باكوس كله حتى علقت فى ذاكرتى من حديث الكبار عن عظم جنازته وعن كيف أنه كان رجلا كريما محسنا يعالج الفقراء مجانا ويصرف لهم الدواء مجانا أيضا فى بعض الأحيان. وربما كانت ذكرى الدكتور ماهر أحدث كثيرا من ذكرى عم محمود محرم الحلاق وربما تعود إلى مرحلة الصبا وليس إلى مرحلة الطفولة كما ان عيادته كانت فى حى جليم القريب وليس فى حى باكوس لكن كلاهما كان رجلا شهيرا وظلا متداخلان بذاكرة طفولتى حتى اليوم.
كانت ليلة العفريت ليلة أخرى من ذكريات طفولتى. كنت أبكى بشدة تلك الليلة ولاأ ستطيع التوقف عن البكاء كان أبى وأمى يقنعانى بأن هناك عفريت وإننى يجب أن أنام حتى لايرانى العفريت ولكنى بدلامن أنام إستبد بى الخوف وأخذت أجهش بالبكاء لوقت طويل حتى أضعت عليهما فرصة الخلوة التى كان يريدانها بنومى وأنهكتهما بدلا من ذلك بمحاولة إيقافى عن البكاء، أو هذا على الأقل مافهمته بعد ذلك.
كانت حضانة سانتا تريزا المسيحية الواقعة بشارع طوسون، والتى ربما مازلت قائمة هناك حتى اليوم مسرحا آخر لذكريات الطفولة. لازلت أذكر أم بسيونى وهى تأخذنى إلى هناك صباحا ثم تتركنى لتعود بعد ذلك تحمل بيدها آنية مركبة من أكثر من صحن تربطهم يد معدنية كانت تسمى عمود كان يُحمل بها الطعام إلى أطفال المدارس فى ذلك الزمن وكانت تجلس معى حتى أأكل ثم تنصرف ثم تعود بعد فترة أخرى لتصحبنى إلى المنزل . لاأتذكرماذا كنا نتعلم لكننا كنا نلعب ونجرى ونصرخ من أجل لاشئ ونضحك على لاشئ حتى ينقضى النهار وتعود أمهاتنا لتصحبنا إلى المنازل. ولاذلت اذكر مظهر الراهبات وهن يراقبوننا فى هدوء لامبالى دون أن تبدو عليهن أى علامة إنزعاج من ذلك الضجيج الذى كنا نحدثه. هناك ذكرى وحيدة ظلت عالقة بذهنى من تلك الأيام هى ذكرى مسرحية أطفال إشتركت فى أدائها. كان دورى أن أمر على المسرح ذهابا وعودة أحمل آنية لرى الزهور وكان لكل طفل دوره ولم أكن أفهم المقصود بالمسرحية كنت فقط أعرف دورى وكنت أشعر بنشوة شديدة فى المرور على المسرح وذهابا وعودة عندما تطلب منى الراهبة ذلك وفى أحد المرات إنخلع حذائى لكنى لم أتوقف فقد إستمريت فى المشى وكأننى أعرج حتى إنتهيت من عبور المسرح ثم ساعدتنى الراهبة على لبس حذائى مرة أخرى وعادوت أداء دورى ذهابا وعودة على المسرح. كانت المسرحيه تشبه حكايات الأطفال السحرية ، كنا نرتدى ملابس فراشات وطيور من مختلف الأنواع ونحمل أدوات رى الأزهار ونميل ونروى بعض أصص الأزهار ونحن نغنى أثناء عبور المسرح . كان يوما رائعا لم أنساه حتى الآن، لكنه قد إختلط فى ذاكرتى أيضا فلست واثقا إذا ما كان ذلك اليوم قد حدث فى مدرسة الحضانة المسيحية أم فى المراحل الأولى من المدرسة لإبتدائية بعد ذل، أم أنه لم يحدث أبداً ؟.
كان بناء برج إذاعة الإسكندرية لأول مرة صورة أخرى من صور ذكريات طفولتى فعندما بدأ العمل فى بناء البرج، ولاأعرف كم كان عمرى آنذاك، أصبحت أقضى جزءا كبيرامن وقتى أراقب هذا البناء العملاق وهو يرتفع وأراقب هؤلاء العمال الذين كانوا كلما إرتفع البناء إرتفعوامعه وتباعدت أصواتهم وتضاءلت أحجامهم حتى أصبحوا بحجم أصابع اليد، كان منظرا مثيرا وكنت أفكر ماذا قد يحدث لو سقط أحد هؤلاء العمال من ذلك الإرتفاع. كان هذا دليلا على إننى كنت قد تجاوزت مرحلة الطفولة المبكرة عندما إكتمل بناء ذلك البرج.
كان حمام أم بسيونى الساخن صورة أخرى من صور ذكريات الطفولة. إعتادت أم بسيونى إعطائى حماما ساخنا كل ليلة قبل أن أخلد إلى النوم. كانت تستخدم بابور الجاز الصغير الذى تطهو عليها طعامنا فى غلى كمية من الماء فى حلة نحاس ثم تخلطها مع كمية من الماء البارد كانت تجمعها فى إناء نحاس كبير مستدير إسمه الطشت ثم تجلسنى فى هذا الطشت الساخن اللذيذ وتأخذ فى دلق الماء على جسدى ورأسى وهى تداعبنى وتغنى لى حتى لا أبكى ولاأتذكر إننى كنت ابكى فقد كنت أسعد بهذا الحمام وأنا استشعر لذة الماء الساخن ولمسات يدها الحنونة حتى إننى كنت لاأريد ان أنتهى وأأخذ فى اللعب بالماء وأرفض الخروج من الطشت حتى أثير غضبها وكانت تحتفظ بقطعة من خرطوم جلدى صغير لتأديبى كلما أسرفت فى اللعب أو الشقاوة فكانت تضربنى أحيانا عندما أرفض الخروج من الطشت حتى أأخذ فى الصراخ والبكاء وأنصاع وأخرج من الطشت وكنت إذا بكيت لاأتوقف وأأخذ فى التشنج والتنهد حتى تبدأ هى فى البكاء بدورها وإحتضانى والإعتذار لى. وظلت صورة بكاء أم بسيونى أوضح صورة من صور ذكريات طفولتى. كانت أم بسيونى تصحبنى معها إلى الأسواق عندما كانت تذهب لشراء حاجياتنا لإنه لم يكن هناك من يعتنى بى فى غيابها وأذكر مرة صحبتنى فيها إلى حفلة زار أقامتها صديقة لها فى حى صفر وكيف شاركت بالغناء والمديح مع المداحين بإندماج وإيمان كامل بما تفعل. وكانت تصحبنى لزيارة أهلها فى رشيد كلما سمح أبى بذلك أو شغل بعمله لفترة متواصلة تمنعه من العودة إلى المنزل لعدة أيام فكانت أمى تنتهز الفرصة وتأخذنى معها لزيارة أهلها فى رشيد.
كانت الرحلة إلى رشيد مسرحا كبيرا لصور ذكريات طفولتى . لعلى لازلت أذكر كثير من هذه الصور. كانت أم بسيونى تستعد قبل يوم السفر. كانت تشترى لأبنائها وخاصة لإبنتها الصغرى تيسير ماتستطيعه بالنقود التى وفرتها أو التى أعطاها إياها أبى قبل سفره ، وكانت تدعو له كثيرا قبل السفر وأذكر دعائها الدائم له( ربنا يجعل يومى قبل يومك) وهذا ماحدث فعلا فقد ماتت قبله بحوالى عشرين عاما. كنا نستيقظ فى الصباح الباكر ونذهب إلى محطة القطار فى عمق حى باكوس فى نهاية الشارع الواقع خلف شارع مصطفى كامل والذى لم أعد أذكر إسمه ولكنه كان يمثل الجانب الفقير من حى باكوس الكبير. كانت أمى تمسك بيدى وهى تهرول بإتجاه المحطة خشية أن يفوتها القطار وكنت أهرول معها منفعلا أيضا بالرحلة إلى رشيد حيث كان لدى كثير من الأصدقاء وكثير من مسارح اللهو والمغامرات . كان القطار نفسه هو أول هذه المسارح. لم يكن الإزدحام شديداً هذه الأيام . كنا نشترى التذاكر من شباك المحطة الصغيرة العتيقة ثم نستقل قطارا عاديا ذا مقاعد خشبية ولعله لم يكن هناك قطارغيره فى ذلك الزمن ، لكنه كان مريحا وكان كل مسافر يستطيع الحصول على مقعد. كانت أمى تجلس وكنت أنا أقف على المقعد المقابل لها لاصقا وجهى بالنافذة معظم الطريق، كنت أجد سعادةغامرة فى مراقبة الطريق والمنازل العتيقة قليلة الإرتفاع المصطفة أمامى وهى تختفى رويداً رويداً كلما إبتعد القطارعن المدينة وتبدأ الكثبان الرملية والأشجار وشطآن البحر وأكوام الملح والقنوات وأشياء سحرية تمر أمامى بسرعة خاطفة كأنها شريط فيلم سينمائى يجرى سريعا كلمح البصر مع صوت القطار الهادر الذى يزيد المشهد رهبة وجمال . كنت كلما تعبت من الوقوف أجلس ثم أعاود الوقوف إلى النافذة لأراقب هذا الفيلم الساحر الذى كان يزداد جمالا كلما إقتربنا من مدينة رشيد حيث يختفى العمران وتزداد صور الطبيعة وهى تمر أمامى فى تتابع لانهائى ساحر يأخذنى بعيدا كأنه الأحلام . كان صوت بائع السودانى هو الشئ الوحيد القادر على إنتزاعى من تلك الأحلام ، ربما كان هو نفس البائع الذى ظللت أراه لسنوات طويلة و ربما كان بائعا آخر يحمل نفس المقطف المصنوع من الخوص المملوء بالفول السودانى وبداخله كوز معدنى كان يعبأ به الفول السودانى لمن يريد فكنت عندما أسمع صوته يمر وهو ينادى سودانى سودانى أنزل عن النافذة وأعلق بثياب أمى وأطلب منها سودانى فكانت تشترى لى بعض منه فأجلس على المقعد أأكله وأنسى مشاهد الطريق مؤقتا حتى إذا إنتهيت منه عاودت سيرتى وإرتفعت إلى النافذة مرة أخرى ولاأنزل إلا على نداء أمى وهى تقول ، تعالى إقعد خلاص وصلنا، كنت أعرف أننا على وشك الدخول إلى مدينة رشيد عندما يبدأ القطار فى إبطاء سرعته وتبدأ بعض صور البيوت الريفية الصغيرة المنزرعة فى عمق الحقول فى الظهور من بعيد .كان قلبى يخفق كما كان قلب أمى تماما، كان قلبى يخفق لإننى كنت على وشك أن ألتقى بالأماكن السحرية التى إعتدت أن ألهو بها ، المتحف وشاطئ النيل وأكوام الغلال وورش صناعة الطوب والقنوات والأسماك الصغيرة ودبابير الحقول . كان قلبى يخفق لإننى على وشك أن التقى بكل هذه العجائب ، وكان قلب أمى يخفق لإنها كانت على وشك أن تلتقى بأبنائها وأهلها وبلدتها القديمة.
لاأعرف كيف كان بسيونى يعرف بوصول أمه لقد كان هناك دائما فى إنتظارها فى المحطة فكنا نراه فى إستقبالنا عند نزولنا من القطار ليصحبنا فى عربة حنتورإلى منزل سعيدة إبنتها الكبرى المتزوجة من عم حسن صانع الأقفاص. كانت صناعة الأقفاص مثل صناعة الطوب والصيد من الأعمال التى تشتهر بها مدينة رشيد فى ذلك الوقت . كنت أرى عم حسن كثرى من الأثرياء. فقد كان يملك منزلا صغيرا من دور واحد به ثلاثة غرف وصالة وحمام يربطه بالسطح سلم ضيق بلا سور و يوجد فى مقدمته بجوار الباب دكانه الذى يصنع به أقفاصه وفى سطح المنزل كان يوجد فرن ريفى يسمى بالكانون لطهى الطعام ومكان لغسل ونشر الملابس وتربية الدواجن والجلوس لإحتساء الشاى والسمر أحيانا فى الأمسيات . كان عم حسن رجلا هادئا طيبا أسمر البشرة متوسط القامة فى حوالى العقد الخامس من عمره يتميز بملابسه التى تشبه ملابس الأتراك فى العصر العثمانى السروال الأسود الواسع والصديرية البيضاء القصيرة وكان يرحب بزيارة حماته أم بسيونى ترحيبا حارا وكان يرحب بى أيضا لكننى لم أعرف أبدا إذا ماكان حقا قد أحبنى أم لا ، كل ماأتذكره أنه كان يرحب بى ويقوم بكل الواجب عند حضورنا فلم يحدث أبداً أن نهرنى أو وجه لى أى كلمة قاسية برغم كل ماكان يسببه حضورى من شغب وضجيج فى حياتهم الهادئة. ويبدو أنهم كانوا قد إقتنعوا فعلا أننى منهم وإننى إبن أم بسيونى فعلا أو ربما كانوا يشعرون بشئ من التعاطف معى لإننى وحيد شبه منقطع الأهل فلا أذكر أى إشارة سيئة صدرت تجاهى أبدا من أهل أمى فى رشيد سواء فى طفولتى أو عندما شببت عن الطوق. كان عم حسن يستهل واجبه معنا بشراء كمية كبيرة من سمك البورى النيلى الذى كانت تشتهر به رشيد فى ذلك الوقت لتطهوه زوجته سعيدة أو أختى سعيدة كما كنت أناديها، فى الكانون فوق السطح وتطهو معه أرز أبيض لتقدمه لنا مع سلطة خضراء فى صينية مستديرة كبيرة كانت تضعها على الأرض لنجلس حولها جميعا أنا وأمى وعم حسن وزوجته أختى سعيدة وإبنتيهما الوحيدتين عطية وعزيزة، اللتان كانت تكبرانى بعدة سنوات وأحيانا كان يشاركنا طعام شاب كان يعمل لدي عم حسن إسمه محمود. كان طعاما لذيذا شهيا أتصور إننى مازلت أذكر مذاقه حتى اليوم. وفى اليوم التالى كانو يذبحون لنا بطة أو دجاجة من تلك التى يربونها فوق سطح المنزل ثم يطهونها فى إناء فخار يسمى برام مع أرز أبيض بالسمن البلدى والحليب وكان يبدو شهيا بالنسبة إلى أكثر من السمك البورى ولكن عم حسن كان يستهل الإحتفال بنا بوجبة السمك البورى ربما لإنه كان يعرف أن أم بسيونى كانت تحبه أكثر أو لإن مدينة رشيد كانت تشتهر بذلك السمك فى تلك الأيام. كانت سعيدة أيضا إمرأة طيبة من ذلك الزمن ولاأتصور أن توجد إمرأة مثلها فى زماننا الآن. فلم أراها أبداً ترفع صوتها أو تغضب أو تفرح بشكل شديد، كانت شديدة الإعتدال فى كل شئ . كانت فى حوالى العقد الثالث أو بدايات العقد الرابع من عمرها كما أتذكرها الآن ولم تكن على أى قدر من الجمال أو التعليم. كانت سيدة تقليدية شبه ريفية كما هى مدينة رشيد نفسها شبه ريف وشبه مدينة ومع ذلك فلا أتصور أننى رأيت يوما أحد أكثر طيبة ورقة من هذه السيدة. كانت تشبه زوجها عم حسن تماما. كانت تنهرنى برفق شديد إذا ماضربت أحد إبنتيها أو جذبت شعرها وكانت تحذرنى بصوت هادئ (بعدين عم حسن يزعل ولايأخذك معه إلى القهوة فى المساء). فكنت أتراجع أحيانا ثم سرعان ماأنسى وأاخذ فى مضايقة إبنتيها مرةأخرى. كانت عطية إبنتها تكبرنى بحوالى عشر سنوات وكانت على قدر من الجمال ممتلئة بيضاء طويلة أما عزيزة فكانت أصغر سنا وأقل جمالا وقد أخذت أكثر من ملامح أبيها فكانت طويلة ممتلئة أيضا لكنها تميل إلى السمرة مثل أبيها بينما كانت عطية تميل إلى البياض مثل أمها سعيدة. كانت كلتاهما قد أنهيا دراستهما الإبتدائية ولم يكملا مشوار التعليم بعد ذلك وجلستا فى المنزل ينتظران إبن الحلال على عادة تلك الأيام. ومع عطية عرفت أولى الأحاسيس الجنسية فعندما كانت أم بسيونى تعود من زيارة رشيد كانت تأخذ واحدة منهما معها لتؤانسها فى وحدتها خاصة بعدما إلتحق أبى بالعمل بشركة الملاحة العربية فى أوائل الستينيات وأصبح يغيب عنا فترات طويلة . فأثناء الليل كنت أنام فى حضن عطية أحيانا وكنت اشعر بنشوة غريبة فى الإقتراب منها أكثر فأكثر وكانت تتركنى أفعل ذلك ويبدو أنها هى أيضا كانت تشعر بنفس النشوة. وظلت علاقتنا هكذا كلما جاءت لتقيم معنا بعض الوقت فى الإسكندرية ذلك الإحتضان اثناء الليل وتلك النشوة الصامته التى لم تتطور لأكثر من ذلك ا. وبعد أن تزوجت لم تعد أمى تأخذها معها إلى الإسكندرية مرة أخرى وأصبحت عزيزة هى التى تحضر للإقامة معنا أحيانا. ولكن مع عزيزة لم أشعر بذلك الإنجذاب و تلك النشوة الصامته ربما لإنها هى أيضا لم تكن تشعر بذلك. وبعد أن تزوجت لم تعد أم بسيونى تطلبها للإقامة معها هى الأخرى.
كنت أقضى أيامى فى منزل أختى سعيدة فى اللعب داخل المنزل أو فى الجلوس فى دكان عم حسن أراقبه وهو يصنع أقفاصه السحرية وكيف كان يضرب بتلك الآلات السحرية فى يديه التى يثقب بها الجريد لتخرج منه تلك الشظايا المتطايرة فى تتابع هادئ رتيب وهو يحتضن قطع الجريد بين آصابع قدميه ويدق على آلته السحرية بصوت يشبه صوت الموسيقى ليصنع ثقوب فى قطع الجريد ويشبكها فى بعضها البعض ثم يعود للضرب على آلته مرة أخرى و إلى تشبيك قطع الجريد إلى بعضها البعض مرة أخرى ويستمر فى ذلك حتى يخرج القفص أخيرا كاملا من بين يديه فيلقيه جانبه ويأخذ قطع جريد أخرى ويبدأ فى صنع قفص جديد وهكذا إلى مالاتهاية حتى يأتى وقت الصلاة فينهض هو ومحمود للصلاة وتناول الطعام بعد ذلك ثم يستأنفا عملهما إلى ماقبل صلاة المغرب فيغلقا الدكان وينصرف كل منهما إلى منزله فترة ثم يعودا للقاء على المقهى الكبير الواقع مقابل موقف السيارات المتجهة إلى الإسكندرية. كان عم حسن يصحبنى معه أحيانا إلى ذلك المقهى ويقدمنى للناس على إننى إبن أم بسيونى من زوجها السكندرى ولاأتذكر تماماً ماذا كنت أفعل أنا فقد كنت أجلس صامتا معظم الوقت أراقب الطريق وإستمتع بما يقدمه لى من مشروبات ولكن بعد أن شببت عن الطوق قليلا أصبحت قادرا على الخروج بنفسى فكنت أخرج للعب الكرة مع الأطفال فى الشوارع القريبة من منزل سعيدة وأصبح لى كثير من الأصدقاء بينهم والذين كانوا يعتقدون إننى لاعب كرة ماهر ولعلى كنت كذلك بالفعل ولو بالنسبة إليهم على الأقل حيث كنت من أبناء مدينة كبيرة بالقياس إلى مدينتهم الصغيرة فكان ذلك يشعرنى ببعض من التفوق المعنوى عليهم وكان ذلك مقبولا لديهم على ماأذكر. وبمرور الزمن أصبحت أكثر جرأة فى الإبتعاد عن المنزل فمن منزل سعيدة الواقع فى مركز المدينة أو ربما فى طرفها كنت أذهب إلى سينما رشيد فى صحبة الشحات إبن تيسير أو فى صحبة أخى بسيونى وأحيانا مع بعض أبناء الجيران وكانت سينما عتيقة مزدحمة مظلمة حارة تقع فى أقصى طرف المدينة كان يُعرض بها الأفلام المصرية فقط ولها دور علوى للعائلات ويملؤها بائعو اللب والسودانى مثلها مثل قطار رشيد تماما وكان ضجيج الناس بها يعلو على ضجيج الفيلم المعروض نفسه فكان الجمهور ينطلق فى صياح الإستحسان أو الإستهجان كلما مر أمامه مايعجبه أومالايعجبه من الفيلم ، خاصة أفلام الممثل الشهير فريد شوقى ، التى كانت تروق لجمهور سينما رشيد عن غيرها من الأفلام . ومن منزل سعيدة أيضا بدأت رحلاتى إلى ضفة النيل حيث كانت أكوام الحبوب تجفف قبل نخلها فكنت أصعد أنا ورفاقى إلى قمتها ثم نترك أنفسنا لنهوى إلى أسفلها فى تواصل بلا ملل أو تعب وذلك قبل أن نعود إلى منازلنا مغبرى الوجوه متسخى الملابس أو حتى ترسل أم بسيونى من يبحث عنى.
وفى خضم كل تلك الذكريات الجميلة كان هناك ذكرى سيئة مازلت أذكرها حتى الآن. كان هناك حديقة كبيرة مقابل موقف سيارات الإسكندرية ومقابل المقهى الذى إعتاد عم حسن الجلوس به. وكنت أذهب أحيانا للجلوس واللعب فى تلك الحديقة وحدى أو مع بعض رفاقى من أبناء الجيران. وذات يوم رأيت هناك بعض الصبية وقد أحضروا كلبا صغيرا مسكينا وهم يجرونه جرا عبر الحديقة الكبيرة بحبل مربوط فى عنقه ثم ربطوه إلى جذع أحد أشجارها وإلتفوا حوله فى دائرة وأخذ كل منهم يرجمه بالحجارة ، حجرا فى إثر حجر من كل جانب وهم يصيحون فرحين منتشين بصراخ الكلب وجراحه النازفة وهو يدور ويلف هاربا حول الشجرة وظلوا هكذا فى إنفعالهم الشيطانى لاينتهون حتى لفظ الكلب أنفاسه وفقط عندما مات و إنتهت آلامه إنتهى فرحهم ذهبوا للبحث عن ضحية أخرى دون أن ينهاهم أو ينهرهم أحد عما يفعلون ففى اليوم التالى وجدت نفس المجموعة تحضر ضحية جديدة لتفعل به مافعلت بالضحية المسكينة السابقة. فزعت ولم أعد أجلس فى تلك الحديقة مرة أخرى. وظل فى ذاكرتى عتابا كبيرا على مدينة رشيد لتلك الجريمة البشعة التى لم ينهى أحد من أهلها أى من هؤلاء المجرمين الصغار عن إرتكابها. كنت صغيرا بحيث لم استطع أن أفعل شيئا لكننى فى المساء قصصت ماحدث على أم بسيونى فقالت لى (لاتذهب إلى هناك مرة أخرى) ولم أذهب إلى تلك الحديقة مرة أخرى بعد ذلك.
كانت المرحلة التالية فى طقوس زيارة أم بسيونى إلى رشيد هى زيارة إبنتها تيسير فى منزلها - أو أختى تيسير كما كنت أناديها - ليوم واحد تعود بعده إلى منزل أختى سعيدة مرة أخرى لتبدأ الإستعداد للطقس الثالث وهو قضاء بضعة أيام فى منزل أخى بسيونى أو بالأحرى منزل أم بسيونى نفسها الواقع على الطرف الآخر من مدينة رشيد إلى الجهة اليسرى من محطة القطار ومن هناك تبدأ الطقس الرابع والأخير من زيارتنا وهو زيارة أختها أم عبده التى تعيش فى ضواحى المدينة. لم يكن كل ذلك يستغرق وقتاً طويلاً ، أسبوع أو أسبوعين على الأكثر. كانت أختى تيسير تأتى للسلام على أمها فى منزل أختى سعيدة بمجرد أن تعلم بوصولها وكانت أم بسيونى تدخر معظم هداياها ومحبتها لها وتحرص على زيارتها فى منزلها ليوم واحد على الأقل قبل عودتها إلى الإسكندرية. كانت تيسير أكثر شبها بأم بسيونى من سائر أبنائها كانت على شئ من الجمال المشوب بشئ من الإنكسار، بيضاء، ممتلئة ، متوسطة القامة، دائمة الإبتسام ، هادئة ، خفيضة الصوت ، لم تحصل على أى تعليم لكنها شديدة الأدب والرقة، كان زوجها رجل غريب إسمه كريمة، أو هكذا كان يناديه الناس ولعل ذلك كان يعود إلى أحد مغامراته النسائية فقد كان مشهورا بمطاردة النساء، عاطلا عن العمل ، لكنه واثق الخطوة يجيد التحدث إلى الناس ، ويعرف فعلا كيف يتحدث إلى النساء ، على الأقل فى البيئة التى يعيش فيها ، طويل القامة بشكل ملحوظ ، دائم الإبتسام ، ذا ملامح تشبه ملامح الممثل نجيب الريحانى ، يرتدى فى معظم الأحوال نفس الملابس العثمانية ، السروال الأسود الواسع والصديرية القصيرة اليضاء، ليس له أى عمل محدد ، يجلس على المقاهى معظم وقته ويؤدى أى نوع من الأعمال ، كان من ذلك النوع الذى تسميه العامة( فلاتى) وأذكر أنه قد زارنا مرة فى الإسكندرية مع صديق له وإمرأة جميلة إدعى إنها زوجة ذلك الصديق وأنهم كانوا عند الطبيب لأمر يخص زوجته ثم تأخر عليهم الوقت ففكروا فى المبيت عندنا على أن يعودوا فى الصباح إلى رشيد، ولاأعرف إذا كانت أم بسيونى قد صدقت تلك الحكاية أم لا ؟ ومازلت أذكر هذه المرأة وكم كانت جميلة رغم شعبيتها ، بيضاء ، طويلة القامة، مكشوفة الشعر، جريئة ، رنانة الصوت والضحكة ولاأعرف كيف أمكن لرجل تافه مثل كريمة أن يصادق إمرأة بهذا الجمال ولكن هذا مايحدث أحيانا وكم يكون للنساء من نقاط ضعف لايفهمها إلا السفهاء من الرجال فقط . كان الوقت صيفا فأعدت لهم أم بسيونى فراش فى السطح بعد أن قدمت لهم العشاء ودخلنا نحن إلى غرفتنا لننام وتركناهم بعد أن جلسنا معهم فترة من الليل ، وأذكر أنهم لم يناموا تلك الليلة فقد ظلت همساتهم وضحكاتهم التى كان يقطعها لحظات طويلة من الصمت فى أذنى حتى الصباح. هكذا كانت حياة كريمة زوج أختى تيسير ولعل ذلك ماكان يجعل أم بسيونى أكثر عطفا عليها من سائر أبنائها، فقد كانت على حد قولها( قليلة البخت ) ويبدو أن أختى تيسير كانت قليلة البخت بالفعل فحتى ولادتها لأبنائها كانت ولادة قيصرية مما كان يزيد شفقة أم بسيونى وقلقها عليها وأذكر أنها أحضرتها فى ولادتها الثانية إلى الإسكندرية لتضع مولودها الثانى والأخير، إبنتها عايدة ، فى مستشفى الولادة بالشاطبى وذلك لتكون بالقرب منها وتحت رعايتها.
كانت تعيش فى غرفة واحدة فى منزل أهل زوجها المكون من طابقين صغيرين كانوا هم يشغلون الطابق الأول منه وكانت هى تشغل الطابق الثانى الذى لم يكن أكثر من غرفة واحدة وسطح صغير وكان أهل زوجها دائمى التحرش بها ولم يكن لها معهم حيلة كما لم يكن زوجها مهتما بحمايتها منهم أو ربما لم يكن يستطيع ذلك ، فقد كان رجلا تافها يعيش لنفسه فقط. وبعكس أم بسيونى لم تكن الرحلة إلى منزل تيسير تحمل لى كثير من السعادة فقد كانت المساحة الصغيرة لغرفتها والشارع القذر الضيق الذى يقع عليه المنزل فى وسط مدينة رشيد لايقدم لى كثيرا من فرص اللعب . كان إبنها الشحات هو الشئ الوحيد الذى يربطنى بذلك المنزل فقد كان فى مثل عمرى فكنا نتشارك اللعب سويا طوال اليوم ونترك أم بسيونى تتمتع بلقاء إبنتها المحبوبة ، كان الشحات ينادينى بخالى على أساس إننى إبن أم بسيونى وأخو أمه ، كان ذلك فى الطفولة ولكن بعدما شب عن الطوق أصبح هناك إبتسامة خبيثة على شفتيه عندما كان ينادينى بذلك اللقب وكأنه قد عرف أخيرا إننى لست خاله فعلا وإننى لست إبن أم بسيونى ولكن مجرد إبن زوجها عم السيد. كان لى مع الشحات واقعة مثيرة ظلت معى طوال عمرى. لاأذكر تماما كيف حدث ذلك ففى أحد تلك الزيارات تنازعنا على من يشرب أولا من إناء زجاجى ممتلئا بالماء ، ربما بعد أن أكلنا أو ربما بعد أن عدنا من اللعب من الشارع منهكين ، المهم أن نزاع حاد قد نشب بيننا فأمسك كلانا بيد من يدي الإناء وراح يحاول إنتزاعه من الآخر ثم فجأة إنفلت الإناء من يدى فأخذه الشحات ودفعه فى وجهى فأدرت وجهى لاإراديا حتى أتجنبه فإصطدم بجانب وجهى الإيسر محدثا جرحا ظاهريا طويلا ، وسط فزع وصراخ أم بسيونى وإبنتها تيسير ولاأذكر من حملنى إلى المستشفى فى ذلك الوقت لكننى أذكر عملية تضميد وخياطة الجرح تماما ، كانت بلا تخدير فكنت أشعر بالألم الشديد عند كل غرزة يغرزها الطبيب فى جانب وجهى وكنت أصرخ من شدة الألم ومن شدة الفزع أيضا من ذلك المستشفى الموحش الرهيب ، كان هناك كثير من الناس حولى بعضهم يمسك برجليى وبعضهم يمسك بيديى حتى لاأنهض عن طاولة العملية فقد كنت أقاوم من شدة الألم ، ولاأذكر كيف إنتهى ذلك اليوم ولكنى عدت إلى الإسكندرية بعد ذلك ومازلت أربطة الجرح حول وجهى وكم كان فزع أبى عندما رآنى على هذا النحو وكم كان فزع أم بسيونى من أبى حتى أنها أوصتنى أن لاأخبره بما حدث وأن أقول إننى سقطت على وجهى على قطعة زجاج ففعلت ماطلبته منى وصدق أبى ذلك و مر الأمر بسلام ثم وبعد ذلك بفترة أخبرت أم بسيونى أبى بما حدث فعلا وأنها قد طلبت منى أن لاأقول الحقيقة حتى لايغضب أبى من الشحات أو من أهلها فى رشيد وإنتهى الأمر على هذا النحو ولا أذكر إذا كان أبى قد عرف الحقيقة بعد ذلك أم لا؟ . لاأذكر سنى عندما حدثت هذه الحادثة ولكننى ربما كنت فى الخامسة أو السادسة من عمرى آنذاك. مر هذا الحدث بسلام وظللت أنا والشحات أصدقاء نلعب سويا كلما سافرت إلى رشيد أو كلما حضروا هم لزيارتنا فى الإسكندرية ، لم يكمل الشحات تعليمه وأصبح سائق سيارة أجرة فى وقت مبكر من حياته لكننا مع ذلك ظللنا أصدقاء إلى فترة بعد وفاة أم بسيونى ثم إفترقنا ونسى كل منا الآخر كما يحدث عادة فى الحياة، ولكن ذكرى تلك الحادثة التى تركها على وجهى ظلت معى فيما تبقى من حياتى. أنجبت تيسير إبنة بعد عدة سنوات أسمتها عايدة هى مولودها الثانى والأخير، والتى وضعته عندنا فى مستشفى الولادة بالشاطبى بالإسكندرية وكنت قد شببت عن الطوق وأنهيت تعليمى الإبتدائى فكانت بالنسبة إلى مجرد طفلة فلم يكن لى معها ذكريات تذكر لكن أم بسيونى كانت تحضرها معها أحيانا بعد زيارتها إلى رشيد للإقامة معها فى الإسكندرية بعض الوقت كما كانت تفعل مع عطية وعزيزة فى الماضى وكأنها كانت تحرص أن يكون معها دائما شئ من رائحة بلدها وأبنائها. كانت عايدة هى آخر من أقام معنا من عائلة أم بسيونى وذلك قبل أن تدخل فى صراعها الطويل مع المرض.
كانت الإقامة بضعة أيام فى منزل أخى بسيونى هى الطقس الثالث من طقوس زيارتنا إلى رشيد. كالعادة كان يأتى لإصطحابنا فى حانتور. كان الحانتور ينتظرنا عند الشارع الرئيسى الذى يتفرع منه الشارع الذى يقع فيه منزل أختى سعيدة. ورغم أن منزلها كان يقع فى مركز مدينة رشيد تقريبا فلم يكن الشارع مسفلتا. كنا نمشى قليلا حتى الحانتور تحمل أمى بعض متعلقاتها ويحمل أخى بسيونى البعض الآخر وأسبقها أنا إلى الحانتور فرحا فقد كانت إقامتى مع أخى بسيونى هى أجمل ذكرياتى فى مدينة رشيد. كنا نقطع شوارع مدينة رشيد الصغيرة مارين بنفس الطرق التى مررنا بها من محطة القطار إلى منزل أختى سعيدة فقد كان منزل أخى بسيونى يقع على الجهة الأخرى من المحطة على أطراف مدينة رشيد حيث يغلب الطابع الريفى على الطابع المدنى الذى يتميز به قلب المدينة. وبعد مرورنا بالمحطة بمسافة قصيرة كنا ندخل إلى منطقة سكنية شبه ريفية حيث يقع منزل أخى بسيونى أو بالأحرى منزل أم بسيونى نفسها حيث كانت تعيش مع زوجها المتوفى والد بسيونى. كان منزلا ريفيا صغيرا يتكون من دور واحد عبارة عن غرفتين ومدخل وحمام ريفى معتم وليس به مساحة للعب كما كان الحال فى منزل أختى سعيدة. ولكن فرص اللعب واللهو كانت متوفرة بشكل آخر. كانت متوفرة فى الحقل الذى يملكه محمد إبن عم أم بسيونى والحمار والجاموسة والحياة الريفية الساحرة التى يعيشها. كانت أم بسيونى تقضى وقتها مع أقاربها وأبناء قريتها الذين يعيشون فى المنازل الصغيرة المتناثرة المجاورة أما أنا فكنت أقضى النهار مع محمد فى الحقل أو الغيط كما كانوا يسمونه ، فكنت أذهب معه فى الصباح أحيانا وألحق به إلى هناك أحيانا أخرى.لم يكن الغيط يبعد كثيرا عن المنزل وكان ركوب الحمار متعة كبيرة لاتعادلها متعة أخرى بالنسبة إلى وكان هو هدفى الرئيسى من مصاحبة محمد الذى كان يتركنى أعبث بحماره أحيانا ويطلب منى أن أتركه وشأنه أحيانا أخرى. ظل محمد وحماره أصدقاء لى حتى شببت عن الطوق ونسيت أمرهما تدريجيا. كانت زوجته زينب إمرأة جميلة وكانت إبنة أم إبراهيم الأخت الصغرى لأم بسيونى التى كانت قد تزوجت بموظف بريد قاهرى إسمه عزت كان يعمل فى مدينة رشيد لفترة من الزمن عندما رآها وتزوجها ثم رحلت معه إلى القاهرة وإستقرت هناك فيما تبقى من حياتها. كانت أم إبراهيم على قدر كبير من الجمال ولذا فقد ورثت عنها بناتها زينب ورقية وسكينة نفس الجمال. وقد تزوجت زينب بمحمد صاحب الغيط والحمار وعادت لتستقر فى مدينة رشيد موطن أمها مرة أخرى وكانت تحتفل بقدوم أم بسيونى و تناديها فى حنان بخالتى وكأنها تشم فيها رائحة أمها وترى فيها صورتها. كانت زينب تعد لنا أيضا نفس البرام اللذيد وتجلس معنا للأكل على الأرض وقد تحولت إلى سيدة ريفية عادية وذهب عنها كثير من جمالها الذى كانت عليه قبل الزواج ، وكنت أفكر أحيانا كيف يمكن لإمرأة جميلة بهذا الشكل أن تعيش هكذا معزولة عن العالم فى هذا المجتمع الريفى الفقير بعد أن كانت تعيش فى القاهرة وهل هى سعيدة هنا أم لا؟ ولكنى ربما لإن زينب لم تحصل على قدر كبير من التعليم فقد إرتضت بمحمد زوجا وعادت لتعيش فى مدينة رشيد مرة أخرى ، فالجمال بدون تعليم لايكفى أن يؤمن للمرأة حياة كبيرة. هذا ماأدركته بعد ذلك بالنسبة لزينب. لكن بالنسبة لإخوتها فقد حصل أخوها الوحيد إبراهيم على تعليم جيد وأصبح طبيبا وأما رقية وسكينة فقد حصلتا أيضا على قدر من التعليم لكننى لاأعرف ماذا كان حظهما فى هذه الدنيا وقد إستمرت علاقتنا بهم لفترة طويلة سواء فى رشيد حيث كانوا يأتون لزيارة أهليهم بين الحين والآخر مثلما كانت تفعل أم بسيونى أو فى الإسكندرية حيث كان لعم عزت بعض الأقارب هناك و كانوا يأتون لزيارتنا أحيانا ثم إنقطعت تلك الصلة حتى قبل وفاة أم بسيونى ولم أعد أعرف عنهم شيئا بعد ذلك.
كانت أجمل ذكرياتى فى منزل أخى بسيونى هى أخى بسيونى نفسه. كان بسيونى شخصية فريدة، نصف ريفى ونصف مدنى ، يرتدى جلبابا أحيانا وبنطلون وقميص أحيانا أخرى ، لم يحصل على تعليم جيد لكنه كان يستطيع القراءة والكتابة مما مكنه من أن يصبح موزع الجرائد الوحيد فى رشيد كلها فى ذلك الوقت، ولاأعرف كيف حصل على هذا العمل لكننى هكذا عرفته منذ طفولتى موزع الجرائد الوحيد فى رشيد أو هكذا خيل إلى وحتى شببت عن الطوق ودخلت إلى الجامعة ظل بسيونى كما هو لم يتغير وفى البداية كان يعتبرنى أخيه الصغير لكن بمرور الزمن أصبحنا أصدقاء متساويين، وظلت علاقتى به إلى مابعد وفاة أمنا المشتركة وحتى سافرت للعمل فى السعودية وفرقت بيننا تجربة الغربة العاصفة التى فصلتنى عن كل حياتى السابقة. كان طويلا نحيفا تشبه ملامحه ملامح أمه إلى حد كبير رغم أن العلاقة بينهما لم تكن على مايرام أبدا، كانت مجرد علاقة إحترام متبادل فقد كانت معظم عواطف أم بسيونى موجهة تجاه إبنتيها وتجاهى أما تجاه بسيونى فقد كانت عواطفها عادية ولم يكن يحمل لها بدوره أكثر من الإحترام، ولاأعرف سر الفتور بينهما ولكن يبدو أن عدم زواجه كان مصدر ذلك الفتور، لم يتزوج بسيونى أبدا طوال العمر الذى عرفته فيه وكان قد تجاوز الأربعين تقريبا عندما تقطعت بيننا السبل وباعدت بيننا الأيام ولاأعتقد أنه تزوج بعد ذلك فلم يكن من النوع الذى يحب النساء فلم أعرف له علاقة بإمرأة يوما رغم أنه كان يبدو طبيعيا مثله مثل جميع الرجال بإستثناء شئ من السذاجة وحبه المفرط للغناء وتعاطى الحشيش. كان الحشيش هو مجاله المفضل وهو الميدان الذى يثبت فيه رجولته ويبارى فيه الآخرين ويصادق أكابر الناس من ناظر المحطة حتى مأمور القسم. كان كل أهل رشيد يعرفون أخى بسيونى تقريبا ، كان يقطع شوارعها من أقصاها إلى أقصاها يوميا معلقا رزمة الجرائد على كتفه يحيى هذا ويمازح ذاك ويجلس على هذا المقهى بعض الوقت وعلى ذاك المقهى بعض الوقت ويقف ليتحدث إلى هذا الشخص بعض الوقت وإلى ذاك الشخص بعض الوقت وهكذا كان يقضى نهاره يمشى فى الشوارع ويأكل فى الأسواق حتى يوزع ما معه من جرائد ومجلات ويعود بالباقى إلى محطة القطار ليرسلها إلى الإسكندرية مع آخر قطار ويعود فى صباح اليوم التالى لإستلام الجديد منها ويعاود مسيرة حياته اليومية ولعله بهذا الشكل كان دائما فى إنتظارنا عند وصولنا إلى محطة رشيد فقد كنا نأتى مع أول قطار دائما وكان هو هناك ينتظر جرائده دائما. لم يكن لدينا وسيلة إتصال به فى ذلك الوقت ولكن بعد أن سكنت عائلة عم عبدالرحيم والحاجة صفية منزلنا أصبح تليفونهم هو وسيلة الإتصال بيننا وبين أهل أمى فى رشيد. كان بسيونى يعود بعد يوم العمل يغتسل ويغير ملابسه ويستريح بعض الوقت ثم يخرج إلى مدينة رشيد ليبدأ الجزء المثير من يومه. السهر وتدخين الحشيش مع الأصدقاء أو المشاركة فى أحد الأفراح إذا كان هناك من يتزوج حيث يمكنه التمتع بنفس أنشطته المعتادة تدخين الحشيش والغناء. فى طفولتى كنت أكتفى بالمشى معه وهو يبيع جرائده فى شوارع رشيد ولكن وعندما شببت عن الطوق أصبحت أصاحبه أيضا فى مناسبات الأفراح التى كان يحضرها فى مدينة رشيد أو خارجها وفى جلسات الحشيش مع الأصدقاء ، رغم إننى لم أكن اشاركهم سوى مجرد الجلوس فلم أحب الحشيش ولا جلساته أبدا فقد كانت تبدو لى كجلسات المجانين وقد فشلت تجربتى المحدوتين معه بإشراف أخى بسيونى نفسه، كانت التجربة الأولى فى أحد هذه الأفراح عندما دفع لى أخى بسيونى باللى لأرشفه بين الأصدقاء فخذلته بدلاً من ذلك وإختنقت واخذت أشهق وعجزت عن الإستمرار، أما التجربة الثانية فكانت فى أحد زياراته لنا فى الإسكندرية أثناء دراستى الثانوية وكان عندى زميلى سامى وعادل بالمصادفة وكالعادة حاول أخى بسيونى إثبات رجولته أمامهما بتدخين الحشيش فأخرج قطعة منه وحشى بها بعض السجائر وأعطى لكل منا واحدة فشعرت بصداع وجفاف فى حلقى ولم أستحسنه هذه المرة أيضاً ، ولاأعرف ماذا كان رأى زميلى، لكنهم منذ ذلك اليوم أصبحوا يحبون أخى بسيونى.، بطل الحشيش.
كثيرة هى ذكرياتى مع أخى بسيونى. أذكر الأفراح التى كنت أحضرها معه وكيف كان يتقدم موكب الفرح الذى يسير وأمامه القناديل الضخمة المضيئة قاطعا شوارع رشيد من منزل أحد أصدقاء العريس حيث( يستحم العريس) أو يرتدى زينته حتى منزل العروسة حيث يقام سرادق الزفاف ويجلس الرجال فى الخارج والنساء داخل المنازل ويبدأ الغناء ويقوم بعض الحاضرين وعلى رأسهم أخى بسيونى بالمشاركة فى الغناء وفى توزيع سجائر الحشيش على باقى الحاضرين. كان أخى بسيونى يعشق أغانى أم كلثوم وكان بعض أصدقائه يطلبون منه أدائها فكان يغنى لهم ماشاءوا منها بعد أن يلعب الحشيش برأسه ويتسلطن سواء فى مناسبات الأفراح أو فى جلساتهم الخاصة. وأذكر فى أحد الأفراح أن غنى مطرب شعبى من رشيد إسمه الشيخ أمين بعض أغانى المطرب عبدالعزيز محمود فأطرب جمهور الحاضرين بصوته العزب ولازلت أذكر كلمات إحدى الأغنيات التى غناها حيث قال( أناعندى ألم قد العالم ده كله) ولاأعرف إذا كانت تلك الأغنية من أغانى عبدالعزيز محمود بالفعل أو من أغانيه الشخصية لكن كلماته إخترقت قلبى كما إخترقت قلوب الحاضرين . وذات يوم عبرت مع أخى بسيونى إلى الضفة الأخرى من نهر النيل لحضور أحد الأفراح هناك. كانت تلك ذكرى مبكرة ربما فى المرحلة الإبتدائية. وقد بدا لى عبور النيل ليلا تجربة مثيرة محفوفة بالغموض والمخاطر ولم أكن قد عبرت إلى الضفة الأخرى من النهر قبل ذلك وكنت دائما أفكر ماذاكان هناك ياترى أهناك مدينة أخرى مثل مدينة رشيد أم ماذا هناك؟ لم يكن هناك مدينة أخرى مثل مدينة رشيد كان هناك قرى فقيرة مظلمة ، كانت تلك أحد مناطق دلتا النيل المحصورة بين فرعى نهر رشيد ونهر دمياط لكننى لم أكن أدرك ذلك آنذاك ، فذهبت وعدت دون إدراك المجهول الذى كنت أراه قابعا خلف الضفة الأخرى من النهر وفقط بقى فى ذاكرتى ذكرى عبور النيل ليلا فى قارب صغير مزدحم بأخى وبسيونى وأصدقائه الحشاشين.
من الصعب وصف مدينة رشيد فى ذلك الزمن. كانت مدينة صغيرة بها شئ من ملامح المدن وكثير من ملامح الريف. لم أكن أعرف لها مركزا. كنت أتصور أحيانا أن مركزها هو المقهى الكبير الذى يقع بالقرب من الحديقة وموقف سيارات الإسكندرية القريب من منزل أختى سعيدة وأحيانا كنت أتصور أن النادى المواجه اللنيل والقريب من متحف المدينة الشهير حيث تصل الرحلات القادمة من المدن الأخرى هو المركز. كانت مدينة عشوائية بشكل ما . بها قليل فقط من الشوارع الرئيسية الممهدة المتقاطعة حيث المنازل القديمة المبنية على الطراز العثمانى من الطوب الأحمر والمشربيات والمداخل الضيقة المظلمة. وكثير من الشوارع الفرعية الغير ممهدة والتى تمتلئ ببقايا الإنسان والحيوان على السواء. فى بعض هذه الشوارع كنت أتصور جثث القتلى التى تقع ضحايا حوادث الثأر التى كانت تحكى لى عنها أم بسيونى. وفى بعضها الآخر توجد النداهة. وفى بعضها الآخر آثار دماء. وفى مستشفياتها المظلمة خوف ورهبة. كانت أكثر اللحظات خوفا ورهبة هى اللحظات التى أمر بها بجانب أحد المستشفيات ربما بسبب عملية خياطة جرح جانب وجهى التى أجريت لى بدون تخدير فى أحد تلك المستفيات. ربما بسبب حكايات الموت الكثيرة عن الناس التى تغرق فى النيل. والجاموس الذى ينزل للشرب والإستحمام فيغرق ولايعود . كانت مثل هذه الحوادث والحكايات تترسخ فى ذهنى وتبعث فى نفسى شئ من الخوف . كان متحف رشيد أحد مصادر ذلك الخوف، بمدخله الضيق المظلم وسكونه وزواره القليليين وجثث تماثيل قتلى حملة فريز المضرجين بالدماء وأهالى رشيد يلتفون حولهم بالمدى والسكاكين والصخور الثقيلة يلقونها فوق رؤوسهم. كل ذلك كان مبعثا للخوف . لكننى فى كل مرة كنت أحب الذهاب إلى المتحف والإحساس بذلك الخوف مرة بعد أخرى إلى أن شببت عن الطوق وتوقفت عن الذهاب إلى هناك. كان النادى المواجه للنيل مكانا جميلا. كنت أحب قضاء بعض الوقت هناك ألعب عندما كنت صغيرا وأراقب الناس والمراكب فى النهر عندما شببت عن الطوق. كذلك كانت الأسواق التى كنت أمشى فيها مع أخى بسيونى .ممتدة مزدحمة مليئة بالخيرات والطعام من كل نوع. كان أخى بسيونى زبونا دائما لدى أحد المطاعم الواقعة فى قلب سوق المدينة الكبير. كان مطعم كبابجى لكنه يعمل ليل نهار وفى كل مرة كنا نذهب إلى هناك كان أخى بسيونى يأخذ اللحم المفروم بنفسه ويضعه بالأسياخ ثم يضعه على النار بنفسه. ثم نجلس فى إنتظارالطعام ونحن نستمتع برائحة الشواء اللذيذة. كان أخى بسيونى كريما بشكل ما . كانت تلك أكلته المفضلة. الكباب والكفتة فى السوق. وكانت وجبتى المفضلة معه أيضا. لم يكن عنده من يطهو له البرام أو السمك فقد كان أعزبا ولذا فقد كانت الأسواق هى مصادر طعامه. ولاأذكر إننى قد ذهبت معه إلى هناك مرة دون أن يعد لى ذلك الشواء اللذيذ. كنت أتصور أخى بسيونى رجلا ثريا مثله مثل عم حسن تماما. لاأعرف لماذا كنت أتصور ذلك. ربما بسبب كرمهما الزائد معنا وربما لإننى أنا نفسى لم أكن أعرف بعد ماذا تعنى كلمة ثراء. كان الإحساس بالفرح غامرا فى زيارات رشيد ، على الأقل فى سنوات الطفولة الأولى. كان هناك كثير من أماكن اللعب والمرح. كثير من الأهل و الأصدقاء وكثير من الذكريات.
كانت زيارة أم عبده الأخت الكبرى لأم بسيونى فى قريتها الواقعة فى ضواحى مدينة رشيد هى المرحلة الأخيرة من زيارتنا دائما. كانت قرية أم عبده قرية صغيرة تتكون من عدة منازل قليلة وتقع فى حوالى منتصف الطريق الصاعد مع النهر إلى حيث يصب فى مياه البحر المتوسط شمالا . كان لذلك المكان سحره الخاص وذكرياته الخاصة. لم يكن هناك كثير من الأصدقاء. لكن كان هناك كثير من الأماكن الساحرة الغامضة. حقول الذرة الممتدة على جانب الطريق فى مواجهة النيل وحقول صناعة الطوب الممتدة بمحازاة النيل بمداخنها العالية الهادئة والسكون المحيط بها والنيل الممتد الصامت والبرك الكثيرة المتفرعة منه والتى يسبح بها صبية تلك الجهات عراة بدون ملابس يصرخون ويقفزون ويمسكون الأسماك بأيديهم المجردة لايشغلهم من أمر الدنيا سوى تلك اللحظات الهانئة التى كانوا يجتمعون فيها قبل الغروب للعب والسباحة بعد أن يعود عمال ورش الطوب إلى منازلهم . هناك كنت ألحق بهم أراقبهم عن بعد دون أن أنضم إليهم . لكنى كنت أملك وسائل اللعب الخاصة بى أيضا. كانت أم عبده هى الأخت الكبرى لأم بسيونى . كانوا ثلاثة أخوات كلهم من الإناث وليس لهم أخ رجل. أم عبده وأم بسيونى وأم إبراهيم والدة زينب. لم أرى زوج أم عبده أبدا. كان قد توفى قبل أن أعى الأشياء. كان لها إثين من الأولاد. إبنها الرجل الوحيد عبده وإبنتها موزة. ولم يكن لى كثير من الذكريات معهما. حتى إننى لاأكاد أتذكرهما الآن . كان عبده يعمل فى ورش الطوب. أما موزة فكانت فتاة عادية شبه ريفية.على قدر من الجمال. لكنى لاأتذكر متى تزوجت أو هل تزوجت أم لا؟ كانت علاقتى هناك بالأماكن أكثر من علاقتى بالناس. لكننى مازلت أذكر رجلا طيبا من ذلك المكان إسمه الحاج عبده أبوناصر. كان رئيسا للعمال فى أحد الورش وكان يبدو كأنه كبير تلك القرية التى تسكنها خالتى أم عبده. كان ضخما طويلا قد تجاوز عقده الخامس وربما كان وكما أتذكر الآن أخو زوج أم عبده المتوفى. أى أنه كان عم عبده وموزة. كان يرحب بقدومنا ويبدى كثير من الإحترام لأم بسيونى وكثير من المودة نحوى وكنت أحبه كثيرا وأفرح برؤيته والحديث معه .ثم فجأة عرفت ذات يوم، وبدون مقدمات ، أنه قد مات. هكذا سمعتهم يقولون ولم أعد أراه مرة أخرى وأصبحت أفتقده كلما ذهبت إلى هناك. كانت أم عبده وأولادها يسكنون فى الدور الأول من المنزل الكبير الذى كان يملكه الحاج عبده أبو ناصر فى مقابل ضفة النهر. أما الدور الثانى كله فكان يسكنه الحاج عبده أبو ناصر وعائلته. كان منزلا ريفيا كبيرا ذا مدخل فسيح تقع فى نهايته دورة مياه ريفية يستخدمها كل سكان البيت. وخلفه كان يقع حقل طوب إستثنائى حيث كانت حقول الطوب تنتشر عل الجانب الآخر الملاصق للنهر وليس على ذلك الجانب الذى تنتشر عليه المنازل وحقول الذرة . وأمامه كانت تقع ترعة صغيرة لاأعرف كيف تفرعت من النيل الكبير وعبرت الطريق المسفلت إلى مكانها ذلك أمام منزل أم عبده. سمعت يوما أن طفل إمرأة إسمها عزيزة قد غرق فيها ومات فأصبحت مصدرا من مصادر الخوف، لكنها كانت أيضا مصدرا من مصادر اللعب والمرح. كنت أرى أهل القرية أو تلك العزبة التى لايزيد عدد منازلها عن خمسة أو ستة منازل وقد وضعوا فى طريقها وهى تدخل إلى الحقول مايشبه ستار حديدى ذو ثغرات كأنه السد. كانوا يغلقونه ويفتحونه فى أوقات محددة لاأدرى لماذا . لكنهم فى كل مرة يفتحونه كانوا يجدون كمية كبيرة من الأسماك العالقة هناك. وأحيانا كانوا لايجدون شيئا. لاأعرف لماذا صنعوا ذلك السد. ولا لماذا كانوا يفتحونه ويغلقونه أحيانا. هل لمجرد صيد السمك أم لمجرد رى الحقول. كانت كل تلك الصور والأحداث تبدو لى مسلية مثيرة . كان هناك على ضفة الترعة مايشبه مخزنا مصنوعا من الطوب اللبن ملئ بأقراص الجلة التى تصنع من روث الماشية وتستخدم فى إشعال أفران الطهى. كان يبدو كأنه مخزن للقرية كلها أو ربما كانت فرنا لها ، فالجميع كان يخزن فيه الجلة والجميع كان يأخذها منه بعدما تجف ليستخدمها فى طهى طعامه. ربما كان كل أهل القرية أقارب وهو الأمر الذى لم أكتشفه أبدا. لكن حياتهم معا كانت تبدو وكأنها حياة واحدة. كان المساء يهبط سريعا. وبعد أن يهبط لانسمع سوى أزيز دبابير الحقول حتى الصباح. لم يكن هناك تليفزيون بعد ولاحتى أذكر أنه كان هناك مذياع. وكنت أحيانا أنام فى الدور الأرضى مع أمى فى منزل أم عبده وأحيانا أصعد للنوم فى الدور الثانى مع أبناء الحاج عبده أبو ناصر الذى نسيت إسمهم الآن. كان كل شئ ملكى وكل الناس تحبنى فى ذلك المكان. ولكنى لم أعرف أبدا إذا ما كانت أم عبده نفسها قد أحبتنى حقاً أم لا و أذكر أنها قد نهرتنى يوما عندما كنت ألعب مع سكينة إبنة أختها أم إبراهيم التى كانت تزورها فى نفس وقت زيارتنا. كانت سكينة فى نفس سنى . ولعلى لعبت معها بشكل جعل أم عبده تشعر بالغيرة على إبنة أختها فنهرتنى قائلة( هى ماتعرفش اللعب ده زى عندكم فى إسكندرية) لم أشعر بشئ محدد لإننى كنت طفلا لكننى ربما للحظة سريعة شعرت إننى كنت غريبا عن هؤلاء الناس أو أن أم عبده بشكل خاص كانت تعتبرنى كذلك ، فسكت ولم أعد ألعب مع سكينة أمامها مرة أخرى لكننا وفيما بيننا كنا نلعب مع بعضنا البعض بعيدا عن عينها الوحيدة نفس اللعبة التى لم تكن تعجبها لعبة العريس والعروسة. كانت أم عبده تبدو عجوز بالنسبة إلى أم بسيونى وأم إبراهيم ولاأعرف فى أى حادث كانت قد فقدت إحدى عينيها فقد كانت ذا عين واحدة فقط ، بيضاء ، نحيفة ، ذو وجه تملؤه التجاعيد ، هادئة، خفيضة الصوت ، لم أراها تبتسم أبدا، وقد ظلت ترتدى الملابس السوداء حزنا على زوجها المتوفى منذ زمن طويل، وحتى آخر يوم رأيتها فيه!!!
كانت دبابير الحقول من أقرب أصدقائى فى عزبة أم عبده. كان هناك بابا خلفيا فى منزل الحاج عبده أبو ناصر يطل على حقل الطوب الواقع خلف المنزل مباشرة. كنت أحب التسلل من ذلك الباب الخلفى لأطل على حقل الطوب والشجيرات الصغيرة الواقعة أمامه. كان هناك الكثير من تلك الدبابير يحوم حول الشجيرات وكنت أقضى أوقاتا طويلة أراقبها وأمسك بها أحيانا وأطلقها أحيانا دون أن ألحق بها أذى. كان ذلك مصدر متعة وتسلية كبيرة لى. كانت تشبه الطائرات الهليوكبتر ذات ذيل طويل وألوان مختلفة وتصدر منها أصوات تشبه الأزيز وتقف شبه ساكنة فى مواجهة أوراق الشجيرات تقترب منها أحيانا وتبتعد عنها أحيانا دون أن تحط على الأغصان. كنت أقضى جزءا من وقتى هناك مع هذه الدبابير التى نسيت إسمها الحقيقى الآن.
وفى منزل أم عبده إرتكبت أول جريمة فى حياتى ، لاأتصور إننى قد خططت لها مسبقا ، كانت جريمة عفوية لكنها كانت تحمل كل ملامح الجريمة ، دفعنى إليها دافع شيطانى خفى لايمكن أن أجد له تفسيرا حتى اليوم. ففى أحد الأيام ، قبيل المغرب وبعد أن فرغت من مراقبة الصبية الذين إعتادوا اللعب والسباحة فى البركة الواسعة المتفرعة من النيل مقابل منزل أم عبده على الجانب الآخر من الطريق ، وبينما كنت أعبر حقول الطوب الممتدة بمحازاة النهر ، خطر لى خاطر تدمير أحد تلك الحقول ونظرت حولى فلم أجد أحدا. كان كل شئ ساكنا وحقل الطوب المسكين يمتد أمامى أعزلا مسالما فبدا لى كأنه فريسة سهلة. كان عمال ورشة الطوب قد إنصرفوا والصبية الذين يلعبون فى الماء بعيدين لايصلنى منهم سوى أصواتهم لكنى لاأراهم ولايرونى. بدا المسرح مهيئا تماما لإرتكاب الجريمة التى قفزت إلى ذهنى فجاة. كانت حقول الطوب تحتوى على صفوف طويلة متوازية من الطوب النى الذى يصنع من طمى النيل ثم يلقى فى تلك الحقول ليجف ثم يجمع بعد ذلك فى أكوام بجانب تلك الحقول ثم عندما يكتمل جفافه يحمل إلى الأفران حتى يسوى ويأخذ لونه الأحمر الذى يخرج به فى النهاية. كانت ضواحى مدينة رشيد الواقعة على ضفة النيل تحتوى على عشرات من تلك المصانع فى ذلك الزمن وكان منزل أم عبده يقع فى مواجهة أحد تلك المصانع حيث قررت إرتكاب جريمتى . نظرت يمينا ويسارا. أكثر من مرة وبعد أن تأكدت من عدم وجود أحد أخذت أجرى فوق قطع الطوب الطرى قافزا من قطعة إلى أخرى ومن صف إلى آخر يمينا يسارا يمينا يسارا فى إستمتاع شديد وأنا أرى نفسى أصيب الهدف تلو الهدف بدقة فائقة والطوب المسكين يغوص أسفل قدمى ويستوى بالأرض قطعة فى أثر الأخرى وبعد أن وصلت إلى نهاية الحقل بدأت من هناك مرة أخرى حتى أتأكد إنه لم يبق طوبة واحدة على قيد الحياة وعاودت الكرة مرة أخرى يمينا يسارا يمينا يسارا حتى إنتهيت. نظرت حولى مرة أخرى وبعدما تأكدت من عدم وجود أحد عبرت الشارع فى هدوء وتسللت عائدا إلى المنزل. ونمت تلك الليلة دون أن أخبر أم بسيونى بما فعلت. وتصورت أن الأمر قد إنتهى هكذا وإنه من الممكن أن أعادو تلك اللعبة الشيطانية مرة أخرى فى اليوم التالى لكنى فوجئت بما لم يكن فى الحسبان. لقد كان هناك من رآنى أرتكب جريمتى وأخبر الحاج عبده أبو ناصر صباح اليوم التالى و قام الحاج عبده أبو ناصر بإخبار أم بسيونى بما حدث بعد عودته من العمل مباشرة . وفوجئت بأم بسيونى تصرخ فى وجهى وتوبخنى عما فعلت وقد إستبد بى الرعب لاأدرى ماذا اقول أو ماذا أفعل. لاأذكر إنها قد ضربتنى فى ذلك اليوم لكنها أخذت على عهدا بأن لاأفعل ذلك مرة أخرى وتعهدت لها بذلك وإلتزمت بذلك العهد ولم أقترب بعد ذلك من حقول الطوب أبدا. شغلت علاقتى بمدينة رشيد وبأهل أم بسيونى حيزا كبيرا من طفولتى وصباى لكنها أخذت فى الزوال بعدما تجاوزت سنوات الطفولة والصبى إلى الشباب عندما بدأت حياتى تتأثر بمشاعر وأحداث أخرى. وبعدما ماتت أم بسيونى تقطعت بينى وبين أهلها السبل ولم أعد أعرف عن كل هؤلاء الذين تحدثت عنهم هنا شيئا آخر، فكيف عاشوا أو كيف ماتوا، لاأعرف ، ولعلى لن أعرف أبداً!!!
محدودة كانت ذكرياتى وحيدا مع أبى وأمى قبل أن يهب لى القدر من أبناء الجيران إخوة ، فبعد رحيل الأسرة اليونانية عن منزلنا بحى باكوس سكنت عائلة عم عبدالرحيم و زوجته الحاجة صفية شقتهم . كان عم عبدالرحيم قد إشترى من جارنا اليونانى بقالته الواقعة فى حى باكوس وإستأجر شقته أيضا بعد أن عزم الأخير على الرحيل عن مصر والعودة إلى بلاده. وبهذه الأسرة إرتبطت أحداث طفولتى وصباى وشبابى.
كانت عمارة الحاج صالح تتكون من خمسة طوابق فى كل طابق شقتين متقابلتين وكنا نسكن فى الدور الخامس المفتوح على السطح وفى الدور الرابع أسفلنا سكن عم عزيز بشاى القبطى الموظف بمصحلة التليفونات، والذى كان يقوم بمقام ولى أمرى فى المدرسة الإبتدائية إذا لم يكن ابى حاضراً، وأخوه المجنون موريس ، كما كان يسميه أطفال الحى، وقد مات موريس فى مستشفى الأمراض العقلية فى طفولتى ومات عم عزيز بعده عندما كنت فى المرحلة الثانوية، وعندما جاءت عائلة عم عبدالرحيم سكنت الشقة المقابلة لشقة عم عزيز وظلت بها حتى النهاية وعندما تفرقت واحد فى أثر الآخر. وفى الدور الثالث أسفل شقة عم عزيز كانت تسكن عائلة دمياطية تسمى عائلة الدياسطى تتكون من الإبن الأكبر فخرى وأخوه عبدالمجيد وأخته إكرام. ولم أعرف أبدا أمهما أو أبيهما اللذان ربما كانا قد توفيا قبل ولادتى وقد تزوجت إكرام فيما بعد ورحلت عن المنزل ورحل الأخوان فخرى وعبدالمجيد إلى الكويت واحداً فى أثر الآخر ولم يعودا لسكن ذلك المنزل بعد ذلك وتركاه لقريب لهما يسمى محمود الدياسطى ظل يسكنه حتى رحيلى عن المنزل، وكان لى معه حادثة أظهرت لى كم كانت أم بسيونى تحبنى فقد حدث أن تزوج محمود الدياسطى هذا، الذى كان قد تجاوز العقد الرابع من عمره، بإمرأة تصغره بفارق كبير من العمر، ولاأعرف لماذا نمى فى قلب تلك المرأة- أو تلك الفتاة- كراهية شديدة لى ولأصدقائى من أبناء الجيران، وذات يوم فؤجئت بمحود الدياسطى يستدعينى ويخبرنى أن أحد أصدقائى قد عاكس زوجته الشابة، كنت فى حوالى الصف الأول أو الثانى الثانوى، ولم أفهم أن المقصود بهذا التصرف كان مجرد إستفزار أو تبلى فأجبته بسلامة نية من منهم، فثار وقال لاأعرف، قلته له هم أبناء الجيران وكلهم معروفون لكل السكان ولم يحدث أن فعل أحدهم ذلك فإشتدت ثورته وقال يعنى مراتى بتكذب، وإرتفع صوته وأخذ فى تهديدى، ولاأعرف كيف عرفت أم بسيونى بما يجرى ربما من صوته المرتفع أو ربما أخبرها أحد الجيران، وإذا بى أفاجأ بها تقتحم شقة محمود الدياسطى، وقد تحولت إلى شبه وحش ضارى، رغم طبعها الطيب، وهى تصرخ مالكم بالولد، ياولاد الكلب يامفتريين، عارفين أصلكم وفصلكم، فاكرينه وحيد مالوش حد، أهله رشايدة يعرفوكم شغلكم. إستبد الرعب بمحود الدياسطى وزوجته ولم ينطقا بكلمة ولم ينتهى الأمر إلا بتدخل الجيران وسحب أم بسيونى بالقوة وإخراجها من شقة الدياسطى. ظللت أتذكر هذه الحادثة وأتعجب عن مبالغة أم بسيونى تلك فقد بدت لى فى تلك الأثناء حادثة عادية، لكنى ألان أدرك أنها لم تكن كذلك، فقد كانت حادثة إعتداء من حوادث إعتداءات الغابة الإنسانية عندما يحاول إنسان قوى إفتراس إنسان ضعيف، وهذا ماأدركته أم بسيونى فى ذلك الوقت، فتدخلت لإنقاذى ورد إعتبارى. وفى فترة قصيرة من طفولتى سكن عم يوسف صاحب محل الفراشة بباكوس وعائلته الدور الأول ثم وبعد فترة من وفاته المفاجئة إنتقلت عائلته إلى العمارة التى كانوا يملكونها على الجهة المقابلة من شارع الفتح أما باقى الشقق فقد كان يسكنها الحاج صالح صاحب العمارة النوبى وزوجتيه وأبنائه وبناته وهكذ كانت العمارة رقم 106 من شارع الفتح بباكوس مستوطنة نوبية صغيرة يصعب على الغرباء إختراقها فكان من الطبيعى أن يكون إرتباطى الأكبر بأولاد عائلة عم عبدالرحيم والحاجة صفية بقربهم منى فى الدور الرابع وبأعمارهم القريبة من عمرى.
كان السطح إغراءً كبيرا لأبناء الحاج صفية ، إذ أخذوا بمجرد إنتقالهم للسكن فى عمارتنا فى الزحف إلى السطح واحداً فى أثر الآخر حيث توافرت كل فرص اللعب واللهو لأطفال فى مثل أعمارهم. وهكذا إلتقيت بهم وأصبحوا جزءً كبيراً من حياتى ، وهكذا إلتقت بهم أم بسيونى وأصبحوا جزءا كبيرا من حياتها هى أيضاً وحتى رحيلها عن العمارة ووفاتها فى رشيد. كانوا ستة أبناء ولد الأربعة الأول منهم قبل أن تنتقل عائلتهم إلى عمارتنا أما الإثنين الأخيرين فقد ولدوا عندنا. سهير الكبرى وكانت تكبرنى بنحو عامين وسامية وكانت فى مثل عمرى وكان من الطبيعى أن تصبح أقربهم إلى، ثم محمود وكان يصغرنى بحوالى سنة واحدة وكانت الحاجة صفية تعرف بإسمه قبل أن تحج حيث كان الناس ينادونها أم محمود، وسونيا وكانت تصغرنى بنحو أربع سنوات ، فهؤلاء ولدوا قبل أن تنتقل الأسرة إلى حى باكوس أما محمد والذى إشتهربإسم بشريف لسبب لاأعرفه ، فقد ولد فى عمارة الحاج صالح وتربى فى رعاية أم بسيونى ثم أصغرهم حسن وقد ولد فى عمارة الحاج صالح أيضا وتربى فى رعاية الدادة فاطمة وقد هاجركلاهما إلى أمريكا عندما بلغا سن الشباب.
لاأذكر اليوم الذى إنتقلوا فيه إلى مسكننا ولكنى أذكر الأيام الأولى التى بدأوا يصعدون فيها إلى السطح للعب معى.كانت سهير هى أكبرهم وأجرأهم ثم جاءت سامية فى أثرها فمحمود فسونيا ثم تحول السطح إلى ملعب كبير لهم جميعا ورويدا رويدا بدأوا يدعوننى ويدعون أم بسيونى إلى شقتهم فى الدور الرابع ، كانوا ميسورى الحال وقد جاءوا من عائلة كبيرة من الصعيد إستقر كثير من أفرادها فى الإسكندرية وعملوا بأعمال البقالة . كان أبو الحاج صفية يسمى الحاج إبراهيم وكان له محل بقالة كبير فى الإبراهيمية كذلك كان أخوها وزوج أختها، كان كثير من أفراد العائلة يملكون محلات بقالة كبرى وكان عم عبدالرحيم واحدا منهم وهكذا إشترى بقالة جارنا اليونانى وإستأجر منه شقته أيضا. أصبح النزول إلى منزلهم فى الأمسيات يمثل أقصى آمالى. كنت ألح على أم بسيونى فى كل مساء تقريبا ( يلا ننزل تحت) وقد أصبحت كلمة تحت تعنى الإشارة إلى منزلهم بدون الحاجة إلى تفسير، كانت أم بسيونى تحقق رغبتى أحيانا و ترفضها أحيانا أخرى، لكنهم كانوا يرحبون بنا فى كل مرة ننزل إليهم فنقضى سهرتنا عندهم ونتناول معهم العشاء أيضاً . كانت الحاجة صفية إمرأة كريمة ميسورة الحال وكان منزلها يمتلئ دائما بكثير من الأصدقاء والأقارب ولاأعرف كيف حدث أنه وبمرور الوقت أصبحنا جزءً من هؤلاء الأصدقاء والأقارب. ثم وبمرور مزيد من الوقت أصبحنا كأننا جزءً من العائلة.
إتسع عالمى بحلول عائلة عم عبدالرحيم والحاجة صفية فى عمارتنا وأصبح لى أهل واصدقاء وكذلك الحال بالنسبة لأم بسيونى ، وأصبح سطحها مركزاً لكثير من نشاطات الأسرة ، مثل عمل المخللات لمحل البقالة وبعض عزومات الأسرة فى بعض المناسبات مثل أكل فسيخ شم النسيم أو ذبح خروف العيد.
كان ذبح خروف عيد الأضحى أحد المناسبات الهائلة التى تشهدها عمارتنا وكان عم عبدالرحيم هو الوحيد الذى يذبح خروف فى العيد ، فقبل العيد بفترة كان يجلب خروف مسكين للذبح ، وكان يتم ربطه فى جوانب السطح المقابل والإعتناء به وتسمينه حتى يحين أوان الذبح فى صبيحة يوم العيد الكبير حيث يتم نحره وسط تهليل الصغار والكبار على السواء. كان السطح يزدحم بكل أطفال العمارة ويصعد أبناء الحاج صالح أيضا عبدالفتاح وكريم وكانوا فى مثل سنى لينضمون إلينا فى الصياح والتهليل. لم نكن نشعر بأى شفقة على الخروف المسكين عند نحره ولكننا كنا ندلله كثيرا فى الأيام التى يقضيها معنا قبل ذلك ونستمتع به وبمأماته الدائمة وبروحه الوديعة ونسعد بتقديم البرسيم إليه فى كل يوم وبرائحته التى ينشرها فى كل أرجاء السطوح . كان توزيع اللحم يأتى بعد ذلك وكان كل سكان المنزل يحصلون على نصيب منه بما فى ذلك عائلة الحاج صالح التى لم تكن علاقتهم بعائلة عم عبدالرحيم على مايرام فى معظم الأحوال. كانت الأعياد مناسبات كبرى سعيدة لازلت أذكرها وكان عم عبدالرحيم يغلق دكانه فى اليومين الأولين لكل عيد ليستقبل ضيوفه فى منزله ثم ليأخذ أبنائه فى رحلة خارج المنزل وكان يأخذنى معهم دائما. كنا نذهب إلى حديقة حيوانات النزهة أحيانا وإلى المنتزه أحيانا أو إلى أبى قير حيث نركب مركب تبحر بنا فى بحره المغلق المعروف بإسم البحر الميت وتذهب بنا إلى جزيرة صغيرة ننزل إليها بعض الوقت ونلعب على صخورها قبل أن تعود بنا إلى الشاطئ مرة أخرى. لم أكن أعرف أن كل دورة من دورات المركب ذهابا وعودة إلى الجزيرة تساوى حسابا جديدا كان على عم عبدالرحيم أن يدفعه وأذكر أننى فى أحد تلك المناسبات طلبت من صاحب المركب أن يدور بنا دورة أخرى فعلق عم عبدالرحيم على طلبى قائلا ( وإنت دافع حاجة من جيبك) وضحك الجميع وصمت خجلا دون أن أعرف سبب ضحكهم. كان ذلك أقسى ماسمعت من عم عبدالرحيم فى حياتى ولكن دون ذلك فقد كان هو الآخر قد إعتاد أن يعتبرنى فردً من أفراد أسرته الكبيرة. كم أذكر من الناس التى كانت تترد عليهم أقارب وجيران وأصدقاء ، أغنياء وفقراء ، أناس من كل الأنواع وكل الطبقات أذكر أم على التى ظلت صديقة لهم لفترة طويلة وأم عبدالفتاح ونساء أخريات نسيت إسمهن الآن. كان للحاجة صفية إخوة يصغرونها جميعا ذكورا وإناثا ، كان الذكور أحمد ومحمود ومحمد دائمى الحضور عندها وقد أصبحوا أصدقاء لى أيضا وخاصة الصغير أحمد فكثيرا ماخرجنا سويا أنا وهو ومحمود إبن الحاجة صفية معا فى طفولتنا نرتاد الأماكن البعيدة عن المنزل مثل سبورتنج والإبراهيمية ومحطة الرمل أما الإناث فكانت زكية ولولا ولوزة. كانت لوزة هى الكبرى وكانت متزوجة من بقال من عائلتهم أيضا وكانت سيدة أنيقة جميلة يندر أن يوجد مثلها فى صفوف بنات الطبقة الوسطى الآن. كذلك كانت الصغريين لولا وزكية وكانا دائمى الإقامة عند الحاجة صفية وكنا يكنان لى حبا كبيرا وخاصة الصغرى زكية وقد تزوجتا واحدة فى أثر الأخرى لكنهما ظلا دائمى الزيارة للحاجة صفية و ظلا يذكرانى بزكريات الطفولة كلما قابلانى مصادفة بعد أن مرت السنون وأصبحت شابا. كثيرة هى ذكرياتى فى منزل الحاجة صفية طفلاً . أذكر أعياد ميلاد أولادها كانت مناسبات سعيدة تمتلئ بهجة وسعادة وأقارب وأصدقاء من كل صوب وحدب وكانوا يستأجرون مصور خاص لتلك المناسبات يصور بغير حساب وفى تلك المناسبات السعيدة حصلت على صور طفولتى الوحيدة والتى بدونها ماكنت أملك أى ذكرى مصورة عن هذه الطفولة فلم يكن أبى وأمى يعرفان الإهتمام بمثل تلك الأمور ألأساسية فى حياة الطفل بأن تحفظ له صور وسجل عن طفولته. كثيرة فعلا هى ذكرياتى فى فى منزل الحاجة صفية. كان لديهم حصانا خشبيا ضخما يضعونه فى أحد غرف نوم الأولاد وقد أغرمت بهذا الحصان غراما شديدا وعلق بخيالى بشكل لافكاك منه وأصبحت كل آمالى ركوبه والجرى به مسافات طويلة فكنت أنتهز كل فرصة تسنح لى للنزول إليهم والتسلل إلى غرفة النوم وركوب هدا الحصان لأقصى مدة أستطيعها حتى يتألم بدنى أو حتى تستدعينى أم بسيونى أو تنزلنى الحاجة صفية برفق. أشياء كثيرة كنت أفتقدها وكنت أجدها فى منزلهم. أذكر جهاز التليفزيون والمسلسلات الساحرة التى علقت بخيالى ربما فى مرحلة متأخرة من طفولتى مثل تمثيلية القط الأسود والعسل المر وهارب من الأيام كلها تمثيليات علقت فى خيالى وتعلقت بها وكنت أشاهدها عندهم. أذكر كذلك مجلات سمير وميكى كنت أقرأها عندهم وقد أدمنت على قرائتها طوال طفولتى ومنها ربما أكون قد تعلمت حب القراءة. عرف منزل الحاجة صفية كثير من الشغالات كما كانت عادة الميسورين من أبناء الطبقة الوسطى المصرية فى دلك الزمن. وقد مر الكثيرون على منزلها منهم الغرباء ومنهم الأقرباء الدين ينتمون إلى الفرع الفقير فى العائلة مثل باتعة التى كانت تقول عنها إبنة خالتها وقد ظلت عندها حتى تزوجت ورحلت عنها بعد ذلك ولكن واحدة منهن فقط ظلت هناك حتى اللحظة الأخيرة، هى الدادة فاطمة أو كما كنا نناديها مند الطفولة وحتى تجاوزنا سن الشباب. أصبحت دادة فاطمة علامة من علامات حى باكوس فى ذلك الزمن. كانت منقطعة الأهل ولم يكن أحد يعرف من أين جاءت وكيف إلتحقت بالعمل عند أسرة عم عبدالرحيم. لكنها أصبحت جزءً من حياتنا جميعا ومن حياة حى باكوس كله. كانت تبدو كعجوز مند جاءت وحتى رحلت لكنها كانت بصحة جيدة فى كل الأحوال. ومثلها مثل أبى لم يعرف أحد سر حياته. كانت تتكلم مع كل إنسان فى الحى. وتقف عند كل دكان وتحب نقل الأخبار من مكان إلى آخر وأحيانا تحب مساعدة الناس وأحيانا تحب الإيقاع بينهم لكنها فى كل مرة كانت تخرج سالمة وكان الجميع يحبونها رغم معرفة عادة النميمية ونقل الأخبارالمتأصلة فيها وقد شاركتنا حياتنا وعرفت أسرارنا وساعدتنا أحيانا ووشت بنا أحيانا أخرى. كانت شهرتها تعود فى جزء منها إلى عملها لدى أسرة عم عبدالرحيم الدى كان شهيرا فى حى باكوس فى زمانه ولكن فى جزء آخر منها كانت تعود إلى شخصيتها الغريبة تلك الطرحة السوداء التى لم تخلعها أبدا وملامحها اللاأنثوية وحواراتها الطويلة مع من تعرفه ولاتعرفه وإلمامها الغريب بمعظم أسرار سكان حى باكوس. تعلقت الدادة فاطمة بحسن إلإبن الأصغر للحاجة صفية لإنه ولد على يديها وأعطته كل رعاية حتى أصبح يُعرف بإسمها. كانت الدادة فاطمة تحاول أن تجعل منه إبنا يرعاها إذا كبرت وكانت تتمثل بعلاقتى بأم بسيونى وبحبى الشديد لها نتيجة رعايتها لى. وقد أصبح حسن يحبها أيضا ولكن ماكان يمكن لقصتى مع أم بسيونى أن تتكرر.كان عم عبدالرحيم هو أول الراحلين،فقد توفى أثناء فترة عملى بالسعودية، ثم تبعته الدادة فاطمة، ماتت فى هدوء وهى تجلس على كرسى فى المنزل بدون أى بوادر مرض أو همسة ألم.
ومن ملعب منزل الحاجة صفية الصغير إنتقلت للعب فى الشارع مع أطفال الحى وبدأ عالمى يتسع أكثر فأكثر وبدأت صداقات جديدة تنشأ فى حياتى. وفى الشارع تزدحم صور الطفولة وتتداخل وينعدم ترتيبها الزمنى تماما بحيث لايمكن الجزم أيهم كان قبل الآخر لكنها تظل فى مجملها تشكل حيز كبير من طفولتى. أذكر الصورة الأولى للشارع، بركة المياه المتراكمة أمام المنزل فى فصل الشتاء تملؤها أوراق أشجار ضخمة صفراء تسبح فى الماء كأنها قوارب. كان الشتاء كثيفا فى ذلك الزمن. لم يعد كذلك الآن. كانت تتكون برك ومستنقعات فى الشوارع وأمام المنازل. كانت تلك البحيرات الصغيرة إغراءا كبيرا لأطفال الحى بالنزول إلى الشوارع وقيادة تلك القوارب المصنوعة من أوراق الأشجار. لاأذكر كيف كانت تتجمع تلك الأوراق فى المياه الراكدة وأين كانت تلك الأشجار. لكن الأشجار أيضا كانت كثيفة فى ذلك الزمن ولازلت أذكر اشجارالتوت والياسمين والبامبوزيا السوداء اللذيذة التى كان يمتلئ بها حى باكوس وحى جليم فى ذلك الزمن .
هذه هى الصورة الأولى التى أذكرها الآن. وتتابع الصور. جنينة فريال. وشاطئ جليم. والأسواق ومواسم رمضان والإمسيكيات وفوانيس العيد والمراجيح وسينما باكوس وفتوات الحى وخيال وألعاب الأطفال مع أصدقائى الجدد، رفعت وكمال وعبدالفتاح و أخوه كريم وأبو العلا وأخوه خميس، كل أبناء الجيران ممن كانوا فى مثل عمرى الذى لاأعرف كيف ومتى بدأت صداقتى بهم وبكثيرين غيرهم من أبناء الحى.
كانت جنينة فريال حديقة صغيرة تقع خلف شارع رياض مباشرة على طريق الحرية فى المنطقة الفاصلة بين حى جليم وحى باكوس. لم تعد هذه الحديقة قائمة الآن إذ تحولت إلى حوانيت ومخابز. وأذكر إننا عندما بدأنا رحلة الإبتعاد عن المنزل كانت هى المحطة الأولى لنا. كانت حديقة صغيرة تتوسطها شجرة كبيرة وكانت سعادتنا فى تسلقها والإختباء خلف أوراقها لاتوصف. كنا نذهب إليها صباحا وأحيانا لانعود إلا إذ جاء من يستدعينا لم نكن نشعر بتعب ولا بجوع أو عطش. كانت نشوة وسعادة اللعب فى الحديقة طوال اليوم غامرة ولم يكن للزمن ولا للووقت أى معنى بالنسبة لنا، فكما هو الحال دائما، يعيش الأطفال فى عالم سحرى خارج العالم الحقيقى لايمكن لسواهم أن يشعر به.
وبمرور الزمن أصبحنا نتجرأ على الإبتعاد أكثر حتى نبلغ شاطئ جليم. كان جد رفعت رسمى، وجدته يعيشان فى منزل العائلة بحى جليم ، وكان هو منزل العائلة الأصلى حيث كانوا يعيشون هناك قبل أن ينتقلوا للحياة فى حى باكوس بعيدا عن البحر لأسباب صحية خاصة بسمير، الأخ الأكبر لرفعت. وهناك كنا نخلع ملابسنا أنا ورفعت وكمال ثم ننطلق إلى شاطئ البحر الفسيح الذى كان منقسما فى ذلك الزمن إلى بحر كبير وبحر صغير. كان البحر الصغيرأكثر جاذبية وأمانا وكان به زحليقة صغيرة يقفز منها الأطفال إلى الماء فى فرح كبير، كما كان به صخرة كبيرة كانت تسمى بالجزيرة الصغيرة كانت تشكل حاجزا بين البحر الصغير والبحر الكبير وكانت ملجأ للصيادين. وهنا تعلمنا السباحة وتعلمنا هواية صيد السمك وقضينا أوقاتا سعيدة إمتدت على مدى سنوات طويلة، وقد إختفت تلك الشواطئ الآن وإختفت معها ذكريات طفولتنا بعد أن ردمت بسب توسيع طريق الكورنيش.
كان للبحر معى ذكريات سيئة أيضا إلا أنها لم تؤثر على حبى له أبدا فقد ظللت أعشق منظر البحر طوال عمرى هادئا كان أم ثائرا وأعشق منظر الصيادين والعشاق متناثرين على شواطئه. وظل منظر الشواطئ هو أكثر مايسعدنى ويدخل الإطمئنان إلى قلبى. كنت أذهب إلى بحر جليم مع أصدقاء طفولتى فى معظم الأحيان لكننى كنت أذهب أيضا مع أم بسيونى فى بعض المناسبات. وفى إحدى تلك المرات كدت أن أغرق. كان ذلك هو الحادث الخطير الثانى الذى تعرضت له فى حياتى بعد حادث ضم والدى لى بقوة كادت تزهق أنفاسى. كان ذلك الشاطئ مفتوحا للجمهور مجانا وكان معظم رواده من سكان حى باكوس الشعبى بالإضافة إلى سكانه الأصليين الذين كانوا يستأجرون معظم كبائن الشاطى. وكان بيننا وبينهم فاصل طبقى واضح ولكن أحيانا كانت تتكون بيننا صداقات أيضا. كان معظم رواده يحملون شماسيهم وكراسيهم معهم وكان البعض يستأجر تلك الشماسى والكراسى. وهكذا فعلت أم بسيونى ذات يوم ولاأتذكرأين كان أبى. ذهبنا إلى شاطئ جليم أنا وأم بسيونى فقط وإستأجرنا شمسية وكرسيين. وجلست أم بسيونى تجهز بعض الطعام بينما نزلت أنا للسباحة. كان ذلك فى البحر الكبير الأكثر خطورة حيث ظللت ألعب على الشاطئ القريب ولكن لاأعرف مالذى دفعنى بمرور الوقت إلى أن أجرب حظى وأتقدم إلى الأمام. ظللت أتقدم أكثر وأكثر وأنا أتصور إننى قادر على السباحة حتى إنزلقت قدمى فى الخطوة الأخيرة ولم أعد أشعر بالأرض تحتى. أخذت أغطس وأطفو وأنا أحاول جاهدا أن أقف على قدمى دون جدوى. لقد كنت أغرق على بعد مجرد أمتار من الشاطئ. مرة أخرى عانيت الشعور بالموت لكنى لم أستسلم أخذت أحاول الوقوف على قدمى وفى كل مرة أجد نفسى أغطس مرة أخرى وقد بدأ جوفى يمتلئ بمياه البحر. كنت سعيد الحظ هذه المرة أيضا. فقد مر بجوارى شابان يسبحان وقد سمعت أحدهما يقول للآخر( ياعينى ده بيغرق) ثم جذب هذا الشاب يدى ودفعنى إلى الأمام مجرد خطوة واحدة حيث وجدت الأرض تحت قدمى مرة أخرى فواصلت رحلتى على قدماى حتى خرجت من البحر عائدا إلى أم بسيونى تحت الشمسية وجلست شاحبا مرتعدا وكلما حاولت أن تحدثنى لزمت الصمت حتى سألتنى فزعة( ماذا حدث لك أنت كنت حاتغرق ولا أيه) ولم أجب أيضا وظللت أفكر فى ذلك الشاب الذى أنقذ حياتى والذى لن أعرف إسمه ولاشكله أبدا. كانت تلك ذكرى غيرسعيدة مع البحر لكننى ظللنت أحبه مع ذلك وقد توالت تلك الذكريات التعسة مع جثث الغرقى الذين رأيتهم مرات على شاطئ جليم ومرة على شاطئ العجمى عندما كنت فى المرحلة الثانوية. لكننى ظللت مع ذلك أحبه.
كنا أحيانا ننطلق من شاطئ جليم إلى الشاطئ المجاور الذى كان يسمى بالخربان لإنه كان شبه مهجور ممتلئ بالصخور حيث كانت توجد بركه من مياه البحر كنا نعشق السباحة فيها ومن هناك كنا نتقدم أحيانا إلى شاطئ ستانلى المجاور له وكانت تلك هى أقصى حدودنا إذ كنا نبدأ بعد ذلك رحلة العودة إلى شاطئ جليم إلى منزل جد رفعت ،جدوعبدالحميد، لنرتدى ملابسنا ونبدأ رحلة العودة إلى حى باكوس سيرا على أقدام لاتعرف التعب أو الملل أحيانا عن طريق شارع رياض وأحيانا عن طريق شارع طوسون.
لازلت أذكرصورة أسواق حى باكوس خاصة فى مواسم شهررمضان والأعياد. زحام هائل مازال فى إزدياد حتى الآن. وقد تغيرت الملامح الآن وذهب الأبطال القدامى عم عبدالرحيم صاحب بقالة النجم الذهبى والحاج خميس صاحب مطعم ألف ليلة وليلة وغيرهم وجاء أبطال جدد لكن الصورة لم تتغير كثيرا اللهم فى مظاهر الفرح التى لم تعد كما كانت فى الماضى وكذلك فى مظاهر النظافة فلم يعد الحى نظيفا كما كان فى الماضى. فقط ظل الزحام هو الصورة المشتركة بين الماضى والحاضر لذلك الحى الشعبى الكبير. كنت أذهب إلى السوق أحيانا مع أم بسيونى لشراء إحتياجاتنا اليومية من سوق الخضار أو سوق السمك وأحيانا كانت ترسلنى لشراء بعض الأشياء بنفسى لكن سعادتى الكبيرة كانت عندما أخرج إلى الشوارع والأسواق مع أصدقائى فى مواسم رمضان والأعياد. أذكر فى رمضان الإنفعال الذى كانت تثيره ساعة الإفطار فى نفسى دون حتى أن أعرف معنى الصيام وأنا أنتظر المدفع مع أم بسيونى أو أتدافع أحيانا فى محل الطرشى أو محل فول ألف ليلة وليلة لشراء ماكلفتنى به من مستلزمات الإفطار قبل المدفع ثم النزول إلى الشارع بعد المدفع للعب بالفوانيس والمرور بها على الدكاكين نطلب هدايا رمضان، وأذكر إمساكيات رمضان والتى كانت عبارة عن دفاتر صغيرة كانت المحلات توزعها عن مواقيت الإفطار والإمساك كهدايا على الناس وكيف كنا نلعب عليها رفة( ملك ولا كتابة) وكيف كانت سعادة البطل الذى يحصل على أكبر قدر منها. وفى رمضان كنا نسمع عن العريس الأخرس الذى يمر فى شارع مصطفى كامل على عربة حانتور ويمنح جائزة كبيرة لمن يستطيع إجباره على الضحك. ظلت أسطورة العريس الأخرس تتعاظم فى ذهنى وأنا أحلم بأن أتمكن من رؤيته رمضان ما. لكن كان كل رمضان يمر دون أن أتمكن من رؤيته لإننى لم أكن أستطيع تحديد اليوم الذى يمر فيه وظللت هكذا أسمع حكاياته فقط دون أن أراه. ثم فجأة توقف العريس الأخرس عن المرور ومات آخر عريس أخرس دون أن يخلفه أحد وإنقطعت مواكبه. فقط ظلت حكاياته ونوادره عالقة بخيال طفولتى وأذكر أحد أبناء حى باكوس وهو يروى أنه فى أحد المرات قفز واحد من الجمهور إلى عربة العريس الأخرس وخلع ملابسه أمامه ، وأخرج عضوه ، لكن العريس الأخرس لم يضحك أيضا. ظلت هذه الذكريات عالقة بذهنى حتى دون أن أراها.
وفى الأعياد كانت تُنصب مراجيح بالأسواق وتباع أنواع من الحلوى المصنوعة من السكر الملون فى أشكال تماثيل حيوانية متنوعة كان إمتلاك إحداها يشعرنى بسعادة كبيرة فكنت لاأريد أكلها بقدر ماأريد الإحتفاظ بها. وكانت الحاجة صفية زوجة عم عبدالرحيم تمنحنى هدية كبيرة وأحيانا كانت تشترى لى ملابس جديدة تماما كما كانت تشترى لأبنائها وكانت ترسل لنا مع بناتها سهير وسامية و سونيا شئ من كل ماتصنعه من حلويات العيد. وقد عشت أذكر لها ذلك العطف دائما. وفى العيد كنا نذهب أيضا إلى السينما. كنا نذهب إلى سينما باكوس القريبة وأحيانا كنا نبتعد أكثر إلى سينما ليلى الواقعة على أطراف حى باكوس وأحيانا كنت أذهب أبعد مع أبناء الحاجة صفية إلى سينما سبورتنج حيث كانوا يعيشون قبل إنتقالهم إلى حى باكوس وحيث كان مازال بعض أقاربهم يعيشون هناك. كان شهر رمضان والأعياد مواسم هائلة للعب، لكنها لم تظل هكذا إلى الأبد، فعندما مر الزمن، تغير معه الفكر والعادات، وأصبحت أكره تلك المناسبات.
إرتبطت سينما باكوس بذكريات طفولتى إلى حد كبير ومنها تعلمت أشياء كثيرة ونمت بداخلى مشاعر كثيرة ربما كانت تسبق عمرى. لاأذكر كم كان عمرى عندما بدأت التردد على سينما باكوس وهل بدأ ذلك مع أصدقاء الحى أم أصدقاء المدرسة الإبتدائية ولكنى مازلت أذكر الأفلام التى علقت بخيال طفولتى. أذكر فيلم عرضته السينما بإسم شيطان البحر وماكان يمكن لى فى ذلك العمر أن أعرف إسمه الحقيقى بالإنجليزية. كانت عادة دور السينما المصرية فى ذلك الوقت أن تعرض الأفلام الأجنبية بأسماء غيرأسمائها الحقيقية على سبيل التشويق حيث كانت تعطى لها أسماء أكثر إثارة مثل فيلمى الأثير هذا(شيطان البحر). كان الفيلم يتحدث عن شاب فى مقتبل العمر تعرض لحادث ما جعله غير قادر على الحياة إلا تحت البحر حيث لم يكن فى مقدوره التنفس على الأرض. وهكذا خلق له منزلا فى اعماق البحار،عبارة عن كهف صغير ذو باب حديدى يُفتح ويُغلق وكان يعود إلى الشاطئ أحيانا لكن معظم وقته كان يقضيه تحت الماء. وذات يوم تعرضت شابة حسناء لحادث غرق كاد أن يودى بحياتها لولا أن رآها شيطان البحر وهى تغوص فى أعماق البحر فإندفع نحوها وحملها إلى السطح سريعا بحيث كُتب للفتاة النجاة ، لكن شيطان البحر بفعله هذا كان قد سقط فى عشق تلك الفتاة وبقى له من ذكراها منديل كانت تحمله فى يدها عندما تعرضت لحادث الغرق سقط فى أعماق البحر فإحتفظ به كذكرى منها ولاأدرى كيف شعرت الفتاة بتلك العاطفة ولا كيف بادلته إياها لكن هذا ماحدث ولعلها تذكرت كيف أنقذها من الموت فأخذت تتردد على ذلك الشاطئ الذى كادت أن تغرق فى مياهه علها تقابله بينما كان شيطان البحر بدوره يخرج إلى الشاطئ على أمل أن يراها ويحدث بالفعل أن يلتقيان ويتحابان لكن الفراق كان هو النهاية الحزينة بطبيعة الحال فلم يكن من الممكن لشيطان البحر أن يعيش على الأرض وكان عليه فى النهاية أن يعود إلى أعماق البحر تاركا حبيبته ورائه إلى الأبد. كنت صغيرا جدا عندما رأيت هذا الفيلم ولاأعرف لماذا عشقته كل ذلك العشق حتى إننى قد رأيته لأكثر من مرة أثناء عرضه فى سينما باكوس فى ذلك الزمن ومازلت أذكره حتى اليوم. كان هناك أفلام أخرى بطبيعة الحال تحمل كل منها قيمة أو مثل أعلى فى الحب أو البطولة أو الفداء وكانت أفلام البطولة تستهوى طفولتى. أذكر أفلام الإمبراطورية الرومانية التى كان يؤديها الممثل ستيف ريفز وثورة العبيد بقيادة سبارتكوس التى أداها الممثل كيرك دوجلاس وأفلام الأساطير اليونانية والرومانية القديمة وأذكر فيلم قديم كان يحكى عن قصة أخيل وقصة الإلياذة ظهر قبل زمن فيلم طروادة الحديث الذى قام ببطولته برات بت بزمن طويل ، وأفلام الغرب الأمريكى وأذكر منها قصة فيلم كان يحكى عن علاقة صداقة نمت بين فارس فى الجيش الأمريكى وحصانه وكيف ظل الحصان وفيا للفارس الأمريكى حتى بعد أن سقط قتيلا فى المعركة وكيف حمله من أرض المعركة وعاد به إلى وحدته فى الجيش . كانت الأفلام الأجنبية تترك تأثيرا عميقا فى نفسى وفى خيالى والواقع أن السينما قد تركت أثرها على حياتى كلها ومازلت حتى اليوم أحد أسعد هواياتى.
كانت بطولات السينما تختلط فى خيالى ببطولات فتوات حى باكوس فى ذلك الزمن. كان الفتوة من مخلفات الماضى التى مازلت تعيش فى حى باكوس. وكان الفتوات متشردين يسكنون الخرائب ويعيشون على إحسان الناس لكنهم كانوا أيضا اصدقاء لأبناء الحى يدافعون عنهم ضد أى معتدى غريب. كانوا بالنسبة لنا أبطالا تماما مثل هؤلاء الأبطال الذين كنا نراهم فى السينما. لم يكونوا لصوصا أو متسولين بل كانوا أبطالا لايقهرون. لهم مغامرات وحكايات يعرفها أهل الحى ويروونها فيما بينهم فى لقاءاتهم وأمسياتهم. كان هناك الكثير منهم لكننى أذكر منهم إبراهيم سبرتو وصديقته فكريات وصديقتهما الشهيرة فاطمة السوداء.
لم يعرف من أين أتوا ولا أين رحلوا. كانت فاطمة السوداء أشهرهم كان كل حى باكوس يعرفها كانت كأنها علامة من علامات الحى وأذكر إننى سمعت فى أحد أفراح الحى أغنية تحمل إسمها كانت الفرقة الموسيقية ترددها ويرردها معها الحاضرين خ بصوت واحد مرتفع ( فاطمة السوداء، فاطمة السوداء ، فاطمة السوداء) كانت شابة سوداء، فقيرة، لاتتمتع بأى جمال لكنى لاأعرف لماذا كانت محبوبة لدى الجميع وحاضرة دائما فى كل مكان فى حى باكوس ولاأذكر كيف إختفت ولا أين رحلت . أذكر أيضا الفتوة الشهير إبراهيم سبرتوا، كان نحيلا ذا ملامح مقبولة يرتدى ثيابا نظيفة يمشى مترنحا إلى اليمين وإلى اليسار كأنه يختال بالمدية التى كان يحملها فى حزام بنطاله دائما . لم يكن يتشاجر مع أى من أبناء الحى وكان يعيش فى صمت ورضى غريبين وكان مغرما بصديقته فكريات وكان يعيش معها فى الخرائب الواقعة خلف شارع الفتح بالقرب من بعض الفلل القديمة التى هجرها أصحابها الأجانب الذين رحلوا عن مصر وأذكر إننى ذهبت مرة مع أصدقائى نطلب عونه لإسترداد الطائرة الورقية التى فقدناها عندما إنقطعت الدبارة فطارت إلى مسافة بعيدة حتى سقطت على سطح شاب كان بدوره من فتوات حى صفر القريب، ولما ذهبنا نطلب الطائرة نهرنا وطردنا فقررنا اللجوء إلى بطلنا إبراهيم سبرتو الذى تبعنا إلى هناك على الفور وتحدث مع الفتوة الآخر فى كبرياء يطلب رد الطائرة وكانت دهشتنا كبيرة عندما رفض ذلك الفتوة الآخر رد الطائرة ولم يهتم بطلب إبراهيم سبرتو فلم نكن نتصور أن هناك من يجرؤ على تحدى إبراهيم سبرتو فى هذا العالم. ومرت السنوات وكانت دهشتنا أكبر عندما عرفنا إن إبراهيم سبرتو قد قُتل بالقرب من سينما باكوس. قتله أحد فتوات منطقة الحضرة فى نزاع نشأ بينهما بسبب فكريات حبيبة إبراهيم سبرتو. كنا قد تجاوزنا المرحلة الإبتدائية تقريبا عندما سمعنا أن إبراهيم قد مات. ولم نعرف إلى أين رحلت فكريات بعده.
كنا بدورنا نلعب ألعاب العصابات ونلعب أدوار الأبطال مثل أبطال الأفلام ، كنا نصنع سيوفا خشبية ومسدسات وأسلحة من كل نوع ونختفى هناوهناك ونصيح ونصرخ ويقتل بعضنا البعض ونسقط مضرجين بالدماء وينتصر البطل ويفر المهزوم ونظل هكذا ساعات طويلة فى الشوارع حتى تتلطخ وجوههنا وثيابنا بالغبار ناسين الطعام والشراب لانكل ولانمل ولانعرف التعب نريد فقط أن نلعب إلى الأبد. وهكذا حتى يهبط الليل أو يأتى من يستدعينا للعودة إلى المنزل. كانت دنيا ألعاب الطفولة الساحرة تحتوى على تنويعات كثيرة أخرى. أذكر منها لعب البلى والنحل وتربية دودة القز تحت السرير والنبل وصنع الميداليات البلاستيكية والمعشوقة الأثيرة الكرة الشراب. لآأعرف متى عشقت الكرة الشراب لكن من المؤكد أن هذاحدث فى مرحلة متقدمة من طفولتى ومنها عشقت كرة القدم وتصورت نفسى لاعبا شهيرا فى النادى الأهلى المصرى وأذكر أن أحد المدرسين فى المرحلة الإعدادية قد سألنى يوما ماذا تريد أن تعمل عندما تكبر فأجبته لاعب كرة فى النادى الأهلى ولاأعرف كيف حدث إننى بعد أن تجاوزت مرحلة الصبا والشباب نسيت كرة القدم بل وأصبحت أتعجب من حشود الناس التى تحتشد لرؤيتها فى الملاعب أو أمام أجهزة التليفزيون!!!
كانت الشوارع القريبة هى مسرح لعبنا الرئيسى وكما كانت جنينة فريال أحد تلك المسارح الرئيسسة كذلك كانت كنيسة حى باكوس بأشجارها الكبيرة ونوافذها المغلقة الغامضة ورهبانها الصامتين الطيبين. لاأعرف كيف كنا ندخل إلى هناك ولا كيف كنا نتسلق الأشجارونقطف الأغصان خاصة فى مناسبات الأعياد كانت الأبواب تُفتح للجميع لكنها بالنسبة لنا كانت مفتوحة دائما ولاأذكر أننا قد منعنا يوم من الدخول وكان الرهبان يدخلون ويخرجون عبر الممر الطويل كما أذكره الآن دون أن يلفت نظر أحدهم وجودنا المتطفل وأذكر أننا يوما قد كسرنا أحد النوافذ وفررنا هاربين ولكن الواقع أنه لم يكن هناك أحد يتبعنا وقد فررنا من فرط الخوف دون أن يكون هناك أى داع لخوف. كان كل شئ آمن هادئ جميل. مجتمع متمدين أو هو على الطريق بالفعل نحو التمدين ، لاأذكر حادث طائفى واحد ولاضجر ولاضيق ولاشك ولاخوف. بل جمال وأمن وطمأنينية. ومازلت تلك الكنيسة هناك لكن بابها لم يعد يفتح لأحد . هكذا كانت صورة بلدى فى طفولتى. ولاأعرف لماذا تغيرت الآن. ولكن هذا حديث آخر.
وبعيدا عن تلك الكنيسة الهادئة أذكر أيضا من صور طفولتى صورة الزار الذى ذهبت إليه يوما مع أم بسيونى عند صديقة لها فى حى صفر القريب . ربما كان إسمها أم محمد ولعلها كانت من أصل رشيدى مثلها . ولاأعرف ماذا كان سبب الزار ولا ماذا كان يعنى الزار. لكنى أذكر أم بسيونى وهى تنشد مع الناشدين وتتمايل مع المائلين وأذكرها وهى تعود بقطعة من ديك وبعض طعام. هدية للضيوف أو ندر الزار لشفاء المريض الذى أقيم من أجله الزار. ربما أكون شعرت بالخوف من ذلك المشهد. ولذا فقد علق بذهنى حتى الآن.
ولازلت أذكر بعض صور الخوف الأخرى التى علقت بخيال طفولتى فلا زلت أذكر ذلك اليوم الذى صحونا فيه أناوأمى وأبى على صوت إرتطام هائل فى فجر أحد الأيام فخرجنا وكذلك خرج جميع الجيران حولنا لنطل على المشهد المروع وهو إرتطام سيارة جيش بعربة الترام عند مزلقان الترام المفتوح على شارع رياض . كان الإرتطام هائلا لدرجة أن أشلاء الجنود قد تناثرت على مساحات واسعة من شريط الترام وصل بعضها إلى أمام منزلنا أو ربما تصورت أنا ذلك لإننى كنت كلما عبرت شريط الترام إلى الضفة الأخرى فى تلك الأيام أتصور إننى قد أرى قطعة من يد أو ساق أحد الجنود. كانت سيارة جنود عائدين من جهة شارع رياض متوجهين بسرعة إلى جهة ما ولعل السائق قد غفى عند الفجر فلم يلمح عربة الترام القادمة بسرعة فإرتطما ودفعت الترام بالسيارة عدة أمتار إلى الأمام بينما طار الجنود فى الهواء وقد تناثرت أجسادهم أشلاءً. مازلت أذكر أضواء الفجر وتجمع الناس وصراخهم وأنات بعض المحتضرين. وأبى وأمى يرقبان المشهد من البلكونة والذكريات المرعبة التى أعقبت ذلك الحادث وشريط الترام الملوث بالدماء وأرواح الضحايا تحوم حول حى باكوس كله. لاأعرف تاريخ هذا الحادث ولكنى واثقا من وقوعه.
عشت ذلك الجو الذى يسيطر عليه روح شخص رحل فى تجربة أخرى أقل رعبا لكنها ربما تكون أشد رهبة مع رفاقى الصغار ومع دوجلاس أخو هدى أصحاب مكتبة الهلال. فذات يوم قال لنا دوجلاس الذى كان يكبرنا بعدة سنوات بأن عمه عباس قد مات وأنه يحتاج إلينا للذهاب معه لجرد مكتبته الواقعة بالقرب من سينما ليلى قبل تركها لأصحابها. كان هؤلاء الناس متخصصين فى عمل المكتبات. ذهبنا مع دوجلاس، والذى لم أعرف أبداً إسمه الحقيقى، فرحين وكأننا حصلنا على مصدر لعب جديد. فتحنا باب المكتبة المهجورة والتى يبدو أن عم دوجلاس كان قد هجرها لفترة طويلة أثناء مرضه وقبل وفاته وكأننا نفتح مقبرة قديمة من مقابر الفراعنة. كانت كل الأشياء قديمة مغبرة متناثرة هنا وهناك وليست ذات قيمة وربما كان أحد أفراد العائلة قد سبقنا وحمل الأشياء القيمة وكان دوجلاس - الذى أصبح مدمن مخدرات بعد ذلك - يحاول الحصول على نصيبه أيضا. كان الجو كئيبا يبعث على الخوف تخيم عليه رائحة الموت. كنا نفتش بين الأوراق ونعرض مانجده على دوجلاس الذى كان يأخذ منا مايراه قيما ويأمرنا بترك مالايراه قيما كما هو فى مكانه. لاأعرف كم طال الوقت ونحن نفتش بين الأوراق. لكن حصيلة التجربة لم تكن لعبا أو مرحبا ولكن ذكرى كئيبة علقت بخيال طفولتى. ذكرى تكررت فى حياتى أكثر من مرة بعد ذلك . مرة بعد وفاة عم عزيز بشاى جارنا القبطى ومشاركتى مع عائلته فى تفتيش أوراقه ومرة أخرى وبعد وفاة والدى نفسه وعودتى من أبوظبى لتفتيش أوراقه. لاأعرف كيف مرت سنوات الطفولة كما مر باقى العمر بعدها ولاأعرف كيف إننى مازلت أذكر بعض مارويته عنها هنا . أعرف فقط أنها كباقى العمر ، لن تعود ابداً.
-------------

ملحوظة/موضوع صورة السيد آمنة /سنة 1960م ومصاحبتها لى طوال حياتى حتى جاكرتا وقرار إعدام الصورة بعد أن صاحبتنى لأكثر من ستين عاماً دون أن أعرف من تكون صاحبتها بالتحديد؟
-حادث وفاة محمد الرشيدى فى منزلنا
-لم تكن أم بسيونى تعرف من وسائل التسلية سوى الإستماع إلى تمثيليات إذاعة الإسكندرية ولم تكن تعرف من المطربين سوى المطربين السكندريين الشهيريين ، بدرية السيد وعزت عوض الله وإبراهيم عبدالشفيع ----- تراجع تواريخ عملهم بإذاعة إسكندرية









2- سنوات الإبتدائى
من الصعب ان نضع حدودا وفواصل لحياتنا ولكن من المؤكد أننا ننتقل خلال سنوات المدرسة الإبتدائية من الطفولة إلى الصبا . كان عمرى ست سنوات عندما دخلت المدرسة الإبتدائية لكننى لاأذكر شئ من أحداث الأيام الأولى . كان إسم المدرسة مدرسة باكوس المشتركة وتقع مقابل محطة ترام صفر مباشرة ولذا فقد كنا نذهب إليها سيرا على الأقدام ولعل هذه المدرسة مازلت فى مكانها تحمل نفس الإسم حتى اليوم. قضيت السنوات الأربع الأولى فيها ثم إنتقلنا بعد ذلك إلى مدرسة أخرى فى حى شدس القريب، تسمى مدرسة عمر بن الخطاب المشتركة لعلها مازلت هناك حتى اليوم أيضا. أذكر أننى كنت أذهب إلى مدرسة باكوس سيرا على الأقدام أرتدى الزى المدرسى لذلك الزمن مريلة بيج تميل إلى الإصفرار تشبه الأوفرول وأحمل شنطتى على ظهرى أوأجرها ورائى على الأرض أحيانا أخرى. كنت أعبر سوق السمك مرورا إلى حى صفروأحيانا كنت أسلك طريق الهضبة المرتفعة القائمة مقابل السوق على الضفة الأخرى لشارع الفتح والتى كانت مهجورة فى ذلك الزمن لايوجد بها سوى كثبان من الرمال وصخور وأكوام من القمامة وسور حديقة كبيرة لفيلا كان يسكنها أسرة مصرية من أصول يونانية كان مدخلها من شارع رياض بجوارمنزل زعبلة غريمى ورئيس العصابة المنافسة والذى أصاب عيناى بكيس ضخم من الرمال كاد أن يذهب ببصرى فى حادث لايمكن لى أن أنساه ولا أن أحدد تاريخه .
لاأذكر إسم ناظر المدرسة ولكنى أذكر زملائى صلاح فهمى وصبحى وقد إنتقلا معى إلى مدرسة عمربن الخطاب بعد ذلك أما باقى الأسماء أحمد سعد ونبيل عبدالنور وأحمد فهيم وحسن الرشيدى ووديع القصير النحيل و منصورة ومنيرة وسهير ومديحة وسهام فلاأتذكر إذا كانوا زملائى منذ البداية فى مدرسة باكوس أما إننى قد إلتقيت بهم بعد ذلك فى مدرسة عمربن الخطاب ولكن هذه هى كل الأسماء التى أذكرها من زملاء المدرسة الإبتدائية. ومن أساتذتى أذكربشل خاص أبلة زينب الجميلة. كانت مدرسة رقيقة رائعة الجمال وأذكرأن أبى قد زارنى مرة ليسأل عنى وقد أجابته أبلة زينب بأن عبدالجواد ممتاز. وقد كنا نحبها ونعشق جمالها حتى ونحن فى تلك المرحلة المبكرة جدا من الحياة. لم تكن تتحرج منا وأذكر أنها أحيانا وقبل إنتهاء الحصة وعندما كانت تتأهب للخروج كانت تخرج مرايا صغيرة من شنطتها كعادة النساء لتنظرفيها وأحيانا كانت تميل على المقعد لترفع جواربها الطويلة إلى فخذيها دون أن تدرك أننا نراقبها ونستمتع برؤية فخذيها الممتلئين الرائعيين. أذكر أن أبلة زينب لم تنتقل معنا إلى مدرسة عمر بن الخطاب وأنها كانت أعز ذكرياتى فى مدرسة باكوس وأذكر أن أم كلثوم قد غنت أغنيتها الخالدة إنت عمرى فى ذلك الزمن وأن أبلة زينب كانت تعشق تلك الأغنية ومازلت أتذكرها وهى تتحدث مع زميلاتها عنها. كانت أبلة زينب إمرأة جميلة من زمن جميل . كذلك كان إسمها إسما شائعا فى ذلك الزمن.
كان زميلى صلاح فهمى تجربة فريدة فى حياتى . كان صلاح فهمى يسكن فى سوق باكوس ليس بعيدا من شارع الفتح حيث كنا نسكن. لكنه كان مختلفا عن باقى أقرانه كان قصير القامة نحيف القوام لكنه شرس الخلق خبيث الطبع وكان كل الصغار يخافونه وأنا على رأسهم. كان يهددنا بموس صغير يحمله معه دائما إذا رفضنا إعطائه مامعنا من سندويتشات وكان يطلق على من لايحبه أسماء إستهزاء ويطلب من الآخرين ترديدها وراءه حتى يصيبه بالخوف والخجل. وبمرور الوقت بدأت تتكون لدى عقدة خوف من ذلك الشرير الصغير حتى أصبحت أكره كل المدرسة من أجله ولكن لاأعرف كيف تغير كل ذلك فجأة وكيف إنتصرت على خوفى منه وكيف أصبحت أنا الرئيس وأصبح هو التابع الذليل. ربماكان ذلك فى السنة الأخيرة فى مدرسة باكوس وكان قد آذانى فى ذلك اليوم وبينما كنت خائفا حائرا لاأدرى ماذا أفعل قابلت مصادفة أثناء فترة الفسحة تلميذ فى الصف السادس من أقارب عائلة الدياسطى جيراننا ولاأذكر إسمه الآن لكنى حكيت له عن صلاح وكيف أنه آذانى وشتمنى وهددنى بموسه الصغير فذهب معى على الفور إلى حيث كان يجلس صلاح فى ركن عند سور المدرسة وعندما نظرإليه صاح بى قائلا – هو ده إلى مخوفك وأخذ يسبه ويهدده وصلاح صامت لايرد وقد إستولى عليه الرعب وأنا مندهش حائر كيف تحول المرعب الصغير إلى مجرد حشرة صغيرة لاتملك من أمرها شئ وإنصرفنا بعد ذلك لكن المشهد علق فى ذهنى وتشجعت به وقررت تحدى صلاح ثم وبعد أيام قليلة من ذلك الحادث حاول صلاح تخويفى وإبتزازى مرة أخرى فتشجعت على الفور ودفعته فى صدره دفعة قوية فسقط على الأرض فأخذت أركله بقدمى حتى أخذ فى البكاء ونهض على قدميه وفر هاربا. لم تكن نتيجة ذلك الحادث مجرد تحررى من عقدة صلاح فهمى فقط ولكن النتيجة الأهم هى إننى ومنذ ذلك اليوم فصاعدا أصبحت زعيما لكل زملائى. وعلى هذا الحال إنتقلنا من مدرسة باكوس إلى مدرسة عمر بن الخطاب وأنا الرئيس وزملائى ومعهم صلاح تابعين مطيعين.
ذكريات كثيرة كانت تنتظرنا فى مدرسة عمربن الخطاب المشتركة والتى أصبحت أذهب إليها الآن راكبا الترام وليس مشيا على الأقدام كما كان الحال مع مدرسة باكوس القريبة. كانت إشتراكات الترام تسمى أبونيه وقد إستخرج لى أبى أبونيه درجة أولى فأصبحت أركب الترام درجة أول فى أى وقت أشاء وإلى أى مكان أشاء ففتح لى ذلك أبواب الإسكندرية على مصراعيها وربما مجالات أخرى من الفسحة واللعب واذكر إننى ذات يوم أجازة ولم أكن أجد ماأفعله فقررت ركوب الترام والفسحة قليلا ولم أغيرملابسى بل نزلت إلى الشارع بالبيجاما وإستقليت الترام لمجرد التسلية وأذكر أن الكمسرى قد تعجب منى ومن أبونيه الدرجة الأولى الذى كنت أحمله وتمتم قائلا وهو يتطلع إلى صورتى فى الأبونيه قائلا حتى درجة أولى أصبحوا يركبونها بالبيجامات؟.
كنت قد بلغت العاشرة وأصبحت أكثر قدرة على الإحساس والفهم وتمييز الأشياء. أتذكر مدخل مدرسة عمربن الخطاب. جديد نظيف يبعث على الإرتياح داخل حى شدس بعيدا عن محطة الترام تحيط به أيضا فيلل قديمة مثل معظم أحياء الإسكندرية فى ذلك الزمن بداخلها كثير من الفيلل الهادئة الحالمة. كان بعض من زملاء المدرسة من سكان هذه الفيلل مثل نبيل عبدالنور وحسن الرشيدى كما أذكر وبعضهم من سكان الأحياء الشعبية مثلى أنا وصلاح فهمى ومعظم الباقين من طبقات وسطى. كان ذلك زمن إشتراكية عبدالناصر التى مزجت طبقات الشعب المصرى مزجا عنيفا بدا ناجحا فى البداية ثم مالبث أن إنهار كل البنيان بسبب غياب الحرية، حرية هذه الطبقات نفسها فى إبداء رأيها فى حياتها ومقدراتها. بالطبع أدركت كل ذلك فيما بعد أما الآن فقد كنت سعيدا بإنتقالى إلى مدرستى الإبتدائية الجديدة التى بدأت أشعر فيها بتفوقى على زملائى وببروز نجمى بينهم. أذكر إسم ناظر المدرسة الأستاذ عبدالقوى القصاص وأسماء الأساتذة سميح وعبدالحميد ويوسف أخنوخ اللامع نائب الأستاذ عبدالقوى القصاص وصديقه اللدود وحمدى الطمبداوى قصير القامة وأبلة فايزة وأبلة سهير وآخرين غابت أسمائهم. كان لى مع معظمهم صداقات وذكريات بصفتى رئيس التلاميذ. كنت أقود طوابير الصباح فى تنظيم الصفوف وغناء النشيد الوطنى الذى أذكر أنه كان (ناصر كلنا بنحبك ناصر وحنفضل جنبك ناصر ياحبيب الكل ياناصر) وأذكر إننى نهرت أحد زملائى مرة بشكل غير لائق فنهرنى الأستاذ حمدى بشكل غير لائق أيضا مما أشعرنى بالخجل الشديد أمام زملائى فلم أكرر ذلك مرة أخرى.
أذكر أشياء كثيرة مبعثرة كالعادة لاأعرف متى حدثت فى الصف الرابع حيث بدأنا أم فى الصف السادس حين أنهينا المرحلة الإبتدائية ورحلناعن المدرسة. كان أبى فخورا جدا بأننى على وشك إنهاء المرحلة الإبتدائية وأذكر فرحه عندما حصلت على الشهادة الإبتدائية التى كانت تسمى بشهادة القبول الإعدادى وأذكر أنه فى حوالى تلك الأيام أيضا إنتهت معاناة أسرتنا الصغيرة المادية بإلتحاق أبى للعمل كطباخ بشركة الملاحة العربية وبدأ رحلة سفره والإبتعاد عنا لفترات طويلة. كان لذلك آثار عميقة على حياتى فقد بدأت أتحرر من فقر طفولتى حتى دون أن أشعر كما بدأت أحصل على قدر كبير من الحرية لم يكن متوفرا لكثير من زملائى فلم أعد خاضعا سوى لرقابة أم بسيونى والتى كانت تغفر لى فى العادة أى خطأ أفعله. كان أبى يزودنى بملابس جديدة متميزة فى كل رحلة يعود منها فبدت ملابسى أكثر تطورا حتى من ملابس زملائى ساكنى الفيلل كما بدت فى تناقض تام مع سكنى المتواضع وهكذا أصبحت كل شخصيتى بمرور الوقت وعندما عشقت القراءة وعرفت الحب أصبحت كأننى شابا أرستقراطيا منفيا فوق سطح أحد منازل الأحياء الشعبية. وهكذا أصبحت بالفعل حتى رحلت عن مصر فى بداية الثماننيات.
أذكر أنه فى تلك الأيام كانت المدرسة تزودنا بوجبة غذائية عبارة عن أرغفة من خبز دسم لذيذ مستدير كماكانت تعطينا أثناء دروس التربية الفنية كثير من قطع الصلصال والأقلام الملونة لننجز بها الدروس وكذلك فى حصص التربية الموسيقية كان هناك كثير من الآلات الموسيقية وأهمها الأكورديون أما فى حصص الألعاب فقد كنا نرتدى الملابس الرياضية ونلعب كرة القدم وكرة السلة وكرة الفولى وكان هناك مسابقات رياضية بين المدارس كنا نشارك بها. كان كل ذلك يبعث على السعادة. كانت حياتنا هانئة وكانت بلادنا تبدو كبلاد غنية متطورة. كنا نتصور أن بابا جمال هو أقوى رجل فى العالم ولم نكن نتصورأنه سيأتى يوما على هذه البلاد لايجد فيها أبنائها عملا أو مسكنا. كان كل ذلك بعيدا عن خيال طفولتنا تماما ففى خضم كل ذلك الرخاء كان ذلك يبدو مستحيلا.
لاأذكرأنه كان يوجد شئ من الصراع بيننا كنت قد أصبحت رئيسا غيرمنازع لزملائى وقد أيد معظم الأساتذة ذلك بسبب تفوقى الدراسى . ورغم إننى لم أكن كثير المذاكرة فقد كنت أحافظ دائما على مستوى فوق المتوسط وقد إعتبر أساتذتى ذلك - وفى كل مراحل تعليى تقريبا - تفوقا. ساعدنى التفوق الدراسى على تأكيد زعامتى فأصبحت أنا الذى أقود المعارك التى تنشب بيننا وبين المدارس الأخرى بعد الخروج من المدرسة والتى كانت الشوارع القريبة مسرحها، وكنت أنا الذى أتولى عقاب من يتخلف وأقرر من يلعب كرة القدم ومن لايلعب وهكذا. أتذكر أنه فى السنة الخامسة أو السادسة كان هناك فى كتاب القراءة قصة عن بطل مصرى أيام الإنجليز إسمه جواد حسنى كانت القصة مكتوبة بكلمات كبيرة أسفل صور مرسومة تصور قصة جواد حسنى وكيف قرر الإنخراط فى الكفاح ضد الإنجليز وكيف حصل على سلاحه وبدأ يهاجم معسكرات الإنجليز فى منطقة السويس بمفرده ويقتل الجنود الإنجليز حتى أصيب ذات يوم وتم أسره ووضعه فى زنزانة ينزف دما وكيف أنه كان يكتب بدمه على جدران الزنزانة كلمات الحب لبلده. علقت قصة جواد حسنى بخيالى وعشقتها كما عشقت قصة شيطان البحر وأفلام الأبطال فى السينما. فى تلك المرحلة المبكرة كنت أقرأ مجلات سمير وميكى التى أجدها فى منزل الحاجة صفية كما كان هناك مجلة أخرى كان بها قصص عن بطل آخر ربما كان إسمه شمشون يشبه سوبرمان العصر الحالى ،عن بطولاته وتفوقه على زملائه. وهكذا علقت قصص الأبطال بخيالى منذ الطفولة.
توزعت حياتى بين أصدقاء المدرسة وأصدقاء الحى وأبناء الحاجة صفية. كنت أقضى معظم النهار مع زملاء المدرسة وحتى نعود إلى منازلنا بعد رحلة تسكع طويلة بعد الخروج من المدرسة أو بعد معركة مع مدرسة من المدارس الأخرى. أما فى المساء فقد كنت أنزل إلى منزل الحاجة صفية للمذاكرة مع إبنتها الثانية سامية لإنها كانت فى مثل مرحلتى الدراسية وأحيانا كانت تصعد هى للمذاكرة معى وهكذا تلازمنا منذ البداية وهكذا أيضا أخذت أحاسيسى الجنسية تنمو نحوها فى مرحلة مبكرة جدا من حياتى. كان لدى كثير من الزميلات أذكر منهن منصورة ومنيرة وسهيرومديحة وكن قريبات منى أيضا بصفتى رئيس الفصل ورئيس المدرسة وأعتقد أنه حتى فى تلك المراحل المبكرة من الحياة ينشأ لدى الأطفال - من البنات والأولاد - نوع من المشاعر تجاه بعضهم البعض وأعتقد أن بعض من زميلاتى ربما مديحة أو سهير أو منيرة كانت تكن لى بعض من تلك المشاعر وأنهن كن يحاولن التقرب منى كثيرا اثناء لعبنا مع بعضنا البعض فى المدرسة لكننى كنت مشغول عنهما بسامية وبجسمها الممتلئ الدافئ. أصبح صلاح فهمى طفل نكرة لاقيمة له لكنه كان يجيد لعب كرة القدم فأصبح ذلك مجال تفوقه الوحيد فقد كان تلميذا بليدا وكنت أحيانا أغضب منه وألطمه على وجهه دون أن يستطيع الرد ولاأعرف لماذا كنت أفعل ذلك ولكنه كان يحدث لاإراديا ربما إنتقاما من سنوات الرعب التى سببها لى . وحتى هذه المرحلة لم أكن قد تعلمت بعد كيف أجمع زملاء المدرسة مع أصدقاء الحى لأصنع منهم شلة كبيرة أتفاخر بها فقد تعلمت ذلك فى المرحلة الإعدادية التالية أم حتى ذلك الوقت فقد ظل زملاء المدرسة فى المدرسة وأصدقاء الحى فى الحى.
لم يكن هناك ضيق أو كراهية من شهور الدراسة أوحب أكبر لشهور الأجازة كما يحدث لدى الأطفال فى العادة فقد كانت المدرسة مسرحا كبيرا للعب واللهو أيضا - وبإستثناء الأستاذ الخولى الذى - وفى حادث عارض لاأتذكر تفاصيله - ضربنى يوما بعصاه على قدميى فقد كنت صديقا لمعظم أساتذتى. أذكر أبلة سهير وقد إصطحبتنى يوما إلى منزلها فى كليوباترا والأستاذ سميح الريفى الطيب وكنا نزوره فى منزله بحى سيدى جابر والأ ستاذ عبدالحميد وقد ذهبنا معه أنا وصلاح فهمى للسباحة بشاطئ ستانلى بعد أن أحضر له أبى مايوه هدية من إحدى سفرياته بناء على طلبه أما أعز اساتذتى فقد كان الأستاذ يوسف أخنوخ أستاذى الطيب الحبيب والتى كانت شخصيته تشبه شخصية أبطال الأفلام والقصص الخالية.
كان الأستاذ يوسف أخنوخ نحيلا متوسط القامة رقيق الملامح يرتدى نظارة طبية وكان يرتدى البدلة فى معظم الأ حيان وخاصة نوع من البدلة كان يسمى بالبليزر عبارة عن جاكت كحلى وبنطلون رمادى أما فى الشهور الحارة فقد كان يرتدى البنطلون والقميص كمعظم الأساتذة الآخرين،.كان الأستاذ يوسف راهبا فى عمله خلوقا لطيفا لم يهين أو يضرب تلميذا ابدا وكان يشجع المتفوقين بشراء هدايا رمزية لهم من حسابه الخاص كأقلام أوكراسات أو ميداليات كان يدرس لنا مادة العلوم وكان يعتبرنى تلميذا متفوقا وكان يحبنى ويحترمنى ويقدرنى بين زملائى. والواقع أن جميع التلاميذ والمدرسين كانوا يحبون ويحترمون الأستاذ يوسف أخنوخ وخاصة صديقه اللدود الأستاذ عبدالقوى القصاص ناظر المدرسة. كان الأستاذ عبدالقوى رجلا ريفيا ولعله كان مدرسا للغة العربية قبل أن يصبح ناظرا. وبرغم إختلاف الديانة وطبيعة الثقافة فقد كان يعتبر الأستاذ يوسف أخنوخ أكفأ المدرسين وكان محل ثقته وإحترامه وكانا كثيرا مايختلفا حول شئون المدرسة وأمور التلاميذ وكانت خلافاتهما وصداقتهما محل تندر المدرسين الآخرين دائما لكن الأستاذ عبدالقوى القصاص ظل يثق بالأستاذ يوسف حتى النهاية وكان إذا غاب عن المدرسة لأى سبب من المدرسة - وبسبب عدم وجود وكيل رسمى للمدرسة - كان يجعل من الأستاذ يوسف نائبا عنه لحين عودته. ولم يكن أحد يرى فى ذلك مايدعو إلى الدهشة فقد كانت تلك هى مصر فى ذلك الزمن وبنفس الشكل الذى كان فيه عم عزيز بشاى ينوب عن والدى أثناء سفره إذا ماتطلب الأمر حضور أولياء الأمور فى بعض المناسبات فقد كان الأستاذ يوسف ينوب عن الأستاذ عبدالقوى إذا ماغاب أو تأخرعن المدرسة لأى الأسباب. لاأذكرإننى خرجت مع الأستاذ يوسف خارج المدرسة أو ذهبنا معا فى رحلة كما حدث مع كثير من المدرسين لكن علاقتنا كانت داخل المدرسة قوية حميمة وكان يتنبأ لى بمستقبل جيد وكان يثنى على ويشجعنى دائما ويشير إلى التلاميذ بكراستى دائما كنموذج لكراسة تلميذ متفوق كما كان يعطينى الكثير من هداياه الرمزية ولكن الغريب أن نهاية قصتى مع الأستاذ يوسف لم تكن نهاية سعيدة على الإطلاق. فبعد أن حصلت على شهادتى الإبتدائية وتخرجت من مدرسة عمر بن الخطاب المشتركة وإنتقلت إلى فى المرحلة الإعدادية وربما فى السنة الأولى منها حدث وقابلت الأستاذ يوسف مصادفة فى عربة الترام. كان يجلس بعيدا فى آخر العربة لكنه قد رآنى ورأيته إلا أنه لم ينادينى كما كنت أتوقع ولم أذهب إليه ربما كما كان يتوقع وهكذا أشاح كل منا بوجهه عن الآخر ومضى فى طريقه دون أن يسلم على الآخر وأن يستعيد ذكرى تلك السنوات الرائعة . ربما كان ذلك خطأى لإننى شعرت بالخجل من أستاذى وإنتظرت أن ينادينى وربماكان خطأ الأستاذ يوسف أيضا لإنه ربما قد تصور إننى تلميذ جاحد ناكر للجميل لإننى لم أجرى إليه وأقبل يديه كما يفعل كل تلميذ نجيب مع أستاذه ولكن الحقيقة هى إننى شعرت بالخجل وإرتبكت فيما أفعل حتى مر الوقت ونزل الأستاذ يوسف من الترام وإختفى عن ناظريى ولم أراه بعد ذلك أبدا لكننى ظللت أشعر بالندم- ولفترة طويلة - على أننى لم أبادر بالذهاب إليه.
أذكر أنه فى تلك السنوات ربما فى السنة الأخيرة من المرحلة الإبتدائية خلال فصل الصيف وأثناء تجولى مع أصدقائى رفعت وكمال على شاطئ جليم أو بعده بقليل وقبل وصولنا إلى شاطئ ستانلى إننى قد رأيت الرئيس جمال عبدالناصر للمرة الأولى والأخيرة فى حياتى. كان اليوم هو ذكرى ثورة 23 يوليو وكانت العادة فى تلك الأيام هى أن يزور الرئيس جمال عبدالناصرمدينة الإسكندرية ويقطع طريق الكورنيش فى موكب مهيب من قصرالمنتزه إلى قصر رأس التين وكانت الجماهيرة الغفيرة تصطف على طريق الكورنيش بشكل تلقائى لتحيته وفى ذلك اليوم كنا هناك - لآاتذكر بالمصادفة أو عمدا - لكننا عندما رأينا الحشود تصطف بجانب البحر إصططفنا معها ووقفنا ننتظر رؤية بابا جمال. أذكر ملابسى فى ذلك اليوم ربما لإننى كنت قد بدأت اشعر بمعنى التأنق أو إننى كنت قد بدأت أدلف إلى سن المراهقة بالفعل. كنت أرتدى بنطلون رمادى وقميص مقلم صناعة مصرية من المصنوعات الرائجة تلك الأيام. كان القميص ذا أزرار على جانبى الياقة وبجيوب على جانبى الصدر فقد كانت هذه هى الموضة تلك الأيام. كان معى صديقيى طفولتى رفعت رسمى وكمال خميس إبن الحاج خميس صاحب مطعم ألف وليلة الشهير فى باكوس فى ذلك الزمن. وقفنا نحبس أنفاسنا مع الجموع الحاشدة المتلهفة على رؤية الرجل الذى ملك عليها عقلها وقلبها. وسرعان ماتقدم الموكب مندفعا على الطريق وسط صراخ هستيرى من الجماهير. شعرت بقشعريرة تلف جسدى وكأن حمى إستولت على وأخذت أنا وصديقييى نهتف ونصرخ ونصفق بأيدينا أثناء مروره بدون إدراك لأى شئ حولنا. كانت لحظة رهيبة لم أنساها ولم أفهمها حتى اليوم. كان جمال عبدالناصر يرتدى بدلة زرقاء ونظارة شمسية سوداء وكان المشير عبدالحكيم عامر يقف بجواره فى السيارة المكشوفة وكأن أحد لايلاحظ وجوده فقد إستولى جمال عبدالناصر بشخصيته الآسرة على تلك الجموع المحتشدة إستيلاءً تاما. أخذنا نصرخ ونهتف لعدة ثوان بعد مرورالمواكب لكن الصراخ والهتاف إنتقل منا إلى الجموع المحتشدة بعدنا وظل مسموعا على طول الشاطئ لدقائق معدودة قبل أن يختفى الموكب تماما وتختفى معه أصوات الحشود الهادرة. لم تكن تلك هى ذكرياتى الوحيدة مع جمال عبدالناصر لكنها كانت المرة الوحيدة التى رأيته فيها.
إنقضت سنوات الدراسة الإبتدائية سريعا كعادة كل شئ فى الحياة وأذكر أنه فى السنوات الأخيرة منها كثيرا ما أصبحنا نعود إلى منازلنا سيرا على الأقدام نتسكع فى الطرقات أحيانا ونلعب كرة القدم أحيانا أخرى .كنا نعبر شريط الترام إلى الضفة الأخرى وندلف إلى زقاق غير مرصوف تتدلى منه أوراق أشجار كبيرة وفى نهايته كان تقع فيلا زميلنا حسن الرشيدى حيث كنا نقضى بعض الوقت نلعب الكرة فى الطريق المواجه لها . ثم نعود إلى منازلنا بعد أن يستبد بنا التعب. وفى مرات أخرى كنا نتوجه إلى فيلا زميلنا نبيل عبدالنور الواقعة فى طريق الحرية بالقرب من محطة ترام جاناكليس. كان نبيل قبطياً وكان والده محامياً كبيراً وكانت الفيلا التى يسكنونها ضخمة ذات حديقة فكنا نقتحم الحديقة بالكرة التى نحملها معا أينما ذهبنا ونبدأ فى الركل والجرى والصراخ دون نظام. أذكر اشجار قصيرة ذات ثمار سوداء كانت مزروعة على جانبى الحديقة الخاوية وسياج الخشب الذى كان يحمى تلك الأشجار وأذكر والدته الطيبة السمينة التى لم تنهرنا يوما لكنى لاأتذكر إننى رأيت يوما والده المحامى عبدالنور كما لم أتذكر أحد من إخوته. أما أكثر ماكان يلفت نظرى فى فيلتهم الواسعة وبعد الحديقة الخاوية التى كنا نلعب فيها الكرة فهو ذلك البيانو الأسود الكبير القابع بالدور الأول من الفيلا. كنت أقفز عليه كالمجنون وأبدأ فى عزف مقدمة أغنية أنت عمرى لأم كلثوم والتى لم أكن أعرف سواها، كما لاأتذكر من علمنى إياها ، كانت والدة نبيل تراقبنى فى هدوء شديد ولاأذكر أنها أبدت ضيقا منى يوما ما.
إنقضت تلك السنوات الساحرة وتخرجت وحصلت على شهادتى الإبتدائية وأذكر والدى وهو يخبر كل من يعرفه فرحا أن عبده قد حصل على شهادة القبول الإعدادى. وتفرقت عن زملاء الطفولة فلم يلتحق أحد منهم بنفس مدرسة عبدالعزيز جاويش الإعدادية التى إلتحقت بها. لم أسمع عنهم كثيرا بعد ذلك. فقط أخبار قليلة متفرقة خلال سنوات طويلة. أذكر إننى إلتقيت بصلاح مرة أومرتين بعد ذلك اثناء حياتى كلها. لم يكمل تعليمه الجامعى فقد حصل على دبلوم وإلتحق بالخدمة العسكرية وقد رأيته مرة’ ببدلة الخدمة العسكرية وكنت فى بداية المرحلة الجامعية. رأيته ينزل من ألأتوبيس فى شارع مصطفى كامل بينما كنت أمرهناك مع صديقى رفعت رسمى. وقد وبخته كالعادة ووقف صامتا كالعادة ولامنى صديقى رفعت على ذلك لكن يبدو أنه لم يكن يعرف قصتى القديمة معه. أذكرإننى قد إلتقيت بصبحى ذات مرة بعد ذلك بسنوات فأخبرنى أن منيرة قد ماتت فى الكويت عندماكانت تزور والدها الذى يعمل هناك. كانت منيرة سمراء جميلة ذات أنوثة ولكن يبدو أنها كانت مصابة بداء الربو منذ الصغر كانت ترتدى مريلة قصيرة دائما وكان الأستاذ عبدالحميد يؤنبها لذلك لكنها لم تمنتع أبدا عن إرتداء المريلة القصيرة وكانت إذا لعبت أو مالت تكشف عن ساقين ممتلئتين كنا نستمتع بمراقبتهما لكنها هكذا ودون أن يتوقع أحد ماتت فى بداية الحياة. وذات مرة رأيت سهام بعد سنوات طويلة أيضا وكانت تمشى ليلا كأنها فتاة مستهترة وقد سمعت فعلا أنها قد أصبحت كذلك . كان هؤلاء هم كل من قابلتهم أو سمعت عنهم بعض الأخبارأما الباقون و الناظر والمدرسين فلم أسمع عنهم شيئا أبدا بعد ذلك ولاأعرف كيف عاشواولا كيف ماتواوأصبحوا فى حياتى وبعد كل هذه الذكريات الطويلة مجرد زمن ضائع مثلهم مثل كل ذكريات الطفولة.
------------








3- سنوات الإعدادى
إلتحقت بمدرسة عبدالعزيز جاويش الإعدادية الكائنة فى الشارع الذى يربط حى صفر بطريق الحرية، والتى لم تزل فى مكانها حتى اليوم . لاأعرف لماذا تبدو تلك المرحلة باهتة فى حياتى وذكرياتى عنها شاحبة محدودة، ربما لإنها المرحلة الفاصلة الحقيقية بين عالمين مختلقين تماما، عالم الطفولة وعالم الشباب، حيث تتداخل المشاعر والأفكار وتبدأ شخوصنا الإنسانية فى التشكل والبحث لهاعن مكان ودور فى الحياة.
مازلت أستطيع أن أتلمس طريق الذكريات لأدرك أنه خلال تلك السنوات توارت مشاعر وهوايات الطفولة إلى الأبد وبدأت تحل محلها مشاعر وهوايات جديدة ففيها عرفت الحب مبكرا وحصلت على أصدقاء جدد ، قطعوا معى مسافات طويلة من الحياة قبل أن نفترق فى النهاية كعادة البشر. وترسخ عشق القراءة فى نفسى ،وبدأت أشعر بأحداث السياسة فشعرت بصدمة هزيمة 1967م وجريت فى الشوارع باكيا حزنا على تنازل بابا جمال عن الحكم.
كانت المدرسة قصرا كبيرا من قصور الماضى. ولعلها كانت من ممتلكات الشيخ عبدالعزيز جاويش بالفعل أو أن إسمه قد أطلق على المبنى تكريما لذكراه ، لاأعرف. لكن المبنى كان محدودا بالنسبة للمساحات الفارغة الفسيحة داخله والتى كنا نستخدمها كملاعب. كنا نستخدم المساحة الفارغة الكبيرة الواقعة فى مدخل المدرسة مباشرة كملعب كرة قدم أما إلى الداخل فقد كان هناك مساحة واسعة فارغة أخرى كنا نستخدمها كملعب كرة سلة أو فولى أحيانا. كان بالمدرسة سراديب ، كانت تستخدم كمخازن على عادة القصور القديمة، وكان لهذه السراديب مداخل متفرقة لكن إستكتشاف هذه السراديب لم يعد يستهوينا فى هذه المرحلة من العمر. كانت المساحات الواسعة الفارغة هى المناطق الأشد جذبا لنا حيث كنا نمارس لعبتنا المعشوقة، لعبة كرة القدم. كانت مسابقة الدورى التى يقودها وينظمها الأستاذ نوار أستاذ التربية الرياضية هى أحد أكبر معالم هذه المرحلة من حياتى. فهنا بلغ عشقى لكرة القدم ذراه. وهنا أيضا- وفى خلال هذه السنوات القليلة فقط - إنتهى هذا العشق إلى الأبد. كنت كابتن فريق فصلى المدرسى، ومازلت أحتفظ ببعض صورلى وفريقى بالملابس الرياضية التى تشبه ملابس النادى الأهلى ، الفانلة الحمراء والشورت الأبيض . كان مجدى سلام وقدرى ومحمد سامى هم اشهر أعضاء فريقى ، كان مجدى سلام لاعبا ماهرا وكان إبنا للبان شهير فى حى باكوس إسمه سلام، ولكن لم تربطنى به صداقة خاصة ولم ألتقى به أبدا بعد مغادرتنا للمدرسة، أما قدرى فكان لاعبا موهوبا وكان من حى صفر الشعبى وقد إشتهر بضربات رأسه القوية ،وقد إنقطعت صلتى به أيضاً بمجرد مغادرتنا المدرسة ، لكننى إلتقيت به مصادفة ذات مرة فى الترام أثناء سنوات الجامعة وكان قد إلتحى وإنضم إلى الجماعات الإسلامية ونسى مهارته القديمة فى لعبة كرة القدم. فسلم على على إستحياء وإفترقنا دون أن نتبادل كثير من الكلام وكأنه كان يعرف إننى لاأحب هذه اللحى أو ربما لإنه هونفسه لم يعد يحب غير الملتحين، أما محمد سامى فقد كان متوسط المستوى فى لعب الكرة، لكنه طويلا قوى البنيان وكان يحب كرة القدم ويشغل مراكز الدفاع، وقد كان ضمن المجموعة الصغيرة من زملاء المرحلة الإعدادية التى ربطتنى بهم صداقة خاصة ، سامى وعادل وهشام ، وقمت بضمهم فيما بعد إلى مجموعة أصدقاء الحى، رفعت وكمال وحسين، وقد دامت صداقتى به حتى المرحلة الجامعية حيث إفترقنا هناك. وكما كان متوسط المستوى فى كرة القدم فقد كان متوسط المستوى فى كل شئ فلم يكن صاحب فكر أو توجه من أى نوع ، كان مثل الماء، بلا طعم أو لون أو رائحة ،ولاأعرف ماذا فعلت به الحياة بعد تخرجه من الجامعة. أما أنا فقد كنت أحب اللعب فى خط الوسط ولم أكن أمهرهم على الإطلاق ولكننى كنت قائدا لزملائى فى كل مراحل الدراسة، وذلك قبل أن ينطفأ نجمى على غير توقع فى المرحلة الجامعية، فكان من الطبيعى أن أكون كابتن الفريق. وبضربة عشوائية من ساق كابتن الفريق ، أصابت المرمى ، وفى المباراة النهائية على مسابقة دورى المدرسة فى السنة الأولى او الثانية ، فاز فصلنا ببطولة الدورى لهذا العام، ثم وعلى غير توقع، بدأت كرة القدم تتوارى من حياتى بعد ذلك النصر سريعا حتى إختفت تماما مع بداية المرحلة الثانوية.
كان هناك هواية أثيرة أخرى من هوايات الصبا ، قد توارت إلى الأبد خلال تلك المرحلة من عمرى، كانت تلك هى هواية صيد السمك. لاأعرف كيف بدأت ولا متى بالتحديد قد نشأت هذه الهواية ، لكنها كانت هواية شائعة فى ذلك الزمن، بين الصغار والكبار، وكان زحف هواة الصيد القادمين من حى باكوس إلى شاطئ جليم عند الفجر ظاهرة يومية، ولم يكن ذلك قاصراً على باكوس وجليم ، فقد كان فجر الإسكندرية فى الستينات صفوفاً من الصيادين على كل الشواطئ. كان سمير، الأخ الأكبر لصديقى رفعت رسمى، صياداًً ماهراً ، وذلك بحكم نشأته الأولى بحى جليم ، ولذا فقد كنا نتبعه هو وأصدقائه فى البداية ، حتى تعلمنا بعد ذلك أن نذهب بمفردنا ، أنا ورفعت وكمال. كانت الشواطئ فسيحة تمتلئ بكثير من الأسماك ، قبل أن تهدمها يد العمران ، أسماك مختلفة الأحجام والأنواع ، وكان للجميع نصيب منها ، الصغار والكبار، الهواة والمحترفون. كان هناك محل صغير فى شارع عمر طوسون، الواقع بين حى باكوس وحى جليم ، والذى كان يعرف أيضاً ، بشارع الإذاعة ، كان يبيع كل مستلزمات الصيد من الأدوات ، حتى طعم الصيد، فكنا نصحو عند الفجر ونتوجه إلى شارع عمر طوسون ونشترى من حسين صاحب المحل ما نحتاجه من شعر أو سنانير أو فلل وكمية الطعم التى نحتاجها من الجمبرى الصغير، ثم نتوجه إلى شاطئ جليم يحدونا الأمل بصيد وفير.كان الفجر جميلاً ساحراً وكان هواء البحر، وعندما يهب علينا ونحن نقترب من حى جليم، يخبرنا بإذا ماكان البحر هادئاً أم ثائراً. كانت أيام هدوء البحر أكثر متعة، حيث كانت فرص الصيد تبدو أكبر، وكذلك الإستمتاع بالسباحة، كما كانت تكشف قاعه الجميل ، الذى يبعث فى النفس شعوراً بالراحة والسعادة ، وذلك بعكس أيام ثورانه ، إذ كانت فرص الصيد فيها أقل، وكذلك فرص نزول البحر للسباحة ، ومع ذلك أذكرأن شباب حى جليم الأصليين ، ومنهم سمير أخو رفعت ، كانوا يرون عكس ذلك ، فقد كانوا ينتهزون فرص تلك الأيام التى يكون فيها البحر ثائراً، ليتحدوا راية التحذير السوداء ، التى تنهى عن نزول البحر ، وينزلون بالفعل، ويتوجهون إلى الجزيرة الكبيرة ، ومنها يسبحون ذهاباً وإياباً إلى شاطئ سان إستفانو القريب ، فى خضم هدير الأمواج المرتفعة. كانوا سباحين مهرة ، وقد نشأوا على حب البحر والمخاطرة بالسباحة فيه فى الأيام الصعبة ، وكنا نراقبهم بإهتمام وإعجاب أثناء سباحتهم الخطرة ، التى كانت تشعل الشاطئ إثارة ، لكننا لم نجرؤ على أن نفعل مثلهم أبداً.
كانت أسعد اللحظات تلك هى التى تلتقط فيها الصنارة سمكة، كان هناك صيادون مهرة يلتقطون سمكة مع كل رمية ، ولكن حتى صغار الصيادين أمثالنا ، كان لهم أيضا نصيب من لحظات الفرح الغامرة ، التى يبعثها إلتقاط سمكة. كان هناك أسماك مشهورة ، مثل الميرمار والدنيس والشرغوش والكحلة والموزة والبطاطا، وكان للموزة والبطاطا مواسم تهاجم فيها الشواطئ بأعداد غفيرة، وكانت سمكة البطاطا تتميز بلونها البنى المائل إلى السواد وبقدرتها على شد السنارة لدرجة تجعلك تتصور أنك قد إلتقطت سمكة ضخمة ، ثم تكتشف فى النهاية أنها مجرد سمكة صغيرة. أما سمك الموزة فكان يهاجم الشواطئ بأعداد غفيرة فى فصل الصيف وكان سمكا أصفر اللون، رفيع مستطيل ، يعلق بالصنانير بسهولة وكثيراً ماكان يعلق بأكثر من صنارة فى الرمية الواحدة. كان سمكاً ساذجاً وكان حظ الجميع معه حسناً . كان الدنيس هو أحب الأسماك إلى قلبى ، لاأعرف لماذا ، كان يقترب من الشواطئ عند الفجر ثم يهرب إلى الأعماق عندما تبدأ الشمس فى الشروق مثله مثل معظم الأسماك. وأذكر إننى ذات مرة قد حصلت على كمية كبيرة منه من شاطئ البحر الصغير، تجاوزت الثمانى سمكات، وكانت تلك أكبر كمية سمك نجحت فى إصطيادها فى حياتى ، وذات مرة وبشكل مشابه ، حصل صديقى كمال على كمية كبيرة من سمك البطاطا، لكن تلك المصادفات السعيدة ، ظلت مجرد مصادفات ، فلم ينجح ثلاثتنا أبداً ، أنا ورفعت وكمال ، فى أن نكون صيادين مهرة ، ظللنا هكذا منذ البداية وحتى النهاية ، مجرد هواة. كان هناك نوع آخر من الأسماك إسمه الصرب ، كان أشهر الأسماك ، حيث كان ضخم الحجم بالنسبة لباقى الأسماك ، ذا لون أبيض يميل إلى الصفار، وكان يحتاج إلى مهارة خاصة لإصطياده ، فلم يكن يقترب من الشواطئ فى العادة ، كباقى الأسماك ، فكان يجب إصطياده من الجزيرة الصغيرة أو الكبيرة وكان له ُطعم خاص، يتكون من أعشاب البحر ذاته ، وله صنارة خاصة ، فكان إصطياده من نصيب الكبار فقط. ظللت أحلم طوال فترة عشقى للصيد بصيد سمكة صرب واحدة ، لكن ذلك الحلم لم يتحقق أبدا. كانت أتعس اللحظات عندما تعلق سمكة بالصنارة ثم وعندما تبدأ فى محاولة إخراجها تفلت منك وتهرب فى البحر. كانت لحظات ندم تخيم على باقى اليوم، تجعلك تظل تفكر كيف ياترى كان حجم ونوع تلك السمكة ؟
وأحيانا كنا، وعندما لايحالفنا الحظ فى شاطئ جليم، نتوجه إلى الشواطئ القريبة ، سواء إلى شاطئ الخربان المجاور، أو إلى شاطئ سان إستفانو، وهناك كنا نجرب حظنا مرة أخرى، ولكن البحر كان واحداً فى معظم الأحيان، فإذا كان كريماً فى أحد شواطئه فإنه فى العادة يكون كريماً فى باقى الشواطئ، وإذا بخل على شاطئ فإنه فى العادة كان يبخل على باقى الشواطئ. وهكذا كان إنتقالنا من شاطئ إلى شاطئ يدل على أن يوم الصيد قد فشل. وكنا إذا فشلنا فى الصيد ، نلقى بعصا الصيد على الرمال ، ونقضى باقى اليوم فى اللعب والسباحة ، أما فى حالة نجاحنا فى الحصول على صيد وفير، كما كنا نراه ، فكنا نعود به إلى منازلنا مبكرين، فرحين بصيدنا الوفير، وأحيانا كنا نحمل كمية أسماكنا كلها إلى أم بسيونى لتعده لنا ، ونجلس جميعا لتناوله مستمتعين بطعمه الطازج اللذيد، وبشعورنا الفخور أمام أم بسيونى بأننا قد أصبحنا صيادين ، مثل شباب الحى الكبار. وهكذا ففى هذه السنوات من عمرى، وصل عشقى لصيد السمك ذراه، ثم خفت وإختفى مع بداية المرحلة الثانوية ، لكن ذكراه ظلت حية فى نفسى حتى اليوم ، أسترجعها كلما رغبت فى لحظة راحة من هموم الحياة!!!
لم تكن صورتى فى هذه المرحلة من العمر قاطعة ،كما كانت فى المرحلة الإبتدائية أوالمرحلة الثانوية بعد ذلك . كانت تبدو خليطا من كل شئ، بين التلميذ المستهتر، والتلميذ المتفوق وبين المشاغب وبين الطيب ، ولذلك فقد كنت عرضة لجميع الإنطباعات وجميع أنواع المكافأة والعقاب. كان الضرب ظاهرة شائعة فى المدارس فى هذه الأيام ، ولعله مازال كذلك حتى اليوم وأذكر أننى تعرضت لحادثى ضرب شديدى الخطورة فى مدرسة عبدالعزيز جاويش الإعدادية. لاأذكر ايهما حدث قبل الآخر ولكن ربما حدث الأول منهم على يد مدرس للغة الإنجليزية إسمه سيد عبدالغنى ، كان مدرسى لسنة واحدة فقط ، ربما الأولى أو الثانية ،كان ضخم الجثة ، سادياً بطبعه يميل إلى إيذاء التلاميذ وإهانتهم وربما حتى إستفزاز زملائه المدرسين ، ومن الغريب أنه قد قام بهذا الهجوم الوحشى على بعد السنة التى كان يدرس لى فيها. كانت الواقعة مجرد مصادفة ولم يكن هو طرفا فيها من الأساس. أتذكر أنه ذات يوم وبعد خروجنا من المدرسة وفى الشارع المؤدى إلى محطة ترام صفر نشبت بين فصلنا وبعض تلاميذ فصل آخر معركة صغيرة ، وكان هو مارا بالمصادفة لكننا لم نتوقف عن الشجار، ويبدو أنه قد إعتبر ذلك علامة على عدم الإحترام وحملنى وحدى نتيجة ذلك. وفى اليوم التالى فوجئت به يقتحم الفصل وينتزعنى من بين التلاميذ ويجرنى جراً إلى الصالة القريبة من مكتب ناظر المدرسة فى الدور الثانى ويسند ظهرى إلى الجدار ويأخذ فى صفعى وركلى بلا هوادة أو رحمة حتى كاد يغمى على ، لولا تدخل الأستاذ الخراشى ، أستاذ مادة التربية الفنية ، الذى إنتزعنى من بين يديه إنتزاعا قبل أن يزهق روحى. كان سيد عبدالغنى من شرار المدرسين الذين رأيتهم فى حياتى، ولعله يرقد مستريحا فى نيران جهنم الآن.
أما الحادث الثانى فقد كان أشد قسوة وخطورة ، وقد قام به الأستاذ حسين عبد الباسط ، مدرس اللغة العربية ، الذى اصبح أحد كبارأساتذة اللغة الفارسية بكلية آداب الإسكندرية فيما بعد. كان حسين عبدالباسط ريفيا خشنا ذو أسنان بارزة وملامح غريبة وكان محل سخرية التلاميذ بسبب نمط حياته وشخصيته الغريبة ، لكن قدر القسوة الذى أظهره يوم ضربى كان مفاجأة للجميع ، لدرجة جعلت ناظر المدرسة ، يستدعيه ويوبخه توبيخا شديدا. كانت الحادثة مباشرة هذه المرة. ففى أحد حصص الأستاذ حسين كنت أضحك وأتكلم مع صديقى عادل دون إنتباه إلى الدرس، فإستاء الأستاذ حسين ووبخنى وصمم على معاقبتى، وطلب منى الخروج للوقوف بجانب السبورة حتى يذهب لإحضار عصا. كان الفصل الدراسى يقع فى الدور الأول وكان به نافذة مفتوحة على الفناء مباشرة ، فقررت الهرب وبالفعل أخذت حقيبتى المدرسية وقفزت من النافذة وعدت إلى المنزل ، وعندما عاد الأستاذ حسين بعصاه ولم يجدنى سأل باقى التلاميذ ، أين هو؟ فأجابوه وهم ينفجرون ضحكا ،هرب . أسرها الأستاذ حسين فى نفسه ، كما فعل الأستاذ سيد عبد الغنى تماما، وفى اليوم التالى مباشرة ، حضر إلى الفصل كالوحش الهائج وإنتزعنى من بين التلاميذ وجرنى إلى مقدمة الفصل بجوار السبورة وإنهال على بعصاه كالمجنون حتى أحدث فى وجهى وجسدى جروحا جعلت التلاميذ يصرخون ويستنجدون فسمع بعض المدرسين صراخهم فدخلوا الفصل وإنتزعونى من بين يديه وحملونى إلى غرفة ناظر المدرسة ، وكان رجل قصير أعرج نسيت إسمه، وكان لايحبنى بدوره ويعتقد إننى تلميذ مشاغب ، لكنه فًزع إزاء الحالة المزرية التى وجدنى عليها، وإستدعى الأستاذ حسين وأخذ يوبخه توبيخا شديدا أمام باقى المدرسين ، ولعله لم يفعل ذلك عن قناعة لكنه أدرك خطورة الموقف فأى اسرة ماكانت لتقبل أن يضُرب إبنها هكذا وكان لابد أن يتحول الأمر إلى قضية ، ولكن أى اسرة كانت لى ، سوى أب على سفر دائم ، وزوجة أب بسيطة ماكان يمكن لى أن أقحمها فى هذا الأمر ، ولذلك فقد كذبت على أم بسيونى بعد عودتى إلى المنزل ، فعندما سألتنى عن الخدوش التى يمتلئ بها وجهى قلت لها ، تشاجرت مع بعض زملائ، فأخذت توبخنى بدورها.
لم تنتهى قصتى مع الأستاذ حسين عبدالباسط عند هذا التاريخ. كان الأستاذ حسين يحضر لنيل درجة الماجستير فى اللغة الفارسية عندما كان مدرسا لنا فى مدرسة عبدالعزيز جاويش الإعدادية ولم نكن نفهم ماذا يعنى ذلك فى تلك المرحلة من عمرنا. كان يحمل دائما كتبا صغيرة فى اللغة الفارسية، وكنا نتعجب كيف يمكن لمثل هذه الكتب الصغيرة أن تكون موضوعا لمثل هذه الدرجات العلمية الكبيرة ، ولكن هذاهو ماحدث ، فبعد سنوات طويلة على هذه الأحداث وبعد هجرتى عن مصر وعودتى إليها للدراسة مرة أخرى فى كلية آداب الإسكندرية للحصول على درجة دبلوم الدراسات العليا فى الترجمة سنة 2000م قابلت الأستاذ حسين عبدالباسط مصادفة فى الكلية وكان قد أصبح أحد أعمدة قسم اللغات الشرقية فيها. كان لقاءً غريبا كاد أن يجلب على غضب الدكتور جبر أستاذ مادة النحو العربى ، أصعب وأهم مواد دراستنا فى السنة الدراسية الأولى من دبلوم الترجمة. ففى ذات يوم وبينما كنت أدخل إلى مكتب الأساتذة ، بحثا عن الدكتور صالح اليازى ، أستاذ الأدب العربى ، دمث الخلق، خفيف الظل ، المتواضع، رحمه الله ، والذى كان يدرس لنا مادة التذوق الأدبى فى السنة الدراسية الأولى، وكنا قد أصبحنا أصدقاء ، وجدت الدكتور جبر جالسا معه ، والدكتور حسين عبدالباسط خارجا من المكتب. لاأعرف كيف تذكرنى وتذكرته بعد كل هذه السنين الطويلة، لكنه توقف عندما رآنى وسلم على وسألنى ماذا تفعل هنا؟ فقلت له أدرس للحصول على درجة دبلوم الترجمة، فقال لى، بالتوفيق إنشاء الله وإذا إحتجت إلى شئ فأنا موجو، وكأنه كان يعتذر عما ألحقه بى من أذى يوم ما. إنتهى اللقاء سريعا ودخلت لمقابلة الدكتور صالح وإذا بالدكتور جبر يسألنى غاضب، من أين تعرف هذا الإنسان ، فقلت له ، كان أستاذى فى المرحلة الإعدادية، فإستشاط غضبا عندما سمع كلمة أستاذى وقال لى ، إنه لايصلح لإن يكون أستاذ أحد ، وكان جبر، قاسى الطباع بدوره، لايختلف كثيراً عن حسين ، ويبدو أنه كان بينهما خلافا كبيراً لاسبيل إلى إصلاحه ، فبدا غاضبا منى وتصور إننى على تواصل دائم معه، لكن الدكتور صالح تدخل بخفة ظله المعروفة وأنقذ الموقف وقال للدكتور جبر ، الرجل مايعرفهوش ياجبر، كان مجرد مدرس له فى الإعدادى، وإنتهى الأمر عند هذا الحد. وبعد ذلك شرح لى الدكتور صالح عمق الخلاف بينهما ، ومدى كراهية جبر لحسين ، لدرجة أنه قد وصفه مرة أمام جمع من الأساتذة( بأعمى القلب ، أعمى البصيرة) وبنفس روحه الطيبة قال لى ، أتعجب من قدرتهما على اللد فى الخصومة، ونصحنى بالإبتعاد عنه حتى لاأجلب على نفسى غضب جبر، فحكيت له قصتى القديمة معه فإستغرق فى الضحك وهو يقول، هذه هى خير تزكية لك عند جبر. وهكذا ظل الأستاذ حسين عبدالباسط قبيحا فى كل مراحل حياته وحتى بعد أن أصبح أحد كبار أساتذة اللغة الفارسية فى مصر . ولم ألتق به بعد ذلك أبداً.
بالطبع كان هناك بعض الذكريات الجميلة مع بعض المدرسين. كان هناك الأستاذ أحمد عبدالفتاح مدرس اللغة الإنجليزية الأرستقراطى النشأة ، وأذكر أنه قد مرض يوما وتغيب عن المدرسة لفترة ففكرت فى زيارته أنا وصديقى عادل وبالفعل قمنا بزيارته وحملنا له بعض تفاح أمريكانى كان والدى قد أحضره معه من سفره، وكانت تلك الفواكه تبدو من الأشياء النادرة فى ذلك الوقت، فإستقبلنا إستقبالا حسنا وقبل الهدية. وكذلك كان هناك الأستاذ سامى مدرس العلوم والأستاذ محمد مدرس الجغرافيا ، والأستاذ الخراشى أستاذ الرسم الذى انقذنى من يدى سيد عبدالغنى، والأستاذ أحمد على أستاذ اللغة العربية ، وأستاذ الموسيقى الذى نسيت إسمه وعم سيد الفراش الذى كان يحجز لى سندويتشات الفلافل يوميا وآخرين نسيت أسمائهم ، كانوا جميعاً شخصيات طيبة لاأذكر أنهم قد آذوا يوماً أحد من التلاميذ.
كانت الأيام تمضى وتتسع يوما بعد يوم. وتحمل معها أحداث وتحولات كبرى فى حياتى . وكما إختفت قصص حب قديمة ظهرت فى أفق حياتى قصص حب جديدة ، كان عشق رفيقة طفولتى سامية أكبرها وأحلاها ، ولكن عشق القراءة كان أهمها بلا شك . كنت منذ طفولتى قد عشقت قراءة مجلات ميكى وسمير الشهيرة فى ذلك الزمن ، ولكن وفى هذه المرحلة من عمرى أخذ هذا العشق بعدا أكبر فإنتقلت فى لحظة من الزمن لايمكن أن أحددها من قراءة قصص الأطفال إلى قراءة قصص الكبار، والتى شغلت حيزاً كبيراً من حياتى بعد ذلك إستمر إلى سنوات الجامعة. كانت رواية ماجدولين التى ترجمها مصطفى لطفى المنفلوطى من أولى الروايات الرومانسية التى قرأتها فى حياتى . كانت القصة مشهورة على نطاق واسع فى ذلك الزمن ، وقد قرأتها عدة مرات، وربما كان لهذه الرواية المبكرة تأثيرا كبيرا على وجدانى فبدأت اشعر بالرغبة فى الحب منذ مرحلة مبكرة من حياتى أوربما ان هذا قد حدث بسبب كونى إبناً وحيداً، وكنت أحتاج إلى الحب أكثر من الآخرين. مضت رحلة القراءة سريعة من رواية إلى رواية ، قرأت كل ماكتبه كبار كتابنا من نجيب محفوظ، فإحسان عبدالقدوس، فيوسف السباعى، وفتحى غانم ومحمد عبدالحليم عبدالله وأمين يوسف غراب ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وحتى روايات طه حسين ويحيى حقى القليلة قرأت كل ماوقعت عليه عيناى من روايات ، وخاصة الروايات المترجمة التى عشقتها حتى أكثر من الروايات العربية وكنت أشتريها أحيانا من كشك خميس بائع الجرائد الواقع على محطة ترام باكوس أو أستعيرها من مكتبة قصر ثقافة الحرية الضخمة التى كنت قد أصبحت عضوا مشتركا فيها منذ تلك السنوات المبكرة ، لا يمكن أن أحصى كم قرأت منها عشرات أم مئات ، لكنى مازلت أتذكر بعض العناوين، و شحبت النجوم ، ، جسر على نهر درينا، ، البؤساء ، العجوز والبحر ووداعا للسلاح ، مادام بوفارى، وروايتى المفضلة ، عبودية الإنسان لسومرست موم ، قرأتها فى مراحل عمرى المختلفة، مترجمة أولا ثم بنصها الإنجليزى الأصلى بعد ذلك، أكثر من مرة . وحتى الروايات الفلسفية كرواية الذباب لسارتر أذكر إننى قد إستعرتها من مكتبة قصر ثقافة الحرية يوما وقرأتها دون أن أفهم منها شيئا ، وأتذكر دهشة رجل كان يجلس بجوارى فى الترام عندما كنت عائدا من محطة الرمل ومعى الرواية بعدما لاحظ عنوان الرواية وإسم كاتبها وصغر سنى. لايمكن أن أتذكر كم قرأت من روايات ولاعناوينها ولا أسماء كتابها ولكن الأدب الروسى جاء فى نهاية المطاف ومع ختام رحلة عشق الروايات قرأت كل أعمال دستويسفكى التى ترجمها سامى الدروبى وذلك أثناء سنوات دراستى الجامعية.
كانت رحلة طويلة سيطر فيها عشق قراءة الأدب الروائى على عقلى وخيالى حتى أصبح أساتذتى يتنبأون بأن أكون كاتبا روائيا. أذكر الأستاذ أحمد على ، مدرسى فى الصف الثالث الإعدادى وهو يطلع مفتش اللغة العربية على كراسة الإنشاء الخاصة بى ويقول ل، إنظر حضرتك الموضوعات التى يعالجها، وبالفعل أتذكر نظرة الدهشة فى عيون المفتش وهو يطالع العناوين رغم أننى أنا نفسى لم أكن أعرف أهمية ماأكتب . أتذكر ايضا ، وبعد حصولى على الشهادة الإعدادية وإنتقالى إلى الصف الأول الثانوى بمدرسة الناصرية، تعليق الأستاذ زكى مدرس اللغة العربية الريفى الشاب دمث الخلق وهو يعلق أمام تلاميذ الفصل قائلا( تبدو على عبدالجواد مخايل الأدباء)، ولاأعرف لماذا ضحك التلاميذ آنذاك. ربما لإن إنطباع التلميذ المتمرد المشاغب كان مازال هو الإنطباع السائد حتى هذا الوقت. ومع ذلك فلم تتحقق نبؤة الأستاذ زكى ، فقد تداخل عشقى لقراءة الروايات مع عشقى لقراءة التاريخ الذى بدأ فى المرحلة الثانوية مع كتب الدكتور حسين فوزى سندباد مصرى وسندباد عصرى وبونابرت فى مصر لكريستوفر هارولد وترجمة فؤاد أندراوس حتى حسم الأمر فى النهاية لصالح التاريخ أثناء دراستى الجامعية.
كان العشق الكبير الثانى الذى ظهر فى أفق حياتى فى هذه المرحلة من عمرى هو عشق رفيقة طفولتى سامية والتى تحولت فجأة من مجرد طفلة إلى فتاة ذات صدر ناهد وأرداف ممتلئة وأنوثة صارخة جعلت منى شابا كبيرا قبل الأوان. لاأذكر متى بدأت الخطيئة الأولى، لكنها بدأت بقبلة خائفة مرتعشة عندما كنا نذاكرمعا. توالت بعدها قبلات الخطيئة اللذيدة التى أخذت تطغى تدريجيا على كل الأشياء الجميلة الأخرى فى الحياة حتى أصبحت هى كل الحياة. لم تعد لقائاتنا تلقائية بعد ذلك. أصبحنا ندبرها بعيدا عن العيون حيث يمكننا الإغتراف من هذا النعيم أكثر فأكثر. لم نكن قادرين بعد على مراجعة أنفسنا. لم يكن العقل قد بدأ فى طرح مشاكله الكبرى علينا بعد ، بحيث يجعلنا نسأل أنفسنا إذا ماكنا نفعله حلالا أم حراما. تـأجل هذا الصراع حتى المرحلة الثانوية عندما أصبح العقل قادرا على التساؤل والتفكيروالدخول فى صراع مع النفس. فحتى ذلك الوقت كانت الغريزة تتحرك تلقائيا وكان الجسد هو السيد المتحكم . كنت أنسى كل شئ ، أصدقائى والسينما وكرة القدم وصيد السمك لأعود مسرعا إلى المنزل لأجدها دائما فى إنتظارى فأصحبها إلى غرفتى بعيداعن أعين أم بسيونى أو إلى ركن قصى من أركان السطوح وأغترف من نعيم جسدها الدافئ الممتلئ بالرغبة.كانت فتاة من نوع خاص. خلقت لتعشق وتعُشق. لم تكن شديدة الجمال لكنها كانت أنثى بكل ما تعنى الكلمة وظلت هكذا حتى اللحظات الأخيرة من حياتها .كانت كريمة فى كل شئ، فى عطائها المادى وفى عطائها المعنوى . كانت تحب الناس وتعطف عليهم وتساعدهم فقد كانت إبنة تاجرميسور. أذكر أنها قد إشترت لى جيتار هدية فى المرحلة الثانوية عندما عشقت الموسيقى لفترة قصيرة من الزمن وعندما رفض أبى شراء الجيتار على أنه مضيعة للوقت ، قامت هى بشرائه وأهدته لى فى عيد ميلادى. وكذلك كانت كريمة فى الحب تمنح بغير حدود وبلاخوف أوتردد. كانت فتاة من نوع خاص للغاية، لاتستطيع أن تعيش بدون حب، وفى ذلك كانت تكمن فضيلتها أو خطيئتها، تبعاً للرؤى المختلفة التى يمكن أن نراها منها، وقد ملئت حياتى طوال فترة شبابى وعوضتنى عن غياب الأسرة والأقارب، وقدعاشت قصتنا طويلا حتى تخرجنا من الجامعة، لكنا فى هذه المرحلة المبكرة من العمر لم نكن قد جرؤنا بعد على الإبحار أبعد فى رحلة الخطيئة. حدث هذا فى المراحل التالية من العمر.
وكما شهدت تلك المرحلة من عمرى حادث الحب الأول فى حياتى فقد شهدت حادث حزن كبير فى حياة الوطن هو هزيمة حرب 1967م مع إسرائيل. لم أعى معنى الهزيمة تماما كما وعاها من هم أكبر منى سنا لكنى صدمت بها كما صدم جميع المصريين وبكيت معهم كما بكوا وخرجت معهم أصرخ بالدموع كى يبقى بابا جمال رئيسا لنا كما كان دائما.كانت صورة بابا جمال وهويعلن نبأ الهزيمة ونيته فى التنحى بصوت كسير وعينانان مغرورقتان بالدموع من أقسى لحظات الألم التى عرفتها فى حياتى.كان هذا الرجل قد إخترق كيان وروح كل المصريين واصبح أبا لهم جميعا بحيث أصبحنا لانرى فى الحياة ابا سواه. كان تصور أن سياسات بابا جمال هى التى أدت بنا إلى تلك الكارثة بعيدا حتى عن الخيال. كنت لاأفهم كيف يتجرأ بعض الشباب على نقد هذا الحاكم المعبود. كنت لاأتصور إننى سأعرف مع مضى العمر أن ماكان يقوله هؤلاء الشباب كان صحيحا. أذكر فقط الآن إننا إجتمعنا بالملايين من كل صوب وحدب من مدينة الإسكندرية فى ميدان المنشية أمام مبنى الإتحاد الإشتراكى فى ذلك الزمن نبكى ونصرخ طوال الليل حتى يعود بابا جمال ولم ننصرف إلا بعدما عاد.
فى العام التالى بدأت مظاهرات الطلبة عام 1968م إحتجاجا على الأحكام المخففة التى صدرت ضد قادة الجيوش التى وجهت إليهم تهمة التسبب فى الهزيمة. وظللت حتى هذا الوقت لاأفهم تماما مايحدث وماهو المقصود بثورة ذلك الشباب الغاضب ولابثورات شباب العالم التى إندلعت فى نفس الوقت أيضا. فطالما أن بابا جمال قد عاد رئيسا لنا كما كان فلابد أن كل شئ سيصبح على مايرام مرة أخرى؟. وعندما تجمهر طلبة مدرسة الناصرية الثانوية أمام مدرستنا الإعدادية يطالبوننا بالخروج للإنضمام إليهم فى المظاهرة وقفت مشدوهاً لاأفهم ماذا يحدث ولاكيف يمكن أن يكون مايحدث موجها ضد بابا جمال وضد قضاته، لقد لابد أن تمضى سنوات طويلة قبل أن يستطيع الصبى الصغير التحرر من البرمجة الشريرة التى تقوم بها الأنظمة الإستبدادية لعقول أبنائها فتجعلهم عميان!!!
وفى السنة التالية حصلت على شهادتى الإعدادية وتخرجت من مدرسة عبدالعزيز جاويش الإعداية وإلتحقت بمدرسة الناصرية الثانوية الكائنة بشارع رياض القريب والتى لاأعرف بماذا تسمى الآن، ومن مصادفات القدر أن لجنتى الإنتخابية فى الإنتخابات البرلمانية والرئاسية التى جرت بعد ثورة يناير2011م كانت فى مدرسة عبدالعزيز جاويش الإعدادية. لكن كل شئ كان قد إزدحم وتغيركما تغير كل شئ فى مصر ولم أشعر أبدا وأنا أدلى بصوتى داخل أحد فصول المدرسة إننى كنت يوما جزءً منها.














4- سنوات الثانوى
كانت مدرسة الناصرية من أكبر مدارس الإسكندرية فى ذلك الزمن. وكانت تقام فيها إحتفالات ثورة يوليو من كل عام حيث كان فريق الفتوة فى المدرسة يقوم بإستعراضات مبهرة فى هذه المناسبة . كنا نحضرها فى طفولتنا فتبهرنا القنابل والمتفجرات والحواجز وأعمال البطولة الوهمية التى كان يقوم بها أبطال الفتوة والذين لازلت أذكر إسم واحد منهم حتى اليوم. كان إسمه عاطف ولاأعرف لماذا كنت أرى فيه صورة البطل المصرى كما كنت أرى صورة جواد حسنى على كتبى المدرسية فى المرحلة الإبتدائية. لكن تلك الإحتفالات كانت قد إختفت تماماً عندما إلتحقنا بها بعد هزيمة 1967م.
كانت المدرسة تقع فى شارع رياض الواقع خلف حى باكوس، ومازلت فى مكانها حتى الآن لكن بإسم مختلف ، ربما تحولت إلى إسم مبارك وإالى أسماء أخرى بعده، تبعاً لأهواء السياسة . قضيت فيها سنة واحدة فقط فكانت ذكرياتى فيها عابرة أذكر من أحداثها القليل. لاأذكر أسماء المدرسين ولا الناظرولا حتى معظم الزملاء . أذكر فقط ألأستاذ زكى مدرس اللغة العربية الذى تنبأ لى بمستقبل أدبى واعد . وأذكر مرة جاء فيها أبى مذعوراً يخبرنى بأن أم بسيونى مريضة وأننا يجب أن نسرع لإحضار طبيب لها. لم يكن لدى أبى أقارب سواى ولم يكن لى أقارب سواه ولذا فقد كنا نتقارب فى مثل تلك اللحظات فقط. كانت حصة الأستاذ زكى وقد سمح لى بالإنصراف فورا وفى اليوم التالى سألنى برفق وكرم أخلاق عن صحة أمى .كانت تلك البدايات الأولى لمرض أم بسيونى والذى أخذ يتضاعف مع الأيام. أذكر أيضاً أن رئاسة الفصل وقيادة الطلبة لم تعد عشوائية كما كانت فى المراحل الدراسية السابقة ولكن من خلال إنتخابات كان يتم فيها إنتخاب رئيساً للفصل وأربعة أو ثلاثة رؤساء لجان مساعدين له ومن هؤلاء جميعا يتشكل إتحاد طلبة المدرسة. وأذكرأننى قد حصلت على رئاسة الفصل بالتزكية كالعادة ولكن فى إنتخابات إلإتحاد لم أحصل على أى صوت سوى صوتى فقط لإن ذلك كان يتطلب ترتيبات تتم بين رؤساء الفصول لم أكن قد عرفت عنها شيئاً بعد. وأذكر أن الذى فاز برئاسة الإتحاد فى تلك السنة كان طالباً إسمه سيد عباس لم يكن يتمتع بأى ميزة سوى بقوة الشخصية والنفاق.
وفى مدرسة الناصرية تعرفت على أصدقاء جدد هما طارق وعمرو الترجمان وكانا من أبناء المهاجرين من مدينة الإسماعيلية. كان أبوهما من موظفى هيئة قناة السويس وقد إضطرته ظروف حرب 1967م إلى الهجرة مع أسرته إلى الإسكندرية.كانا يتمتعان بمستوى إجتماعى مرتفع وكانوا أعضاء فى نادى سبورتنج، أرقى نادى إجتماعى فى مدينة الإسكندرية فى ذلك الزمن. وقد قمت بضمهما إلى شلة أصدقائى التى أخذت تتسع يوما بعد يوم ومعهم عرفت طريق الدخول إلى نادى سبورتنج وتعلمت لعبة التنس وعشقتها لفترة قصيرة من حياتى.
كانت الناصرية قد إزدحمت بالطلبة ، ولذا فقد تم تقسيم الدراسة فيها إلى فترتين، صباحية ومسائية ، ولعله فى تلك السنين فقط ، قد بدأ العمل بنظام الفترتين الدراسيتين فى مصر، وأذكر إننا كنا ضمن الفترة المسائية ، ونظرا للأعداد المتزايدة من الطلبة ، فقد تم نقلنا فى العام التالى مباشرة إلى مدرسة صغيرة ، إسمها الثغر الثانوية ، كانت قد بنيت حديثا فى حى ثروت مقابل مبنى المخابرات العامة . وفى تلك المدرسة قضيت الصف الثانى الثانوى، وعشت تجارب لايمكن أن تنسى أو تمحى من ذاكرتى أبداً. ففى بداية السنة التى إنتقلنا فيها إلى تلك المدرسة ، مات فجأة رئيسنا المحبوب، ومثلنا الأعلى بابا جمال عبدالناصر، فى نهاية شهر سبتمبر 1970م. نزل خبر وفاة جمال عبدالناصركالصاعقة على رؤوس المصريين والعرب والعالم . كان جمال عبدالناصر يترأس مؤتمر القمة العربى ، الذى عُقد فى القاهرة فى أواخر شهر سبتمبر1970 ، من أجل إيقاف القتال الضارى ، الناشب بين قوات المقاومة الفلسطينية المقيمة فى الأردن ، وبين قوات الجيش الأردنى. بذل جمال عبدالناصر جهوداً كبيرة ، لإقناع الملك حسين ملك الأردن ، وياسرعرفات ، رئيس منظمة فتح أكبر الفصائل الفلسطينية بالمصالحة ، وترتيب خروج القوات الفلسطينية من الأردن إلى لبنان. كان جمال عبدالناصر قد أصبح بطل القومية العربية وراعى القضية الفلسطينية دون منازع ، ولم يكن هناك غيره يستطيع أن يلعب هذا الدور. حضر معظم الملوك والرؤساء العرب ذلك المؤتمر، ومنهم الملك فيصل ملك السعودية ، وأمير الكويت الشيخ سالم الصباح. نجح جمال عبدالناصر فى مسعاه، وغادر الرؤساء والملوك القاهرة ، مبتهجين بهذا الإنجاز العربى الكبير. كان أمير الكويت هو آخر المغادرين ، وكان جمال عبدالناصر فى وداعه حتى سلم الطائرة. كان قد أنجز واجبه حتى اللحظات الأخيرة ، لكنه كان قد كلف نفسه فوق طاقته ، وضغط أكثر على صحته ، التى كانت فى تدهور سريع منذ هزيمة 1967م. فجأة خيم سكون عميق على مصر كلها ، بعد أن أخذت جميع الإذاعات المصرية تذيع آيات القرآن بشكل مستمر. إستولى القلق على شعب كامل ، وحبس الجميع أنفاسه فى إنتظار خبرمخيف. بعد ساعات قليلة خرج علينا صوت حزين هو صوت أنور السادات ، نائب الرئيس ، ليعلن للعالم نبأ وفاة جمال عبالناصر، وفى لحظة واحدة إنفجر الصراخ والعويل من كل بيوت مصر، وإتشحت مصر كلها بالحزن والسواد.
لاأعرف كيف سافرنا إلى القاهرة أنا وصديقي رفعت رسمى وعادل عباس للمشاركة فى جنازة بابا جمال ،كنا فى حوالى السادسة عشرة من عمرنا، وكانت تلك هى المرة الأولى التى أسافر فيها إلى القاهرة. أصدرت الحكومة قراراً بأن تصبح كل القطارات المتجهة إلى القاهرة مجاناً ، لتمكين الشعب المصرى من المشاركة فى تشييع رئيسه المعبود ، وقد خفف علينا ذلك القرار مصاريف السفر، لكننا كنا مستعدين للسفر حتى مشيا على الأقدام ، كنا واقعين تحت ضغط حزن هائل ، ولم نكن نعى مانفعل ، فقط أخبرنا أهالينا باكين بأننا ذاهبون لتوديع بابا جمال ، وإستقلينا أحد القطارات من محطة سيدى جابر ، مع آلاف من مواطنى الإسكندرية الزاحفين على القاهرة ، وهناك إلتقينا مع ملايين من البشر، جاءوا من كل أنحاء مصر والعالم العربى لتوديع ذلك الرجل الذى تمكن من قلوب كل هذه الملايين . قضينا ثلاثة أيام فى القاهرة ، نزلنا فيها فى أحد البنسيونات القديمة بشارع رمسيس ، حيث كان من المفترض أن تمر الجنازة. لم يكن لدينا بطاقات شخصية بعد ، وأذكر أن صاحب البنسيون قد أشفق علينا عندما لاحظ صغر أعمارنا ، وأدرك أننا جئنا من الإسكندرية للمشاركة فى توديع بطل كل المصريين ، فقبل أن يسكننا فى أحد غرف البنسيون بدون أى إثبات شخصية. كانت الدموع فى أعيننا خير إثبات شخصية. كنا نقضى النهار نتخبط فى كل طريق، نبكى مع أى جمع باكى ، وننوح مع أى جمع نائح. كانت هناك جموع كثيرة، جاءت من كل مكان فى العالم ، وكان هناك حتى عرب خليجيون باكين فى الشوارع ، فى إنتظار مرور الجنازة. لم يكن من الممكن أن نتصور آنذاك ، أننا سنصبح يوما عمالاً فى بلاد هؤلاء الضيوف الباكين فى الشوارع ، ولاكنا نتصور أننا سنثور يوما على هذا العشق الأعمى لجمال عبدالناصرصاحب كل هذا الحزن نفسه . كان هناك جموع من المدارس الثانوية، وجموع من طلبة الجامعات ، وجموع من العمال، وجموع مختلطة من كل الفئات والطبقات . وإنتشرت بين الجماهير أغنية حزينة ، لايعرف أحد حتى اليوم من ألفها ومن لحنها تقول ( الوداع ياجمال ياحبيب الملايين ، ثورتك ثورة كفاح عشتها طول السنين). كانت كل هذه الملايين تنشدها بالآهات والدموع . لاأعرف كيف مرت تلك الأيام الثلاثة ، ولاكيف سافرنا ولا كيف عدنا، أذكر فقط أننا برغم ماعانيناه من مشقة ، لم نستطع رؤية نعش بابا جمال أثناء مروره فى شارع رمسيس ، حيث كنا نسكن وكما كنا نتوقع. أذكر أن السلطات قررت فجأة، وخوفاً من تدافع الحشود الهائلة على النعش ، نقله بشكل سريع إلى مسجده فى مصر الجديدة، حيث تم دفنه. لاأتذكر إذا كان قد تم نقل النعش بطائرة أو بسيارة ، ولكن فى لحظة خطيرة أثناء الجنازة ، تم تغييركل خطة المسيرة، وإنتزع النعش من بين الجماهيرالحزينة ، ونقل مباشرة إلى مقبرته بمصر الجديدة. وهكذا ضاعت منا تلك اللحظة العزيزة، التى تكبدنا من أجلها كل تلك المشقة، وهى أن نلمس نعش بابا جمال بإيدينا. أذكر أيضاً أنه عند عودتنا كانت نقودنا قد نفذت، ولم يبقى معنا سوى ثمن طبق كشرى واحد، تقاسمنا ثلاثتنا أكله.
لم تكن تلك هى مظاهرتى الأخيرة من أجل بابا جمال، فبعد حوالى ثلاث سنوات على رحيله، دعى العقيد القذافى زعيم الثورة الليبية إلى مسيرة شعبية كبرى، يلتقى فيها الشعبان، الليبى والمصرى، فى مدينة السلوم المصرية، للضغط على أنور السادت، خليفة بابا جمال ، للإسراع بإتمام مشروع الوحدة المصرية الليبية ، التى كان العقيد القذافى يؤمن بها إيماناً لايقل عن إيمان بابا جمال نفسه ، لكن أنور السادات رفض الدعوة وإعتبرها ضغطاً غير مقبول ، لكن العقيد لم يستسلم ، وأرسل الجماهير الليبية إلى مدينة السلوم ، ودعى الجماهير المصرية للقائها هناك، وكالعادة إستبدت بى الحماسة ، وأقنعت ضحيتيى الدائمتين، رفعت وعادل ، بالسفرمعى إلى السلوم للقاء الجماهير الليبية هناك، وإستقلينا أحد القطارات المتجهة إلى مرسى مطروح من محطة سيدى جابر، متصورين أنه سيكون معنا آلاف المصريين ، كما حدث فى جنازة بابا جمال، لكن الأمر كان مختلفاً هذه المرة، فلم يكن هناك سوانا على علم بهذه المظاهرة فى ذلك القطار المتجه إلى مدينة مرسى مطروح ، والذى تم إيقافه فى مدينة الضبعة بأمر السلطات ، وإعادته إلى الإسكندرية مع غيره من القطارات ، خوفاً من تدافع الجماهير الليبية على مدينة مرسى مطروح. وهكذا عدنا إلى الإسكندرية محبطين ، بعد أن فشلت محاولتنا فى تأييد حلم الوحدة العربية ، الذىسخرله بابا جمال عمره، وذلك قبل أن يمضى الزمن وأدرك ، أن ذلك الحلم لم يكن سوى حلم زائف، ليس سوى ذريعة من تلك الذرائع ، التى يخلقها الديكتاتور، للسيطرة على حياة الناس!!!
وفى هذه السنة التى مات فيها جمال عبدالناصر حدث حادث من أغرب أحداث حياتى أيضاً ، فقد رسبت فى تلك السنة الدراسية، ولازلت حتى اليوم غير قادر على إيجاد التفسير المناسب لذلك فقد كنت قادراً دائما على النجاح بل والتفوق أيضا وبأقل مجهود دراسى ولكن لماذا رسبت تلك السنة؟ لاأعرف ؟. أكان مجرد تمرد منى ورغبة فى الرسوب وإثبات الذات بشكل سلبى هذه المرة، أم كان مجرد إستهتار أو غياب رعاية الأسرة، أو إنفجار سن المراهقة ووصوله إلى ذروته فى وقت مبكر كما بدأ وقت مبكر، ففى تلك السنة عشقت أشياء كثيرة ومارست هوايات كثيرة متداخلة متناقضة، ونسيت عشق القراءة الكبير للحظة قصيرة من حياتى، فقد عشقت لعبة التنس مع عمرو وطارق الترجمان او ربما عشقت دخول نادى سبورتنج بحجة لعب التنس لمجرد التمتع بالإنتماء لطبقة أعلى من الطبقة الشعبية التى كنت أنتمى إليها وفى نفس الوقت عشقت عزف الجيتار بتأثير صديق جديد إسمه شريف الإبراشى تعرفت عليه فى تلك المدرسة وقمت بضمه إلى شلة أصدقائى المتزايدة يوما بعد يوم وكما أثرت على شريف فقد أثر هو أيضاً على وكان يعشق الموسيقى الغربية والرقص والسهر فى كازينوهات المعمورة وكان يسكن بحى شدس وينتمى إلى الطبقة الوسطى من المجتمع ولكن جذوره كانت تعود إلى الطبقة الأرستقراطية التى ذابت وإنصهرت فى المجتمع خلال الحقبة الناصرية. وهكذا بدأت فى تلقى بعض الدروس الموسيقية على يد عازف إسمه طلعت الدهشان كان يسكن بحى جانكليس القريب وكان يلعب الجيتار مع فرقة موسيقية كانت تعمل فى كازينو مكسيم الشهير بالمعمورة فى ذلك الوقت، لكن ذلك لم يستمر طويلاً، كان كل ذلك يبدو كنزوات سريعة متتابعة ، ففى حدود نفس السنة أيضا عشقت التصوير الفوتوغرافى ، بتأثير صديق جديد آخر إسمه سمير حلمى ، لم تستمرعلاقتى به طويلاً ولم يصبح أبداً عضواً رئيسياً فى شلة أصدقائى، لكن التصوير إستولى على عقلى وإقتنيت نوع من الكاميرات الروسية التى إشتهرت فى ذلك الزمن ، وكانت توضع على البطن عند التصوير فتبرز لك الصورة المراد تصويرها من أعلى ، وأخذت اصور كل شئ حولى وتعلمت من سمير - الذى كان يعمل فى أحد الإستديوهات بجانب دراسته - كيف أقوم بتحميض الأفلام وإستخراج الصور بنفسى فى المنزل، وكانت أم بسيونى تساعدنى فى ذلك العمل المرهق العبثى الذى لم يكن يعود على بأى فائدة والذى سرعان ماإختفى وتوارى مع ماإختفى وتوارى من هوايات عابرة لكن ظل له ذكرى وحيدة لم أنساها حتى اليوم فذات يوم كنت أصور مجموعة من زملائى فى المدرسة وقد إصطفوا على سور فيلا المخابرات المقابلة وبدون إدراك منى لخطورة ماأفعل ولسوء حظى ففى نفس اللحظة التى كنت أٌقوم فيها بإلتقاط الصورة قدمت سيارة فاخرة مسرعة بإتجاه الفيلا تحمل بعض ضباط المخابرات وعندما لاحظوا مايحدث أوقفوا السيارة بعنف فى منتصف الشارع وخرج أحدهم منفعلاً وتقدم نحوى وطلب منى الكاميرا ولاأعرف لماذا أهملت طلبه وأسرعت هاربا إلى داخل المدرسة،ربما بدافع الخوف على نفسى أو بدافع الخوف من فقدان الكاميرا لكنه تتبعنى وقد إزداد إنفعاله وهو ينطق بكلمات قبيحة على مرأى من المدرسين والتلاميذ وأذكر أنه قال لى (والله حتى لو إختبأت فى حضن أمك لجبتك) وإزاء موقف المدرسين السلبى لم أجد بداً من تسليم الكاميرا إليه. إنتزعها من يدى غاضباً وكاد أن يضربنى بها لكنه تماسك ولم يفعل فقط أخذها وإنصرف عائداً إلى الفيلا وتركنى أتحسر على فقدان كاميرتى العزيزة وبدلاً من تعاطف المدرسين معى فقد أخذوا يلوموننى على تصرفاتى الطائشة التى ستجلب لهم المشاكل ورفضوا التدخل من أجل إستعادة الكاميرا. كان الغريب أن الذى تدخل وأعاد إلى كاميرتى العزيزة هو فراش المدرسة وليس المدرسين. كان فراش المدرسة والذى نسيت إسمه الآن على علاقة طيبة بأحد حراس فيلا المخابرات وبعد مرور بعض الوقت ذهب إليه فى الفيلا وطلب منه التوسط فى إعادة كاميرتى وإستجاب الصديق البسيط لصديقه البسيط وتوسط لدى رئيسه وعاد بعد قليل يحمل كاميرتى العزيزة بين يديه بعد أن نزع الضابط الفيلم عنها وحمله رسالة بأن لايتكرر هذا العمل مرة أخرى وإلا تحملت المدرسة كلها المسئولية. لم أصدق أن كاميرتى العزيزة قد عادت إلى مرة أخرى ولم أقترب من تلك الفيلا اللعينة بعد ذلك أبداً. كذلك كان للعبة الجودو نصيب فى طوفان الهوايات ذاك الذى إجتاح حياتى فى تلك السنة . كان التأثير هذه المرة من صديقى طفولتى رفعت رسمى. فقد إنتقل عشق هذه اللعبة إليه من إبن عمة له كان يمارس هذه اللعبة فى نادى سموحة، النادى الإجتماعى الثانى فى مدينة الإسكندرية فى ذلك الزمن، ومنه إنتقل إلى لكننى كالعادة كنت سريع المرور والمغادرة فلم أمارس تلك اللعبة العنيفة إلا لوقت قصير وسرعان مانفرتها ونسيتها بينما إستمر رفعت فى ممارستها لسنوات طويلة من حياته بعد ذلك ، بينما غرقت أنا فى عشق إبنة الجيران ونسيت هذه الهوايات جميعاً - مقتطفات من السيرة الذاتية - هوايات عابرة
وفى خضم كل هذا العشق العابر كان عشقى لإبنة الجيران يزداد ويعصف بى وبها وأخذنا نبحر معا فى بحر الخطيئة حتى وصلنا إلى ذراها عرايا معذبين بين ضمائرنا ورغباتنا فى مجتمع مختلط الثقافة ضائع بين الماضى والحاضر والمستقبل لم يحدد بعد - بشكل قاطع - فى أى طريق يسير ولا إلى أى ثقافة ينتمى. ومع ذلك فلم تكن كل ذكرياتنا رغبات.كان الكثير منها فرح ومرح ومغامرات.
كانت سامية فى مدرسة لوران الثانوية غير البعيدة عن حى ثروت التى تقع به مدرستى فكنا نذهب ونعود معا يومياً وكانت مدرستها على عكس مدرستى تقوم بتنظيم كثير من الرحلات سنوياً وأذكر أنه فى تلك الأيام قررت مدرستها القيام برحلة إلى منطقة كنج مريوط الصحرواية وقد شاركت سامية فى الرحلة مع صديقتيها إيمان ووفاء فما كان منى إلا أن أٌقنعت أصدقائى رفعت وكمال وعادل وسامى وهشام أن نلحق بهم أيضاً إلى كنج مريوط بطريقتنا الخاصة. قررنا أن نسافر بمفردنا فى القطار ونقضى معهم اليوم فى كنج مريوط. كانت كنج مريوط فى ذلك الوقت منطقة صحراوية شبه خالية من السكان تبعد حوالى عشرة كيلو مترات عن ساحل البحر وبها نزل كبير يسمى بالرست هاوس كانت رحلات المدارس تنزل به، ولاأعرف كيف أقنعت زملائى بالإنضمام إلى فى القيام بهذه الرحلة العبثية. كنت أتصور أن كنج مريوط قريبة من البحر وأننا سنقضى وقتا سعيداً على ساحل البحر لكن الواقع أنها كانت بعيدة عن البحر، مجرد صحراء ذات صخور سوداء لايميزها سوى ذلك النزل الكبير الذى كان كثير من الناس يعشقون قضاء أجازاتهم فيه بعيداً عن ضوضاء المدينة. وهكذا وبعدما إنطلق ألأتوبيس الذى يحمل طالبات مدرسة لوران الثانوية إلى كنج مريوط كنت أنا وزملائى نستقل قطاراً مجهولا متجهين إلى هناك. لاأذكر من منا وصل قبل الآخر. ورغم أن سامية وزميلاتها كن يعلمن بخطتى العبثية فقد فوجئن بوجودنا هناك وإستغرقن فى الضحك عند رؤيتنا وإجتمعت معظم فتيات الرحلة يتطلعن إلينا عن بعد ونحن نغنى ونرقص على أنغام كاسيت صغير كان والد عادل قد أحضره له من الكويت. كانوا يأتون للجلوس معنا أحياناً ، عندما تغيب أعين المشرفات، ثم ينصرفن مرة أخرى، وهكذا مر اليوم بين كر وفر ومرح وضحك ورقص وأغانى وقد أغدقوا علينا مما معهم من مشروبات ومأكولات وتعرف كثير من زملاء سامية فى المدرسة على شخصى الطائش وعلى زملائى خفيفى الظل ، ومر اليوم سريعاً وحانت ساعة الرحيل عند المغرب، كانت الأمور سهلة بالنسبة إليهن فقد كان أتوبيس الرحلات التى إستأجرته المدرسة فى إنتظارهن وسرعان ماإستقلنه وإنطلقن عائدين إلى الإسكندرية وهم يلوحن لنا بأيديهمن من نوافذ الأتوبيس أما نحن فكان لنا حكاية أخرى، فقد تلكأنا حتى هبط الظلام ثم قررنا الرحيل وتوجهنا إلى محطة القطار للعودة إلى الإسكندرية ولم نكن نعرف أن للقطارمواعيد وأن آخر قطار قد غادر منذ فترة طويلة. كانت المحطة مظلمة تماماً وكان الجو شتاءً قارص البرودة ولم يكن معنا طعام للعشاء أو أغطية تقينا قسوة البرد لو قررنا النوم فى محطة القطار حتى الصباح. كان الظلام قد خيم على كل شئ ولم يكن هناك حوانيت أو محطات بنزين أو أى شئ لم يكن هناك سوى صحراء وظلام ، وأصبح شكل المحطة وحولها الصحراء المظلمة مخيفاً مرعباً. أسقط فى يدنا ولم ندرى ماذا نفعل وكالعادة أخذ زملائى يؤنبوننى على أفكارى الطائشة. لم يكن أمامنا سوى أن نتسكع فى الطريق الواقع على جانب الصحراء لعلنا نعثر بسيارة تحملنا إلى الإسكندرية أو ننام فى المحطة حتى الصباح. لكن الليل كان قارص البرودة وكان الجوع قد أخذ يستبد بنا فقررنا المغامرة بالسير فى الطريق الصحراوى لعل القدر يرسل لنا من ينقذنا من هذا التيه العظيم. وبالفعل لم يمر وقت طويل حتى مر بنا أتوبيس شبه خالى متوجهاً إلى الإسكندرية، وكأنه معجزة هبطت علينا من السماء لتنقذنا من تلك الورطة الرهيبة. إستقلينا الأتوبيس غير مصدقين حتى عدنا إلى الإسكندرية سالمين . وأقسم اصدقائى أن لايتبعونى بعد ذلك أبداً فى أى من مغامراتى الطائشة لكن لم يمض وقتا طويلاً حتى أقنعتهم بالذهاب معى فى مغامرة أخرى أكثر طيشاً.
بعد فترة قصيرة أعلنت مدرسة سامية عن رحلة أخرى إلى مدينة رشيد وفى هذه المرة أيضاً قررت اللحاق بها إلى رشيد وأقنعت زملائى بالإنضمام إلى فى هذه المغامرة الجديدة ولكن بطريقة أشد طيشاً وخطورة ، فقد قررنا أن نتبع أتوبيس الرحلات الذى يقلهم بالدراجات بدلاً من أن نسافر قبلهم أو بعدهم بأتوبيس أو قطار،كما حدث فى رحلة كنج مريوط ، إتفقنا مع صاحب محل دراجات فى شارع طوسون إسمه صلاح ، كان من أبطال مصر فى سباقات الدراجات فى ذلك الزمن ، على أن نستأجر منه بعض الدراجات للسفر بها فى رحلة تستغرق يوماً كاملاً وعلى أن يقوم بفتح محله فى الصباح المبكر لتسليمنا الدراجات وكان يعرفنا لإننا كنا من أبناء الحى وكنا نستأجر منه الدراجات بشكل دائم ،وبالفعل كان صلاح فى إنتظارنا فى الصباح الباكر حيث إستلمنا منه الدراجات. لكن هذه المغامرة باءت بالفشل الذريع وعدنا جميعا من منتصف الطريق مرهقين نكاد نموت من الإجهاد فلم نستطع اللحاق بالأتوبيس ومرة أخرى أقسم أصدقائى أن لايتبعونى فى أى مغامرات من هذا النوع ، ولكنهم كالعادة سرعان مانسوا ذكرى ذلك اليوم العصيب وتبعونى فى مغامرات أخرى.
وفى موسم الربيع من هذا العام قامت مدرسة سامية بآخر رحلاتها السنوية وكانت إلى شاطئ العجمى هانوفيل القريب من الإسكندرية. وكالعادة قررت سامية الإشتراك فى الرحلة مع صديقتيها المقربات، وفاء وإيمان . كانت إيمان من أسرة ميسورة تملك فيلا فى شاطى العجمى البطاش القريب من العجمى هانوفيل ومع ذلك فقد قررت الإشتراك فى هذه الرحلة مع زميليتيها. كانت إيمان متوسطة الجمال لكنها كانت شديدة الطيبة سمراء قصيرة ترتدى نظارات و بعد أن إجتازت المرحلة الثانوية وإلتحقت معنا بكلية الآداب لاأعرف كيف تغيرت تماماً وأصبحت فجأة على قدر كبير من الجمال - كما رأيتها أنا على ألأقل - وذلك بعد أن غيرت من نمط تسريحة شعرها وبدأت فى إستخدام الماكياج. لم تكن إيمان من سكان حى باكوس بالطبع لكنها كانت دائمة الحضور لزيارة سامية فكانت قريبة منا بشكل دائم ، وكانت تكن لى كثيراً من مشاعر الود الأخوية. أما وفاء فكانت من أبناء حى باكوس وكانت على قدر من الجمال، خمرية، أنيقة ، تقترب فى شكلها وروحها كثيراً من روح وشكل الممثلة المصرية سعاد حسنى، المشهورة فى ذلك الزمن ، لكنها كانت ضئيلة الحجم، قصيرة نوعا ما، على الأقل بالنسبة لسامية الطويلة، الممتلئة الدافئة، كانت شديدة التحرر، كثيرة المغامرات، كان أبوها مدرساً للتربية الرياضية وكانت أمها مديرة مدرسة لكنهما لم يكونا على وفاق وكانا دائمى النزاع وقد أثر ذلك على شخصية وفاء وزرع فيها شئ من الضعف والضياع وذلك برغم قوة شخصيتها ومرحها الظاهرى، وهى التى أطلقت على إسم جواد الذى أصبحت أشتهر به بين أصدقائى بعد ذلك حيث كانت تنادينى بجواد بدلاً من عبده كما كنت أسمى فى طفولتى وصباى فإستحسن أصدقائى هذا الإسم وأصبحوا ينادونى به بدورهم حتى إشتهرت به ، وكان المستقبل يدخر لى معها قصة مؤلمة قصيرة.
كان شاطئ العجمى قريباً من الإسكندرية وكان هناك أتوبيس مباشر ينطلق من محطة الرمل إلى هناك كل ساعة تقريبا ولذا فلم يكن من الصعب إقناع أصدقائى بالإشتراك فى آخر مغامرات الموسم. لكن آخر مغامرات الموسم كانت هى المغامرة السعيدة الوحيدة، فقد عشقنا شاطئ العجمى هانوفيل من النظرة الأولى ونشأت بيننا وبينه قصة حب طويلة.
فى ذلك الزمن لم تكن منطقة العجمى تقع ضمن مدينة الإسكندرية ،كانت مجرد ضاحية من ضواحيها، صحراء بيضاء فسيحة تمتد حول البحر وكانت تنقسم إلى منطقتين العجمى البطاش والعجمى هانوفيل، كان العجمى البطاش يبدو أكثر تطوراً وإزدحاماً بالفيلل والسكان ، أما العجمى هانوفيل فكان يبدو أكثر فراغا و سحراً ، بفندقه الوحيد المشرف على البحر - والذى لم يعد له وجود الآن - وصحرائه البيضاء الواسعة وفيلله القليلة المتناثرة وكثبانه الرملية وأشجار التين والأشجار الباسقة التى إنتشرت بعيدا عن الشاطئ بغير نظام . كان يبدو كأنه قطعة من الجنة.
قضينا اليوم مع مدرسة سامية فى فندق العجمى هانوفيل على شاطئ البحر،وحتى ذلك الزمن لم يكن هناك مانع من أن ترتدى البنات المايوهات وتنزل الشاطئ لتسبح فى أمان دون أن تلاحقهن العيون أو يضايقهن متحرش. وقد نزلت كثير من الفتيات إلى البحر وعادت لتتمدد على الشاطئ وتغطى جسدها بالرما لتعود إلى الشاطى مرة أخرى تسبح وتلعب وتصرخ . كان يوماً من أروع ايام الحياة. كان يحتاج إلى عدسة مصور بارع ليسجل للتاريخ كم كانت فتيات مصر فى ذلك الزمن، ساحرات فاتنات لايفوق جمالهن فى الدنيا أى جمال . كان الفندق مفتوحاً للجميع، لسكانه، ولرواد الشاطئ وحتى للغرباء. كان كل شئ آمناً جميلاً بسيطاً. وقد سبحنا بالقرب من سامية وزميلاتها أحياناً ,وإبتعدنا أحياناً ونمنا على الرمال أحياناً وتناولنا طعامنا البسيط على مرأى منهن وتبادلنا الإبتسامات والإشارات والكلمات أحياناً أخرى بعيداً عن أعين المشرفات ، وسرعان مامضى الوقت كما تمضى كل الأوقات الجميلة ، وغربت الشمس وقرروا العودة فى الأتوبيس الذى كان ينتظرهن. وهذه المرة لم نصادف مشكلة فقد كان هناك أتوبيسات عمومية كثيرة إستقلينا إحداها عائدين إلى الإسكندرية وكأننا عائدين من رحلة إلى الجنة بكل ماتحتويه من سحر وجمال. لكن قصتنا مع شاطئ العجمى هانوفيل لم تنتهى فى ذلك اليوم فقد قررنا أن نعود إليه ونصبح من سكانه بطريقتنا الخاصة.
أذكر إننا عدنا إليه فى أجازة صيف ذلك العام مباشرة، نحمل معنا فيلتنا الخاصة ، خيمة قديمة إشتريناها من محل أدوات مستعملة فى حى كامب شيزار بالقرب من سينما أوديون القديمة ومعها كل مايلزم المعسكر الكشفى المتكامل من مصابيح وأدوات وأوانى.شارك معظم أصدقائى فى معظم تلك الرحلات، ولازلت أملك صوراً لتلك الأيام الجميلة ، كان هناك اصدقاء الحى رفعت وكمال وأصدقاء المدرسة عادل وهشام وعمرو وطارق الترجمان . أصبحنا كل صيف نأتى ونعود إلى نفس المكان تقريباً. كنا ننصب خيمتنا فى موقع إستراتيجى لاأعرف كيف عثرنا عليه، كان يطل على الشاطئ و تحيط به مجموعة من الأشجار الباسقة الكثيفة، لكنه لايبتعد كثيراً عن الشارع الرئيسى فى نفس الوقت، فكنا بذلك قريبين من كل شئ ، من البحرحيث كنا نقضى معظم النهار ومن الشارع الرئيسى حيث كانت تقع بعض المحلات القليلة المتناثرة وفندق الهانوفيل حيث كنا نشترى إحتياجاتنا ونقضى بعض أمسياتنا فى الفندق وقد وفرت لنا الأشجار الباسقة التى نصبنا بينها خيمتنا والفيلل القليلة المتناثرة حولنا شعورا بالأمان والخصوصية وكأن العالم كله كان ملكاً لنا. كانت الصحراء البيضاء الواسعة الممتلئة بأشجارالتين تبدو لنا وكأنها غير مملوكة لأحد فكنا نقضى كثير من الوقت فى جمع ثمارالتين الناضجة من أشجارها القصيرة، وأذكر ذات يوم بينما كنت التقط بعض هذه الثمار أن نادانى شاب من البدو، كان ودوداً ويبدو على قدر من التعليم، وسألنى مبتسماً ، بأى حق تأخذ هذا التين؟ فلم أجد ماأرد به فرد هو قائلا ، لإنك تعتقد أنه لايوجد له أصحاب ؟ قلت نعم ، فضحك قائلاً ولولا أنى أعرف أنك صادق لغضبت منك ثم عرفنى بنفسه على أنه شيخ القبيلة التى تملك هذه المنطقة وقال لى، نحن نراقبكم منذ مجيئكم ولم يصدر منكم أى خطأ، أنتم ضيوفنا وأهلا بكم وتستطيعون أخذ ماتحتاجون من التين ثم ذكر لى إسمه الذى نسيته الآن وقال لى إذا إحتجتم إلى أى شئ أو ضايقكم أحد فقط إسأل عنى أى رجل من البدو وسوف يدلك على مكانى، ثم ودعنى بإبتسامة صادقة وإختفى فى الصحراء كأنه شبح ولم أراه بعد ذلك أبداً. لكننى منذ ذلك اليوم توقفت أنا واصدقائى عن جمع التين.
كنا نقضى بعض الأمسيات ساهرين على أنغام راديو صغير كنا نعلقه على أحد ألأشجار وأحيانا أخرى كنا نذهب إلى فندق الهانوفيل، أما سهراتنا الأكثر إثارة، فكنا نقضيها فى شاطئ البطاش. لم نكن نستقل أى مواصلات ليذهب بنا إلى هناك، لكنا كنا نقطع كل هذه المسافة الطويلة التى تفصل الشاطئين سيراً على الأقدام على ساحل البحر الواسع الممتد بين الشاطئين ، كان الليل يبدو جميلاً هادئا والبحر ساكناً مطمئناً والأضواء المنبعثة من الفيلل البعيدة المتناثرة بين الشاطئين تبعث فى نفوسنا الشعور بالراحة والأمان. أذكر حادث واحد فقط كدر صفونا لمجرد دقائق عندما إعترضنا جنديان من حرس السواحل ذات ليلة فى طريق عودتنا من البطاش إلى الهانوفيل فى ساعة متأخرة من الليل وقد سحبوا أسلحتهم وطلبوا منا التوقف وإظهار بطاقاتنا الشخصية. وكان بعضنا يحمل بطاقات فقمنا بإظهارها لهم وعندما سألونا بخشونة إلى اين تتوجهون فى هذه الساعة المتأخرة من الليل، قلنا لهم عائدين من البطاش إلى الهانوفيل حيث يقع مسكننا فإقتنعوا بحجتنا وتركونا ننصرف فى سلام. كانت مجرد حادثة لم تستغرق سوى دقائق ولم تمنعنا من تكرار متعة السير فى عمق الليل على ساحل البحر، ذهاباً وعودة ، إلى شاطئ البطاش البعيد. كان شاطئ البطاش غنياً مزدحماً بالفيلل والملاهى الليلية على عكس الهانوفيل الساحر الخالى، كان لكل من الشاطئين جماله الخاص، كنا نفضل النهار فى الهانوفيل ولكن الليل فى البطاش كان أروع، كان هناك ملاهى ليلية ، وفتيان وفتيات يتراقصون داخلها ويتعاشقون على رمال الشاطئ فى سلام . كنا نحب أن نشاركهم سعادتهم دون إزعاج ، فمثل فتيان وفتيات البطاش الأثرياء، كان لنا أيضاً صديقات، ونصيبنا الخاص من الحياة.
كانت سامية وأختها الصغرى سونيا ومريم صديقة رفعت وعواطف صديقة عادل يأتون لزيارتنا أحيانا، كانت حجتهم هى زيارة إيمان صديقة سامية فى العجمى البطاش ، لكنهم لم يذهبوا إليها أبداً. كانوا يأتون مباشرة إلى فيلتنا المتواضعة فى العجمى هانوفيل ليقضون معنا اليوم ثم يعودون قبل حلول الظلام. كانت أيام مجيئهم كأنها الأعياد، كانوا يحملون لنا كثيراً من الطعام ، وكانوا يشاركوننا نزول البحر والرقص والغناء على الشاطئ الفسيح ، كانت سامية تتزعم هذه المجموعة الطائشة الصغيرة، ولم يكن لدى شئ أقدمه لها فى مقابل كل ماتمنحه لنا بمجيئها سوى تلك الأصداف البحرية المتنوعة الجميلة التى كانت تدفع بها الأمواج إلى الشاطئ ، فكنت أذهب كل صباح لأجمع بعضها وأدخرها لها حين تأتى فأهديها لها. كانت تفرح بها فرحاً شديداً وكانت تصنع منها قلادات وأساور وتحتفظ بها فى صندوق خاص كذكرى منى، وكانت بدورها تقص لى خصلات من شعرها كنت أحتفظ بها بين صفحات كتاب لأستخرجها وأشم رائحة شعرها عندما تكون بعيدة عنى. كانت تلك أجمل أيام الحياة، والتى كنت اتصور أنها ستدوم إلى الأبد، ولكن قصتى مع شاطئ العجمى هانوفيل إنتهت مع دخولى الجامعة حيث بدأت الحياة تأخذ منحى جديداً بأفراح وآلام جديدة.
فقط ظلت لى ذكرى أخيرة مع شاطئ العجمى. فبعد تخرجى من الجامعة وسفرى خارج مصر، وعودتى لإستناف دراستى العليا فى جامعة الإسكندرية سنة 2000م، كان قد مر زمناً طويلاً على هذه الأحداث وكنت قد نسيت كل شئ عن شاطئ العجمى وعن تلك الأيام الساحرة الجميلة التى عشتها فيه فى بدايات حياتى، ولكن تصادف أن الدكتور صالح اليازى ، أستاذ الأدب العربى ، كان يملك فيلا فى العجمى وذات يوم دعانا أنا وزميلى العقيد محمد لقضاء يوم هناك. وفجأة تذكرت العجمى وتذكرت تلك الأيام الجميلة مرة أخرى، وقبلنا الدعوة وذهبنا فى سيارة زميلى العقيد محمد، كنت منفعلاً طوال الطريق، لاأعرف كيف تصورت أننى سأجد بعد كل هذه السنين الطويلة كل شئ كما تركته ، الصحراء البيضاء الواسعة ، والكثبان الرملية وأشجار التين والفيلل المتناثرة بأضوائها الخافتة المريحة والأشجارالباسقة والأصداف البحرية التى تدفعها الأمواج إلى الشاطئ والتى كنت أجمعها لسامية كل صباح. كنت أشعر بسعادة غامرة وأتصور أننى على موعد جديد مع أجمل أيام وأجمل ذكريات ولكن كلما تقدمت بنا السيارة نحو العجمى لم أكن ألمح أى اثر لتلك الملامح وتلك الذكريات، فقط مبانى مختلطة بلاترتيب أو جمال مثلما كانت الفيلل المتناثرة القديمة، مبانى عشوائية ومقاهى مزدحمة وجو خانق قبيح وعندما عرفت من الدكتور صالح أننا قد وصلنا العجمى صحت وكأننى اصرخ وأين الصحراء وأين الشواطئ، إستغرق الدكتور صالح فى الضحك قائلاً ، صحراء إيه؟ أنت سافرت من مصر إمتى؟ وإستطرد قائلاً، لقد تحولت صحراء العجمى إلى مدينة سكنية والزمن الذى تتحدث عنه قد إنتهى، ودخل بنا إلى شوارع ضيقة متجهاً نحو فيلته القريبة من الشاطئ. لم تكن الشوارع متوازية أو مرتبة بأى شكل ، كانت كأنها مجرد أزقة رملية تمر بين الفيلل والمساكن المتلاصقة حتى وصلنا إلى فيلا دكتور صالح وكان قد كتب إسمه على الشارع الذى تقع فيه فيلته( شارع صالح اليازى). جلسنا فى حديقة الفيلا نحتسى الشاى وعندما سألت عن الشاطئ قالى لى يمكنك أن تراه من سطح الفيلا أو يمكننا أن نمشى إليه سيراً على الأقدام فهو قريب. طلبت الذهاب إلى هناك، إستجاب الدكتور صالح وتقدمنا إلى هناك وعندما وصلنا لم أجد أى أثر للشاطئ القديم، كان مجرد شريط ساحلى ضيق تكاد تتلامس فيه مياه البحر بالفيلل والمساكن المطلة عليه. حتى رائحة البحر الجميلة لم يعد لها وجود. نظرت حولى لعلى ألمح قطعة صغيرة من الصحراء البيضاء أو شجرة تين واحدة أوأضواء فيلا تنبعث من بعيد أو شجرة باسقة أو فتى وفتاة يتعاشقان، فلم أجد سوى شريط ضيق من ساحل تكاد تلامس مياهه الفيلل والمبانى المطلة عليه. ساحل ضيق لايحمل أى من ذكرياتى. وفى طريق العودة شُغل صديقى العقيد محمد بحديث طويل مع الدكتور صالح اليازى- رحمه الله- بينما سرحت أنا بخيالى بعيدا. وشعرت بلحظة حزن وأنا أدرك أن كل شئ إلى زوال فى هذ الحياة.
وهكذا مرت تلك السنة بحادث رسوبى المروع ، وإنتقلت مدرسة الثغر كلها فى السنة التالية إلى مدرسة جمال عبدالناصر الثانوية العسكرية التى كانت قد بنيت حديثاً تخليداً لذكراه فى حى السيوف فى ظاهر مدرسة فيكتوريا كوليج الشهيرة. وهناك بدأت سنوات دراستى الثانوية الحقيقية.كان لحادث رسوبى تأثيراً شديداً على أمى وأبى البسيطين، وعلى أنا نفسى ، كان غير مفهوم ولامبرر، لكنه هكذا حدث وهكذا قدر أن تكون مدرسة جمال عبدالناصر الثانوية هى المكان الذى أنهض فيه من هذه العثرة وأعوض هذا الفشل الذريع بنجاح كبير بل بمجد كبير بين زملائى الجدد الذى إنتقلوا معنا إلى مدرسة جمال عبدالناصر من جميع مدارس الإسكندرية. كان قد تم بناء المدرسة على أحدث طراز لذلك الزمن وعلى مساحة واسعة تم إقتطاعها من أرض مدرسة فيكتوريا كوليج ، كانت عبارة عن بناء واحد ضخم يتكون من عدة أدوار يحتوى على عدد كبير من الفصول وأمامه فناء واسع فسيح يتسع لإجراء عرض عسكرى. وأذكر أن عدد طلبة المدرسة بلغ حوالى ألفى طالب فى ذلك الوقت. ومن خلال ذكرى جمال عبدالناصر وروحه التى كانت مازالت تسيطر على مصر كلها حظيت المدرسة برعاية خاصة من وزارة التربية والتعليم وأصبح مسئولى الوزارة دائمى الزيارة لها ولاأذكر إذا كانت المدرسة قد حملت الصفة العسكرية وأطلق عليها إسم مدرسة جمال عبدالناصر الثانوية العسكرية فى السنة الأولى من إنتقالنا إليها أم فى السنة الثانية لكنى واثق أن الملابس العسكرية التى خصتنا بها الوزارة والتدريبات العسكرية وطاقم التدريب العسكرى بقيادة عقيد فى الجيش المصرى يعاونه بعض ضباط الإحتياط وضباط الصف قد بدأ فى السنة الثانية من إنتقالنا إليها. أما معركة الزعامة على قيادة الألفى طالب الذين تضمهم المدرسة فقد بدأت منذ اللحظة الأولى لإنتقالنا إليها. وكالعادة فاز سيد عباس برئاسة إتحاد طلبة المدرسة بنفس السهولة التى إعتاد أن يفوز بها دائماً ، وبالطبع كان قد أصبح فى السنة الثالثة وعلى وشك التخرج ولذا فلم يتمتع معنا ببداية سنوات مجد المدرسة ولا بالمزايا الكبيرة لمنصبه عندما أصبحت المدرسة عسكرية فى السنة التالية وأصبحت تحظى برعاية الدولة وبزيارة وفود المدارس إليها من كل أنحاء مصر وحتى بزيارة الوفود العسكرية العربية التى كانت تزور مصر. كان مقدراً لطلاب السنة الثانية - والذى كنت قد اصبحت واحداً منهم نظرا لرسوبى وإعادتى للسنة الثانية - أن يكونوا هم من يعيش بداية ذلك المجد وذروته فى نفس الوقت، كما كان مقدراً أن يكون رئيس الطلبة القادم منهم أيضاً.
لم يكن ناظر المدرسة يحمل لقب ناظركما جرت العادة ولكن كان يحمل لقب مديرالمدرسة وكان إسمه عبدالكريم المصرى، لاأعرف ماذا كان تخصصه قبل أن يصل إلى منصب مدير هذه المدرسة المرموقة لكنى سمعت أنه كان مدرس رسم ، كان فى حوالى العقد السادس من العمر ، ذو وجه أبيض يميل إلى الإحمرار، متوسط القامة ، تبدو ملامحه شديدة الشبه بملامح الأتراك لكنه كان طموحاً نشطاً، وربما أيضاً منافقاً كبيراً. كان يجيد الخطابة والترحيب بالوفود الزائرة وبمجاملة المسئولين فى الوزارة ويبدو انه كان يتطلع للحصول على مركز أكبر وكان يدرك تماماً أن الرعاية التى كانت تحظى بها المدرسة من الوزارة كانت هى فرصته أيضاً فى أن يحظى بنفس الرعاية ويحصل على منصب أكبر. لم يضيع لحظة واحدة وأخذ يعمل بكل جهد لإبراز المدرسة فى أحسن صورة ولومن الناحية الشكلية فقط وإبراز نفسه كأحسن مدير ولو من الناحية الشكلية أيضاً.
كان الإخصائى الإجتماعى الأستاذ فوزى حسونة رجل عبدالكريم المصرى المفضل، لإنه من خلال النشاط الإجتماعى للمدرسة كان يمكن لعبدالكريم المصرى ومدرسته العسكرية أن يكونوا دائمى الحضورفى كل مناسبة . كان فوزى حسونة فى حوالى العقد الرابع من العمر، أبيض الوجه ، قصيراً، يميل إلى البدانة ، توحى ملامحه بالطيبة بل حتى بالسذاجة لكن داخله كان يتناقض تماماً مع ملامحه الطيبة الساذجة. كان هناك آخرون بعضهم نسيت إسمه وبعضهم مازلت أذكره. كان هناك الأستاذ حسنى مدرس اللغة الإنجليزية ، قوى الشخصية الذكىً النحبوب من جميع الطلاب، والأستاذ عادل مدرس الرسم، والأستاذ عزيز مدرس اللغة الفرنسية ،وأستاذ الفلسفة النوبى الرائع الذى نسيت إسمه الآن مع الأسف، والأستاذ زين أستاذ التاريخ، والأستاذ عبدالحميد أستاذ الجغرافيا وأساتذة التربية الرياضية الذين نسيت إسمهم أيضاً رغم صداقتهم لى. أما العقيد والضباط وضباط الصف فقد نسيت أسمائهم جميعاً مع الأسف ،وذلك رغم صداقتهم وتقديرهم لى أيضاً. كان هؤلاء هم من مازلت أذكرهم من أسماء وشخصيات المدرسة لكن الأحداث كان لايمكن نسيانها لإنها كانت تحتوى على كثير من الإشارات والنبؤات التى شكلت حياتى وحياة الوطن فيما بعد.
لم أعد أشارك بالأنشطة الرياضية فى المدرسة كما كانت عادتى فى المرحلة الإعدادية لكننى عدت لأشارك - وبقوة - فى الأنشطة الثقافية فى مدرستى الجديدة ، التى أحببتها منذ النظرة الأولى وظلت ذكراها حية فى خيالى دائما. شاركت فى جمعية الصحافة المدرسية وكانت تلك هى البدايات الأولى التى تعلمت فيها التحدث فى الميكرفون أمام حشد كبير من الناس. كانت جمعية الصحافة معنية بإلقاء نشرة الأخبار فى طابور الصباح وبإذاعة أى أخبار تخص المدرسة وبالترحيب بضيوف المدرسة أيضاًً. كان مشرف الجماعة مدرس لغة عربية إسمه متولى ، لم يكن فصلى ضمن تلاميذه ، كان مدرسنا شخص آخر ، ريفياً ،هادئ ، غريب الأطوار، وربما كان ذو ماض سياسى فقد كان يبدو خائفاً من شئ ما وكان زملائى يقولون أنه يحمل بين جوانحه شئ يشبه المسدس، لكنى لم أكن متأكداً من ذلك شخصياً ، وبعكس الأستاذ متولى الذى لم يكن يولينى أى إهتمام ، كان مدرسى المتواضع والذى نسيت إسمه الآن يكن لى كثيراً من الإحترام وكثيراً ماأشاد بمقدرتى الخطابية وأذكر مرة أنه قال لى أمام الطلبة (أنت خطيب بارع يا عبدالجواد)، كذلك كان الأستاذ عزيز، البسيط المتواضع يعتمد على كثيراً فى إدارة شئون الفصل المشاغب، أذكر أن معظم المدرسين تقريباً كانوا يعاملوننى بشكل خاص ينطوى على كثير من الإحترام والتقدير وذلك بإستثناء مدير المدرسة عبدالكريم المصرى والإخصائى الإجتماعى فوزى حسونة والأستاذ متولى مشرف جماعة الصحافة ، فهؤلاء قد إنصب إهتمامهم جميعاً على زميلى فى جماعة الصحافة ، طالب شعبة العلمى والشاعر المتدين المهذب ، أحمد عيسى.
كان أحمد عيسى من طلبة الفصول العلمى ،وكانت معظم فصول المدرسة من شعبة العلمى وكانت تحتوى على كثير من الطلبة المتفوفقين ،منهم زميلى وصديقى فيما بعد محمود خليل، الذى إلتحق بكلية الطب بعد تخرجنا وأصبح أخصائى أمراض صدرية. كانت المدرسة تحتوى على فصلين من شعبة الأدبى فقط ، ومنهم جئت أنا ، وكان الإنطباع العام عن طلبة الفصول الأدبى إنطباعاً سيئاً فى تلك الأيام ، لذا لم يكن عبدالكريم المصرى ولا فوزى حسونة ولا ألأستاذ متولى يهتمون بشأنى إذ كانوا يعتقدون أننى أنحدر من صفوف البلطجية والمشاغبين وذلك فى الوقت الذى أولوا فيه أحمد عيسى كل إهتمام ورعاية. كان أحمد ينحدر من طبقة متوسطة ، يميل إلى القصر ، لا يتمتع بأى كاريزما خاصة ، لكنه كان طالباً متفوقاً شأنه شأن زملائه طلبة الشعبة العلمى وكان مهذباً رقيقاً وشاعراً صاعداً تنشر قصائده فى مجلة (الجديد) التى كان يصدرها آنذاك استاذ الأدب العربى الراحل الدكتور رشاد رشدى. كان أحمد يتمتع بصفة إستثنائية أخرى كانت قد بدأت تظهر فى مجتمعنا فى ذلك الوقت. كان أحمد شديد التدين، دائم المواظبة على الصلاة فى مسجد المدرسة ،وقد منحه ذلك مزيداً من الإحترام بين الطلبة والمدرسين على السواء. وهكذا تجمعت فى شخص أحمد صفات ذلك الزمن الجديد الذى كان يطرق أبواب مجتمعنا منذ ذلك الوقت المبكر دون أن ندرى.
لاأذكر فى أى سنة أقدمت على خطوة إصدار مجلة حائط تعنى بأخبار المجتمع وأخبار المدرسة على السواء، فى السنة الثانية أم عندما إنتقلت إلى السنة الثالثة النهائية.لم تكن الفكرة جديدة من نوعها، فقد كانت المدارس والجامعات تمتلئ بمجلات الحائط فى ذلك الزمن، لكننى جعلتها جديدة بما أضفته إليها من برواز زجاجى قمت بتصنيعه على نفقتى الخاصة ، وبالصور الفوتوغرافية التى كنت ألحقها بأخبار المدرسة. وقد ساهمت هذه المجلة - بالإضافة إلى نشاطى المتواصل فى فعاليات طابور الصباح وروحى الناصرية المتقدة فى بروز إسمى وإزدياد شهرتى بين المدرسين والطلاب على السواء. لم أكن أطمح لشئ محدد، فقط كنت مدفوعاً لإثبات ذاتى وتعويض سنة الرسوب التى عانيتها. لكنى ودون أن أدرى وبحلول السنة الثالثة كنت قد حققت لنفسى شهرة تساوى شهرة أحمد عيسى إن لم تكن تزيد عنها. وأذكر أن سيد عباس والذى لم تجمعنى به علاقات مودة أبداً ، قد قال لى يوما وقبل مغادرته المدرسة بشكل نهائى( مبروك عليك الإتحاد) كان ببعد نظره قد أدرك أننى سأكون رئيس الطلبة القادم وذلك رغم أننى نفسى لم أكن قد أدركت ذلك بعد.
وسرعان مامرت الأيام وتخرج سيد عباس وجيله بملابسهم المدنية، ووقفت أنا وأحمد عيسى بملابسنا العسكرية، وجها ًلوجهه ، فى صراع هادئ على رئاسة إتحاد طلبة مدرسة جمال عبدالناصر الثانوية العسكرية بالإسكندرية للعام الدراسى 1972/1973م. لازلت أذكر ذلك اليوم كأنه حدث بالأمس.كانت إنتخابات الفصول قد تمت وفزت فيها برئاسة فصلى بكل سهولة، كما فاز أحمد برئاسة فصله بنفس السهولة، وأعلن عن يوم إنتخاب رئيس إتحاد الطلبة ونائبه وأربع رؤساء لجان. كانت المدرسة تضم نحو أربعين فصلاً فى ذلك الزمن، لكن أحد من رؤساء الفصول لم يجرؤ على الترشح لمنصب رئيس الإتحاد سواى أنا، وأحمد. وكأن كل شئ كان محسوماً سلفاً، لاأعرف كيف كان الطلبة قد قرروا أن أكون أنا الرئيس، ولاكيف كان عبدالكريم المصرى، مدير المدرسة، وفوزى حسونة ،الإخصائى الإجتماعى، المنافق والدلدول، كما كان الطلبة يطلقون عليهما، قد قررا أن يكون أحمد هو الرئيس، وكأن تعليمات الدولة الجديدة، كانت قد وصلت حتى على مستوى المدارس الثانوية، بأن يتقدم الطلبة المتدينون الصفوف؟ كل شئ تم وإنقضى فى غمضة عين. كان ذلك فى الشهر الأول من السنة الدراسية الثالثة والأخيرة لى فى المدرسة، وقد إجتمعنا جميعاً فى الصالة الكبيرة الواقعة بالدور الأخير من المدرسة. جلس رؤساء الفصول بملابسهم العسكرية الرمادية هادئين فى مقاعدهم يستمعون إلى الكلمة التى إفتتح بها فوزى حسونة اللقاء. كان هناك بعض المدرسين وكان المدير غائباً . تحدث فوزى حسونة عن المدرسة وإسمها الكبير وشرف إنتمائنا إليها، وأشاد بمديرها المنافق وسط تململ المدرسين والطلاب، ثم دعى أحمد إلى الكلام. تقدم أحمد بنفس هدوئه المعتاد وثقته الكبيرة بنفسه، وتكلم بادئاً بآيات القرآن كما كانت عادته، لاأذكرماذا قال بعد ذلك ولاماذا قلت أنا بعده ،كل ماأتذكره أن كلمته كانت أكثر قوة، كما كان أدائه أكثر ثقة، لكن يبدو أنها كانت مجرد دقائق لم يكن من شأنها أن تغير من الإنطباع العام الذى كان ترسخ فى نفوس زملائنا عن كل منا. كان كلانا معروفاً تماماً لدى الطلاب بسبب مساهمتنا الدائمة فى برامج الصباح المدرسية ، كنت أنا الذى أقرأ نشرة الأخبار، وكان أحمد يلقى قصيدة شعرية فى كل صباح، فلم نكن فى حاجة إلى مزيد من التعريف، كما لم يكن من السهولة - فى ذلك الزمن - أن يحوز أحد إحترام الناس ويغير قناعاتهم بمجرد آيتين قرآن. تم التصويت فى أوراق سرية وجمع فوزى الأوراق المطوية إلى منضدة صغيرة وأخذ يفتحها مع المدرسين، بينما جلسنا نحن نحبس أنفاسنا وقد خيم صمت عميق على القاعة، وكان فوزى ينطق إسمى بصوت مرتعش كلما فتح أحد الأوراق ووجهه يزداد إصفراراً. كانت كل الأوراق تحمل إسمى تقريباً، فلم يحصل أحمد سوى على صوته وبعض أصوات قليلة. كانت صدمة فوزى كبيرة عندما أعلنت النتيجة النهائية بفوزى فوزاً ساحقاً وسط تصفيق الطلاب الحاد، لم يكن يتوقع لى كل هذا القبول وهذا التأثير- ولاحتى أنا نفسى - كان يعتقد أن أحمد بشعره وقرآنه هو الأقوى، بدا مرتبكاً ولم يهنئنى وأسرع مغادراً القاعة، وذهب ليخبر سيده عبدالكريم المصرى بتلك المصيبة، ولم يمض وقت طويل حتى عادا معًا وقد تغير لونهما، وبدوا وكأنهما يضمران لى الشروبمجرد أن وقعت عينى عبدالكريم المصرى على حتى أشارإلى بالخروج من بين الطلاب، فذهبت إليهما فإصطحبانى بعيدأ عن أعين الطلاب، وأخذا يستعطفانى ( ياعبدالجواد، مصلحة المدرسة فوق مصلحتنا جميعاً ، أحمد شاعر معروف وفرصته فى الفوز بمنصب كبير فى إتحاد طلاب المحافظة أكبر من فرصتك بكثيرا، أرجوا أن تتنازل له من أجل مصلحة المدرسة) وأخذا يرددان تلك الكلمات وأنا حائر لاأعرف إذا كانت تهديداً أم محاولة إقناع حقيقية، حقاً أم عدواناً، خطأً أم صواباً، ولكن لم يكن أمامى مفر من الإنصياع لهما فى النهاية . كانت جريمتهما فى حقى كبيرة لكن جريمتى فى حق نفسى، وعندما قبلت بجريمة التنازل عن حقى ، كانت أكبر، والغريب أن المدرسين والطلاب لم يقبلا بما حدث، وقد بدا على وجوههم الضيق عندما وقفت أمامهم مرة أخرى أعلن تنازلى عن رئاسة الإتحاد لأحمد حرصاً على مصلحة المدرسة. لم يبد أنهم رحبوا بالفكرة، وكان المدرسين الحاضرين فى غاية الضيق، لكن جبروت عبدالكريم المصرى منعهم من الكلام. كان يعرفون أن مايحدث هو جريمة يعاقب عليها القانون فى أى مجتمع متحضر فأخذا يحرضان الطلاب بنظرات أعينهم على رفض تنازلى، وعندما لاحظ فوزى حسونة صمت الطلاب بعد إنتهائى من كلمتى، التى تنازلت فيها عن منصبى إقترح إعادة الإقتراع. كانت النتيجة مذهلة. فقد فاز أحمد فى الإقتراع الثانى بفارق صوت واحد فقط هو صوتى أنا، فقد أعطيته صوتى بينما عاند كثير من الطلاب ورفضوا منحه صوتهم فى الإقتراع الثانى رغم تنازلى، ورغم نظرات المدير الشريرة. ووقف أحمد يقول خجلاً بعد إعلان النتيجة بفارق صوت واحد( أعرف أن هذا الصوت هو صوت عبدالجواد). لم تكن تلك هى نهاية المأساة ، فلم يحقق أحمد أى إنتصار من أى نوع فى إنتخابات إتحاد طلاب المحافظة، ولم يحصل سوى على صوته كعادته، وتبخرت أحلام فوزى وعبدالكريم عبثاً، وكانت الطامة الكبرى عندما قرأنا - فى العام التالى مباشرة بعد تخرجنا - إسم أحمد عيسى فى الجرائد اليومية مع زميل آخر لنا إسمه طلعت عباس، وكانا قد أصبحا طلاب فى كلية الهندسة ، كأحد المتهمين الرئيسين فى قضية الهجوم المسلح على الكلية الفنية العسكرية، الذى قاده الفلسطينى الإخوانجى صالح سرية سنة 1974م، وراح ضحيته عدد كبير من جنود الحراسة الأبرياء طعناً بالمدى والسكاكين. حُكم على أحمد بالسجن خمس سنوات، وأنهى فترة دراسته الجامعية خلف القضبان، وكان ذلك آخر ماسمعته عنه.
مرت تلك الأيام الجميلة - برغم أى شئ - سريعاً كما تمر كل أيام الحياة وتخرجت من مدرسة جمال عبدالناصر سنة 1973م بعد أن إجتزت إمتحان الثانوية العامة بنسبة مئوية بلغت سبعين بالمائة مكنتنى من الإلتحاق بكلية آداب الإسكندرية بسهولة. كانت سامية قد سبقتنى إلى هناك بعام واحد لكنها كانت قد إختارت دراسة الإجتماع بينما إخترت أنا دراسة التاريخ. كان صيفا طويلا بالنسبة لما سبقه، كانت تلك هى ألأشهر القليلة التى يمكن لى أن أجتاز فيها حاجز الزمن وأنتقل من تلميذ ثانوى إلى طالب جامعى وألحق بسامية التى كنت قد إفترقت عنها دراسياً للمرة الأولى فى حياتى. كنت أسابق الزمن لأنضم إليها مرة أخرى. كان كل شئ بيننا يسير كما هو. لم ألاحظ أنها قد تغيرت. ربما لصغر سنى وعدم درايتى بعالم المرأة بعد أو ربما لإننى كنت مشغولا بثانويتى العامة وبنشاطى المتزايد فى المدرسة فبرغم عزلى عن منصب رئيس إتحاد الطلبة فقد أصبحت نائباً للرئيس وكنت أشارك فى كل الفعاليات التى تشارك فيها المدرسة وأحظى بإحترام زملائى وأساتذتى كما كنت دائما ، كما ظللت أواصل نشاطى فى مجلتى المدرسية الشهيرة. كنت مزدحما بشكل ما ، لم ألآحظ أن شئ ما قد تغير حولى أو أن شئ قد بدأ يتغير حولى ، حتى مرض أم بسيونى المتزايد يوم بعد يوم لم أشعر أن نهايته المأساوية تفترب فعلاً. كان كل شئ يبدو طبيعيا. كان كل ماينقصنى هو أن ألحق بسامية فى كلية الآداب. لايهم أن أكون فى السنة الأولى وتكون هى فى السنة الثانية ، المهم أن نكون معاً فى نفس العالم.
وكما كانت سنة 1973م حاسمة فى تاريخ حياتى، فقد كانت سنة حاسمة فى تاريخ الوطن أيضاً. كان الرئيس السادات قد وعد بتحرير سيناء المحتلة فى أكثر من مناسبة منذ وصوله إلى السلطه، لكنه كان يخلف الوعد دائماً . كانت مظاهرات الطلاب اليساريين المطالبة بحرب التحريرقد بدأت تضغط على أعصابه، وربما كانت تلك التظاهرات هى مادفعته إلى إخراج قيادات الإخوان المسلمين من السجون سنة 1972م، وإعطائهم حرية العمل فى الجامعات للقضاء على تيار اليسار فى صفوف الطلاب. كان ذلك القرارالخطيرهو الذى إبتلع زملائى أحمد عيسى وطلعت عباس، وإبتلع الوطن كله فيما بعد. لم أكن أفكر فى شئ من هذا فى ذلك الوقت، لقد إتضحت كل تلك الأمور فيما بعد، كنت أعيش الحياة ببساطة مقتبل العمر، وأذكر أننى فى تلك السنة قد قمت وأنا وأصدقائى بآخر رحلاتنا إلى شاطئ العجمى، وقضينا وقتا طويلاً بين أشجاره وشواطئه الجميلة قبل أن نفارقه ويفارقنا إلى الأبد.
إنقضى الصيف تقريباً ولم يعد يفصلنا، أنا وأصدقائى، عن حلم دخول الجامعة سوى أيام معدودة ، ولكن فجأة وبالتحديد بعد ظهر يوم 6 اكتوبر تغير كل شئ حولنا، وأخذت الإذاعات تدوى بالأناشيد الوطنية والأغانى الحماسية، ولم يطل ترقبنا طويلا، فسرعان ما أذاع الراديو البيان العسكرى الأول ، معلناً نبأ عبور قواتنا المسلحة لقناة السويس، وبداية حرب تحرير سيناء. عمت الفرحة قلوبنا جميعاً، وأخذنا نهتف فى فرح هستيرى، غير مصدقين للنبأ ، لكن البيانات توالت معلنة إنتصار يتلوه إنتصار، وبدأت الجرائد والتليفزيون الحكومى تنشر صور خط بارليف ، الذى إقتحمته القوات المصرية ، وصور الأسرى الإسرائيليين تتقدمهم صور العقيد عساف ياجورى، قائد أحد ألوية الدبابات ، والذى أسرته القوات المصرية فى بداية إقتحامها للشاطئ الشرقى للقناة . أيام لايمكن أن تنسى. نسى كل منا أحلامه الصغيرة ، وتذكر فقط حلم الوطن الكبير، فى الحرية والتحرير، ولكن وفى خلال أيام قليلة، تغير ذلك المشهد السعيد بشكل مفاجئ، وبدأت المعلومات العسكرية الواردة من جبهة القتال فى التناقص، وبدأ صمت ثقيل يخيم على الوطن كله، فقد كانت القوات الإسرائيلية قد بدأت هجومها المضاد فى الخامس عشر من نفس الشهرأكتوبر. بدأ الشارع يلح فى طلب المعلومات، ولكن يبدو أن حالة الإرتباك التى سادت الجبهة، قد أخرت وجود أى معلومات. كانت القوات الإسرائيلية وبعد أن صدت إندفاع القوات السورية فى الجولان، قد ركزت على الجبهة المصرية، وتمكنت، بمساعدة أمريكية على الأرجح، من تحديد المنطقة الفاصلة بين الجيشين الثانى والثالث عند منطقة الدفرسوار، وبدأت إختراقها الشرس للجيوش المصرية بقيادة الجنرال آريل شارون من عند تلك النقطة، ونجحت فى عبور القناة، وأخذت فى تدمير وسائل الدفاع الجوى، والتقدم بإتجاه مدينتى السويس والإسماعيلية ، لمحاصرة الجيشين الثانى والثالث فى سيناء، حيث نجحت بالفعل فى حصار مدينة السويس، وحصار الجيش الثالث معها ، بينما صدتها القوات الخاصة عن مدينة الإسماعيلية، وأفلت الجيش الثانى من الحصارجزئياً . كانت وسائل الإعلام العالمية قد بدأت تتحدث عن الكارثة على الجبهة المصرية، لكن وسائل الإعلام المصرية ظلت تطمئننا بأن كل شئ كان تحت السيطرة، لكنا كنا قد بدأنا نفقد أعصابنا، فقد كان الواقع يقول بعكس ذلك. كان الخلاف قد دب فى مركز القيادة بين الرئيس السادات، وبين قائد الأركان الفريق سعد الدين الشاذلى. كان الفريق الشاذلى يرى سرعة إسترجاع إحدى الفرق المدرعة التى عبرت القناة بأمر السادات، والذى كان قد أمر بتطوير الهجوم فى سيناء خارج مظلة الدفاع الجوى، ضد رغبة القادة العسكريين، وذلك للدفاع عن غرب القناة ومنع إنتشار القوات الإسرائيلية المهاجمة ، بينما كان الرئيس السادات يرى أن ذلك قد يؤدى إلى إنهيار الروح المعنوية على الجبهة. كان الفريق الشاذلى يعالج الموقف كعسكرى، بينما كان الرئيس السادات يعالجه معالجة سياسية. كان الرئيس السادات قد ألقى بكل أوراقه فى يد الأمريكيين، وتصور أنهم لن يخذلونه، وكان محقاً فى تصوره، فسرعان ماتدخلوا لرفع الحصار الإسرائيلى عن الجيوش المصرية، ثم دفعوا بمفاوضات فك الإشتباك بين الجيوش، وهى المفاوضات التى أدت ، أيضاً ، إلى توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية فى كامب ديفيد بعد ذلك بسنوات قليلة. وكذلك كان الفريق سعد الدين الشاذلى على حق فى إدارته للمعركة العسكرية، وكان من شأن إقتراحه بتحريك الفرقة المدرعة، وإعادة الإنتشار السريع للقوات، أن يجهض عملية الهجوم المضاد الإسرائيلى، ويزيد من قدرة مصر التفاوضية فى اللحظة المناسبة، لكن يد السادات كانت هى الأقوى، وتم عزل الشاذلى عن منصبه، وتولية رئيس العمليات الفريق عبدالغنى الجمصى مكانه، وهو الذى تولى المفاوضات حول فك الإشتباك مع القوات الإسرائيلية . كان كلا الرجلين من عالم مختلف، كان الفريق الشاذلى بطلاً من زمن الناصرية والحرب الباردة، وكان لايلين فى عدائه للولايات المتحدة وإسرائيل، أما السادات فكان طرازاً آخر من الرجال، كان يكره الإتحاد السوفيتى، ويحتقر التجربة الناصرية، ولايؤمن إلا بنفسه، وعندما إنتصرت وجهة نظره فى رهانه على الأمريكيين، وحقق السلام وإسترد الأرض، طغى النصر السياسى على الكارثة العسكرية التى إنتهت بها الحرب، وإستقرت حرب أكتوبر فى ضمائرنا كإنتصار، وليس كهزيمة. إنتهت أيام حرب أكتوبر سريعاً وتقررإفتتاح الجامعات لكنى لم أكن أتصور أبد أن تلك السنة 73/1974 سوف تكون بهذه القسوة وبهذا التأثير السلبى على مجمل حياتى.


1-ملحوظة/ذكر رؤية السادات لمرة واحدة عند قصر الصفا أثناء زيارة بودجرنى لمصر أثناء السنة الأولى فى مدرسة جمال عبدالناصر الثانوية
2-إسم المدرسة الثانوية التى إنتقلت إاليها من مدرسة الناصرية سنة 1970م(مدرسة الثغر الثانوية بنين- بحى لوران) ومنها إلى مدرسة جمال عبدالناصر العسكرية


5- سنوات الجامعة
وهكذا حل ذلك اليوم المنشود، ونزلت فى الصباح مرة أخرى، كما إعتدت أن أفعل طوال سنوات طويلة، ولكن فى إتجاه جديد هذه المرة، فى إتجاه محطة الرمل حيث تقع كلية الآداب، وليس فى إتجاه فيكتوريا حيث وقعت كل المدارس التى درست بها من الإبتدائى حتى الثانوى. وكما كان الإتجاه مختلفاً، كانت الروح أيضاً مختلفة، والأحاسيس مختلفة، مزيد من الإحساس بمعنى الحياة، ولحظة فراق قاطعة بين سنوات الصبا وسنوات الشباب، وفرحة العودة بمرافقة صديقة طفولتى مرة أخرى فى رحلة الدراسة.
لم يتغير المشهد الصباحى عما كان عليه دائماً على محطة ترام باكوس، نفس الإزدحام الهادئ، بنفس الوجوه تقريباً، نفس الفتيات الأنيقات، نفس الشباب نصف النائم، نفس الترام القديمة وهى تمخر عباب الهواء، تستقبل دفعات من الركاب فى أثر دفعات، حتى تترك المحطة خالية خلال أقل من ساعة من الزمان يتوسطها كشك خميس بائع الجرائد، كما كان هكذا دائماً. وفى ذلك اليوم حملتنى الترام أنا وسامية إلى كلية الآداب، مكان دراستنا المشترك الجديد. لم يكن مجمع الكليات النظرى، حيث تقع كلية الآداب، بنفس الإزدحام الذى هو عليه اليوم، كان يتكون من مبنين رئيسيين فقط، مبنى كلية الآداب الواقع أمام محطة الشبان المسلمين، ومبنى كلية الحقوق والتجارة الواقع أمام محطة الأزاريطة، لم يكن يفصل بينهما سوى مساحات واسعة خضراء ومقاعد متناثرة لجلوس الطلاب. كل هذه المبانى المزدحمة المتلاصقة المتواجدة الآن، أضيفت خلال السنين التالية. كان التصميم المعمارى لهما رائع الجمال، يبعث على الإرتياح والرغبة فى قضاء أطول وقت ممكن داخل هذه الأروقة الجميلة وهذه المساحات الخضراء، والتى أضافت إليها نسمات البحر الواقع أمامهما صفاء وإحساس بالجمال. لم تكن مكتبة الإسكندرية قد بنيت بعد، ولم يكن هناك سوى مستشفى الولادة التى مازلت فى مكانها حتى اليوم. كانت كلية الآداب تتكون من مبنين متقابلين، يفصل بينهما فناء واسع، كان الدور الأرضى من المبنى الأول عبارة عن مكتبة كبيرة، وكان الدور الأرضى من المبنى الثانى عبارة عن كافيتريا فسيحة، يفصل بينهما الفناء الواسع، حيث يقع مدرج العبادى أكبر مدرجات الكلية. وفى لحظات الإنتظار بين المحاضرات ، كان الطلبة يستمتعون برفاهية الإختيار بين المكتبة والكافيتريا والفناء الفسيح، وهى خيارات لم تعد متاحة لهم الآن ، فقد تحولت كل هذه الأماكن الجميلة إلى مايشبه المخازن والدكاكين القديمة.
كان معظم المحاضرات فى الصباح، قليل منها فقط كان فى المساء، كان هناك أسماء كبيرة فى التخصصات المختلفة ، دكتور مصطفى العبادى فى التاريخ الرومانى ، دكتور لطفى عبدالوهاب فى التاريخ اليونانى، دكتور عبدالعزيز سالم فى التاريخ الإسلامى، دكتور رشيد الناضورى فى التاريخ الفرعونى، دكتور خليل فى التاريخ الحديث، دكتور جوزيف فى تاريخ العصور الوسطى الأوربية، وأسماء كثيرة أخرى أطلت فى السنوات التالية مثل دكتور سروجى ودكتور عصفور وبيومى مهران وعمر عبدالعزيز و مختار العبادى وغيرهم. كانت الكتب أيضاً متاحة منذ بداية العام الدراسى حيث كانت كتب هؤلاء الأساتذة الكبار دائمة التداول فى المكتبات الواقعة بشارع سوتر أمام مجمع كلية التجارة والحقوق، لم يكن نظام الملازم، والذى كنا نسميها بأوراق اللحم، ولانظام التصوير الدائم والمرهق المعمول به اليوم قد عرفا بعد. كل شئ بدا جديداً جميلاً، بإستثناء أمرين وحيدين بدأ يشغلان بالى، أولهما هوحبيبتى وصديقة طفولتى، التى بدت وكأنها شاردة حزينة، والثانى هو صحة أم بسيونى التى كانت فى تدهور مستمر!!!
كانت لقاءاتنا فى السنة التى إختلفت فيها سنوات دراساتنا لقاءات خاطفة تغلب عليها الرغبة الجنسية، والجنس،وكما يكشف العواطف، فهو يخفيها أيضاً، ولذا فلم أستشعر أى تغيير فى مشاعرها نحوى، ولكن الآن وبعد أن أصبحنا نقضى معاً أوقات طويلة من الصباح إلى المساء فى نفس مكان الدراسة المشترك، بدأت ألاحظ شئ من التغيير، شئ من الملل والشرود، لم يعد هناك وجود لتلك الفرحة التلقائية القديمة وذلك الإنسجام المشترك، أصبح هناك حاجز بيننا، حاجز لم يمضى وقت طويل قبل أن أتبين أسبابه ، فبعد حوالى شهر من بداية الدراسة فاجأتنى يوماً بأن مواعيد محاضراتها قد تغيرت، وأنه لن يكون بمقدورها أن تنزل معى فى كل صباح، فقط فى بعض الأيام، ولكن ليس فى كل يوم، وكذلك بالنسبة للعودة، ليس فى كل يوم. كانت الحجة ساذجة ومكشوفة لإنه حتى وإن تغيرت المواعيد فقد كان يمكننا أن ننزل معاً ونعود معاً إذا أردنا، حيث كان يمكن لكل منا أن ينتظر الآخر فى المكتبة أو فى الكافيتريا ولم يكن هناك من يراقب مواعيد نزولنا أو مواعيد عودتنا فى ظل الحرية الأسرية التى كنا نتمتع بها. تظاهرت بالموافقة لكنى شعرت بأن هناك حدث جلل تخفيه الأيام ، وإختلفت مواعيدنا مرة أخرى وبدأت حياتى الدراسية ترتبك، وقبل أن أفكر فى أن أذهب إلى قسم الإجتماع لأتأكد من حدوث أى تغيير فى جداول المحاضرات فعلاً ، قدمت لى الصدفة إجابة السؤال الذى كنت أبحث عنه، ففى أحد الأيام وبالمصادفة، رأيتها من بعيد تقف بالقرب من مبنى كلية التجارة مع جارنا أسامة، الطالب فى كلية الهندسة، كان الحوار بينهما يبدو كأنه شجار، ولم يستغرق طويلاً قبل أن ينصرف أسامة كأنه غاضباً، وعادت هى فى إتجاه كلية الآداب وقد تلون وجهها بين الحزن والغضب، ولم تلاحظ وجودى أراقبها على بعد خطوات فقط. تسمرت قدماى بالأرض كأنها شلت وإعتصر قلبى الألم لكن الغضب كان أقوى فإنطلقت فى أثرها وناديتها بصوت مرتفع وعندما إستدارت ورأتنى ظهر على وجهها الفزع، أدركت إننى رأيتها مع أسامة ، لكنها تماسكت وإصطنعت إبتسامة، وحتى قبل أن أسألها عما جاء به هنا كانت إجابتها حاضرة، قالت - مجرد صدفة، لم تبد الإجابة مقنعة لكن لاأعرف لماذا أقنعت نفسى بها مؤقتاً. إستقلينا الترام ورجعنا معاً، وفى الطريق خيم علينا صمت رهيب وبدأت رحلة الفراق بيننا، ففى صباح اليوم التالى فوجئت بها على باب غرفتى تعطينى أغرب رسالة يمكن أن ترسل بها إمرأة إلى رجل، أعطتها لى وإنصرفت بسرعة قائلة - أقرأها على مهلك وياريت تفهمنى!!!
فتحت الرسالة فزعاً وأخذت فى قرائتها وأنا أشعر كأن جدران غرفتى الصغيرة تدور ، قالت أنها إضطرت لكتابة هذه الرسالة لإنها لم تجد فى نفسها الشجاعة لمصارحتى بما فيها، إعترفت لى بعلاقتها بأسامة، وقالت أنها حدثت فى العام الماضى أثناء ركوبهما المتكرر معاً للترام فى طريقهما إلى الكلية وأنها قد أحبته لكن هذا لايعنى أنها لم تعد تحبنى، طلبت منى أن أتقبل هذا الوضع مؤقتاً حتى تحسم أمرها، وأن لاأدفعها إلى سرعة الإختيار، وأكدت فى نهاية الرسالة، وفى إشارة مبطنة إلى علاقتنا الجنسية، بأن لا شئ مما كنت أحصل عليه سوف يتغير، وأننى مازلت الرجل الأول فى حياتها!!!
أعدت قراءة الرسالة أكثر من مرة وكأننى لم أقرأ شيئاً، توقف عقلى عن التفكير ولم أعد أشعرحتى بما سببته من ألم، وبدون تفكير نزلت السلالم الفاصلة بيننا وضغطت على جرس شقتها دون إدراك عواقب تصرفى ، فلم أكن أعرف من سيفتح لى الباب ويرانى على هذه الحالة المزرية، وكأنها كانت تنتظر، فتحت الباب وكانت بكامل ملابسها وزينتها تتأهب للنزول إلى الكلية، وقبل أن تنطق بكلمة ألقيت بالرسالة فى وجهها قائلاً بما يشبه الصراخ - حتى لو إخترتينى فأنا أرفضك، مالت إلى الأرض وإلتقطت الرسالة وقالت بهدوء- أنت حر، ونزلت السلالم فى طريقها إلى الكلية، ولم أعد أراها بعدذلك رغم الخطوات القليلة الفاصلة بيننا، وخيم ظلام كثيف على حياتى كلها!!!
كان ثمن التحدى مهولاً، كل شئ تغير حولى بدون وجودها، وبدأت أرى الأشياء على حقيقتها كما هى فى الواقع، فلم أعد أرى نفسى سوى إنسان مقطوع من شجرة، كما كان الناس يصفوننى أحيانا، ولاسطوحى الرومانسى سوى ملجأ للفقراء، ولامنزل النوبيين العتيق سوى مقبرة قديمة، ولاالشتاء الحنون سوى مواسم للوحدة ، ومع ذلك فقد واصلت التحدى ولم يخطر ببالى العودة وقبول العرض الغريب، كان من الصعب فى هذا العمر أن أقبل ذلك العرض المشبوه، مع ذلك أعترف الآن، وبعد مرور هذا العمر الطويل، أنه لو عاد بى الزمن مرة أخرى، وعرضت على سامية - أو غيرها - عرض النصف حب هذا، لقبلته، وماحملت نفسى كل هذا الألم، فكل العواطف تفنى فى النهاية!!!
وفى خضم كل هذا الحزن الكثيف كان هناك حزن آخرفى إنتظارى، كان مرض السكرى قد ألم بأم بسيونى منذ فترة طويلة ، لكن آثاره المدمرة لم تكن قد بدأت فى الظهور إلا فى السنة الأخيرة، حيث أصبحت عاجزة عن القيام بواجبات المنزل أو الذهاب إلى السوق وأصبحت فى حاجة إلى الرعاية بعد أن كانت هى التى ترعانى طوال نحو عشرين عاماً، لكنى وفى خضم الزلزال الذى عصف بحياتى، بخروج سامية المفاجئ منها كنت أعيش بنصف عقل ونصف روح أحاول جاهداً أن أؤدى واجباتى الدراسية الجديدة دون إدراك كامل لكل مايجرى حولى فى الواقع. لم أتصور أن حالتها الصحية قد تدهورت إلى هذا الحد إلا بعدما عدت فى أحد الأيام من الكلية لأجدها بالمصادفة تجاهد من أجل القيام من الأرض والجلوس على الصوفا التى تنام عليها . لاأعرف ماذا حدث ولاكيف سقطت على الأرض، أسرعت فزعاً وبذلت كل جهدى حتى ساعدتها فى الجلوس مرة أخرى. كان وزنها الثقيل مازال كما هو لم ينل منه مرض السكرى وكذلك وجهها الأبيض الجميل، وأجهش كل منا فى بكاء طويل وأدركت منذ ذلك اليوم إننى لن أستطيع تركها وحيدة لفترات طويلة بعد ذلك!!!
وإتخذت قرارى الخطير بأن أكتفى بحضور الكلية يوم واحد فى الأسبوع أسأل فيه زملائى عما درسوا خلال الأسبوع على أن أذاكره فى الكتب بعد ذلك. كانت الكتب الدراسية متاحة، وكان الحضور إختيارياً، فقد كانت المدرجات مزدحمة، ولم يكن هناك إمكانية لتسجيل أى حضور للطلاب، وذلك بإستثناء سكشن اللغة الإنجليزية، الذى عرفت بعد تخرجى فقط، أنه كان يسجل حضور الطلاب، وأن هذا التسجيل كان يعمم على جميع المحاضرات الأخرى بحيث يعتبر كمقياس لمدى إلتزام الطلاب بحضور المحاضرات ويمنحهم بعض درجات هامة كان يحرم منها الغائبين أمثالى!!!
كان هناك ظرف آخر ساعدنى على إتخاذ هذا القرار، وهو شلة أصدقائى الجديدة من أبناء الحى، كان معظم الأصدقاء القدامى قد خرجوا من حياتى ، وبدأ أصدقاء جدد أكثر ثقافة وإهتمام بالحياة العامة يحلون محلهم ، كان عادل وكمال قد سافرا إلى الكويت بعد حصولهما على دبلوماتهما الفنية بفترة قصيرة، كما كان سامى قد خرج، وكذلك شريف، وهشام وأبناء الترجمان، ولم يبقى من أصدقاء الطفولة ومراحل الدراسة الأولى سوى رفعت رسمى وأنا، وإلينا إنضم ، محمود خليل، وكان من زملاء مدرسة جمال عبدالناصر ومن أبناء حى باكوس أيضاً، وكان طالباً بكلية الطب، وكذلك رفعت بهجت من أبناء حى صفر القريب، وكان طالباً بمعهد الخدمة الإجتماعية، وعلى سعد من أبناء حى باكوس وكان طالباً بكلية الهندسة، وحسين تمراز وكان طالباً بكلية التجارة، وكذلك زميله حمدى صبرى الذى إنضم معه إلى شلتنا الجديدة، أما رفعت رسمى فقد إلتحق بكلية الزراعة، بينما كنت أنا بكلية الآداب، وهكذا كانت هذه المجموعة الجديدة كأنها تمثل كل أطياف المجتمع بحيث لم تعوضنى فقط عمن خرج من أصدقاء قدامى، بل عوضتنى أيضاً عن إرتباك حياتى الدراسية والإجتماعية ، وكان هؤلاء هم من أكملت معهم رحلة الحياة، لسنوات طويلة قادمة، كذلك كان هناك ظرف آخر دفعنى إلى إتخاذ هذا القرار الخطير، ظرف خفى لم أتبينه إلا بعد رحيل هذا الزمن كله، وهو إننى أصبحت راغباً فى العزلة والإنسحاب، فقد إنكسرت روحى بخروج سامية من حياتى، ولم أعد فى الواقع قادراً على مواصلتها بشكل طبيعى.
لم تكن تلك المجموعة الجديدة من الأصدقاء، والذين إتخذت منهم أسرة بديلة لسنوات طويلة بعد ذلك، هى كل ماوهبنى القدر فى تلك اللحظات الحاسمة من حياتى، فقد كان هناك مفاجأة جميلة أخرى فى إنتظارى، كأنها عملاً بقاعدة أن الحياة تأخذ وتعطى، فقد كان هناك فتاة جميلة فى إنتظارى، ففى أحد الأيام، فى بدايات شهر فبراير تقريبا، حوالى الساعة الرابعة عصراً، وبينما كنت أجلس فى غرفتى، أحاول القراءة فى أحد كتبى الدراسية، وكانت أم بسيونى تغط فى نوم عميق على صوفتها فى الصالة لاتعرف الفرق بين الليل والنهار، سمعت طرقاً خفيفاً على الباب الخارجى للسطح يبدو أن صاحبه لم يكن يعرف أن للسطح جرس، قمت على الفور وأنا أرتدى بيجاما المنزل العادية وفتحت الباب لأفاجئ أمامى بوفاء صديقة سامية، وهى تقول -آسفة جيت من غير ميعاد، عرفت من رفعت أنك لم تعد تذهب إلى الكلية بسبب مرض مامتك فجيت أزورك، أجبتها مرتبكاً -أهلاً وسهلاً ، و قدتها إلى غرفتى ، فلم يكن هناك مكان آخر يمكن أن أستقبلها فيه، كان الجو بارداً فلم يكن من الممكن أن نجلس فى السطح، وكانت أم بسيونى نائمة فى الصالة الصغيرة ، فلم يكن من الممكن أن نجلس هناك أيضا. جلست إلى مكتبى وجلست هى فى مواجهتى على حافة السرير، كنت خجلاً بعض الشىء، لكنها كانت سعيدة وهى تجول بناظريها فى أرجاء الغرفة الصغيرة، لم أجد ماأقوله فى البداية، لكن سرعان مازال الخجل وأخذنا نتحدث فى تلقايئة. لم تكن أبداً بالصورة التى رسُمت لها فى أذهان معظمنا، فبرغم جرأتها الزائدة، ومزاحها الدائم ، والخارج أحياناً، فقد رأيتها طيبة، بسيطة، تخفى من خلال تلك الجرأة الزائدة، والمزاح الكثير، ألم كبير!!!
تحدثنا فى كل شئ وعن كل شئ، حكت لى عن أسرتها، عن الخلافات الدائمة بين أمها وأبيها، عن أخيها الذى يصغرها مباشرة، والذى إلتحق حديثاً بالمدرسة الجوية، وكانت مدرسة حديثة النشأة فى ذلك الوقت، وعن أخيها الأصغر الأقرب إلى قلبها، عن الكلية ومصاعب المذاكرة بين عائلة غير مستقرة ولامتناغمة، وإقترحت حتى أن نذاكر معاً وأن نذهب إلى الكلية معاً كلما سمحت ظروفى ، ولم يكن لدى ماأحكيه، فقد كانت تعرف عنى وعن علاقتى بسامية كل شئ، قالت لى أنها كثيراً ماتراها الآن مع أسامة فى كل مكان، وأنهما ماعادا صديقتين كما كانا أثناء المدرسة الثانوية، وقالت، ولاأعرف إذا كان ذلك عمداً أم بتلقائيتها المعهودة، أنها كثيراً ماحلمت برؤية تلك الغرفة الجميلة، كان واضحاً أنها تقدم نفسها كهدية بديلة، وكان واضحاً أننى قد قبلت الهدية!!!
وهكذا دخلت وفاء إلى حياتى وملأتها فرحاً ، أصبحنا نلتقى فى كل يوم تقريباً، وأصبحت أنزل معها إلى الكلية أكثر من مرة فى الأسبوع بعد أن أوصى الجيران برعاية أم بسيونى لحين عودتى، عرفتنى بجميع زملائها فى الكلية، وكانت قد سبقتنى إلى هناك بسنة أيضاً، كما عرفتنى بأخيها الصغير الأثير إليها وكان تلميذأً فى المرحلة الإعدادية فأصبحنا أصدقاء، لم نكن نعبأ بشئ، كانت إذا رأتنى مصادفة أقف فى بلكونة السطح تشير إلى بيديها حتى لو كانت فى نهاية الشارع أو على محطة الترام وكنت بدورى أناديها بأعلى صوت حتى تصعد إلى غير عابئ بعيون الناس أو برأيهم فيما أفعل، لكن وفى خضم كل هذا الفرح الظاهرى كان هناك خلل ما، فالواقع إننى لم أستطع أن أحب وفاء ، أو على الأقل أرغب فيها جنسياً ، فقد كنت مازلت مسكوناً بإبنة الجيران، وبنمط علاقتى الجنسية بها، وكما يحدث عادة فى مثل تلك العلاقات الجنسية التى تبدأ فى فترة مبكرة من فترات سن المراهقة وتستمر لسنوات طويلة فتتحول إلى نوع من الإدمان النمطى الذى يصعب التخلص منه إلا بعد المرور بالعديد من التجارب الأخرى، وربما كنت أحتاج فقط لمزيد من الوقت، وربما كنت قد أصبحت فعلاً مريض إكتئاب دون أن أدرى ، رغم كل هذا الفرح الظاهرى الخداع ، وربما لكل هذه الأسباب مجتمعة، وعندما أدركت هى ذلك، قامت كعادتها بأخذ زمام المبادرة وقررت ان تضعنى أمام الأمر الواقع، وتنتزع منى الإعتراف بالحب، فكان ذلك هو الخطأ القاتل الذى أودى بعلاقتنا قبل أن تطرح زهرتها فى الوقت المناسب!!!
ففى عصر أحد الأيام، وبدون ميعاد كالعادة، فوجئت بها أمامى وهى فى كامل زينتها، تحمل أحد دواوين الشاعر نزار قبانى، وكانت أشعاره واسعة الإنتشار بين الشباب فى ذلك الزمن، دخلنا غرفتى، وجلست على حافة السرير كما كانت عادتها لكن بشئ من الإنفعال المكتوم هذه المرة، ربما إنفعال العاطفة أو إنفعال الرغبة أو كلاهما فكلاهما فى النهاية شئ واحد، كانت أم كلثوم تغنى أغنيتها الشهيرة(الأطلال) فى إذاعة الأغانى والتى كانت تسمى بإذاعة أم كلثوم فى ذلك الوقت وكنت قد ضبطت الراديو عليها بشكل دائم حيث إعتدت أن أذاكر وأنام وأصحو على أغانيها كما إعتاد كثير من المصريين فى ذلك الزمن. تحدثنا بكلام عام لبعض الوقت، ثم قدمت لى الديوان وقالت- إشتريت لك هذا الديوان، أعرف أنك تحب نزار، وهناك قصيدة أحب أن أقرأها لك بنفسى، فتحت الكتاب على قصيدة بعنوان (إندفاع) وأخذت تقرأها بصوت مرتعش، كانت الأبيات الأولى من القصيدة تقول:
أريدك
أعرف إنى أريد المحال
وأنك فوق إدعاء الخيال
وفوق الحيازة وفوق النوال
وأطيب مافى الطيوب
وأجمل مافى الجمال
وبصوت مرتعش ، أكملت القراءة حتى نهاية القصيدة ثم أغلقت الديوان وأعادته لى مرة أخرى. لم أجد ماأرد به على هذه الدفقة المفاجئة من العاطفة سوى كلمة وحيدة بليدة، أشكرك، وكأننى لم أسمع شئ، وكأن فتاة فى عز الشباب وعز الأناقة وعز الجمال، لم تقدم لى نفسها هدية على طبق من ذهب، هدية بلا مقابل ولاتقدر بثمن. تلقت وفاء الصدمة بهدوء، وأكملت لقائنا بهدو، ثم إنصرفت بهدوء، لكنها إنقطعت عن زيارتى بعد ذلك، وإختفت تماماً عن الأنظار، وأسقط فى يدى وإحترت بين الإنسحاب والإعتذار، ولكن وبعد أن إستبدت بى الوحدة، وشعرت بفداحة فقدانها قررت الإعتذار.
كنت فى حيرة كيف أقدم هذا الإعتذار، وماذا أقول بالتحديد، لإن مجرد الإعتراف بعدم تجاوبى مع عرضها كان يمكن أن يسبب جرح أقوى، كما إننى لم أكن أعرف كيف أراها، فقد إختفت تماما ولم تعد تذهب حتى إلى الكلية، فكرت فى الذهاب للسؤال عنها فى منزلها مباشرة، لكنى فى النهاية إهتديت إلى فكرة أفضل، كتبت خطاب مختصر أسأل فيه عنها وأقول إننى أفتقدها دون ذكر لماحدث، وأعطيته لأخيها الصغير وأوصيته بتوصيله إليها، وبالفعل قام بذلك وفى اليوم التالى وجدتها أمامى بدون تأخير لتتكرر نفس المأساة.
جلست أمامى فى إنتظار كلمة الحب التى رفضت أن تخرج رفضاً قاطعاً، لم يكن أمامى سوى أن أرمى بنفسى عليها وأخذ فى تقبيلها بدون إحساس، كان أسوء لقاء جنسى عشته فى حياتى ، وبالفعل وصلت وفاءالرسالة، لاأعرف كيف وصلت بالتحديد، لكنها وصلت على أى حال، فقد إنقطعت عن رؤيتى مرة أخرى، وهذه المرة تقبلت الأمر الواقع ولم أحاول ملاحقتها بعد ذلك ، رغم ثقتى التامة بأننى لو حاولت لرجعت مرة أخرى وأخرى، كان كرمها معى بلا حدود، لكنى توقفت وتركت الأمر للظروف، لكن هذه الظروف لم تأت أبداً بعد ذلك ، فبعد أقل من سنة من تلك الأحداث ، رجعت إلى سامية ، أما وفاء فقد تركت الجامعة قبل تخرجها وتزوجت ورحلت مع زوجها إلى أحد البلاد العربية، كما إنتقلت أسرتها أيضاً من حى باكوس، ولم يعد لهم فيه سوى مجرد الذكرى . كانت وفاء نموذج لجيل بنات الطبقة الوسطى المصرية قبل أن تنتكس هذه الطبقة إلى الحجاب ، كانت جميلة ، بسيطة ، أنيقة ، متحررة ، تبحث عن الحب، مستعدة لدفع الثمن والتضحية من أجل من تحب ، كان خطأها الوحيد هو أنها لم تختار الشخص المناسب !!!
كان هناك تحديات أخرى تبرز أمامى، كانت صحة أم بسيونى فى تدهو نهائى، وكانت قد أصبحت فى حاجة لمن يساعدها على الإستحمام وقضاء حاجتها، كما كان الإمتحان على الأبواب. كان الوقت هو شهر إبريل وكان موعد إمتحان السنة النهائية فى شهر مايو التالى مباشرة حيث كانت إمتحانات السنة الدراسية تعقد مرة واحدة فى نهاية العام الدراسى فى تلك الأيام، حوالى شهر مايو ويونيو، ولم يكن نظام الترمين قد عًرف بعد. فجأة وجدت الكتب أمامى كأنها أطنان مكدسة من الورق. كان هناك حوالى تسعة مواد ولم أكن قد قرأت كل شئ فيها ، كان زميلى أنور، الطالب معى فى نفس القسم ،وكان من زملاء مدرسة جمال عبدالناصر الثانوية أيضا، يشعرنى بآخر التطورات الدراسية، سواء إذا ذهبت إلى الكلية أو جاء هو لزيارتى، وقد لفت نظرى إلى أن الإمتحان على الأبواب وعرفنى بالموضوعات الدراسية الهامة، كان هناك بعض المواد الصعبة فعلاً ، مثل مادة الجغرافيا الإقليمية التى كان يدرسها لنا دكتور شديد الغرور لعله إسمه أبو العينين، كذلك كانت مادة تاريخ الشرق الأدنى القديم التى كان يدرسها لنا الدكتور رشيد الناضورى مادة صعبة ، كما كان هناك كثير من الموضوعات المختلطة على نتيجة لعدم إنتظامى فى حضور المحاضرات، وهكذا كان على أن أبداً سريعا، وبدأت بالفعل ولم يمثل لى مرض أم بسيونى عائق حقيقى بل إننى كنت أستمد من رعايتى لها القوة أحياناً، رغم أننى قد تعللت به لأبرر إنسحابى بعد ذلك، لكن الواقع أن إضطرابى الحقيقى كان نابعاً من خروج سامية من حياتى وعجزى عن تعويض الفراغ الذى تركته فى تجربة وفاء المأساوية. لقد أحدث ذلك شرخاً كبيراً فى نفسى لم أستطع تجاوزه وإنعكس ذلك فى عدم قدرتى على التركيز فى المذاكرة والإستعداد للإمتحان، وسرعان ماتحول إحساسى بالعجز هذا إلى هلع وإضطراب فى النوم وفقدان الشهية للطعام، فقد أصبحت مريض إكتئاب دون أن أدرى ، فلم أكن حتى قد سمعت عن وجود هذا المرض القاتل بعد. حاولت أن ألجاً للصلاة كى تمنحنى القوة ولكن دون جدوى، لم أكن قد نشأت نشأة دينية بحكم غياب الأب الدائم وتحررى من تلقين الإسرة ولكن هذا لايعنى إننى كنت منفصلاً عن مجتمعى الإسلامى، فقد كنت مازلت إبن هذا المجتمع، كنت أصلى بشكل غير منتظم مثل كثير من المصريين، أيام الجمعة أحياناً، فى رمضان أحياناً أخرى، بدون سبب أحياناً أخرى، كما كنت مازلت أشعر بالذنب من علاقتى الجنسية بسامية رغم إننا كنا نقمع ذلك فى خضم الرغبة، ولذا فقد كانت الصلاة مازلت باباً مفتوحاً أمامى، لكن هذا الباب أثبت فى النهاية أنه بلافائدة ، مجرد وهم ومسكن مؤقت ، لقد كان صديقى محمود ودوائه هما اللذان قدما الحل ، وطويت سجادة الصلاة ولم أعد إليها بعد ذلك أبداً.
كان محمود شاباً،ً مثقفاً ذكياً ، متفوق علمياً، وكانت صداقته مكسب كبير لى فى ذلك الوقت وقبل أن تتحول صداقتنا إلى علاقة تحاسد وعداء فيما بعد، فبرغم تخصصه الطبى فقد كان يعشق قراءة الأدب والتاريخ ويتابع التطورات السياسية اليومية، وبرغم أنه كان مازال فى السنة الدراسية الأولى فقد كانت معلوماته الطبية كثيرة، كنا نلتقى بشكل دائم فقد كان من سكان حى باكوس أيضاً، وبالطبع فقد كان يعرف كل شئ عنى، وفى أحد الأيام وعندما كنت أحكى له عن إضطراب نومى وفقدانى الشهية للطعام، سألنى بعض أسئلة، ثم فاجأنى بقوله - إسمع ياعبدالجواد، -عايز أقولك حاجة بس ماتخافش لإنها حاجة بسيطة، أنت مريض إكتئاب وتحتاج لعلاج، لكنه علاج بسيط لإن إكتئابك مازال فى مراحله الأولى، وسوف أعطيك مهدئ تتناوله يومياً قبل النوم وأنا وائق أنه سيساعدك، وكتب لى دواء إسمه (فاليوم) كان مهدئ شائع فى ذلك الوقت ويمكن شرائه بدون روشتة الطبيب، وبالفعل نجح الفاليوم فيما لم تنجح فيه الصلاة، فقد عاد نومى إلى الإنتظام كما عادت شهيتى إلى الطعام،و خفت كثيراً حالة الضيق الدائم التى كنت أشعر بها، لكن تركيزى وقدرتى على المذاكرة لم يتحسنا بالقدر الكافى لمواجهة الإمتحان الذى أصبح فعلاً على الأبواب!!!
لم يكن أمامى سوى أن أبذل ماإستطعت من جهد وأجازف بدخول الإمتحان وأقبل بالنتيجة مهما كانت، أو، وكما نصحنى بعض الأصدقاء، أن أقدم إعتذار عن دخول الإمتحان بحجة مرض أمى، وأحاول الإستعداد بشكل أفضل فى العام التالى حفاظاً على التقدير، وقد قبلت بالخيار الثانى، ليس لإننى كنت حريصاً على التقدير بالفعل، ولكن لإننى لم أكن قادراً على بذل أى مجهود آخر فى الواقع. بدا إعتذارى عن دخول الإمتحان مقبولاً فى أعين جميع من حولى وحتى أبى الذى كان يعود فى زيارات سريعة، وذلك بحجة مرض أم بسيونى الذى أعاقنى عن متابعة المحاضرات، لكنى وحدى كنت أعلم ان هذا ليس هو السبب الحقيقى، وقد ظلمت أم بسيونى وحملتها سبب فشلى، لكن هذا لم يكن مهماً لإنها لم تعد مدركة لما يجرى حولها تماماً. وهكذا تقدمت بشهادة مرضية عن حالة أم بسيونى الصحية وعن ظروفى الإجتماعية التى جعلت منى عائلاً وحيداً لها مما عطلنى عن الإنتظام فى المحاضرات، وقًبل الإعتذار ولم يُضمن إسمى فى كشوف الطلاب الممتحنين ومُنحت فرصة جديدة فى العام التالى. وهكذا إنتهت سنتى الدراسية الأولى بكارثة لم تكن أبداً فى الحسبان!!!.
تحررت من عبأ كبير بعدم دخولى الإمتحان، لكن المشكلة لم تنتهى عند هذا الحد، فقد كنت مازلت مريضاً وأحتاج إلى علاج من حالة الضيق والحزن الدائم التى إستبدت بى، ولذلك كان على إما أن أذهب إلى طبيب، أو أبحث عن مهرب، وإخترت الخيار الثانى، وكان خياراً صحيحاً، فقد قررت أن أسافر للعمل فى أحد الدول الأوربية أثناء فترة الصيف، كما كان الطلاب يفعلون فى تلك الأيام، ومرة أخرى بدا هذا الإختيار مقبولاً لجميع من حولى وأيضاً لوالدى الذى أبدى إستعداده برحابة صدر لتحمل نفقات السفر تعويضاً لى عما تكبدته من عناء فى السنة الأخيرة، وإتفقنا الإتفاق الصعب، بأن تعود أم بسيونى إلى أهلها فى رشيد لتعيش فى رعاية بناتها فقد كانوا الأٌقدر على رعايتها فى تلك الظروف، وكانوا بدورهم يلحون فعلاً فى ذلك منذ فترة، لكنى كنت أرفض بشدة وكانت هى أيضاً ترفض ترك منزلها وتركى، ولكن وبعد أن أصبح لامفر من العودة، فقد كان لابد أن مصارحها بذلك، ولكن كيف؟ لقد كانت تلك لحظة من أصعب لحظات حياتى!!!
عندما صارحتها بنيتى فى السفر للعمل فى الصيف مثلى مثل زملائى، وبأنه لابد لها من العودة إلى رشيد مؤقتا، إندفعت تبكى كأنها طفل صغير، وقد إستولت عليها فكرة إننى أتخلى عنها، حاولت جاهداً إقناعها بأن ذلك مجرد وضع مؤقت، لكنها كانت تعلم أن هذه هى النهاية وأنها لن تعود إلى هنا مرة أخرى، وظلت تبكى وأنا أحتضنها وأبكى معها. لاأعرف كم مر من الوقت على هذا البكاء المرير، لكنها هدأت فى النهاية وبدا أنها قبلت بالأمر الواقع وراحت فى نوم عميق كالعادة . إتفقت مع عم حسن زوج إبنتها سعيدة على يوم نقلها إلى رشيد وجاء فى الموعد المحدد مع إثنين من أقاربه فى سيارة قديمة إستأجرها من موقف رشيد ووقف أهل البيت جميعاً على أبواب شققهم لوداع أم بسيونى الوداع الأخير.أجلسناها على كرسى وحمل أقارب عم حسن الكرسى من جانبيه ونزلوا به الأدوار الخمسة درجة درجة وسط صياح وبكاء الجيران. كانت تبكى بصوت خفيض وتتشبث بالكرسى كأنها تخشى السقوط، لكننى كنت أشعر أنها تتشيث به كمن يرفض الرحيل. لاأعرف كيف مرت تلك اللحظات المؤلمة لكنها مرت فى النهاية وإنطلقت بها السيارة إلى رشيد. صعدت إلى المنزل مرة أخرى ولأول مرة أراه بدون أم بسيونى. أنا أيضاً أدركت أنها لن تعود إلى هنا مرة أخرى وأجهشت فى بكاء طويل.
وأخذت فى الإستعداد للسفر إلى باريس، كانت الطائرة هى طائرة شركة الطيران الإيطالية (أليطاليا)، لم أكن أعرف عنها شئ سوى أن الممثل المصرى العالمى عمر الشريف كان دائم السفر عليها، لاأتذكر كيف أمكننى التعرف عليها، ولكن أتذكر أنه كان هناك مكاتب لحجز تذاكر الطيران فى الكليات للطلبة المسافرين للعمل فى الأجازات فى ذلك الزمن. كان السفر للدول الأوربية للعمل فى الأجازات قد أصبح تقليداً شائعاً فى بداية السبعينات، ولم يكن الحصول على التأشيرات يحتاج إلى الموت غرقاً، فقد كانت مصر سنة 1974 مازلت بلد معاف يقف على قدميه ويحظى بإحترام العالم، وكان معظم الطلبة يعودون قبل نهاية الأجازات لإستئناف دراستهم الجامعية مرة أخرى، قليل منهم فقط ، بدأ مواسم الهجرة ، بعيداً عن الأوطان.
وفى الطائرة جلست مصادفة بجوار طالب نوبى إسمه محمد، كان طالباً بكلية تجارة الإسكندرية، وكان أيضاً مسافراً إلى باريس للعمل فى الأجازة مثلى، لكنه ،وبعكسى، كان يحمل عنوان أو أكثر لمصريين سبقونا إلى هناك، لطلب معونتهم إذا إحتاج الأمر، لم أكن أحمل أى عناوين، كنت مغامراً كعادتى، دائماً بلا حسابات، لكن كل تجارب السفر التى عشتها بعد ذلك، أكدت لى أن الحسابات فى السفر أفضل، وأنه ليس هناك أكثر فائدة من أن يكون هناك من يستقبلك فى الغربة، ليقطع معك الخطوات الأولى ثم يتركك تكمل الطريق وحدك بعد ذلك . كان من حسن حظى أننى قابلت محمد ، فقد سهلت تلك المصادفة كل أمور الرحلة . وصلنا إلى مطار شارل ديجول منتشين برائحة الحضارة ، وإستقلينا أتوبيس المطار حتى وسط العاصمة ولاأعرف كيف إستطعنا الوصول بعد ذلك إلى عنوان أبى بكر، الذى كان محمد يحمل عنوانه، وهو شاب مصرى من حى فلمنج كان قد إستقر فى باريس منذ فترة ولاأعرف كيف حصل محمد على عنوانه، كان أبوبكر كريماً عطوفا، إستقبلنا بترحاب ثم إصطحبنا إلى حى سان ميشيل الشعبى ذو النكهة العربية، حيث كان يسكنه كثير من عرب بلاد المغرب، وأسكننا بسهولة فى أحد الفنادق القديمة ووعد أن يعود فى صباح اليوم التالى لإصطحابنا إلى أحد شركات النظافة والتى كانت تسمى بالفرنسية بشركات(النوت واياج) حيث كان يعمل كثير من المهاجرين من المستعمرات الفرنسية السابقة، وحتى من بلد أوربى، مثل البرتغال. وهكذا ففى مجرد يوم وليلة، وصلنا وسكنا، وحصلنا على عمل أيضا.
كان الفندق القديم الذى أسكننا به أبوبكر عبارة عن مستعمرة مصرية صغيرة، فقد كان معظم النزلاء من الطلبة المصريين، كما كانت صاحبته الفرنسية العجوز، وبالمصادفة الغريبة، لاتختلف كثيراً فى ملامحها وطبائعها عن صاحبة البانسيون اليونانية فى رواية نجيب محفوظ الشهيرة (ميرامار) وقد تعايشت مع المصريين وفهمت طبائعهم وكان أقسى ماتنهرهم به إذا إشتد صخبهم أو تشاجر أحدهم مع الآخر، أن تصيح ساخرة(سواح، سواح ، كلكم عمال). كان الفندق عبارة عن بناء قديم من دورين ، يطل مدخله على أحد أزقة حى سان ميشيل ، لكنه كان نظيفاً وكان هناك عاملة من أصول برتغالية - أو أسبانية - تأتى صباحاً لتنظيف الغرف والممرات. كان مستوى الغرف مقبولاً وصالحاً للحياة لكن الفندق لم يكن يحتوى سوى على حمام عمومى واحد كما لم يكن يقدم خدمات الماء الساخن والتى يبدو أنها كانت خدمة مميزة أو مرتفعة التكاليف فى باريس فى ذلك الزمن، وهو عيب سرعان ماعرفنا كيفية علاجه من خلال خبرات زملائنا وكرم بيوت الشباب المفتوحة للغرباء . كان أهم مايميز الفندق هو رخص أسعاره وكان ذلك هو فى الواقع ماجعل منه مستعمرة نموذجية للطلبة المصريين، أما عرب بلاد المغرب فقد كانت لهم تجمعاتهم الخاصة ، والتى تأسست منذ زمن طويل فى سان ميشيل، وقد تعرفنا عليها فيما بعد. وفى الفندق تعرفنا أنا ومحمد على كثير من المصريين ممن سبقونا إلى باريس مما قصر علينا رحلة التعرف على سيدة أوربا الساحرة ، وجعلنا نشعر وكأننا من سكانها فى أقل من شهر من الزمان.
كان زعيم المصريين فى الفندق شاب قبطى من الصعيد إسمه أمير، ربما لإنه كان الأقدم فى باريس، وربما لإنه كان يتمتع بصفات قيادية فعلاً، كان فى حوالى الثلاثين من العمر، متوسط التعليم، طويل، نحيف، يحمل ملامح الأٌقباط ، ويحب أن يقدم نفسه للناس بإسم، أمير مسيحى مصرى، ولم يكن يفصل الصفات الثلاث عن بعضهما أبداً، كان يعمل شيالاً لدى متعهدة شيالين باريسية شهيرة فى ذلك الزمن إسمها تينا. كان إجتماعنا يتم كل مساء فى غرفته تقريباً حيث كان يفترش الأرض وبجانبه زجاجة نبيذ أحمر وعلبة دخان بينما نلتف حوله لنسمع منه أخبار باريس اليوم والتى كانت تعنى عنده أخبار تينا وزبائنها الفرنسيين ، والشقق الفاخرة والنساء الجميلات التى تسكنها، وكان وعندما يلعب النبيذ برأسه ويبدأ فى التسلطن، يسند ظهره إلى جدار الغرفة ويمد رجليه إلى الأمام وينفث سيجارته فى نشوة ويبدأ فى الحديث عن مهارته فى نقل الأثاث وعن ثقة تينا الكبيرة به وعن آماله العريضة فى أن يصبح يوماً متعهد شيالين كبير مثل تينا . وحول أمير إلتفت كثير من الوجوه المصرية، شريحة نموذجية من أبناء العالم الثالث، غلابة ، محرومين ، تختلط فى رؤوسنا الأحلام ، بالأوهام ، بالحظ العاثر. كان هناك فتاة تدرس اللغة العربية بجامعة القاهرة، بيضاء قصيرة سمينة ترتدى نظارة سوداء بشكل دائم، متحررة ، بلاحجاب فلم يكن الحجاب قد أصبح ظاهرة بعد ، وقد حددت موقفها منا بشكل قاطع ، كانت تعلنها صراحة بين الحين والآخر، أنتم إخواتى حتى لونمت مع أى منكم فى غرفة واحدة. لم يكن إحتراسها تعبيراً عن عدم رغبة ، ولكن تعبيراً عن عدم ثقتها فينا ، موقف عام من البنت المصرية تجاه إبن بلدها المصرى، موقف له تبريره . كان هناك صالح وهذا مازلت أذكر إسمه، قصير ريفى أسمر يدرس اللغة العربية أيضا، كان حديثه المفضل عن طه حسين وعلاقته بفرنسا، لكن أحد لم يكن يهتم بحديثه، كان أمير هو الزعيم بلا منازع ، وشاب آخر من خريجى مدارس سان مارك الفرنسية، كان يعتقد إن إجادته للغة الفرنسية سوف تمكنه من الحصول على عمل أفضل، فإذا به يجد نفسه فى مستنقع القمامة وغسيل الصحون مثلنا تماماً. كان يجلس مثل الأطرش فى الزفة، يفكر يومياً فى إتخاذ قرار العودة إلى مصر دون أن يجرؤ على تنفيذ ذلك فعلاً. كان هناك آخر يحب أن يذكرنا دائماً بنصيحة أبيه له قبل السفر وهى أن أفضل مكان لإثارة المرأة هو ثدييها وأنه لايجب أن ينسى ذلك عندما يحصل على فتاته الفرنسية ، والتى لم يكن قد حصل عليها بعد، ولعله لم يحصل عليها أبداً. كان هناك على الهادئ الرصين، وآخر، ريفى أيضاً ، يحلم بشراء آلة كاتبة لكتابة قصة حياته ، التى لم تكن بدأت بعد ، فقد كان فى بداية العشرينيات ، وصديقى محمد النوبى المتدين الصموت، وآخرين لم أعد أذكر أسمائهم ولاحتى ملامحهم، كانت الوجوه تتغير، ففى كل يوم كان يرحل ناس ويأتى آخرون ليحلوا محلهم، وحتى أنا ومحمد، فلم نلبث طويلاً وإلا ورحلنا لجمع العنب. أما الوجه الذى لم أنساه أبداً فهو وجه الشهم الطيب عمر الجزائرى الذى تعرفت عليه فى بداية رحلتى فى شركة النوت واياج !!!
كانت شركة النوتواياج عبارة عن مكتب لتوظيف العمال للقيام بأعمال النظافة فى الشركات والمكاتب الحكومية، كان المديرون فرنسيين ورؤساء العمال برتغاليين وأسبان وعرب من بلاد المغرب ، أما العمال فكانوا كالعادة من كل بلاد العالم الفقير وخاصة من بلاد المستعمرات الفرنسية السابقة، لم تكن ساعات العمل طويلة لكن الأجر كان يكفى لسد النفقات الضرورية للحياة اليومية ، ولذا فقد كان معظم العمال من الوافدين الجدد الذين لم يحصلوا على أعمال ثابتة بعد، لم يكن هناك أى تعاقدات مكتوبة ولايونيفورم خاص ، ولاأى مهارات مطلوبة، فقط كنا نذهب إلى المكتب بعد الظهر من كل يوم، عدا يوم الأحد، حيث يتم تجميعنا فى باصات صغيرة مع مشرفينا ونتوجه إلى جهة العمل المطلوبة والتى غالباً ماكانت تتغير بين الحين والآخر، حيث يشرح لنا المشرفون المطلوب، والذى لم يكن يخرج عن أعمال الكنس والمسح وجمع صناديق القمامة، لنقوم بتنفيذه خلال ساعتين أو ثلاث، ليحملنا الباص بعد ذلك إلى مقر الشركة مرة أخرى، ومن هناك يتوجه كل من إلى سبيله، ليعود فى اليوم التالى، ليكرر نفس العمل الروتينى . وفى هذه الشركة تعرفنا على عمر الجزائرى.
كان عمر يعمل مشرفاً فى الشركة، كان فى حوالى الأربعين من العمر، متوسط القامة، ربعة، يحمل الملامح التقليدية لأهل المغرب العربى، لكنه يتحدث اللغة العربية بطلاقة ، كما كان يتحدث الفرنسية بطلاقة أيضا، كان محباً لمصر والمصريين ، متأثراً بأغانى حليم وأم كلثوم ، وبلهجة المصريين تأثراً كبيراً ، وهو شئ تبين لى بعد ذلك أنه لم يكن قاصراً على عمر فقط فقد كان ظاهرة شائعة بين كثير من عرب بلاد المغرب فى ذلك الزمن، لكنه كان كارهاً للفرنسيين، لأسباب لم تبد لى منطقية ولامفهومة، فقد رأيتهم أناس طيبيين منذ البداية وحتى آخر لحظة غادرت فيها باريس، لكن ربما كانت فترة الإستعمار الطويلة ، والعنيفة ، التى رضخت فيها الجزائر للإستعمار الفرنسى هى التى جعلت من عمر الطيب ، ذلك الكاره العنيف. كان اللقاء فى أحد الباصات التى أقلتنا معاً إلى مكان العمل وكان عمر هو مشرفنا فى ذلك اليوم بالمصادفة، وعندما رآنى أنا ومحمد بدا فرحاً وسألنا، مصريين، فقلنا نعم، فرد ضاحكاً باللهجة المصرية، منورين، وبدأت صداقتنا القصيرة بعمر، والذى أصبح قائدنا الحقيقى فى باريس ، وإنتزع مكان القيادة من أمير، الذى لم يبد سعيداً بإنصرافنا التدريجى عنه ، وعن حكاياته ومغامراته وطموحاته فى أن يصبح يوماً من كبار الشيالين فى باريس.
لم نكن نحن المصريين الوحيدين الذين يعرفهم عمر فى باريس، فقد كان يعرف كثير من المصريين، كما كان يعرف كثير من عرب بلاد المغرب ، تونس والجزائر والمغرب، كان يبدو كأنه شيخ حارة ، يعرف كل شئ وأى شئ ويحب أن يلعب دور الأب، وكان جديراً بذلك فعلاً، وبعدما تعرف علينا أصبح أكثر ميلاً لمجموعتنا وأصبح دائم الزيارة لنا فى الفندق، أحياناً وحده وأحيانا مع بعض أصدقائه، يقضى الوقت فى الحديث عن مصر وناصر وأم كلثوم وحليم ووردة الجزائرية الت كانت فى بداية صعودها الفنى بمصر فى ذلك الزمن، كما كان يصحبنا معه لزيارة أصدقائه المتناثرين فى كل مكان فى باريس، ومعه إتسعت معرفتنا بباريس وأدركنا أن سان ميشيل ليس هو الحى العربى الوحيد، ففى كل مكان فى باريس كان يوجد مهاجرين من بلاد المغرب، كثير منهم إستقر وعاش وأصبح له مطعم صغير أو حانوتاً، كانوا يستقبلوننا بترحاب وكان عمر فخوراً بتقديمنا إلى أصدقائه كأننا أبنائه، كان المصريين جدد على باريس فى ذلك الزمن فلم يكن قد عرفوا الهجرة بعد فبدوا لعرب بلاد المغرب كشئ طريف، فكانوا يساعدوننا فى الحصول على الأعمال أو فى توفير المعلومات أوالنصيحة، كانت هذه هى الروح التى سادت فى ذلك الزمن. كانت ضواحى باريس هى أهم تجربة عشناها مع عمر فمعه تعرفنا على تلك الضواحى الجميلة ومساحاتها الخضراء الواسعة ومساكن العمال الوافدين وحياة المهاجرين فى فرنسا، حيث كان يصحبنا فى زيارات لبعض أصدقائه المقيميين هناك ، لم يكن زملائنا المصريين الذين سبقونا إلى باريس يعرفون شئ عن تلك الضواحى فلم يكن لهم فيها مصالح تذكر، بإستثناء هؤلاء القليليين، الذين تعرفنا عليهم هناك وإكتشفنا لدهشتنا العظيمة أنهم جاءوا يشاركون فى مباريات كرة القدم التى كانت تقام بين المصريين والمغاربة فى تلك الضواحى، لم نكن نتصور أن الحياة الإجتماعية بين المغاربة والمصريين بهذا الود والإتساع، لكن الأيام الجميلة مع عمر لم تطول، فقد كان محتما أن يقع يوما ضحية لنقطة ضعفه فى كراهية الفرنسيين، ففى أحد الأيام ولأسباب لم تبد لنا مفهومة ، إشتبك فى شجار عنيف مع مدير الشركة الفرنسى، ولم يتوقف إلا بعد أن هدده الفرنسى بإستدعاء الشرطة وأمره بالخروج وبالفعل خرج عمر ولم يعد إلى مقر الشركة بعد ذلك، وإختفى يومين ثم حضر إلينا فى الفندق يودعنا قبل رحيله عن باريس، فقد وجد عملاُ بواسطة بعض أصدقائه فى مدينة صغيرة بعيدة عن باريس وقرر الرحيل والعمل والإستقرارهناك. كان يبدو حزينا، ولاأعرف لماذا، أكان نادماً على فرصة العمل الجيدة التى كان يتمتع بها والحياة المستقرة فى باريس والتى خسرها فى لحظة إنفعال، أم كان هناك آلام غربة أخرى يعانيها لم نكن نعرفها أو نفهمها ، وكالعادة وقبل الرحيل، ظل يلعب دور الأب، أوصانا أن نحترس لأنفسنا وأن لاننفق فلوسنا عبثاً وأن نستفيد من تلك الغربة القاسية ، كما أثنى على شخص صديقنا الهادئ الطيب الرزين على ، وأوصانا بأن نستمع إليه، وإستطرد قائلاً قبل أن يخرج -وعبدالجواد كمان ضميره طيب، ورحل ولم نراه بعد ذلك. لم تطل إقامتنا فى باريس بعد رحيل عمر، فقد حل موسم جمع العنب فى الجنوب، وهو العمل الذى جئنا من أجله، فسجلنا أنا ومحمد أسمائنا فى أحد مكاتب توظيف العمال المعنية، وسرعان ماتركنا شركة النوتواياج وفندق المصريين بسان ميشيل، وأمير وباقى الأصدقاء، ورحلنا بدورنا عن باريس!!!
مرة أخرى تكررت نفس القصة، شركة توظيف عمال هم فى الواقع نفس فقراء العالم الثالث خاصة من سكان المستعمرات الفرنسية السابقة وبعضهم برتغال وأسبان وكثير من الطلاب المصريين، لم يكن هناك عقود مكتوبة أو أى مهارات مطلوبة مجرد تسسجيل أسماء، وفى المساء حملنا أتوبيس إلى مدينة نيم الواقعة بجنوب فرنسا والتى لاتبعد كثراً عن ساحل المتوسط الفرنسى، حيث تكثر مزارع العنب بتلك الجهات، كانت الرحلة ليلاً لذلك لم أرى مدى جمال الريف الفرنسى الذى رأيته بعد ذلك فى رحلة العودة بالقطار. كانت الإنطباعات والذكريات التى ترسخت فى ذهنى هى تلك التى حدثت داخل الأتوبيس، وعن تلك المدينة الصغيرة الواقعة على الطريق والتى وقف فيها الأتوبيس للراحة. لن يمكننى أن أعرف إسم تلك المدينة أبداً لكنها كانت فى منتصف الطريق حيث توقف السائق بالقرب من أحد الحانات الواقعة على الطريق وطلب منا النزول لدخول الحمامات وتناول شئ من الطعام. لم تكن الشركة ملزمة بتوفير الطعام أثناء الرحلة، فقط كانت الشركة الوكيل التى إستقبلتنا فى نيم ملزمة بتوفير فندق للمبيت لمن لايحصلوا على عمل فورى، وحتى يحالفهم الحظ ويختارهم أحد أصحاب المزارع. كانت حانة صغيرة هادئة، كل شئ مرتب نظيف جميل، وعلى المناضد بعض الشموع، وكالعادة رجل وإمرأة أو شاب وفتاة، يتناولون طعامهم فى هدوء الفرنسيين المعتاد، كان يمكن لمن يتأمل تلك الحانة ان يدرك بسهولة أنه لايوجد فرق كبير بين حياة المدن الصغيرة والمدن الكبيرة فى فرنسا كما هو الحال عندنا فى مصرأو فى بلاد الشرق بشكل عام ، نفس الوفرة ونفس الهدوء ونفس السعادة. تناولنا بعض الطعام، معظمها سندويتشات جاهزة ومشروبات غازية كانت الحانة مستعدة بها دائماً للأتوبيسات العابرة، ودخلنا الحمامات وإنطلقنا فى طريقنا إلى نيم وأضواء الشموع فى الحانة والهدوء والجمال تداعب خيالى طوال الطريق.
كان هناك منظر بديع آخر لكنه داخل الأوتوبيس هذه المرة، كان هناك فتاتان فرنسيتان تجلسان خلف السائق مباشرة. كانت أيضاً ذاهبتان لجمع العنب معنا. كان وجودهما أمر غير مفهوم بالنسبة لنا، كيف يمكن لفرنسيتين غنيتين أن تجمعا العنب مثلنا نحن فقراء العالم الثالث. ظل هذا الموقف مستعصى على فهمى حتى فُسر لى فيما بعد بأنهما فى أغلب الظن كانت طالبتين جامعيتين ذهبت للعمل أثناء فترات الأجازة من أجل توفير نفقات الدراسة وذلك على سبيل عادة الإعتماد على النفس المعروفة فى بلاد الغرب . ألقى وجود الفتاتان بجو جميل على الرحلة، لكنه أثار مشاعر بعض زملائى المصريين بشكل خاص، والذين حاولوا لفت أنظار الفتاتين بشتى الوسائل دون جدوى، كانت كأى فرنسيين، يجلسان فى هدوء يقرآن كتاب. شعرت فى الأتوبيس بمدى عمق الحرمان العاطفى الذى نعانيه فى مصر، فجميع من كان معنا فى الأتوبيس كانوا أيضاً من بلاد فقيرة مثلنا، لكنهم لم يهتموا أو يفقدوا توازنهم كما حدث لنا نحن المصريين بسبب وجود الفتاتين الفرنسيتين، لإن هؤلاء، وبرغم فقرهم المادى، كانو قد جاءوا من بلاد غير إسلامية تتمتع بحريات إجتماعية وتبيح العلاقة بين الرجل والمرأة خارج نطاق الزواج، أما نحن فقد كنا فقراء فى كل شئ، فى المادة وفى العاطفة أيضاً. وعند الفجر وصل بنا الأتوبيس إلى نيم!!!
إنتظر السائق ساعات قليلة وبمجرد أن فتح المكتب أبوابه إختفت الفتاتان الفرنسيتان، جاء أحد أصحاب المزاع وحملهما معه وإنصرف، كان عليهما توصية خاصة من مكتب باريس ، أما نحن فقد كان علينا أن ننتظر الحظ والنصيب كأننا فى سوق العبيد، لكنه مع ذلك كان سوقاً لايخلو من إنسانية، قال لنا مدير المكتب أننا نستطيع الإنتظار هنا داخل المكتب أو فى الشارع حتى يأتى أصحاب المزارع ويختاروا من بيننا، من لايقع عليه الإختيار سنأويه على نفقتنا فى فندق قريب حتى اليوم التالى، من يتعب من الإنتظار يمكنه أن يعود إلى باريس مع أى أتوبيس عائد، لكن هذا نادراً مايحدث لإن أى مجموعة يتم توظيفها فى خلال يوم أو يومين فى العادة، فمازالت أعداد العمال أقل من حاجة المزارع، وكان صادقاً فى كلامه. إنتظرنا فى الشارع بجوار المكتب، إفترشنا الأرض جميعا، وبدأ أصحاب المزارع فى التوافد وأخذوا فى إختيارنا واحد فى أثر واحد، لم يكن حظى أنا ومحمد فى اليوم الأول، جاء حظنا فى اليوم التالى، منحنى ذلك الوقت القصير الفرصة لتأمل تلك المدينة الهادئة الجميلة، حتى الجلوس فى الشارع كان له مذاق خاص، كان الشارع هادئاً تصطف عليه الأشجار من كل جانب، وحوانيت صغيرة متناثرة تبيع كل مايمكن أن نحتاجه، وأناس عابرون لايزعجهم وجودونا بل يلقون علينا بالسلام والإبتسامة أحيانا، كان هناك شاب إيرانى ضال، جاء منذ يومين ولم يتم توظيفه حتى ساعة وصولنا، خفف عنه وصولنا مشاعر الغربة إذ وجد فينا شرق أوسطيين مثله فجاء للجلوس معنا ولم يفارقنا حتى تم توظيفه فى اليوم التالى. كانت الليلة التى قضيناها فى الفندق رائعة أيضاً، لم يكن فندقاً رخيصاً كما تصورنا، كان مرتفعاً لحوالى عشرة أدوار به كل وسائل الراحة، ومن الغريب أنه كان يعلق فى صدارة مدخله صورة قديمة لأهم زعماء العالم فى ذلك الزمن، كان بينهم الرئيس جمال عبدالناصر.أذكر كلمة قالها أحد زملائنا أثناء إجتماعنا فى الصالة، نحن غرباء فى الغربة، بالفعل كانت كلمة شديدة التعبير فقد كان الليل والهدوء الشديد يوحيان بمنتهى العزلة ، لكنها مع ذلك كانت عزلة شجية، أذكر الحادث البسيط الذى وقع لى تلك الليلة عندما خرجت لشراء بعض الطعام وضللت طريق العودة رغم قرب المسافة، تعلمت منذ ذلك اليوم أن الخروج ليلاً فى مكان جديد وبلد غريب قد يؤدى إلى فقدان الطريق . لم ينقذنى سوى إرتفاع الفندق المميز عن سائر المنازل، فلإننى كنت أراه من بعيد تمكنت فى النهاية من العودة فى سلام، وفى اليوم التالى إختارنا أحد أصحاب المزارع، أنا ومحمد وحوالى خمسة أو ستة مصريين آخرين!!!
كانت المزرعة تشبه قرية صغيرة يلفها طريق مسفلت كأنه مربض لسباق السيارات، وفى مدخلها تقع مساكن العمال والمعصرة. كان صاحب العمل ينزل العمال تبعاً لجنسياتهم، ففى الدور الأرضى مثلاً ينزل البرتغال، وفى الدور الثانى ينزل الأفارقة، وفى الدور الثالث ينزل المصريين وبالقرب منهم بعض عرب بلاد المغرب، وهكذا، كما كان يوزع العمل تبعاً للجنسيات أيضا، ففى الحقل الأول مصريين مثلاً وفى الثانى برتغال، وفى الثالث أفارقة وهكذا، كما كان العمل بالإنتاج، لم يكن هناك أجر فردى، كان يزن ناتج المحصول الذى تم جمعه من كل حقل أثناء اليوم ويوزع الأجر المستحق على عدد أفراد كل مجموعة ، وحتى عندما لسعت حشرة عنق محمد وتضخم وزع مصاريف العلاج على مجموعتنا كلها. كان كل شئ مرتب ترتيباً حسنا، كما كانت المعاملة حسنة أيضا، كان فى كل يوم أو يومين يصطحب معه فى سيارته الصغيرة مندوباً عن كل جنسية ويذهب بهم إلى مركز المدينة ليبتاعوا حاجاتهم من الطعام والذى كانت كل مجموعة تطهوه بنفسها تبعاً لعاداتها وتقاليدها. كانت مساكن العمال قديمة لكنها كانت مجهزة بالمطابخ والحمامات والأسرة والدواليب وكل وسائل الراحة فيما عدا التليفزيونات أو أجهزة الراديو فلم يكن لها وجود ،أما عمال المعصرة فقد كانوا فى الغالب عمال دائمين أكثر خبرة وكان بعضهم يقيم فى المبنى المقابل الأفضل تجهيزاً، ولم نكن نراهم أو نعرف عنهم كثيراً لكن بعض زملائنا كان يتجرأ أحياناً ويذهب إليهم طالباً بعض النبيذ والذى كان يمنحونه له فى سخاء. كان الأحد أجازة أسبوعية كالعادة لكنه لم يكن مسموحاً لأحد من العمال العاديين بالخروج وحده كى لايضل الطريق، كان كل مايمكننا فعله هو أن نغسل ملابسنا ونطهو طعامنا ونستريح إستعداداً لعمل الأسبوع التالى ، أو نتريض على الطريق المسفلت الذى يلف المزرعة حيث كنا نلتقى ونتحدث مع باقى الجنسيات. كان العمل مجزياً ولكن شاق. كنا ننحنى طوال النهار لنجمع العنب فى سلال ثم نضعها عند أول الحقل حتى يأتى من يزنها ثم يحملها على سيارات إلى المعصرة. كان الإنحناء صعباً لكن أقسى مافى الأمر كان لدغ الحشرات. كانت عصارة العنب المختلطة بأيدينا ووجوهنا تغريها بالإقتراب وكان لدغ الوجوه هو المفضل لدى هذه الحشرات وقد لدغت واحدة منها عنق محمد فتقيح تقيجاً شديداً تصورنا معه أنه قد مات، لكن صاحب العمل حمله إلى الطبيب فى نفس اليوم وعاد بالدواء وفى صباح اليوم التالى كان التقيح قد إختفى فيما يشبه المعجزة. لم نكن نعرف كم تنتج الجنسيات الأخرى وكنا فضوليين لإن نعرف لكنا لم نجرؤ على السؤال حتى عرفنا الإجابة بالصدفة، ففى أحد الأيام سألنا صاحب المزرعة سؤال غريب، قال لنا لماذا لاتغنون وأنتم تعملون، كل الجنسيات تغنى إلا أنتم لماذا، أليس لديكم أغانى؟ قلنا نعم لدينا أغانى، فقال فلماذا لاتغنون إذن، فصمتنا ولم نعرف الجواب، لكن فهمنا من سؤاله أن إنتاجنا كان أقل من إنتاج باقى الجنسيات. لم يكن هناك أحداث أو ذكريات كثيرة فى حقول العنب، ولاحتى فى المدينة، كان العمل شاق لايدع مجالاً للتأمل ،فقط أذكر أنه أثناء خروجنا مع صاحب العمل ذات مرة أن رأينا فتى وفتاة يتعانقان فى الطريق دون أن يلتفت إليهما أحد، تماماً كما هو الحال فى باريس، فلا فرق فى حرية الحب بين الريف والمدينة، وذات مرة صاحت إحدى البائعات فى أحد المحال التى كنا نشترى منها حاجتنا من الطعام، وعندما أدركت أننا مصريين، قائلة بإبتسامة ستة أكتوبر فى إشارة منها إلى حرب أكتوبر. لقد كان قرب الفرنسيين منا وتعاطفهم معنا يصيبنا بالذهول أحياناً.
إنتهى موسم جمع العنب وعدنا إلى باريس بجيوب متخمة بالفرنكات، ووجوه متورمة من لدغ الحشرات، سعداء بالفرنكات وبرحلة القطار التى جعلها جمال الريف الفرنسى المترامى على جانبى السفر تمضى كلمح البصر، ومرة أخرى وجدنا أنفسنا بفندق المصريين بسان ميشيل، كأننا لم نغادره أبداً، إرتحنا عدة أيام حتى هدأت وجوهنا الورمة ثم بدأنا رحلة البحث عن عمل مرة أخرى، وكان غسيل الصحون هو هدفنا هذه المرة!!!
كان غسيل الصحون من أفضل الأعمال المتاحة للطلاب والوافدين الجدد على باريس فى ذلك الزمن، كان سهلاً بسبب كثرة المطاعم فى باريس، يمنح دخلاً لابأس به وعملاً ثابتاً، بعكس جمع القمامة أو جمع العنب، ولم يكن البحث عنه يحتاج سوى لجملة أو جملتين بالفرنسية ودقيقة أو دقيقتين من شجاعة سؤال مدير المطعم عن عمل، فقط كان على الباحث عن العمل أن يدخل أى مطعم بدون إستئذان ويسأل عن المتر ليقول له بالفرنسية أنه يبحث عن عمل، وكان رد المتر التقليدى أن يسأله عن خبراته أو يقول له بالفرنسية، باردون سى كومبليه، بمعنى آسف العدد كامل، وبالفعل فعندما بدأنا التسول على المطاعم للسؤال، كانت باردون سى كومبيله فى إنتظارنا دائما، أحياناً بإبتسامة وأحياناً أخرى بدون إبتسامة، وكان هذا هو الفارق الوحيد بين مطعم وآخر. إنقضى أكثر من اسبوع وأنا ومحمد فى تسولنا العشوائى على المطاعم فى الأحياء القريبة من سان ميشيل وحتى فى الأحياء البعيدة عنها حتى أصابنا الإرهاق وكدنا أن نيأس وبدأنا فى التفكير فى العودة لعمل النوتواياج مرة أخرى، ولكن وبالمصادفة وقبل إتخاذ هذا القرار، وعند ناصية شارع كبير فى أحد الأحياء الجميلة والذى لم أعد أذكر إسمه الآن دخلنا أحد المطاعم لنسأل عن عمل لتفاجئ بأن المتر يتكلم العربية، كان المتر روفائيل مدير المطعم الجنتلمان يهودى تونسى وكان المطعم مطعم تونسى مختص بتقديم أكلة الكسكس المغاربية الشهيرة مع أصابع السجق أو لحم الضأن والنبيذ الفرنسى المعتاد. كان مطعم ضخم شديد الرواج يقع مباشرة على الشارع الرئيسى، وكان العاملين بالمطبخ كلهم من التوانسة بلا إستثناء، عم حسين الشيف العجوز الطيب ومساعده الغول، الأكثر فتوة، وعدوانية ظاهرية تخفى تحتها قلب أبيض كبير، ومساعدين إثنين كان كلاهما يحمل إسم عبدالله ، لم يكن يميزهما عن بعض سوى أن أحدهما كان أطول من الثانى. كانت صدفة رائعة بالنسبة للجميع، فبمجرد أن رآنا رافائيل وقبل حتى أن نكمل سؤال البحث عن عمل، إصطحبنا إلى المطبخ فوراً وصاح بعم حسين قائلاً (شد مصريين) ، بمعنى، إستلم مصريين، كانوا أيضا يبحثون عن إثنين لغسيل الصحون، وهكذا شاءت الأقدار أن نحصل على عمل فى هذا المطعم الجميل، بين هؤلاء الناس الطيبين، والذى قضيت معهم الأشهر الأخيرة لى فى باريس!!!
وفر لى العمل فى المطعم التونسى فرصة الإستقرار المادى والمعنوى فى باريس وإنتظمت مراسلاتى مع والدى من خلال أخى بسيونى فى رشيد ، كما وفر لى ولأول مرة فرصة الإنفصال عن محمد حيث لم يكن من الممكن أن نأخذ أجازتنا الأسبوعية فى نفس اليوم فقد كان لابد أن يبقى أحدنا للقيام بمهمة غسيل الصحون، وهكذا أصبح من الطبيعى أن يقضى كل منا أجازته الأسبوعبة وحده ليمارس فيها ذاته كما هى دون ضرورة مجاملة الآخر المختلف عنه تماماً والذى لم يكن يجمعه به سوى شعور الثقة المتبادل الذى يحتاجه الإنسان فى الغربة. كان الخريف قد أقبل كما كانت باريس قد أصبحت تحت السيطرة، فلم يعد هناك ضرورة لطلب الحماية من جماعتى اللغوية، كان يمكن لى الآن أن أتجول فى شوارع باريس وأراها فى زيها الخريفى البديع وتاريخها الساحر وحدى دون حاجة لرفيق. كانت رؤيتها هذه المرة تختلف عن رؤيتها الأولى التى رأيتها بها وسط ضجيج الصحاب والزملاء، كما كان الخريف قد منحها رائحة ساحرة جديدة تختلف عن تلك التى تنسمناها عندما وصلنا فى بدايات الصيف وهكذا رأيت باريس مرة أخرى وأستمتعت بها فعلاً!!!
كل الأماكن التى زرتها أو أعدت زيارتها حملت فى ثناياها أحاسيس ومعانى جديدة، أكثر رومانسية وأشد إثارة عما كانت عليه وسط ضجيج الصحاب، برج إيفل وساحاته الخضراء، الحى اللاتينى ومقاهى الفنانين ومدافن العظماء، وحدائق لوكسمبرج ملتقى العشاق، برج مونبارناس المذهل، أعلى مبنى فى أوربا فى ذلك الزمن، الشانزليزيه وقوس النصر والزحام والأضواء، كنيسة نوتردام وساحاتها الخضراء التى كان يجتمع فيها شباب العالم، ليس للصلاة ولكن لتبادل القبلات، ونهر السين الساحر الممتد بطول باريس يضفى عليها مزيد من الجمال، والشوارع الخالية الطويلة المغمورة برائحة الخريف وأوراق الأشجار، حى مونمارتر وذكريات العظماء الذين عاشوا وتسكعوا فى أزقته الضيقة المرتفعة، الأنفاليد ومدفن نابوليون ورائحة التاريخ العظيم لعصر الأنوار، اللوفر وروائع عصر النهضة الذى لاأعرف كيف وصلت إلى هناك، رسومات مايكل أنجلو ورافائيل ودافنشى ولوحة الموناليزا والتى رأيتها تبتسم من كل إتجاه، تمثال الكاتب المصرى فى الجناع الفرعونى والذى لاأعرف كيف وصل هو الآخر إلى هناك، وفيلم العصفور الذى رأيته فى أحد سينماتها ، فأبكانى وأبكى معى العدد القليل من الحضور الفرنسيين ، وحى الجنس فى سان بيجال ، الذى عشت فيه قصة حبى الفرنسية الأولى والأخيرة!!!
ففى أحد أيام أجازاتى قررت أن أزور سان بيجال فى خلسة من الأصدقاء لأستمتع بمباهج الجنس الجميلة التى يمتلئ بها هذا الحى الشهير، السينما، ماكينات عرض الصور الجنسية المنصوبة فى الشوارع والنساء الباحثات عن المتعة، والتى تصورت خطأً أنهن هناك، وأن واحدة منهن فى إنتظارى، وفى ذلك اليوم وبينما كنت أهم بمغادرة الحى متجهاً إلى أقرب محطة مترو بعد أن شبعت من ماكينات عرض الصور الجنسية، فوجئت بإمرأة بدا لى أنها فرنسية فى حوالى الثلاثينات تعترض طريقى وتسألنى بالإنجليزية، هل تريد مطارحتى الغرام؟ فأجبت بنعم ودون تفكير وكأننى أخيراً قد عثرت على تلك الفرنسية التى سأبدأ بمداعبة ثدييها تبعاً لنصائح والد زميلى الساذج الذى تعرفت عليه فى الفندق فى بدايات وجودى فى باريس. إصطحبتنى المرأة كطفل صغير وعادت بى إلى سان بيجال مرة أخرى، وعند أحد المبانى الصغيرة توقفت ودخلت بى إلى ردهة معتمة صغيرة يتوسطها شباك تجلس خلفه فتاة وطلبت منى دفع إيجار الغرفة، قمت على الفور بدفع المبلغ المطلوب ، ثم سرنا معاً بإتجاه الغرفة وقبل أن ندخلها توقفت وطلبت منى مبلغاً من المال، وهنا فقط أدركت المصيبة لكن لم يكن هناك مجال للتراجع، فقد كانت مجرد عاهرة محترفة وليست قصة حبى الفرنسية المنتظرة، دخلت معها الغرفة وقد فقدت حماسى للمغامرة لكن ظل هناك بعض إحتمال للإستمتاع. كانت الغرفة معتمة كمدخل الفندق مدهونة بلون أحمر قرمزى، بها سرير ومرآة وحمام، بدا الجو العام مرعباً وزاده رعباً ذلك الإنهماك الشديد الذى إستغرقت فيه عشيقتى ونظرات عينيها الغاضبة والتى تراءت لى فى المرآة بينما كانت تجهز نفسها للقاء. خلعت نصف ملابسها السفلية وظلت بالتى شرت الذى كانت ترتديه لاأعرف لماذا، ربما كان مادفعته يساوى الجزء السفلى فقط أو كانت هذه هى حدودها فى بيع الهوى، أو أن الجزء العلوى كان محجوزا لشخص آخرً، لم أفهم، لكن الجزء المرعب فعلاً كان عندما فتحت حقيبة يدها وأخرجت منها شئ يشبه شريط الدواء لعله كان مطهراً ثم أخرجت مقص صغير وقطعت به جزء من الشريط وتقدمت نحوى وأنا أجلس على السرير وطلبت منى خلع بنطلونى والإنطراح من أجل تطهيرى قبل اللقاء. لم يكن من الممكن أن أستمر لأكثر من ذلك فقد أثار المقص الرعب فى نفسى وتصورت أنها حتماً سوف تقطع به عضوى، إرتديت البنطلون مرة أخرى وطلبت الإنصراف، بدا عليها الإندهاش وهى تسأل لماذا، وكأنه فى تلك البلاد، لابد أن يؤدى كل إنسان عمله بأمانة حتى العاهرات، إعتذرت وهرولت نحو الباب وخرجت من الفندق وأنا أتنفس الصعداء. كانت تلك هى قصة حبى الأولى والأخيرة فى باريس، فلم يسعفنى الحظ بعد ذلك بمغامرة أخرى ولم أقابل حبيبتى الفرنسية أبداً. لقد كان لتلك القصة الطريفة معنى واحد أدركته فيما بعد، وهو أننا فى بلاد الشرق، وحتى المثقفون منا، غالباً مانكون أفكار خاطئة عن نساء الغرب، حيث نتصورهم سهال المنال، شبقات لذلك الأهبل القادم من الشرق، أفكار لايمكن التخلص منها، إلا بعد تجربة كتجربتى!!!
مضت تلك الأيام الجميلة وأشفت باريس نفسى العليلة، وتعلمت درساً كبيراً فى الحياة، وهو أنك عندما تواجه أحداثاً صعبة تجرح قلبك، حاول أن ترحل عن دائرة المكان والزمان اللذان وقعت فيهما تلك الأحداث، فسوف يكون فى ذلك خير شفاء. وأقبل الشتاء وأصبحنا فى شهر ديسمبر وإزدادت باريس جمالاً وبهاء ، لكن الجامعات كانت قد فتحت أبوابها قبل حوالى شهرين وحان وقت إتخاذ القرار، من سيعود ومن سيقرر البقاء، قرر زميلى محمد البقاء، ليس إلى الأبد، ولكن لبعض الوقت حسب ماقال، ففى تلك السنوات بالتحديد من بداية السبعينات قرر بعض الطلاب المصريين الذين ذهبوا للعمل فى أوربا خلال فترة الصيف نسيان دراستهم الجامعية والبقاء فى أوربا وشق طريقهم من الصفر هناك وقد حقق كثير منهم النجاح بعد ذلك، ومن هؤلاء أسامة صديق سامية ، لكنى قررت العودة، لم أكن أستطيع الحياة ممزقاً بين أب لاأعرف مكانه، وأم تحتضر، والأهم من ذلك، هو أننى إخترت أن أعيش كطالب جامعى فى بلد فقير على أن أعيش كجامع قمامة أو غاسل صحون فى بلد غنى ، وهكذا إتخذت قرار العودة، لكننى لم أكن حددت الموعد حتى وصلنى خطاب من أخى بسيونى على عنوان الفندق يخبرنى فيه أن أمنا تحتضر وأنها تسأل عنى، وكان ذلك فى بداية يناير سنة 1975، حزمت حقائبى وحجزت على أول طائرة، ورجعت إلى القاهرة ومن القاهرة إلى الإسكندرية ومنها إلى رشيد كلمح البصر، دون أن ألتقى إلا بصديقى رفعت، وكالعادة وجدت أخى بسيونى على محطة القطار ينتظر جرائده ومجلاته الصباحية، وعندما رآنى أمامه لم تأخذه الدهشة بقدر ماأخذه الحزن وهو يحتضننى ويقول لى، أمك فى النازل خالص، وأسرعنا إلى منزل أختى سعيدة، كان عندها طبيبها المعالج، كان شاب من عائلة كبيرة فى رشيد لم أعد أذكر إسمه، كان يقف أمامها مع بناتها وهى تحتضر فى هدوء الملائكة، وعندما رأونى صرخوا بصرخة إمتزج فيها الحزن بالفرح، وأذهلت أم بسيونى الجميع عندما أفاقت من سكرة الموت لتودعنى بنظرة أخيرة وهى تقول لطبيبها هامسة، هذا إبنى، وتدخل فى غفوتها مرة أخرى. سقطت على صدرها مجهشاً فى بكاء طويل وقد رأيت علامات الموت على وجهها قاطعة، وفى صباح اليوم التالى لفظت أنفاسها الأخيرة ، وغادرت الحياة!!!
لم أستطع إستيعاب رحيل أم بسيونى بسهولة، فرغم أن الشيخوخة والمرض الطويل تجعلان من الموت أمراً متوقعاً فى أى لحظة، إلا ان رحيل أم بسيونى مثل لى أكثر من مجرد حادث موت، فقد كان وجودها فى حياتى يعنى أشياء كثيرة، كانت هى الأم التى لم أعرف أم سواها، وكانت الصديق بحكم غياب الأب الدائم، كما كانت أسرتها فى رشيد بمثابة أسرتى التى نشأت فى ظل وجودها الذى لم يشعرنى أننى بلا أسرة، وبموتها إنقطعت كل هذه الأشياء فجأة، وأصبحت بالفعل مقطوع من شجرة. حضر أبى فى أجازة سريعة وعرف بوفاتها المتوقعة ، وغلبه الحزن والتأثر، وبكى بكاءً شديداً، وذهبنا أنا وهو إلى رشيد وبكينا على قبرها للمرة الأخيرة، وعاد أبى إلى عمله، وعدت أنا إلى دراستى التى كانت قد بدأت قبل فترة ليست بالقصيرة، وبدا أن وفاة أم بسيونى قد نالت من روحى الضعيفة، وأن شحنة الحيوية التى بثتها فيها تجربة السفر إلى فرنسا قد بدأت فى النفاذ وأن مرض الإكتئاب كان على وشك أن يعاودنى مرة أخرى ، فلم أبد متحمساً للدراسة على نحو ماحدث فى العام الماضى، ولكن وقبل أن يحدث هذا وعملاً بقاعدة أن الحياة تأخذ وتعطى، وذات يوم بينما كنت أجلس فى السطح البارد فى موسم الشتاء أرنوا إلى الطريق الطويل الممتد أمامى دون أن أعرف فيما أفكر، فوجئت بسامية خلفى وهى تقول ، وكما كانت تنادينى أحياناً- إزيك ياجوجو، البقية فى حياتك ، وبعدما أجبتها - بحياتك الباقية، إقتربت وسحبت أحد الكراسى القديمة المتناثرة وجلست أمامى وأخذت تواسينى فى وفاة ام بسيونى، والتى كانت تناديها بماما أونى ، وأنا أشكرها على مشاعرها دون أن أجد شئ آخر أقوله حتى خيم علينا الصمت ، وقبل أن يطول الصمت، وقفت تتأهب للإنصراف، وهى تقول همساً ، خلى الباب مفتوح، حاأجيلك الصبح، أومأت بالإيجاب وكأنه أمراً، وفى الصباح وجدتها على باب غرفتى، كما كانت عادتها، وإستأنفنا علاقتنا كأننا لم نفترق أبدا!!!
أعاد وجود سامية الأمان إلى حياتى مرة أخرى، وإستأنفت دراستى بجد وإجتهاد، ورغم إدراكى بأنها لم تفعل ذلك إلا بسبب عدم عودة صديقها من أوربا، إلا أننى قد دفنت تلك الحقيقة فى عقلى الباطن مؤقتاً، فلم يكن بوسعى هذه المرة أن أكمل الطريق وحدى، كما أن مشاعر الحب القديم بيننا كان مازال لها وجود حقيقى ، شعرت بها ليس من خلال دفء الجسد فقط ، ولكن من خلال إطمئنان الروح أيضاً. أصبحنا نقضى معظم الوقت معاً، بين الكلية أو جدران غرفتى، أو المطاعم الصغيرة فى محطة الرمل أو صالات السينما التى كنا نعشقها منذ طفولتنا، وحدنا أحياناً ومع الأصدقاء أحياناً أخرى، حتى مر ذلك العام بسلام وتخرجت بتقدير جيد، وهو أعلى تقدير حصل عليه طلاب دفعة التاريخ فى تلك السنة!!!
لم يعن الحصول على تقدير جيد بسهولة أن عالم الكلية والحياة الجامعية قد دانا لى أخيراً، فقد ظلت حياة المنزل، وشلة الأصدقاء، وجسد سامية ، أكثر إغراءً بالنسبة لى، كان هناك أسباب كثيرة لذلك، أسباب لم تبد واضحة فى زمانها، لكنها إتضحت لى بعدذلك، كان التألق الذى إعتدت عليه بين زملائى طوال مراحل دراستى المدرسية صعب المنال فى الحياة الجامعية، كان ذلك يتطلب صبراً وإمكانات تفوق إمكاناتى، ولم أكن أرضى بغير التميز الذى إعتدت عليه ولذلك فقد إنسحبت مرة اخرى إلى شلة أصدقاء الحى وعالم المنزل، فهناك كنت أجد نفسى متميزاً ، ربما كان ذلك أحد الأسباب، وربما كنت ابحث فعلاً عن مجتمع صغير متحضر، أعيش فيه الحياة التى أرغبها ، والتى رأيت الناس يعيشونها فى باريس، وعندما لم أجدها فى الشارع الآخذ فى التأسلم، إحتميت بالمنزل وبشلة أصدقاء الحى، وبصدر سامية الحنون ، كان لنا حياتنا الخاصة شبه المنفصلة عن المجتمع، كان منزلى قد أصبح خاويا بعد وفاة أم بسيونى وكذلك منزل صديقى رفعت التى كانت أمه قد توفيت أيضا أثناء وجودى فى باريس ، ولم يكن هناك سوى أخيه سمير وأب غائب فى معظم الأحيان مثل أبى ، أصبح لنا منافذ للحرية بدلاً من الشارع المتأسلم، كان هناك سامية ، ومريم صديقة رفعت وآمال صديقة حسين، والذى أضفى وجودهم شبه الدائم معنا على مجتمعنا الصغير نوع الحياة الحرة السعيدة التى نرغب أن نحياها، وهكذا أصبح المنزل يحتل الجزء الأكبر من حياتى.
شغلت القراءة حيز كبير من ذلك العالم الصغير المتحضر الذى خلقته لنفسى، والتى شملت كل شئ وحتى محاولة القراءة بالإنجليزية التى بدأت فى ذلك الوقت ولم تنتهى بعد ذلك أبدا. كانت قراءة التاريخ الممنهج هى أهم الإكتشافات فى تلك الفترة، فلأول مرة أدرك أن التاريخ ليس مجرد رواية أدبية، وإنما هو علم ممنهج، كان كتاب تاريخ الدولة العربية للدكتورعبدالعزيز سالم هو الذى فتح لى هذه الآفاق الجديدة، كنت قد درسته فى السنة الأولى كمجرد منهج دراسى لكننى بعد ذلك أخذت فى قرائته كإكتشاف جديد فى عالم القراءة، ومنه بدأت خطواتى الأولى فى التعرف على الإسلام كحركة سياسية وليس كدين أو عقيدة، كان منهج الكتاب العلمى فى التعرف على تاريخ العرب قبل الإسلام ثم إتساع إحتكاكهم بالثقافات المحيطة على أثر نمو تجارتهم وأثر ذلك على تطورهم السياسى والقومى والفكرى، حتى ظهور محمد والإسلام دافعاً للتفكير وإعادة صياغة الموروث الدينى ووضعه فى نطاقه التاريخى والسياسى الطبيعى. كانت تلك هى خطوات التمرد الفكرى الأولى والتى أكملت رحلة الحياة باقى فصولها فيما بعد. وبجانب التاريخ الممنهج كان ذلك الزخم الإشتراكى الضخم الذى كانت مصر الناصرية الإشتراكية تلفظ أنفاسها الأخيرة من خلاله، كانت الإشتراكية مازلت حية منتصرة فى العالم لكنها كانت تحتضر فى مصر أمام التيارالإسلامى الصاعد، وكان معظم المثقفين من بقايا العهد الناصرى مازالوا فى مواقعهم يحاربون معركتهم الأخيرة من خلال دعم الثقافة الإشتراكية، كانت وزارة الثقافة تصدر كثيراً من المطبوعات الإشتراكية المدعومة بأسعار رمزية، كانت مطبوعات ضخمة القيمة الفكرية رخيصة السعر ، تصدر عن الهيئة العامة للكتاب وهيئات أخرى، كانت تتميز بطباعة جيدة وغلاف أخضر، وكان يمكن وبمجرد بضعة جنبهات شراء المئات منها. ومنها قرأت عشرة أيام تهز العالم والمادية الجدلية وحكايات روزا لوكسمبرج وأدبيات ماركس وأنجلز، وعشت فى روح الثورة الإشتراكية العالمية، وعاء التمرد الوحيد المتاح فى السبعينات أمام تيار الإسلام السياسى الصاعد، وذلك قبل أن أدرك أن هناك فكرة أعلى كمحرك للتاريخ من فكرة العدل ، هى فكرة الحرية. كان للأدب مكانه فى ذلك الزخم الثقافى أيضاً ، فهنا أيضا تعرفت على الأدب الروسى لأول مرة ، وخاصة على كل ماكتب ديستويفسكى من خلال الترجمات الشهيرة التى قام بها مترجم نابه يدعى سامى الدروبى. كان كل ذلك الزخم والإستقرار يصنع منى إنساناً جديداً ، إنسان قادر على تحدى تناقضاته الإنسانية وتفسيرها على نحو آخر، فليس بالضرورة أن يكون الإنسان ، وإذا ماأحب إبنة الجيران وطارحها الغرام كما هو حالى مثلاً ، هو الخاطئ، فربما تكون الثقافة الدينية الموروثة، والتى عفى عليها الزمن، هى الخاطئة!!!
و فى زخم تلك الحياة المزدحمة بالقراءة، أصابنى وهم المثقفين التقليدى، وهم الأدب، الوسيلة الأسهل والأسرع للتعبير عن الفكر والمشاعر، فكتبت روايتى الأولى والأخيرة والتى حملت عنوان(الحب أولاً) وكانت تحكى عن شاب فى مقتبل العمر فى السنوات الأولى للجامعة يعشق جارة له إسمها سوزان وكان يرى انه لاقيمة لشئ فى الحياة بدون الحب أولا،ً حتى حرب أكتوبر التى وافق إندلاعها بداية القصة كانت عبثاً طالما ان الوطن لايسمح لنا بالحب، كانت تشبه فانتازيا بدأت بإصراره على الحصول على هذا الحب حتى إنتهت بتحقيقه عندما خضعت سوزان الجميلة لحبه وذهبت إليه فى النهاية فى منزله وخلعت ملابسها فى المشهد الذى إنتهت به القصة. كنت فخوراً بكتابتها وقد طبعها لى صديق على الآلة الكاتبة وأخذت أطوف بها على الأصدقاء والزملاء مفتخراً وقد أثنى معظمهم عليها وتنبأوا لى بمستقبل أدبى عظيم، وذلك بإستثناء إيمان صديقة سامية التى علقت بأن البطل يعانى من إضطراب نفسى وكان ذلك الرأى بداية إنهيار صداقتنا ، لاأعرف لماذا لم أحاول نشر الرواية بعد كل المجد الذى حققته بين الأصدقاء، فأهملتها حتى عثرت عليها بعد نحو أربعين عاماً بين أوراقى فى جاكرتا، التى لم أعرف كيف وصلت هناك، فمزقتها تمزيقاً، مدركاً أن تعليق إيمان كان يحتوى على شئ من الحقيقة.
لم تكن القراءة والكتابة كل هذا العالم ، كان هناك عالم من الفرح والمرح وجلسات الشراب ولعب الورق وحفلات أعياد الميلاد وأفلام السينما والحوارات فى نهايات الأسبوع وفى مواسم الأجازات. ففى تلك السنوات بالتحديد إكتشفت مشروب البيرة ، أحد أعظم الإنجازات التى صنعها الإنسان، لم تكن البيرة جديدة على بالتأكيد ، فقد كنت قد تعرفت عليها فى باريس للمرة الأولى، لكن باريس تفرض عليك ثقافتها ولإن ثقافة باريس هى النبيذ فقد كنت أتناول النبيذ بين الحين والآخر، على سبيل مسايرة الزملاء فقط ، لكن علاقتى بالبيرة كانت شئ آخر، علاقة بدأت تلك الأيام فى مصر وإستمرت زمناً طويلاً .كنا نتناول نوع من البيرة إسمه ستلا، ماركة إيطالية تصنع فى مصر ومازالت رائجة حتى اليوم، كانت إقتصادية سهلة مسلية متاحة فى كل مكان حولنا، كنا نشتريها من بائع ثلج شهير فى حى باكوس فى ذلك الزمن إسمه عزيز، كان مخزنه يقع فى أحد الأزقة المؤدية إلى مركز السوق فى شارع مصطفى كامل. كانت البيرة حاضرة دائما ومثلجة، بمجرد بضعة قروش كنا نستطيع أن نشترى حاجتنا منها ونبدأ فى السهر والحديث مع التدخين اللذيذ، كنت أدخن فقط فى المناسبات التى أتناول فيها البيرة وظللت هكذا دائما، كان للتدخين طعم مميز مع البيرة، وكذلك كل شئ آخر، كان لذيذا يمر سريعاً مع البيرة التى أصبحت قاسم مشترك أعظم فى كل لحظات التسلية التى كنا نقضيها، لعب ورق او أعياد ميلاد، أو حوارات ، كان النبيذ أو الويسكى مجرد ضيوف عابرين، لكن البيرة ظلت لزمن طويل !!!
وفى تلك السنوت أيضا، دخلت لعبة الإستيميشن إلى مصر، وهى لعبة شبيهة بلعبة البريدج التى إشتهر بها الممثل المصرى العالمى عمر الشريف، وقد تعلمها محمود من بعض زملائه فى كلية الطب ثم أحضرها إلى شلة سطوح باكوس. كانت لعبة مسلية ، قاتلة للوقت ، تحتاج إلى شئ من التركيز وإن ظل الحظ هو العنصر الحاسم فيها مثل كل ألعاب الورق، كانت لعبة جماعية يلعبها فريق من أربعة توزع عليهم أوراق الكوتشينة بالتساوى ثم يقومون بتدويرها فيما بينهم بشكل معين وفى النهاية وبعد أن تنتهى الدورات والأوراق يتم حساب النقاط التى جمعها كل متسابق ويتم تحديد المراكز من الأول إلى الرابع، كانت المفارقة المضحكة هى أن محمود الذى علمنا هذه اللعبة أصبح هو من يحصل على المركز الأخير فى العادة، والذى إخترعنا لصاحبه لقب خاص، هو لقب الجلنخ ، والذى كنا نقصد به المغفل، وهكذا أصبح محمود معلمنا هو المغفل فى كل ليلة نلعب فيها إستيمشن ، مع هستيريا من الضحك السعيد !!!
ظلت السينما كما هى تشغل مساحة ثابته فى حياتى ، وكان يشاركنى فى هذا الحب سامية ومحمود بشكل خاص، وغالباً ماكنت أرى الأفلام العربية مع سامية والأجنبية مع محمود وأتذكر من الأفلام العربية التى رأيتها وتركت فى نفسى أثراً فيلم الكرنك الذى لعب بطولته نور شريف وسعاد حسنى وكذلك فيلم على من نطلق الرصاص الذى لعب بطولته محود ياسين وسعاد حسنى، والفيلم الكوميدى ، إحنا بتوع الأتوبيس ، الذى لعب بطولته عبدالمنعم مدبولى وعادل إمام ، كانت هذه الأفلام بمثابة إنقلاب العهد الجديد وفضحه لإستبداد وفساد العهد الناصرى السابق ، كما جرت العادة فى تاريخ مصر الطويل ، لكن وبصرف النظر عن محتواها السياسى فقد كانت أعمال فنية جيدة تركت آثارها فى وجدان الناس فى ذلك الزمن ، وكذلك أفلام عمر الشريف التى كانت ممنوعة فى الحقبة الناصرية وُصرح بها فى عهد السادات ضمن إنقلابه على مجمل السياسات الناصرية، مثل دكتور زيفاجو مع جولى كريستى والموعد مع إينوك إميه ومأساة ماريلنج مع كاترين دى نوف وفتاة مرحة مع بربارا سترانسيد وليلة الجنرالات مع بيتر أوتول الذى كنت أكن له أيضاً إعجاباً شديداً ، والذى جعلنى فيلمه وداعاً مستر شيبس أتمنى أن اكون مدرساً يوماً ما ، وهو تمنى سرعان ماثبت زيفه بعد ذلك مثل كثير من أمنيات الشباب. تركت أفلام عمر الشريف أثراً بالغاً فى نفسى ليس فقط بسبب مواهب هذا الممثل العملاق ولكن بسبب روعة العالم الحر الذى عاش فيه وقدمه لنا بعد سنوات الإنغلاق الطويل .كنت أعشق أيضاً نجوم السينما الفرنسية الكبار جان بول بلمندو وألن دلون وبرجيت باردو وأتلهف على نزول أفلامهم إلى الأسواق ومعهم جميلات إيطاليا الخالدات ، صوفيا لورين ، وجينا لولا برجيدا ، وكلوديا كاردينالى ، وذلك قبل أن يتوارى الجميع أمام نجوم السينما الأمريكية فى العقود التالية.
لم تكن أعياد الميلاد مجرد مناسبات للفرحة، بل كانت أيضاً مناسبات للتمرد ، كانت معظم أعياد ميلاد الشلة تقام فى السطح عندى لكن عيد ميلادى فى شهر مارس كان هو الأشهر، وقد أصبح أصدقائى يطلقون عليه تندراً العيد القومى للشلة ، كانت الحاجة صفية تسمح لسامية وسونيا بالإشتراك فى التحضير لذلك اليوم والسهر معنا جزء من الحفل، كانت تدرك ومنذ طفولتى إننى وحيد وأحتاج أحياناً إلى أسرة، كما كانت ومنذ البداية تعلم بأن علاقتى بإبنتها كانت أكثر من مجرد إخوة، لكن لاأعرف لماذا ظلت تتغاضى عن ذلك طوال عمر علاقتى بإبنتها ؟ كانت الحاجة صفية هى أمى الثانية فعلاً. كنت أشعر بالسعادة بإهتمام أصدقائى ومحبتهم، وهداياهم الرمزية التى كنت أرى فيها العالم كله. كان عيد ميلادى يحمل معه معنى آخر غير تلك العواطف الدافئة التى كان يغمرنى بها أصدقائى وسامية وسونيا، كان يحمل معه معنى التمرد ، فقد كانت مريم صديقة رفعت وآمال صديقة حسين تشاركانا الحفل أيضاً ، ثم إنضمت إلينا فى السنوات الأخيرة مرفت خطيبة رفعت بهجت، فأصبحنا بذلك كأننا كتيبة من الشباب والشابات المتمرد، الذين نجحوا فى فرض نمط الحياة التى يريدونها على الحى الشعبى الآخذ فى التأسلم!!!
ظلت حوارات خلية السطح الماركسية تشغل المساحة الأكبر من تلك السنوات الجامعية ، كانت القراءات الماركسية قاسم مشترك أعظم بيننا جميعا، أو بين فرسان القراءة الثلاثة بوجه خاص، أنا ومحمود ورفعت بهجت ، كان رفعت رسمى ذو ميول علمية لاشأن له بالثقافة، وكان على لايهتم سوى بشرب البيرة ، ولم يكن حسين يهتم سوى بالأكل ولعب الإستيمشن وكان حمدى مجتهداً يحاول الوصول إلى الحقيقة من خلال الحوارات دون أن يشغل نفسه بالقراءة، لكنهم جميعاً، وبشكل أو بآخر ، كانوا يشاركون معنا ، كما كان هناك ضيوف من أبناء الحى أو من زملاء المدرسة القدامى فى أحيان كثيرة ، كان الجميع يشارك فى الحوارات الساخنة وإكتشافاتها السياسية والفكرية المبهرة ، كانت الإشتراكية هى الحل شعار ذلك الزمن تماماً كما أصبح الإسلام هو الحل فيما بعد ، كانت المجادلات الماركسية مغرية ومثيرة ، فى المادية الجدلية وصراع الطبقات وحتمية سيادة البروليتاريا وبناء الثقافة الفوقى وأساسه الإقتصادى، عوالم جديدة كان يفتحها الجدل الماركسى ، فلسفته السياسية وتجاربه العملية التى ذهب معظمها مع الرياح بينما ظل بعضها خالداً مع الزمن. لكن الأكثر إثارة فى كل تلك الموضوعات، كانت إكتشافاتى التاريخية التى كنت ألقيها على رؤوس الحاضرين كأنها إكتشافات نووية، الإسلام مشروع سياسى وليس دين ، القسوة والوحشية والصراع على السلطة بين أصحاب محمد المبشرين بالجنة، كيف قتل على عثمان وكيف قتل معاوية أبناء على، إكتشافات تاريخية غير ناضجة ولامكتملة لكنها بالنسبة لذلك الزمن كانت بالفعل إكتشافات نووية، وكان كثير ممن يزورونا لحضور مناقشاتنا يحضرون أساساً لسماع هذا الجزء من الحديث ، وراويه البطل عبدالجواد !!!
شئ وحيد كان ينغص تلك الصحبة الجميلة والحياة المرحة الهنية ، هو حسد صديقى محمود المتنامى يوم بعد يوم لهذا البطل الغير منازع، فبرغم المشتركات الكثيرة بيننا والصداقة المتفاهمة، وبرغم أن ميزان الحظ فى الحياة كان يميل لصالحه ، بين إنسان يملك رعاية الأسرة ودفئها والمستقبل المضمون، وآخر ينازع مع الحياة لتعويض كل ذلك ، فقد كان يحسدنى على عالمى الصغير الذى خلقته لنفسى والذى بدا كأننى أنتزعه منه رغم أنه كان ملكى منذ البداية. لم يكن محمود إنساناً سيئاً، كان مهذباً طيباً مثقفاً، وكانت صداقته أحد المكاسب الكبرى التى حصلت عليها فى هذه الفترة من حياتى ، ولكن الحسد وتنازع الناس على حظوظ بعضهم البعض ، مرض لاعلاج له ، يجعل من أطيب الناس أكثرهم شراً ، وهذا ماكان ، فلم تكن تمضى شهور قليلة إلا وينشا بيننا نزاع لأتفه الأسباب، كان يختلق الأسباب إختلاقاً ، مرة يتهمنى بعدم الترحاب ومرة بالأنانية والإستبداد، ومرة بأى ذريعة تلقى بها الظروف وينقطع ويغيب وفى كل مرة كنت أنا الساعى إلى الصلح، سواء بدافع من قناعنى الشخصية وعدم رغبتى خسارة عضو هام من أسرتى البديلة التى كونتها بشق الأنفس ، أو بسبب إلحاح الأصدقاء والذين أصبحوا لايطيقون غياب واحد منهم ، حتى يتم الصلح والعودة إلى الشلة مرة أخرى وإلى المشتركات الكثيرة التى تجمعنى به من هوايات وآراء ، ثم فجأة يتجدد الخلاف لأتفه الأسباب فى دورة لانهائية ، وهكذا سارت علاقتى به حتى مغادرتى مصر إلى السعودية وعملى فى مكتب خدمات، فكان يشهر بى علانية بين من حضر أو غاب من الأصدقاء ، كيف يمكن للأستاذ المثقف أن يقبل بالعمل فى مكتب خدمات، وذلك دون أى تقدير لظروف العمل فى تلك البلاد والتى لاتمنحنا أى فرصة فى الإختيار، وكان هو قد أصبح طبيباً معروفاً فى حى باكوس قبل أن يهاجر إلى السعودية بدوره ، ثم وفى سيناريو لايكاد يصدق ، وعندما تغيرت ظروف حياتى تغيراً كبيراً بهجرتى إلى إندونيسيا وعملى فى الإمارات ، وبعدما أصبح لدى فائض من الوقت والمال مكننى من العودة إلى مصر لإستئناف دراستى العليا فى محاولة ، ولو متأخرة ، لإعادة حياتى إلى مجراها الطبيعى، لم يرتاح لذلك أيضا، فبعدما زارنى مع بعض أعضاء الشلة فى الفندق الذى كنت أقيم فيه فى القاهرة أثناء فترة دراستى القصيرة فى معهد البحوث الإفريقية، تصور أننى قد أصبحت من الأغنياء، فأخفى حسده المجنون ، وقضى معنا اليوم بشكل عادى ، ثم وللمفاجأة الغريبة ، وبعدما عاد إلى الإسكندرية، لم يتصل مرة أخرى ، ولم يرد على إتصالاتنا ، وبدون أى اسباب ، قطع علاقته بنا إلى الأبد !!!
لم تكن تلك هى كل الأوهام التى تصارعنا عليها أنا ومحمود أثناء تلك السنوات ، كانت إشتراكيتنا أيضا أوهام ، مجرد محاولة للتمرد لم يكن لها غطاء يحتويها فى هذا الزمن سوى غطاء الإشتراكية ، طرح الثورة المتاح عندئذ، كانت مجرد إشتراكية على الورق لكنها لم تكن فى القلب ولا فى الشارع، لقد أثبتت كل المشاركات والإنطباعات السياسية المحدودة التى شاركت فيها أثناء سنوات دراستى الجامعية ذلك، لقد ككنت ليبرالياً بالفطرة. كانت سياسة أنور السادات فى الإنفتاح والتقارب مع الغرب تروق لى ولم أكن أبداً جزءً من تيار المعارضة الذى شكله ضده طلاب اليسار فى الجامعة ، لم يكن يعنينى سوى معارضة تيار الإسلام السياسى الصاعد الذى يجمعنى وإياهم ، إن آخر شئ كان يمكن أن أصدقه هو أن أنور السادات صديق الغرب نفسه ، كان يشجع تيار الإسلام السياسى، كل ذلك إتضح فيما بعد ، ولذلك فلم أشارك فى أكبر تحدى قاده اليساريون ضده فى إنتفاضة الخبز فى 18 و19 يناير 1977، ولو حتى بمجرد الحضور فى الشارع، كانت إشتراكيتى مجرد إشتراكية أفكار ، وكانت فكرة العدل عندى تأتى بعد فكرة الحرية، دون أن أدرى.
لقد أكدت كل الأحداث التى شاركت فيها بعد ذلك تلك الحقيقة الراكدة فى اللاوعى ، ففى نهاية سنة 1977م وقبل تخرجى بنحو عام ، وقع بكلية الآداب حادث عرضى أعاد شهيتى إلى المشاركة فى الأحداث السياسية مرة أخرى . كانت الجماعات الإسلامية حديثة الظهور فى سنوات الدراسة الأولى ، قد أصبحت ظاهرة شديدة الوضوح الآن ، وتنامت ، وجعلت منها كتابات سيد قطب والمودودى مزيجاً من العنف والقسوة ، ومن الجامعات المصرية ، مصانعاً للإرهاب ، وليس أماكن لتلقى العلم والدراسة ، ومع ذلك فقد كان تيار اليسار ، مازال هو التيار المسيطر بين الطلاب ، لكنه كان يقاتل معاركه الأخيرة . وحدث فى أحد الأيام أن تشاجر طالب يسارى مع أحد هؤلاء وتبادلا الشتائم واللكمات، فما كان من طالب الجماعة الإسلامية إلا أن أسرع بالإستنجاد بزملائه فى الكليات الأخرى، وخاصة فى الطب والهندسة، مصنعى الإرهاب الرئيسين ، وعادوا جميعاً بأعداد غفيرة وأخذوا فى الضرب والتكسير العشوائى فى الطلاب ، وفى منشآت الكلية على السواء، فأصابوا كثيراً من الطلاب بأذى كما حطموا مكاتب شئون الطلبة تحطيماً تاماً ، دون أن يقوى أحد على مواجهتهم، فلم يكن نظام الحرس الجامعى معمولاً به آنذاك، كما أن الشرطة التى تم الإستنجاد بها قد تقاعست عن الحضور لأسباب غير مفهومة.
كان الحدث بسيطاً بالنسبة لما إقترفته تلك الجماعات بعد ذلك من إرهاب، لكنه كان حدثاً كبيراً بالنسبة لمقاييس ذلك الزمان، فقد كان مازال للحرم الجامعى إحترامه بين الطلاب. وبناء على ماحدث من عدوان وعلى تقاعس الشرطة عن الحضور قرر الطلبة اليساريون القيام بمظاهرة داخل حرم الكلية فى اليوم التالى مباشرة ، مع تعليق مجلات الحائط المنددة بهذا العدوان ، وكانت تلك هى وسائل التعبير المتعارف عليها فى ذلك الزمن، فلم تكن وسائل التواصل الإجتماعى الإليكترونية التى نمتلكها الآن قد عًرفت بعد، فماكان منى إلا أن قررت الإشتراك. عدت إلى المنزل وإشتريت لوح ورق مقوى كبير كان يستخدم لكتابة مجلات الحائط آنذاك ، وكذلك قلم فولمستر، وكتبت مقال بعنوان(الإرهاب لن يجعلنا مؤمنين) وقمت فى صباح اليوم التالى بتعليقه على أحد جدران الكلية. لاقى المقال إستحسان كثير من الطلاب، وعدت فى المساء سعيداً بتلك المشاركة المتواضعة فى مواجهة الإرهاب، وبعودتى إلى المشاركة السياسية بعد هذا الغياب الطويل ، لكننى فوجئت عندما ذهبت إلى الكلية فى اليوم التالى بعدم وجود المجلة فى مكانها، وعندما إستفسرت عن السبب أخبرنى بعض الطلاب أننى سأجدها فى مكتب رئيس إتحاد الطلبة، وعندما ذهبت إلى هناك لأستفسر عن سبب نزع المجلة قال لى رئيس الإتحاد، أن الموضوع قد تم تسويته وتم نزع جميع المجلات، ثم توجه إلى أحد أركان المكتب ، وإلتقط مجلتى وأعطاها لى بإبتسامة إعتذار؟
كانت تلك المساهمة المتواضعة،هى المساهمة السياسية الأولى والأخيرة لى داخل جدران الجامعة، لكن الأحداث التى تلت ذلك مباشرة، عندما فجر أنور السادت مفاجأته الكبرى بزيارة القدس فى 19 نوفمبر، قد بعثت فى داخلى ذلك الحماس القديم فى العمل السياسى مرة أخرى ولم يكن أمامى سوى أن أبشر برسالة السلام وحدى، خارج تيار اليسار فى الكلية والذى أصبحت قضيته الآن محاربة السلام مع إسرائيل وليس محاربة تيار الإسلام السياسى ، القاسم المشترك السابق بيننا . لم يكن هناك سوى شلة أصدقاء السطوح المساكين لأبشر بينهم بأفكارى اليسارية الغريبة والتى قبلها بعضهم وإحتار فيها البعض الآخر، فى أن السلام مع إسرائيل لايضر برسالة الإشتراكية ، لإن أكبر حزب سياسى فى إسرائيل وهو حزب العمل هو حزب إشتراكى أيضاً ، وبذلك يمكن للسلام مع إسرئيل أن يخدم قضيتين وليس قضية واحدة ، تقوية رسالة الإشتراكية من جهة وضرب تيار الإسلام السياسى من جهة أخرى، فلا أعرف كيف ترسخ فى ذهنى بأنه بقدر ماتضرب الإشتراكية الإسلام السياسى فى مقتل ، فإن السلام مع إسرائيل والتقارب مع الغرب يضربه أيضا فى مقتل ، آمنت تماماً بهذه الفكرة والتى ماكان يمكن أن يشاركنى فيها أى يسارى، فلم تكن إسرائيل فى ضمير اليسارى فى ذلك الزمن سوى مجرد قاعدة للرأسمالية والإمبريالية الأمريكية ، فكيف يمكن أن تكون قاعدة للإشتراكية أيضاً؟ لكن هكذا إختلطت أفكارى وتمسكت بها وتابعت خطوات السادات وبيجن وكارتر على شاشة التليفزيون ، خطوة بخطوة ، متحمساً ، لاهث الأنفاس ، منذ زيارة القدس التاريخية حتى توقيع إتفاقية كامب ديفيد فى سبتمبر 1978م ، قبل تخرجى بشهر واحد!!!
كانت سامية قد سبقتنى بالتخرج وإلتحقت بالعمل لدى أحد الشركات التجارية، لكن علاقتنا ظلت كما هى ولم تتأثر إلا فى مساحة الوقت الذى أصبحنا نقضيه معاً لكننى كنت مازلت أعيش فى رعايتها لنحو عام آخر قبل أن تفاجئنى بخبر أن صاحب الشركة التى تعمل بها يريد أن يخطبها، وكان على أن أقرر، لم تكن باللحظة الصعبة ، كانت علاقتنا فى سنتها الأخيرة قد أصبحت مجرد علاقة جنسية ، ورغم كل مامثلته لى من أهمية فى حياتى ، فلم تعد هى العلاقة التى لايمكن لى أن لاأستغنى عنها ، لقد أصبح واضحاً لكلانا ، إن ماجمعنا بالأساس كان هو الجغرافيا، وأنه ربما لو أتيحت لنا إختيارات أخرى، لإختار كل منا إختيار آخر، كما حدث بالفعل وإختارت يوماً ، صديقها أسامة ، ربما كان ذلك هو التفسير، ربما كانت مشقة الزواج ومسئولياته، عوامل مساعدة ، لكننا فى النهاية توصلنا إلى القرار الصحيح وإنهينا علاقة ذلك العمر الطويل بسلام ومحبة. كان صاحب العمل الذى تقدم لخطبتها شاب وسيماً فى مقتبل العمر، وكان يعجبها وكانت تريد ان تصبح زوجة وأماً وكنت انا أريد ن أصبح حراً وأن اجرب حظى فى الحياة مرة أخرى. إتفقنا على نهاية علاقتنا ، وعلى أن نصبح أصدقاء ، وأن لانشتهى بعد ذلك بعضنا البعض أبداً ، ونجحنا فى الإختبار وبشكل إستثنائى فى حياتى وربما فى حياة معظم البشر، تحول الحب إلى صداقة إستمرت طوال العمر وحتى وفاتها المفاجئة ، على مشارف عقدها السادس.
لم تكن قصتى أنا وسامية فقط التى إنتهت ، فكذلك لم يتزوج رفعت رسمى من مريم ، وتزوج كل منهما شخص آخر لم يكن يعرفه ، وكذلك حسين وآمال ، تزوج كل منهما شخص آخر لم يكن يعرفه ، فقط رفعت بهجت ومرفت تزوجا وظلا بمصر لم يغادراها ، بينما تفرق الباقون وضاعوا مع الزمن ، واحد فى أثر الآخر. وهكذا إنقضت سنوات الجامعة بكل ماحملته من ذكريات ، وتخرجت سنة 1978م ، وسط دهشة الجميع ، بمجرد تقدير مقبول !!!

ملحوظة/ وصف محطة الرمل وشارع النبى دانيال والسينمات والمطاعم ومحلات الكتب القديمة عند إعادة الصياغة ومحاولة توسيع الجزء الأخير من الفصل ورؤية كارتر والسادات على الكورنيش ،،،





6- سنوات الحيرة
وهكذا تخرجت ولم أصبح أديباً، ولم أكتب سوى قصة سخيفة لم يقرأها سوى أصدقائى ، كما لم يكن من حقى مواصلة دراستى العليا لإننى لم أحصل سوى على تقدير مقبول، وهكذا وجدت نفسى وبعد كل هذا الضجيج مجرد خريج من ملايين الخريجيين الباحثين عن عمل، أى عمل، وفى ظل غياب الهدف لم يكن أمامى سوى أن أسلم نفسى للقدر، يفعل بها مايشاء، مثلى مثل معظم البشر!!!
كان حلم الحياة فى أوربا مازال يراودنى ، ومازال يراودنى حتى اليوم وانا أسطرهذه الذكريات بعد أن تجاوزت الستين من عمرى ، لكنى فى هذه المرة قررت أن أتجنب الخطأ الأول وهو أن لاأسافر إلى بلد لاأجيد لغتها، ولما كنت قد قطعت شوطاً كبيراً فى إجادة اللغة الإنجليزية فقد تصورت أن تحقيق الحلم فى لندن سوف يكون أسهل ، رغم أن عشقى لباريس ولفرنسا ظل دائماً هو الأكبر. تقدمت بطلب تأشيرة سفر سياحية إلى القنصلية الإنجليزية بالإسكندرية ، كانت هجرات المصريين قد أخذت فى الإزدياد مع نهاية السبعينات، وكانت السفارات الأجنبية قد بدأت فى وضع قيود على تأشيرات المصريين ، ليست قيود صارمة كتلك التى نعرفها اليوم ، لكنها كانت بالنسبة لذلك الزمن قيود. وفى اليوم المحدد للمقابلة ، كتلك التى تجرى مع طالبى السفر، ذهبت إلى القنصلية . جلست فى الصالة الواقعة أمام مكتب القنصل مباشرة فى إنتظاردورى. لم يكن عدد الحضور كثيراً ، لاأذكر منهم الآن سوى تلك الفتاة المصرية الجميلة ذات القبعة والتى كانت تقرأ فى أحد المجلات دون إهتمام بمن حولها. كان من الواضح أنها تنتمى لعائلة غنية وأن حصولها على التأشيرة أمر مسلم له ، وليس كمن لايملك شئ مثلى ، وعندما حان دورى ونادت السكرتيرة المصرية على إسمى ، شحنت نفسى بكل مايمكن من ثقة ودخلت لمقابلة القنصل. كان يقف خلف حاجز خشبى وبجواره سكرتيرته المصرية التى تجيد التحدث الإنجليزية بطلاقة زعزعت ثقتى بلغتى المتواضعة ، كان شاب فى حوالى الأربعين ذو لحية حمراء خفيفة يبدو كأنه ضابط مباحث وليس ديبلوماسياً ، نظر فى عينى مباشرة وهو يمسك بجواز سفرى وسألنى بهدوء، لماذا تريد السفر إلى إنجلترا ، أجبته بثقة ، أريد أن أرى لندن ، سألنى مرة أخرى ، هل تريد العمل هناك ، أجبته بنفس الثقة لا ، أريد فقط أن أبقى فترة لتحسين لغتى ثم أعود إلى مصر لإحتراف الترجمة ، نظر فى عينى مرة أخرى ولم يستطع الحسم فى أمرى ، ثم ختم الجواز بختم السفارة وأعاده إلى وظل فى مكانه ينتظر طالب التأشيرة التالى ، نظرت فى الصفحة التى وضع فيها الختم وتصورت خطأ أن طلبى قد رفض ، فقلت للسكرتيرة غاضباً وأنا أهم بالإنصراف ، عشان مصرى، لفتت كلماتى إنتباه القنصل المشغول فسأل سكرتيرته بإهتمام ، ماذا يقول، فأجابته يقول أنك رفضت منحه التأشيرة لإنه مصرى. هزته الإجابة بشكل غير متوقع ، لكنه سرعان ماتمالك وإنشغل بإستقبال طالب التأشيرة التالى ، حملت جواز سفرى وإنصرفت والحسرة تملأ قلبى على ضياع أول محاولة فى طريق تحقيق حلمى ، وبعد أسبوع من هذا الحادث وكنت قد نسيته ، وبدأت فى تدبير خطط أخرى ، وصلنى خطاب من القنصلية على عنوان منزلى تخبرنى فيه القنصلية أننى أستطيع الكتابة إلى وزارة الداخلية الإنجليزية مباشرة من أجل التصريح بالتأشيرة ، وفى داخل الخطاب نموذج من الطلب الذى كان على أن أملأه وأرسله على العنوان المرفق ، وعندما عرضت الخطاب على جار لنا فى حى باكوس كان ذو خبرة بالسفر قال لى ، أن الختم الذى وضعه فى الجواز لايعنى الرفض ، الرفض يعنى أنك لاتستطيع طلب التأشيرة مرة أخرى، أن الختم يعنى أنه لم يستطع قبول طلبك هذه المرة ، أما الخطاب فقد أرسله لإن كلمتك الأخيرة بأنه يرفض منحك التأشيرة لإنك مصرى قد أثرت فيه ، ولكن ولإنه مازال لايستطيع الحسم فى أمرك ، فقد أعطى لك فرصة أخرى ، وذلك بالكتابة إلى وزارة الداخلية مباشرة ، وفى الغالب فإن معظم مثل هذه الحالات تقبل ، المشكلة فى الوقت ، قد يأخذ الرد شهر، وقد يأخد سنة ، لكنها فرصة وفرصة كبرى وعليك إنتهازها ، ولكن ولإن نقاط ضعفنا هى التى تحكم جزء كبير من أقدارنا فى النهاية ، وقد كان التسرع دائما أحد نقاط ضعفى الكبرى ، ولم يكن بمقدورى الإنتظار، فقد أهملت الخطاب وبدأت تنفيذ خطتى الأخرى!!!
كانت إيطاليا من ضمن الدول التى لم تضع قيوداً على سفر المصريين إليها بعد ، إنتهزت الفرصة ورسمت لنفسى خطة خيالية ، قررت أن أسافر إلى إيطاليا أولاً ، أقضى بعد الوقت فى أى أعمل وأحاول ترتيب إقامتى القانونية بها ومن هناك يمكننى بعد ذلك الحصول على تأشيرة إنجلترا بحكم القوانين الأوربية التى كانت تسهل إنتقال المقيمين بين دولها ، كما هو حالها اليوم . وبالفعل حصلت على التأشيرة الإيطالية بسهولة وسافرت على نفس الطائرة الإيطالية أليطاليا ، التى سافرت عليها إلى باريس قبل ذلك ، ولكن إلى مركزها الرئيسى هذه المرة ، روما . وكالعادة قررت المغامرة ، أو ربما كان هو التسرع مرة أخرى ، فلم أحاول الحصول على عنوان أى مصرى هناك ، رغم أنه كان هناك بعض من أعرفهم . تصورت أن سيناريو رحلة باريس سوف يتكرر مرة أخرى. المسكن الرخيص ، العمل السهل ، الأصدقاء المصريين والعرب ، وبالفعل كاد السيناريو أن يتكررلكنى لاأعرف لماذا لم أنتهز الفرصة هذه المرة. ففى الطائرة جلس بجوارى مصادفة بعض الشباب المسافر إلى هناك ، كانوا ثلاثة وكانوا يعرفون بعضهم، البعض كما كانوا فى طريقهم إلى بعض أقاربهم الذين يعملون هناك ، لكنهم وعندما طلبوا منى مساعدتهم فى ملأ إستمارات الوصول الخاصة بهم ، قمت بالفعل بمساعدتهم ، لكنى فى نفس الوقت صرفت النظر عن فكرة مصاحبتهم إلى أقاربهم ، تصورت أنهم قليلى الشأن وأن مصاحبتهم لن تفيد. كان تقديرى بالغ السوء ، نفس الإستهتار ونفس التعجل ، فبعد وصولنا إلى المطار ، وقبل إفتراقنا ، عرضوا على بكرم شديد مصاحبتهم إلى أقاربهم فربما أحتاج إلى مساعدة من أجل الحصول على عمل ، لكنى رفضت عرضهم شاكراً ، وقلت لهم سأدبر أمرى ، وإنصرفوا عنى ، إستقلوا أتوبيس المطار وغابوا فى لمح البصر، قبل أن يمنحونى أى فرصة للتراجع عن قرارى المتعجل ، خطأ عمرى القاتل ، الذى ألقانى بعد ذلك شرقاً ، وجدت نفسى وحيداً على بوابة المطار فى خضم عالم هائل من البشر، وقد شاء حظى السئ أن يكون يوم وصولى يوم إضراب ضخم قام به الحزب الشيوعى الإيطالى فى كل أنحاء العاصمة روما ، لاأذكر التاريخ ولكنه كان بالتأكيد فى سنة 1979 ، السنة التى سافرت فيها ، وقد إنعكس تأثير ذلك الإضراب على أحوال المطار وكل العاصمة. كان كل شئ فى فوضى. شعرت بوحدة قاتلة وبدا أن سيناريو رحلة باريس لن يتكرر. إستقليت تاكسى وطلبت من السائق إيصالى لأرخص فندق. كنت أحمل حقيبة ضخمة بها ملابسى، وأعداد من كتاب وصف مصر وكان قد صدر منه ترجمة حديثة ، ربما بنفس قلم سامى الدروبى أو مترجم غيره لاأذكر. لم يسمح لى الوقت بقرائتها فى مصر فأخذتها معى. كان معى ألف دولار أعطاهم لى أبى. كنت أتصور أن هذا المبلغ يمكنه أن يكفينى فى إيطاليا إلى الأبد. كانت كل الحسابات خاطئة متسرعة ، وعندما سألنى السائق الذى كان يعرف قليل من الإنجليزية ، ماذا أعمل ، لم أعرف بماذا أجيب فقلت له كاتب ، فبدت عليه الحيرة ، كمن لايصدق . وفى الطريق إلى المدينة ، رأيت الكولسيوم ، شاهق مهيب كما تصورته ، لكنى لم أستطع التوقف بالتاكسى لأراه ، كنت قد بدأت أحصى نقودى وإلى متى تكفى؟ أوصلنى السائق إلى فندق قديم فى شارع لاأذكر إسمه ، وتركنى وحيداً وإنصرف ، لم أسمع أى صوت مصرى ولاعربى ، وكان الإيطاليين فى ذلك الزمن ، مثلهم مثل الفرنسيين ، لايتحدثون حتى قليل من الإنجليزية، بدا كل شئ مظلم ، وهاجمتنى مشاعر الوحدة ، ولاأعرف كيف قضيت ليلتى الأولى، وفى صباح اليوم التالى نزلت إلى الشارع لأتناول طعامى لعلى أقابل أى مصرى أو عربى كما حدث فى باريس ، لكن لم يكن هناك سوى مطاعم البيتزا ، والإزدحام وثرثرة الطليان التى لم أفهم منها شيئاً ، ولكن لاأثر لعربى ولامصرى ، ولاأعرف كيف قضيت اليوم الأول ، ففى ذلك الزمن لم يكن هناك نت ولاإرسال تليفزيونى عابر للقارات ولاشئ ، فإذا لم يكن حولك ناس فسوف تقتلك الوحدة ، ومعها الخوف من نفاذ نقودك الآخذة فى التناقص ، كالماء من بين الأصابع ، وهذا ماحدث ففى اليوم الثالث من إقامتى فى الفندق ، قررت العودة إلى مصر فى لحظة إكتئاب شديد ، وهكذا تحطم حلمى الأوربى إلى الأبد ، وإنتهت بى تداعيات الحياة بعد ذلك ، إلى بلد لم أفكر فيه أبداً ، إسمه إندونيسيا.
سلمت بالأمرالواقع ، ولم أعاود محاولة السفر مرة أخرى، وبدأت رحلة البحث عن عمل داخل مصر. كان من شروط العمل فى مؤسسات الحكومة فى ذلك الزمن ، أن تنهى الخدمة العسكرية أو الخدمة المدنية العامة للفتيات وللمعافين من الخدمة العسكرية ، وقد كنت معافاً منها بحكم كونى وحيد أبى ، ولذلك فقد تقدمت بعد فشل مغامرتى الإيطالية بطلب أداء الخدمة العامة وتم توزيعى على معسكر التجنيد بالعامرية للعمل فى فصول محو الأمية للمجندين الجدد، الذين لايجيدون القراءة والكتابة ، وهناك بدأت قصة قصيرة أخرى.
كانت سيارات الجيش تحملنا صباحاً من طريق الحرية وتعيدنا قبل المساء. لم تكن أعدادنا كبيرة ، كنا حوالى خمسة أو ستة ، لم أعد أذكر أسمائهم ، ولم يكن بيننا فتيات ، فقد كانت ظروف العمل فى المعسكر شاقة. كان المعسكر فضاءً فسيحاً من رمال ناعمة بيضاء ، تتخللها أبنية معدنية تسمى بالهناكر ، كان بها مكاتب الضباط وسكن العساكر وفصول الدراسة ، وكنا ننتقل داخل المعسكر سيراً على الأقدام ، كانت تجربة شاقة ، فقد كان الوقت صيفاً وكان الجو شديد الحرارة ، لكنها فى كل الأحوال كانت أقل قسوة من تجربة التجنيد العسكرى فى تلك الأيام ، كان لنا إحترام بين الضباط بصفتنا مدرسين وبصفتنا ضيوف ولسنا مجندين. كانت أحوال المجندين مزرية فعلاً ، كان معظمهم من الأرياف ، وكانوا يجلسون على الأرض أثناء الفصول ، لم يكن هناك مقاعد ولاكراسى ، فقط سبورة كبيرة أمام المدرس ، بينما يفترش الجنود الأرض. لم يكن هناك مناهج أيضا، كان على المدرس أن يعتمد على إجتهاده الذاتى ، كنت أكتب كل حروف الألف باء ثم أجمع منها الكلمات وأطلب من العساكر أن يقلدونى ويجمعوا كلمات بطريقتهم الخاصة ، وكان معظمهم ينجح فى ذلك ، كنت أجمع مثلاً الحرف ياء والكاف والتاء والباء لأكتب منهم كلمة يكتب ، وأطلب من أحد العساكر أن يقلدنى فيجمع مثلاُ حرف الياء والهمزة والكاف واللام ليكتب كلمة يأكل وهكذا كان يمضى الوقت مرحاً ، فقد كان معظمهم قد قضى بعض سنوات المرحلة الإبتدائية قبل أن ينسحب أو يهرب من الدراسة. لم يكن هناك مناهج معلومات عامة إضافية ، بعض خطوط عريضة عن مصر جغرافيتها ، تاريخها مثلاً ، كان ذلك شئ واجب ، لكنه لم يكن موجوداً. مر حوالى شهرين أو ثلاثة على هذا النحو الروتينى الهادئ ، حتى وقع حادث غريب قلب الأمور رأس على عقب ، ففى أحد الأيام ، تشاجر أحد زملائنا مع أحد الضباط مشاجرة خفيفة ، حيث ناداه الضابط أو أمره بشئ بأسلوب غير لائق ، فما كان من زميلنا سوى أن رد عليه قائلاً- أنا مش عسكرى عندك ، أسرها الضابط فى نفسه وإنصرف ، لكنه تصرف على نحو همجى بعد ذلك ، فقد أمر إثنين من المجنديين بمراقبة هذا الزميل حتى إذا إبتعد عن باقى زملائه ومضى فى طريقه إلى فصله الدراسى أن يقوما بضربه علقة ساخنة ويهربا بعد ذلك ، فما كان من المجندين الريفيين وفى رغبة منهما بمجاملة ضابطهما أن قاما بأداء المهمة بإخلاص زائد ، فإلتقطا بعض قطع خشبية كانت متناثرة على أرض المعسكر وراقباه حتى إذا إنفردا به إنهالا عليه ضربا بالأخشاب حتى سقط على الأرض مغشياً عليه ، ولاذ الجنديان بالفرار وتعالى صراخ بعض المجنديين الذين رأوا الحادث بالمصادفة فهرعت أنا وبعض زملائى وهؤلاء المجندون لنفاجئ بزميلنا على الأرض مضرجاً بالدماء ، فحملناه إلى أحد الهناكر القريبة ورششنا عليه الماء حتى أفاق ، وروى لنا قصة شجاره مع الضابط وإعتقاده بأنه هو الذى دبر هذه الجريمة ، فإندفعنا جميعاً فى صراخ وسباب كان يمكن أن يحول الأمر إلى فتنة كبيرة مع الضباط ، لكن رئيس المعسكر وكان ضابط برتبة عميد تصرف بحكمة عندما وصل الخبر إلى علمه وأمر بإستداعئنا ومعنا زميلنا المصاب وسأله عن إسم الضابط الذى تشاجر معه فأخبره به ، فقام بإستدعائه ومعه معظم الضباط ، تكلم العميد فى هدوء وقال نحن فى جيش ولايمكن لأحد أن ينفعل مثل هذا الإنفعال داخل الثكنات ، إن هذا قد يعتبر تمرد يمكن أن يواجه بالسلاح ، وكان الكلام موجهاً إلينا ، ثم إستطرد هناك فى الجيش مايسمى بالتظلم ولكن حيث أنكم مدنيين لاتعرفون القوانين العسكرية فأنتم أبرياء ، الخطأ على الضابط الذى تصرف هذا التصرف وأخذ يوبخه توبيخاً شديداً ثم أمره بالقيام وتقبيل رأس زميلنا المصاب ، فقام وفعل ذلك فوراً ، وبالطبع لم يكن بوسعنا أن نرفض ذلك الصلح الذى توسط فيه رئيس المعسكر نفسه ، ونفذ الضابط من العقاب ، ونفذنا نحن من ضربات الرصاص ، وحسبنا أن الأمر قد إنتهى على ذلك ، لكن يبدو أن العميد والضباط لم يغفروا لنا أننا رفعنا أصواتنا عليهم أمام الجنود ، فلم يمر وقت طويل ، حتى جاء أمر بنقلى أنا ومعظم زملائى إلى مركز تجنيد البحرية بأبى قير!!!
وكما تقول الآية ، عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم ، كان الجو العام فى معسكر أبى قير مختلفاً تماماً عن نظيره فى معسكر العامرية. كان المعسكر يقع على خليج هادئ من البحر أضفى على كل المكان جمالاً وهدوءً كما يفعل البحر فى معظم الأحيان، كما كانت الأبنية مرتبة مبنية بالحجارة وليس من ألواح الصاج ، كما كان هناك كافيتريا ، وممرات مرصوفة ومكاتب وفصول واسعة وكراسى للمجندين ولو بدون مكاتب ، كما كان الضباط البحريين أكثر مودة وترحيبا بنا ، وكانت طباعهم أقل خشونة من طباع ضباط الجيش، ويبدو أن للجغرافية تأثيرها القوى على كل شئ فى الحياة. كان أهم مايميز المجموعة الجديدة التى إلتقينا بها هناك هو وجود فتاتين جميلتين بينها ، وقد أضفى وجودهما بيننا نوع من البرستيج على كل المجموعة ولاأعرف إذا ماكان لوجودهما بيننا أثر فى تلك المعاملة الطيبة التى كنا نلقاها من العميد رئيس المعسكر وباقى الضباط أم لا؟
كان أهم ماميز حقاً تلك الفترة القصيرة الأخرى التى قضيتها فى معسكر أبى قير هى علاقة الصداقة الحميمة التى نشأت بين أفراد المجموعة كلها ، أصبحنا نلتقى خارج المعسكر فى أيام الأجازات فنذهب إلى حدائق المنتزه أحياناً ، أو إلى زيارة الأماكن الأثرية التى كنت أنصح بها كالمتحف اليونانى أوالمسرح الرومانى القريب منه أو منطقة عمود السوارى ، كانت الفتاتان تصاحبانا فى معظم رحلاتنا ، وكما كانت جميلتين ، فقد كانت كل منهما ، وبالمصادفة ، تحمل إسم منى . وقد ظللت أذكر أسميهما طوال تلك السنوات الطويلة بينما نسيت باقى الأسماء ؟ قضيت نحو خمسة أشهر هادئة فى معسكر أبى قير البحرى بين هذه الصحبة الجميلة من الأصدقاء حتى جاءنى أمر إستدعاء من وزارة التربية والتعليم للعمل كمدرس مواد إجتماعية فى إحدى مدارس محافظة كفر الشيخ. وقع الخبر كالصاعقة على رؤؤس زملائى الذين كانوا قد إرتبطوا بى ، كما إرتبطت بهم ، إرتباطاً شديدأ، ولكن لم يكن بالأمر حيلة ، فقد كان لابد من تنفيذ أمر التكليف ، كما كنت أنا نفسى ، حتى ذلك الوقت ، سعيداً بفكرة العمل كمدرس. وعدت زملائى بعدم الفراق وأنا أظل على تواصل معهم ، وقد حاولت الوفاء بوعدى ، كما حاولوا الوفاء بوعدهم ، وظللنا على تواصل لأشهر قليلة بعد ذلك ، ثم نسى بعضنا البعض ، ومضى كل فى طريق حياته!!!
كانت تجربة العمل كمدرس سنة 1979 ، السنة التى وضعت فيها الثورة الإسلامية فى إيران، والغزو السوفيتى لأفغانستان ، النهاية الرسمية لسيطرة تيار الإشتراكية فى الشرق الأوسط ، تجربة قصيرة أخرى فى حياتى ، لكنها كانت شديدة المغزى. كثيراً مانقنع أنفسنا فى رحلة الحياة ، أننا أهل لدور ما ، ولكن وعندما تأتى ساعة التجربة الحقيقية ، نكتشف أننا أبعد الناس عنه. لقد راقت لى فكرة العمل كمدرس من واقع الروايات الرومانسية الكثيرة التى قرأتها ، وربما من وداعاً مستر شيبس بالتحديد ، ولكن عندما جاءت ساعة التنفيذ فى الواقع ، إكتشفت أن مجرد ترتيب كراسة التحضير كان يصيبنى بإنهيار ، لقد كان طبعى المتعجل ، نافذ الصبر، أبعد مايمكن عن طبيعة وعمل المدرس، كان ذلك هو الإكتشاف الأول، لكن الإكتشاف الثانى كان أصعب. الريف المصرى كان هو ذلك الإكتشاف الثانى الرهيب ، لقد كنت أعتقد أن مدينة رشيد التى قضيت جزءً كبيراً من طفولتى فيها هى الريف ، ولكن عندما عرفت الريف الحقيقى ، أدركت أن رشيد كانت باريس.
كانت فصول أبو مصطفى تقع فى قرية من قرى محافظة كفر الشيخ والتى سميت المدرسة بإسمها. كان الوصول إليها عملاً من أعمال المستحيل . كان القطار إحدى الوسائل المتاحة ، لكنه كان مبكراً مزدحما فى العادة ، وكذلك الأتوبيس ، وفى كل الأحوال كان لابد من أخذ مواصلة ريفية أخرى من المحافظة إلى مركز يسمى بمركز الحامول ، ومن هناك سيارة أخرى إلى القرية ، أما السفر بسيارت الأقاليم فقد كان متاحاً فى كل وقت ، وتلك كانت ميزته الوحيدة التى جعلتنى أفضله فى النهاية ، رغم أن نفس القصة كانت تتكرر حيث يلقى بك فى المحافظة ، ومن المحافظة تبحث عن سيارة أخرى تصل بك إلى مركز الحامول ، ومن مركز الحامول تبحث عن سيارة أخرى لتصل بك إلى قرية أبى مصطفى الواقعة فى عمق الريف الرهيب.
مساحات متناثرة من الحقول ، طرق ضيقة غير معبدة ، وترع وقنوات كثيرة ، وبيوت من الطين متناثرة بلا نظام أو ترتيب ، وذلك الظلام الكثيف الذى يلقى بجو من الحزن على كل شئ. من قال أننا غادرنا القرون الوسطى، لقد شعرت بها بكل قوة فى تلك الشهور القليلة التى قضيتها فى الريف. كانت المدرسة بناءً لابأس به أقامته الحكومة على طراز المدارس المعتاد ، لكن حوله لم يكن هناك شئ آخر ، مجرد فراغ شاسع وسكون ووحشة . كان المدرسون الأجانب مثلنا يستأجرون غرفة فى بيوت الفلاحين ، الذين كانوا يرحبون بذلك بدافع الحاجة ، أو بدافع الواجب ، ولكن كان عليهم أن يعتمدوا على أنفسهم فى تدبير باقى أمورهم ، ولاأعرف كيف تمكنت من ذلك التحدى الخطير. كان بعض الفلاحين يقبلون بغسل وكى ملابسنا ، وحتى بطهى بعض الوجبات أحيانا ، مقابل أجر ، لكن ذلك لم يكن القاعدة ، فقد كان ذلك يعتمد على الحظ ، وعلى طبيعة البيت الذى يسكنه المدرس ، ولاأذكر الآن ، كيف كان حظى ولا فى أى بيت سكنت. لم يكن ذلك هو كل شئ ، فبالإضافة إلى عناء الرحلة ، ومشقة العيش ، كان ذلك الراتب التافه الذى كانت تمنحه الحكومة للمدرس المبتدئ فى ذلك الوقت، والذى كان يبلغ نحو 30 جنيه لاأكثر، قد جعل من كل رحلة العمل كمدرس فى الريف مجرد رحلة من العبث ، فما معنى أن تعمل وتتحمل كل تلك المشاق ثم تطلب من والدك إعانة فى كل شهر، لقد كان البقاء فى البيت أفضل. كنت أعود إلى الإسكندرية كل خميس وجمعة لأقابل أصدقاء الحى وأتنفس الصعداء ، ثم أعود يوم السبت صباحاً ، لمواصلة تلك الرحلة العبثية بلاهدف.
ومع ذلك فقد كان هناك لحظات جميلة فى تلك التجربة الشاقة ، كانت العلاقة بالتلاميذ أجمل مافيها ، كنت أستمد من علاقتى بهم التسلية المفتقدة ، كنت أخرج معهم إلى المزارع أحيانا ، وإلى الترع والمصارف الممتلئة بالأسماك أحيانا أخرى ، والتى كانوا يعرفون الطرق إليها جيدا ، حتى ولو كانت بعيدة عن القرية ، حيث كنت أمارس هوايتى القديمة فى صيد الأسماك ، كما كنت أدخل معهم حتى فى حوارات سياسية ، كان كثير منهم نبهاء يحتاجون فقط لفرصة كى يخرجوا إلى العالم ، كنت أتحدث معهم كثيراً عن الإشتراكية ، وعن العالم المتقدم والثورة ، وحتى عن الخرافات الدينية ، ولعل هذه كانت خطيئتى الكبرى ، التى لم أدرك خطورتها فى ذلك الوقت ، كنت مدفوعاً بالبحث عن أكثر من التسلية المفتقدة ، الواقع أننى كنت مدفوعاً بالرغبة فى البحث عن دور ، حتى بين هؤلاء التلاميذ المساكين . لم تكن علاقتى بزملائى المدرسين من أبناء القرية تقل مودة عن علاقتى بالتلاميذ ، أذكر منهم الأستاذ عبدالله والأستاذ حسن وأبوه الطيب ، الذى توفى بعد وصولى هناك بأشهر قليلة ، ووضعتنى جنازته فى خضم تجربة الموت فى الأرياف الرهيبة ، حين يأتى المعزون بالمئات من القرى القريبة والبعيدة ، ويقيم لهم أهل قرية المتوفى الولائم ، فى فوضى لاتختلف كيراً عما يحدث فى المناسبات السعيدة. وكما كنت تلقائياً فى علاقتى بالتلاميذ كذلك كنت معهم ، نتحدث عن تلك الإشتراكية التى كنت أتصور أننى أحد أقطابها الكبار ، وعن الثورة والعالم المتقدم وعن تلك الخرافات الدينية التى كنت أجيد التحدث عنها ، وربما لنفس الأسباب تقريباً ، ليس لمجرد التسلية المفتقدة ، ولكن من أجل البحث عن دور محرر الريف القام من المدينة. لم تتضح تبعات ذلك سوى فى العام الدراسى التالى مباشرة، فعندما ذهبت إلى المدرسة فى بداية العام الدراسى التالى لإستئناف عملى فوجئت بزملائى المدرسين يخبروننى أنه قد تم نقلى إلى مدرسة أخرى فى نفس المحافظة تسمى مدرسة العباسية ، وأن على مراجعة المديرية ، لم يكن الخبر غريباً فى ذاته ، ولكن الإبتسامات الخبيثة التى صدرت من بعضهم وهو يخبرنى بهذا النبأ ، جعلتنى أدرك وأنا فى طريق العودة ، أننى قد نقلت بشكوى طيبة ، من هؤلا الزملاء الطيبين ،
وفى مدرسة العباسية ، كان هناك تجربة أخرى ، أشد قسوة هذه المرة ، فبالإضافة إلى نفس مشاق الرحلة ، وخشونة الحياة الريفية والراتب الصغير والغربة ، كان هناك مفاجأة أخرى، فقد كان زملائى الجدد ، من أهل القرية ، فى إنتظار وصول هذه الكتيبة الماركسية الخبيثة لمعاقبتها.
كانت مدرسة العباسية أعلى درجة من فصول أبى مصطفى حيث أنها كانت مدرسة وليست مجرد فصول كما كانت أفضل موقع ، فقد كانت أقرب إلى الطريق المسفلت الذى يصل القرية بالمراكز والمحافظة ، وكانت معالمها أكثر وضوحاً والتجوال فيها أسهل . وتكررت نفس القصة بحذافيرها ، إستأجرت غرفة فى بيت أحد الفلاحين ، وبدأت عملى بنفس التلقائية ، لم أكن أعرف أنهم يراقبوننى ، وخاصة الأستاذ حامد ، مدرس الزراعة وأبضايا القرية الذى كان يكره كل مدرس قادم من المدينة ويعتبر أى مشاجرة معه إضافة الى سجل بطولاته الوهمية . كان معى ثلاثة أو أربع زملاء من الإسكندرية أيضا ، بعضهم سبقونى إلى هناك وبعضهم جاء بعدى لكن علاقتى بهم ظلت عادية ، فبرغم أننا كنا من سكان نفس المدينة ، فقد جئنا من بيئات مختلفة ، أذكر منهم الأستاذ مجدى وكان المفضل عندى ، والأستاذ صلاح ، وكان عاملاً فى الأساس ثم درس حتى حصل على ليسانس الآداب وأصبح مدرساً وكان ذلك أول تعيينه وكان شديد الحماس فى عمله خاصة فيما يتعلق بمنافسة الأستاذ حامد على إدارة طوابير الصباح ، وكان أشدهم نفوراً إلى نفسى ، ولم يترك الآخرون إنطباعاً يذكر، حتى أننى لم أعد أذكر أسمائهم. لم تكن العلاقة مع المدرسين من أهل القرية ودية كما كانت سابقتها فى فصول أبومصطفى لكنى لم ألاحظ ذلك إلا متأخراً. وكالعادة كانت العلاقة مع التلاميذ هى الأفضل. خلال شهر واحد أصبحت قريب منهم وأصبحوا قريبيين منى ، خاصة تلاميذ الصف الثالث محمود وفهمى ، كانوا شديدى الذكاء شديدى الإنسانية وأصبحوا ومعهم بعض زميلاتهم كأنهم أصدقاء فى مثل سنى ، لدرجة حتى أنهم كانوا يزورونى أحياناً فى منزلى ولكن دائماً فى صحبة قائدهم فهمى.
وذات يوم فوجئت بالأستاذ حامد ينادينى وهم يخفى شره ، لو سمحت أستاذ عبدالجواد عاوزك شوية ، فخرجت معه خارج المدرسة وكانت علاقتى به محدودة للغاية ولذا فقد بدوت مندهشاً من طلبه لكن الإندهاش تحول إلى صدمة حين فؤجت به يقول لى - حاول تخلى علاقتك بالتلاميذ داخل الفصل بس ، فقلت منزعجاً - لماذا ، فأجاب بهدوء وهو يحاول السيطرة على نفسه - إحنا عندنا تقاليد ولازم تراعيها ، إحنا مش فى المدينة ، فأجبته قائلاً - خلينا نفترض أنهم رأونى يوما خارج المدرسة وجاءوا للسلام على ماذا أفعل؟ وبدا كأن إجابتى قد أربكته ، فأصابه الخرس ولم يجد مايرد به سوى أن قال - عموماً أنا نصحتك ، وتركنى وإنصرف.كان التهديد واضحاً فى كلامه لكنى لم أغير شئ من سلوكى وظللت على علاقتى الوثيقة بتلاميذى ، وعندما أخبرت زملائى بماحدث فوجئت بأنهم يعرفون أكثر مما أعرف ، قالوا لى - حامد بلطجى ويتحرش بكل مدرس قادم من المدينة وأنت أعطيته الفرصة بقربك من التلاميذ وكلامك معهم فى السياسة خاصة أن ذلك كان هو نفس سبب نقلك من أبى مصطفى ، ذهلت وأنا أسالهم - كيف عرفتم ، فأجابوا -الجميع يعرف ، وهكذا إتضحت الصورة القاتمة كاملة ، سبب نقلى من أبى مصطفى ، مشاعر مدرسى القرية الباردة ، تهديد حامد ، والمضحك فى الأمر، أن تلك الماركسية التى جلبت على كل هذا الإضطهاد ، كانت على وشك أن تضهدنى هى الأخرى.
ففى تلك الأيام كنت قد قررت أن أنتقل بماركسيتى المزعومة من عالم الحوارات إلى أرض الواقع ، كانت الحياة السياسية قد شهدت بعض نشاط بعد سماح السادات بتأسيس الأحزاب السياسية وظهور ثلاثة أحزاب تمثل الإتجاهات السياسية الثلاث ، الوسط واليمين واليسار، وكان حزب الأحرار الإشتراكيين برئاسة مصطفى كامل مراد هو الحزب الممثل لليمين ، وكان حزب مصر العربى الإشتراكى برئاسة ممدوح سالم ، والذى تحول إلى الحزب الوطنى بعد ذلك برئاسة أنور السادات نفسه هو الحزب الممثل للوسط ، كما كان حزب التجمع برئاسة خالد محيى الدين هو الحزب الممثل لليسار. كان حزب التجمع عبارة عن تجمع للناصريين واليساريين وكان أكثر تلك الأحزاب نشاطاً بحكم الروح اليسارية التى كانت مازلت تسيطر على مصر بعد رحيل عبدالناصر القريب، وكان من المعروف أن الأحزاب اليسارية لها تنظيمات سرية تعمل تحت الأرض بالإضافة إلى إنتمائها لحزب التجمع ، وإلى أحد هذه التنظيمات السرية كنت أرغب فى الإنضمام. كان حزب التجمع قد عقد مؤتمراً جماهيرياً كبيرا فى منطقة الضاهرية الشعبية القريبة من حى باكوس حضره خالد محيى الدين رئيس الحزب والدكتور محمود القاضى البرلمانى السكندرى الشهير واليسارى الشاب أبو العزيز الحريرى وشخصيات أخرى، وقد كان مؤتمراً حاشداً، حضرته جموع غفيرة من المواطنين ، إنتقد فيه المتكلمون مجمل سياسات أنور السادات وخاصة سياسة الإنفتاح الإقتصادى، وقد حضرنا أنا ومحمود هذا المؤتمر الذى أثار فى نفوسنا حماساً شديداً للعمل العام ، لكن ساعة التنفيذ تأخرت حتى فترة عملى فى كفر الشيخ ، وأخيراً ، وفى إحدى أجازاتى الأسبوعية ، قررنا الذهاب لمقابلة فؤاد منير. كان فؤاد منير رئيساً لإتحاد طلاب مصر فى شبابه ويسارياً معروفاً وطبيباً مشهوراً فى حى باكوس فى ذلك الوقت كما كان من كبار أعضاء حزب التجمع فى مدينة الإسكندرية وكان المشرف على تنظيم مؤتمر الضاهرية ، وكان يعرف محمود حيث كانت عائلة محمود من رواد عيادته، ولذا فقد رحب بنا فى عيادته ، التى كان يحولها إلى صالون سياسى فى مساء كل خميس أو جمعة.
قدمنى محمود إلى فؤاد منير بشئ من الفخر، وكأنه يقدم له هدية ، لكن يبدو أن فؤاد منير لم يقدر الهدية ، وبدا أن أكثر مالفت نظره ذلك البالطو الأسود المريب الذى كنت أرتديه ، والذى كان يتشابه بالمصادفة مع الزى الرسمى لمخبرى مصر فى تلك الفترة، كان البالطو أحد المؤثرات السلبية على لشخصية بيتر أوتول فى وداعاً مستر شيبس ، وكنت قد فصلته لإتقاء برد الشتاء القارس أثناء سفرى وعودتى من كفر الشيخ ، ولم أكن أعرف أنه سيجلب على الشك والريبة. وبدأت الحفلة وتوافد زملاء دكتور منير شيوخ وشباب ، نساء ورجال ، كل جحافل اليسار السكندرى والذى كان مجهولاً لنا أ نا ومحمود حتى ذلك الوقت. قدمنا فؤاد منيرلهم على أننا رفقاء جدد ، وبدا أيضا أن البالطو كان أكثر مالفت نظرهم ، كان بينهم شاب يسارى شهير ، كان فى السنة الأخيرة فى كلية الطب ، إسمه رياض محرم ، وقد خرج لتوه من السجن ، وكان شديد الحساسية تجاه الغرباء مثلى ، ويبدو أنه لم يحبنى أيضاً ، وقد إلتقيت به بعد ذلك فى صالون زمرة الثقافى بالإسكندرية وذكرته بنفسى ، لكنه لم يتذكرنى ، كان بينهم عم عيد العامل اليسارى وإبنه ، و سيدة قال لى محمود أنها شاهندة مقلد ، وإبنتها محاسن التى كانت على وشك الخطوبة لإبن عم عيد، الذى نسيت إسمه ، وأشخاص كثيرة نسيت أسمائهم ، وبدأ الحديث اليسارى المعتاد عن البناء الفوقى والبناء التحتى ، وعن وسائل الإنتاج وعلاقات الإنتاج ، وعن الفرق بين لينن وتروتسكى، وبين ثورة الصين وثورة الإتحاد السوفيتى ، وكل تلك الأحاديث اليسارية المكررة المملة ، وفى ذلك أبلينا أنا ومحمود بلاءً حسناً ، ولكن وعندما بدأ الحديث يتطرق عن ذكريات إنتفاضة يناير 1977 وعن بطولات تيمور الملاوانى ، أشهر طالب يسارى سكندرى فى ذلك الزمن ، وعن زكى مراد ، زعيم الحزب الشيوعى المصرى السرى وحادث وفاته المريب ، وشهدى عطية الشافعى ، شهيد اليسار المصرى ، والذى ضرب حتى الموت فى سجون عبدالناصر ، وذكرياتهم معهم ، بدونا أنا ومحمود كالأطرش فى الزفة ، فلم نكن نعرف عنهم شيئاً ، ولاكنا حتى إشتركنا فى إنتفاضة يناير 1977م، وهنا راح الجميع ينظرون إلى البالطو مرة أخرى . وإنتهى اللقاء بقصيدة شعر ألقاها أحدالحاضرين فجأة وسط صياح الباقين ، ثم بأغنية الشيخ إمام ، جيفارا مات ، جيفارا مات ، ولااذكر باقى الأغنية . كان كأنه حفل ذكر ، أو لقاء من لقاءات الجماعات الإسلامية ، عالم مغلق له طقوسه وأوهامه، من الصعب أن تدخل إليه بالطريقة الساذجة التى دخلنا بها أنا ومحمود ، كان يجب أن تكون منه منذ البداية ، كأنه عالم متوارث أب عن جد ، يعرف بعضه حتى قبل أن يولد ، وكل من دخل عليه بعد ذلك ، لابد أن يكون مخبر ، أو مباحث ، عالم شديد الأصولية، يستخدم كلمة الثورة عشرة آلاف مرة فى الدقيقة، ويرى كل العالم إستغلال وإستعمار وخيانة ، حتى أوربا التى كنت مغرماً بحضارتها منذ مراهقتى.
وتكررت اللقاءات فى كل خميس عند عودتى من كفر الشيخ ، وكلما حاولت التقرب من فؤاد منير كنت ألاحظ إبتعاده ، كان إهتمامه بمحمود أكثر ، ربما فقط لإنه كان يعرف أهله ، وإستمر الحال على هذا النحو لعدة أسابيع قليلة حتى فجرت فى أحد اللقاءات قنبلتى الأيدولوجية التقليدية ، بأن معاهدة السلام مع إسرائيل لاتفسد لقضية الإشتراكية وداً ، ففى إسرائيل أيضاً أحزاب إشتراكية ، والإشتراكية حركة إنسانية ، وليست حركة قومية ، وأنها تتعارض مع العروبة الشيفونية ، وهنا لم يعد لديهم شك فى أننى فعلاً مخبر، ففى الأسبوع التالى مباشرة وبعد عودتى من كفر الشيخ توجهت مساءً إلى منزل محمود للذهاب معاً إلى عيادة فؤاد منير كالعادة وهنا كانت المفاجأة حين حكى لى محمود عن لقائه مصادفة خلال الأسبوع الماضى بفؤاد منير وأن منير قد عبر له بطريق غير مباشر عن عدم إرتياحه لوجودى. شعرت بغضب شديد وأردت الذهاب إلى العيادة للدفاع عن نفسى أمام الجميع لكن محمود إستطرد قائلاً ، بأن فؤاد منير قد حضر إلى منزله فى اليوم التالى مباشرة وإعتذر عن سوء الفهم ، لكنه رفض إعتذاره ، وبذلك لم يعد هناك معنى لذهابنا إلى هناك مرة أخرى. إقتنعت بحجته ، ولم نذهب لا أنا ولا هو إلى هناك مرة أخرى، ومنذ ذلك اليوم فصاعداً، بدأت رحلة الإنقطاع عن تلك الماركسية الإستبداية المريبة ، لكنى مع ذلك ظللت أعانى من ثنائية اليسارى الليبرالى ، وذلك حتى حررتنى منها الإشتراكية الديموقراطية ، التى إنتشرت فى العالم بعد سقوط الإتحاد السوفيتى سنة 1990.
وهكذا أضاعتنى الماركسية فى الريف وفى المدينة ، وأصبح بقائى فى قرية العباسية عبأ لايطاق ، وكان على أن أقرر بين الإستمرار فى هذا الوسط المتخلف ، وبين الرحيل ، ولكن إلى أين؟ مغامرة أوربية أخرى؟ مستحيل ، البحث عن عمل فى الإسكندرية ، نعم كان القرار، ولكنى لم أحدد وقت التنفيذ ، حتى ألقى إلى القدر بفرصة ، لم تجل حتى بالخيال، ففى هذه الأيام بالتحديد ، كنا أنا وأصدقائى ، وعند عودتى الأسبوعية نقضى بعض الوقت فى الكافيتريا الشتوية لفندق سان إستفانو القديم ، التى كانت تسمى الرانشو ، كان فتدق سان إستفانو القديم أحد الفنادق الرئيسية الثلاث التى تملكهم شركة الفنادق المصرية الحكومية فى ذلك الوقـت ، وهم فلسطين بحدائق المنتزه ، وسيشل بمحطة الرمل ، وفندق سان إستفانو بمنطقة سان إستفانو ، القريبة من حى باكوس. كان الفندق يشغل مساحة واسعة تطل على شاطئ البحر من جهة وعلى محطة ترام سان إستفانو من جهة أخرى ، كان من أجمل أماكن الإسكندرية فى ذلك الزمن ، كان يتكون من حوالى ثلاثة أدوار ، تشغل مساحة أفقية عريضة ، مطلية باللون الأبيض ، وكان فى الأصل قصر للكونت إستيفان زيزينيا ، أحد أشهر اليونان الذين وفدوا إلى مصر فى عهد أسرة محمد على ، والذى سمى حى زيزينيا الشهير بإسمه أيضا. ثم حول القصر إلى فندق فى عهد الخديوى توفيق وسمى على إسم صاحبه الأصلى ، كما حول لفترة قصيرة أثناء الحرب العالمية الثانية كمستشفى للجنود البريطانيين ، ثم إستأنف سيرته كفندق بعد الحرب مرة أخرى. كان ملتقى الباشوات والأعيان فى مصر قبل الثورة ، وأصبح ملتقى جميع الطبقات بعد ذلك. كان له شاطئ خاص وحدائق واسعة تطل على البحر تتحول إلى كافيتريات فى الصيف، وكان به نادى ليلى وبار وصالة حفلات ومطعم بالإضافة إلى الرانشو الشهير الذى كنا نقضى به بعض أوقاتنا ، وظل كذلك حتى إنتهى به العمر كما ينتهى كل شئ فى الحياة ، وضاع فى خصصة زمن الإنفتاح ، وإشترته مجموعة طلعت مصطفى الشهيرة وحولته إلى تلك الخراسانات الكثيفة القائمة الآن تحت إسم الفور سيزون .كان لمرفت خطيبة رفعت بهجت قريبة تعمل سكرتيرة للمدير إسمها مدام فاطمة ، وكنا نسمع عنها لكنا لم نكن قد رأيناها بعد ، وفى أحد هذه الأمسيات تعرفنا على مدام فاطمة وعرفنا منها أن شركة الفنادق المصرية وفى محاولة منها لتطوير نفسها ، قد قررت قبول عدد من الجامعيين الراغبيين فى العمل فى الفنادق ، وتدريبهم وتوظيفهم لديها بشروط مجزية ، وكانت تلك هى الفرصة التى كنت أنتظرها!!!
تخلفت عن السفر إلى كفر الشيخ فى اليوم التالى وجهزت الأوراق المطلوبة، شهادتى الجامعية وبعض مسوغات أخرى، دون شهادة الخدمة العامة الضروية ، فقد كانت شركة الفنادق المصرية تتبع قطاع الأعمال الحكومى ، وكان التعيين بها يتطلب شهادة الخدمة العسكرية أو الإعفاء منها مع شهادة الخدمة العامة ، مثل لى نقص هذه الشهادة كابوساً وأنا فى طريقى لتسليم أوراقى إلى مدام فاطمة فى مكتبها بالفندق ، وبدوت على وشك الإنهيار وأنا أشرح لها أننى لم أكمل من خدمتى العامة سوى سبعة أشهر، بسبب تكليفى للعمل كمدرس، لكنها طمئنتنى بأن هذه الأشهر السبعة تكفى ، فقط على أن أحضر شهادة بذلك من مكتب الخدمة العامة ، أسرعت لاهثاً إلى مكتب الخدمة العامة الذى كان يقع فى حى صفر، وشرحت للموظف المسئول ذلك الموقف وأنا على نفس الحالة من الإرتباك ، فلم أكن متأكداً من إمكانية صدور شهادة دون إكمال فترة سنة الخدمة كاملة ، لكنه فاجئنى أيضا بأن قام من فوره وفحص الأوراق حتى عثر على إسمى وأعطانى شهادة بالسبعة أشهر التى قضيتها معهم. قبلت مدام فاطمة أوراقى وطمئنتنى بإبتسامة قائلة- ماتقلقش ، مقبول بإذن الله ، وهكذا بدا أن حلمى على وشك التحقق ، ولم يعد هناك سوى إنتظار موعد المقابلة!!!
كانت المقابلة فى أحد قاعات فندق فلسطين بالمنتزه ، حيث إحتشد عدد كبير من راغبى الوظيفة ، من معظم التخصصات الجامعية ، مقابل منضدة كان يجلس عليها الأستاذ محسن ، مدير فندق سان إستفانو ، ومدير مركز التدريب ، المعنى بتدريب وتوظيف الدفعة الجديدة ، ومعه عضوين آخرين من شركة الفنادق ، ومعهم مدام فاطمة ، وبدا واضحاً أنها قد أوصت بى ، فعندما نودى على إسمى قابلنى أحدهم بإبتسامة وهو يسألنى - لماذا تريد أن تعمل فى الفنادق ، أجبته بهدوء - مستقبل أفضل ، فأعطانى كتاباً إنجليزيا صغيراً ، يحتوى موضوعات فندقية بسيطة ، وطلب منى أن أفتح أى صفحة وأقرأها ثم أشرح معناها ، ففتحت أحد الصفحات وأخذت أقرأها بسهولة وأنا أشرح معناها فقرة فقرة، ولم أتوقف إلا عندما قال وهويأخذ منى الكتاب ضاحكاً - كفاية - كفاية ، وعرفت أننى قد إجتزت المقابلة وأننى قد قبلت بشركة الفنادق. كان يوماً من أسعد أيام حياتى ، فبالإضافة إلى تحررى من الحياة التعيسة فى قرية العباسية ، فقد كان العمل فى الفنادق فى ذلك الزمن يمثل فرصة كبرى لأى شاب فى مستهل حياته ، كان الراتب هو نفس الراتب الحكومى ، حوالى ثلاثين جنيه ، ولكن كان هناك حوافز تساوى الراتب تقريباً ، تصرفها الشركة فى منتصف كل شهر، كماكان هناك إكراميات، تزيد أحياناً عن الحوافز، بالإضافة إلى إمتيازات المكان الراقى والخبرات الكبيرة التى يوفرها العمل فى الفنادق. كان نقلة كبرى لاتصدق ، فبعد التشرد والغربة فى أصقاع الريف القاسى، أصبحت على وشك الحصول على وظيفة تتميز بالرقى والجمال ، تبعد مجرد خطوات عن منزلى فى حى باكوس ، وتطل على شاطئ البحر الساحر ، الذى عشت أعشقه طوال حياتى ، وكالعادة وفى واحدة من تجليات العجلة التى لازمتنى طوال حياتى ، قررت أن أرحل عن قرية العباسية ، حتى قبل أن تعلن النتيجة، وبدون أى إستقالة رسمية!!!
وفى يوم الرحيل حمل التلاميذ حقائبى من المنزل وإستدعوا لى سيارة من الشارع الرئيسى ، وكأنهم فى موقف حزن فعلاً ، وبعد أن ودعت زملائى المدرسين ، فوجئت بالأستاذ حامد، والذى هاله هذا الحب الجارف من التلاميذ ، يندفع نحوى وأنا أهم بركوب السيارة ويبدى إعتذاره على مشهد من الجميع ويطلب منى التأكيد على أن رحيلى ليس بسببه ، ولم يكف عن الإعتذار إلا بعد أن أقنعته أنه لادخل له بقرار الرحيل وأننى قد وجدت فرصة عمل أفضل. وإنطلقت بى السيارة فى طريق العودة. لم يكن هو الطريق المعتاد هذه المرة ، أخبرنى السائق أنه ذاهب إلى مدينة إدكو، وأننى من هناك أستطيع بسهولة أن أستقل سيارة أخرى إلى الإسكندرية. لم يكن لذلك أى معنى ، كان المهم أن أرحل ، ولكن وبالمصادفة الغريبة ، كانت الرحلة مختلفة فعلاً ، فقد قدر لى أنا أرى عشوائية الريف والمدن الصغيرة لآخر مرة. لايمكن أن أذكر الطرق التى مر منها السائق ولا من شاركنى الرحلة ، لكننى فقط ظللت أذكر تلك الفوضى وذلك القبح الغريب لحياتنا خارج المدن الكبرى، وبعكس تجربة السفر من باريس إلى نيم ، حيث لم يكن هناك فارق كبير بين القرية والمدينة ، فقد كان هنا فارق أكبر من أى تخيل ، بين جسر ونهر وترعة ومصرف وسوق وبيوت قبيحة غير مطلية وشارع ضيق وجموع من البشر لا يبدو لها هدف، ولاتبدو عليها السعادة ، وذلك التأمل الحزين الذى لازمنى طوال الطريق حتى وصلت مدينة إدكو، كنا فى بداية المساء، وقد أضاءوا القناديل فى المواقف والأسواق فبدت المدينة الصغيرة غارقة فى نفس تلك الصورة القروأوسطية الحزينة ، ومن هناك إستقليت سيارة أخرى عادت بى إلى الإسكندرية كأننى عائد من سجن أو منفى. لم يمض وقت طويل بعد عودتى حتى أعلنت النتيحة، وكنت ضمن المقبولين فعلاً ، وبدأت رحلة جديدة فى حياتى ، أطول عمراً وأكثر إثارة !!!
كانت فترة التدريب عبارة عن تدريب على أعمال المطبخ بشكل أساسى ، تتخللها محاضرات نظرية عن باقى أقسام وأعمال الفنادق ، على أن يتم فى نهاية فترة التدريب ، وبعد إجتياز الإختبارات ، توظيف الناجحين فى أقسام الفنادق المختلفة ، المطابخ والمطاعم والمكاتب الأمامية ، تبعاً لما تراه إدارة التدريب ، وليس تبعاً لرغباتهم، على أن تظل فترة التنقل بين الأقسام متاحة حتى بعد التعيين الأساسى ، كما هى طبيعة العمل فى الفنادق ، وكما شرح لنا الأستاذ محسن ، والذى قال ، عليكم أن تعرفوا من البداية أن أعمال الفنادق متكاملة ، وأن البداية الطبيعية تكون من المطبخ ، وهكذا كان هناك إحتمال أن أعين بعد فترة التدريب الشاقة فى المطبخ ، وأجد نفسى بعد كل هذا العناء ، وقد ورثت مهنة أبى فى النهاية ، وأصبحت طباخاً ، كان ذلك تحدياً خطيراً ، ترتب عليه إنسحاب بعض المقبولين، لكنى قبلت التحدى ووافقت على شروط التدريب ، وبدأت من المطبخ. وهكذا قضيت الأشهر الباقية من سنة 1980 بين نار الأفران وبرودة الثلاجات وخشونة الطباخين القدامى الذين ظلوا يرون فينا جسماً غريباً وافداً ، حتى تقبلونا فى النهاية. لم يكن المتدرب أكثر من مرمطون فى الواقع ، لكن كل مشقة تعد تحدى وكل تحدى يعد إنتصاراً ، وهذا ماحدث ففى نهاية فترة التدريب ، وبعد إجتياز الإختبار الرمزى الذى عقد للعدد القليل الذى تبقى منا ، تم تعيينى للعمل فى المطعم ، بوظيفة رئيس صف ، كما جاء فى قرار التعيين الرسمى ، وهى وظيفة تساوى مايسمى بالكابتن أو مساعد المتر بلغة الفنادق . ولحسن حظى أيضاً ، فقد جاء تعيينى فى نفس فندق سان إستفانو مع زميلين أو ثلاثة بينما توزع الباقين على فنادق سيشل وفلسطين، ولم يختار أحد فى أعمال المكاتب الأمامية ، بل توزعنا جميعا بين المطابخ والمطاعم ، فقد كان العمل فى المكاتب الأمامية يحتاج إلى إعداد خاص ، وقد فهمت من تلميحات الأستاذ محسن ، أننى يمكن أن أرشح لذلك مستقبلاً. كانت فرحة كبيرة بعد صبر ومشقة ، فقد كان المطعم عالماً مختلفاً تماماُ عن تلك الشهور القاسية التى قضيتها فى أعمال المطبخ، وفى المطعم فقط بدأت أشعر بروعة العمل فى الفنادق.
كنت قد نسيت السياسة والقراءة وكل شئ حولى ورحت أقاتل فى سبيل الحصول على تلك الوظيفة ، لكن حادث إغتيال أنور السادات الذى حدث فى أكتوبر 1980،وقبل إنتهاء فترة التدريب بوقت قصير ، أعادنى لفترة قصيرة إلى العالم الواسع مرة أخرى ، ووجدت نفسى مرتبك المشاعر تجاه بطل سلامى المفضل ، والذى أصبحنا نعرف جميعاً آنداك ، أنه كان حليفاً للإسلاميين أيضاً ، وظلت تلك المشاعر المرتبكة تجاه شخص وعصر أنور السادات ، تلازمنى طوال حياتى!!!
كان المطعم تجربة جميلة برغم نهايتها المأساوية ، أصبح لى زى رسمى جميل عبارة عن جاكت أبيض وبنطلون أسود ، وراتب وحوافز وإكراميات وإحترام ، ووجوه جميلة تلتقى بها صباحاً ومساء ، مصريين وأجانب من كل الجنسيات ، بعضهم معروفين وبعضهم مغمورين ، لكنهم جميعاً أصحاب حظ سعيد فى الحياة ، يلقى بظلاله على من يعمل فى خدمتهم أيضأ. كان كثير من الفنانيين المصريين يتوافدون على الفندق ، أذكر منهم الفنان فؤاد المهندس والفنانة محسنة توفيق الذى راقها حديثى عن فيلم العصفور الذى رأيته فى باريس ، لدرجة بدت معها شديدة التأثر وهى تنادينى بإسمى لتشكرنى بعد أن أنهت عشائها. فى المطعم أيضاً شعرت بنعمة الإستقرار وبدأت رحلة الإعتماد المادى على نفسى فقد أصبح دخلى يكفينى ولم أعد فى حاجة لمساعدة أبى ، وكما هى العادة فى الحياة ، فإننا عندما ننجز إستحقاق فإننا ننتقل إلى الإستحقاق التالى ، وعندما نشبع حاجة ننتقل لإشباع باقى الحاجات، وهكذا أصبح لدى الوقت لأفكر وأشعر بقسوة الحرمان من الحب ، وأتمنى أن أجد من تعوض خروج سامية من حياتى، كنت فى السنة الأخيرة قد حاولت محاولتين لم تكللا بالنجاح ، إحداهما مع فتاة إسمها مى كانت صديقة لمرفت خطيبة صديقى بهجت ، والأخرى مع فتاة إسمها منى كانت صديقة لخطيبة صديقى رسمى ، لكن مساعى المتعجلة لم تكللا بالنجاح ، وحتى إذا ماكللتا بالنجاح ، فما كان يمكن لأى منهما أن تعوضنى عما كانت تمنحه لى سامية مجاناً ، كان الأمر يحتاج إما لعلاقة زواج ، كما هى العادة فى المجتمعات الشرقية ، أو لضربة حظ كبرى ، وكانت نبيلة زميلتى فى المطعم هى ضربة الحظ المنتظرة!!!
كانت نبيلة تكبرنى بعدة سنوات ، كانت فى حوالى الثلاثين من العمر، وكانت تعمل كابتن بين المطعم والرانشو وقد قضت فترة طويلة فى العمل فى فندق سان إستفانو ، وكانت قد طلقت منذ حوالى عام من زوجها المتر السابق بالفندق ، والذى كان قد نقل إلى القاهرة بسبب سوء سلوكه.كانت شخصية شهيرة فى الفندق وكذلك زوجها السابق ، والذى وبرغم شهرته كبلطجى ، كان يحظى بإحترام الكثيرين ممن كانوا يعملون فى الفندق بسبب قوة شخصيته وكانت ذكرياته المثيرة ، وحكاياته فى الشجار والنصب والإحتيال وسرقة الإكراميات ، مازالت حاضرة فى الفندق رغم إبتعاده عنه منذ فترة طويلة. كانت متوسطة التعليم ، بيضاء ، طويلة ، جميلة الوجه ، يشوب تكوينها الجسمانى عيب خلقى ، يتبدى فى نحف الساقين وضخامة الخصر، لكنها كانت مع ذلك تشع أنوثة. كانت كما يقولون دلوعة ، وكانت بعد طلاقها ونقل زوجها قد أصبحت مطمح للكثيريين من موظفى الفندق، لكنها ورغم مواصلة مسلسل الهزار مع هذا وذاك لم تكن تمكن أحد منها. كان لها تخطيط آخر. كانت ، وبحساسية المرأة المطلقة ، تريد أن تختارهى بنفسها لا أن يختارها أحد ، وهكذا راحت تراقب المجموعة الجامعية الجديدة التى حلت على الفندق حتى وقع إختيارها على ، وبدأت فى نسج شباكها حولى ، أصبحت تقضى كثير من الوقت فى الحديث معى كلما سمحت ظروف المطعم ، وحتى إذا تصادف عملها فى الرانشو، كانت تمر بين الحين والآخر لإلقاء إبتسامة أو كلمة ، وإذا ماتصادف عملها فى وردية مختلفة ، كانت تأتى مبكرة أو تتباطأ فى الإنصراف حتى ترانى وتتحدث معى ولو لدقائق، وظلت هكذا حتى عرفت عنى كل شئ وإطمئنت روحها لشخصى ، وفى أحد الأيام فاجئتنى بعرضها السريع الغير متوقع - إيه رأيك ناخد أجازتنا فى نفس اليوم وآجى أعملك أكلة حلوة، فأبديت فرحى قائلا- دى تبقى أحسن أكلة أكلتها فى حياتى ، إستطردت قائلة - بس مش عايزة حد يعرف، أكدت لها قائلاً - من غير ماتقولى ، فردت - أنا واثقة ، وكانت ثقتها فى محلها ، فلا يأخذ مقاسات الرجال إلا النساء ، حتى بالفطرة. وإتفقنا على اللقاء ، وفى اليوم المحدد ، تواعدنا على محطة ترام باكوس حوالى الحادية عشرة صباحاً ، وإصطحبتها إلى المنزل وفى لمح البصر بدأت قصتنا!!!
كانت تجربة ناجحة، وفى كل لقاء تزيد خطوة، فمن قبلة، إلى عطاء كامل ، ومن عطاء كامل، إلى رقص وغناء، كانت إمرأة ذو خبرة ، وتعرف كيف تسعد الرجال، ولكن كان لديها مشكلة أخرى، فكما يقع كثير من الرجال أسرى للنساء، فإن كثير من النساء يقعن أيضاً أسرى للرجال ، وخاصة البلطجى منهم ، كانت نبيلة أسيرة لعادات زوجها السابق فى الجنس وفى كل شئ آخر، وكنت أتجاوب معها فى كل ماتريد، ولكن ظل هناك شئ ناقص، ولم يمض وقت طويل حتى سألتنى عن الحشيش فعرفت ماهو هذا الشئ الناقص ، ولكن مع الأسف لم يكن فى مقدورى الحصول على الحشيش، ولاكنت أحبه أصلاً ، صارحتها بذلك وإقترحت الخمر بديل ، ووافقت ، وبدأنا تجربة السكر مع الغرام وكانت تجربة ناجحة ، كان هناك نوع من النبيذ الشهير فى تلك الأيام ، إسمه عمر الخيام، كان نبيذ أحمر محلى الصناعة ، ورغم أنه كان رخيص الثمن ، فقد كان يقدم حتى فى الفنادق ، كان مسكراً خفيفاً وكانت تأثيراته سحرية. كسرت الخمر كل الحواجز، وأعطت نبيلة كل ماعندها وأسعدتنى فعلاً دون مقابل ، حكت لى عن أدق أسرار حياتها ، وعن زوجها السابق الذى كانت مازلت تنتظر عودته فى أى لحظة ، عن الفندق وأسراره، عن المتر جمال الدونجوان ومغامراته ، ونائبه بنايوتى العجوز اليونانى ونوادره الكثيرة عندما ينسى طلبات الزبائن ، ومن يعشق من ومن يخون من ومن حاول معها من المديرين، فضفضة هيسترية كان زوجها يحتل مركز الصدارة فيها دائماً . كانت علاقة غير متكافئة، كنت بالنسبة إليها مجرد فضفضة، مجرد حب عابر، وكانت بالنسبة إلى فرصة لاتعوض، وهكذا، وحتى فى العلاقات الإنسانية، فعندما يختل الميزان لصالح طرف على طرف، فإن الطرف الأقوى غالباً مايجرح الطرف الأضعف، عندما يحين الوقت المناسب، وهذا ماحدث!!!
كان خروج أبى إلى المعاش هو ذلك الظرف الطارئ الذى سرعان ماأنهى علاقتى بنبيلة ، لم يعد المنزل الصغير يسع أكثر من حياة، حياتى أوحياة أبى ، كان أبى عجوزاً شاباً ، ورغم أنه لم يدخر كثيراً فى حياته ، فقد كان قد إدخر مايكفيه لإن يستمتع بحياة التقاعد فى سلام مع أصدقائه الطباخين القدامى ، والذى كان ينزل للسهر معهم على مقهى الطباخين أحياناً ، كما كانوا يأتون للسهر عنده فى المنزل أحياناً ، وهكذا ضاق المنزل بى وبه، وبينما كنت أستطيع تعويض ذلك بلقاء أصدقائى فى أى مكان آخر، فلم يكن من الممكن تطبيق ذلك على لقائى الأسبوعى بنبيلة ، وهكذا أخذت تشعر بالحرج ، إذا ماتصادف حضورها فى وجود أبى ، كما كان بدوره لايستطيع أن يخفى ضيقه بوجودها ، حتى لو غلف ذلك بإبتسامة أو كلمة مجاملة. لم يكن من الممكن أن يستمر هذا الحال طويلاً ، وكما توقعت ، فقد فاجئتنى ذات يوم بأنها لن تستطيع الحضور مرة أخرى بسبب وجود أبى المحرج لها كثيراً ، ورغم أننى كنت أتوقع ذلك ، فلاأعرف لماذا إنهرت كطفل ، وأخذت أستجديها للحضور كما جرت العادة ، حتى بدأت فى التهرب من لقائى وأخذت بدورى فى مطاردتها بشكل أصبح معه أمر علاقتنا مكشوفاً مما حول مجرد خفوت عواطفها إلى نفور وإزدراء ، فذات يوم فاجئتنى بقولها وأنا مستمر فى إستجدائها ، والله لو أعرف أنك صغير كده ماكنت عرفتك أبداً ، أنت مجرد بريق خارجى ومن جوة ولا حاجة . صدمتنى هذه الكلمات صدمة شديدة فقد كنت قد إعتدت منها على الحب والإحترام ، فقررت التوقف عن متابعتها ، لكن الذى مكننى من تنفيذ هذا القرار هو ظرف خارجى فى الواقع ، ففى تلك الأثناء ، كان مطعم الأسماك الذى إفتتح حديثاً بشاطئ الفندق ، يحتاج إلى كابتن إضافى ، وعندما عرض الأمر على الجميع أبديت رغبتى فى الإنتقال إلى هناك وقبلت رغبتى وإنتقلت من المطعم الرئيسى فى الفندق إلى مطعم الشاطئ ، وتبعاُ للمثل القائل ، بعيد عن العين بعيد عن القلب، فسرعان مابدأت رحلة نسيان نبيلة ، ولم يتوقف الأمر على ذلك، فلم تمض سوى شهور قليلة ، إلا وكانت نبيلة نفسها قد عادت إلى زوجها ، وإنتقلت إلى القاهرة ، كما كانت تتمنى ، ولم أعد أتذكرها بعد ذلك.
كان شاطئ فندق سان إستفانو أحد أجمل شواطئ مدينة الإسكندرية فى ذلك الزمن قبل أن يغيب إلى الأبد تحت أنقاض توسعات طريق الشاطئ التى حدثت بسنوات قليلة بعد ذلك. كان لى معه ذكريات طويلة منذ طفولتى حتى شبابى ، ففى طفولتى كنت أذهب إليه فى صحبة عائلة الحاجة صفية ، ثم أصبح فى صباى وشبابى الشاطئ المفضل لى ولأصدقائى حتى مابعد التخرج من الجامعة. ولم أكن أتصور أبداً أننى سأعمل يوماً فى هذا المكان الجميل الذى عشقته طوال حياتى. كان عبارة عن خليج صغير هادئ تقطعه صخرة طويلة بعمق البحر كان هواة الصيد يستخدمونها ، بينما كان الخليج الصغير لهواة السباحة. كان مبنى الشاطئ عبارة عن ثلاثة أدوارمن الكبائن تلتف بإستدارة حول الخليج الهادئ ، كانت الكبائن تؤجر بسعر زهيد لايتعدى قروش أصبحت فيما بعد جنيهات . كان يحتوى على كافيتريا واسعة وحمامات نظيفة وكل مايمكن أن يحتويه أى شاطئ راق فى أى مكان فى العالم ، وبعكس ماحدث بعد ذلك حين خصصت الشواطئ وأصبحت أكوام من القمامة. كان شاطئ الطبقة الوسطى المصرية الأنيقة قبل أن تختفى هى الأخرى تماماً . أما مطعم الأسماك فقد كان فى الأصل نادى ليلى ملحقاً بالشاطئ ، وكان أيضاً له شهرته فى زمانه بأفراحه وحفلاته ، والتى أخذت فى التوارى عندما أخذ المد الإسلامى فى الثمانينيات يزحف على حياة المصريين ويغير من عاداتهم ، وحين بدأ الزبائن فى التناقص ، فكرت إدارة الفندق فى تحويل دوره الأرضى إلى مطعم أسماك وبار، ودوره العلوى إلى كافيتريا مفتوحة ، وكان حظى أن أكون من أوائل من عملوا بهذا المكان الجميل ، مع طيب الخلق ، المتر فاروق ، والذى رحل عن العالم بسنوات قليلة بعد سفرى إلى السعودية. وفى مطعم الأسماك والبار والكافيتريا ، قضيت الشطر الأعظم من فترة عملى بفندق سان إستفانو وإنتظمت حياتى وهدأت بهدوء المكان والبعد عن صخب الفندق الرئيسى وكان لى ذكريات جميلة ، فهنا قابلت نجيب محفوظ ، حين كان يأتى لشرب القهوة ولقاء أصدقائه فى الكافيتريا ، وهنا قدر لشبابى الخلود حين إشتركت فى تمثيل لقطة عابرة فى فيلم عالم وعالمة مع محمود ياسين ونادية الجندى ، وهنا زال إنبهارى بحياة الفنادق ، وهنا سألت نفسى لأول مرة منذ تخرجى ، ماذا أريد ؟
كانت الإجابة واضحة ، لقد زال إنبهارى بحياة الفنادق ، ولم يعد فيها شيئاً جديداً، حتى لو إنتقلت إلى المكاتب الأمامية، ومن هناك إلى نائب مدير، فمدير، لم يعد ذلك يعنى لى شيئاً ، كنت أريد العودة ، إلى الكتب والقراءة ، وإلى الورقة والقلم مرة أخرى ، ولكن كيف وتقديرى لايسمح لى بإكمال دراستى العليا ، لم يستغرق ذلك التساؤل طويلاً حتى عثرت على الإجابة ، الترجمة ، الترجمة هى الحل الوسط ، هنا أيضاَ كتب وقراءة وورقة وقلم مرة أخرى ، ولكن كيف و أنا خريج قسم التاريخ وليس قسم اللغة الإنجليزية، إذن الحل هو أن أحصل على شهادة إضافية فى اللغة الإنجليزية تؤهلنى للعمل كمترجم مستقبلاً. كنت أعرف أن المراكز الثقافية البريطانية تمنح شهادات ذو قيمة معترف بها دولياً، فذهبت للإستفسار. كان مقر المركز الثقافى البريطانى يقع فى شارع البطالسة فى ذلك الزمن وهناك وجدت ضالتى. كان المركز يعد دورات دراسية لراغبى الحصول على الشهادات الدولية التى تمنحهما جامعة كمبردج للأجانب عن طريق المراكز الثقافية فى جميع أنحاء العالم. كانت الشهادة الأولى تعنى (الشهادة الأولى فى اللغة الإنجليزية) وكانت الشهادة الثانية تعنى (شهادة إجادة اللغة الإنجليزية) وكانت مدة الدراسة حوالى سنة فى كل منهما، وكان شهادتين ذا قيمة فعلاً ، وخاصة شهادة الإجادة ، لكن لم يكن من الممكن التأهل مباشرة لها ، قبل الحصول على الشهادة الأولى أولاً ، وهكذا قررت البداية بالشهادة الأولى ، وإجتزت إختبار القبول، وبتشجيع من المتر فاروق ، بدأت الدراسة فى المركز الثقافى البريطانى !!!
كانت الدراسية صباحية ، فثبت وردية عملى مساءً ، وبدأت رحلة الدراسة. ليس هناك مايمكن أن يحقق الرضى للإنسان أكثر من توافق عمله مع هواياته ، هذا ماشعرت به فى هذه الرحلة الجميلة ، لم أشعر يوماُ بتعب أو إرهاق ، بل كنت كأننى فى نزهة، كان الحضور لمرتين أو ثلاثة ومن هناك كنت أعود مباشرة إلى الفندق لأنهى عملى ، وأقضى اليوم التالى فى المذاكرة إستعداداً للدرس القادم. كان المنهج الدراسى عبارة عن كتاب يحمل نفس عنوان الشهادة ، مرتب فى ثمان فصول ، يبدأ كل منها بإستعراض شامل لموضوع من مواضيع القواعد ، يليها تدريبات على القراءة والكتابة ، لم تكن مهارات الإستماع قد شملت بعد فى مناهج الدراسة فى ذلك الزمن ، لكن الكتاب كان كتاباً شاملاً ، رتب كل المعلومات المتناثرة فى عقلى يميناً ويساراً ، وكأنه قد صنف فعلاً للطلبة الأجانب. كانت المدرسة أيضاً ، حظاً سعيداً ، كانت سيدة إنجليزية فى حوالى العقد الرابع ، شديدة الرقة والتواضع ، وقد مضى عليها زمن طويل من الإقامة بمصر والعمل فى التدريس. لم تكن تختلف عن بنى جنسها فى إخلاصها فى عملها ، ولم يمض وقت طويل حتى أصبحت تعرف إمكانات كل منا معرفة تامة ، وتعرف كيف تساعده فى التغلب على نقاط ضعفه ، وإستثمار نقاط قوته ، حتى على المستوى الشخصى والإنسانى، أصبحت تعرفنا أيضا ، ولازلت أذكر سؤالها لى ، والذى لم أجد له تفسيراً حتى اليوم - هل تحب قراءة السير الذاتية ، وعندما أجبت بنعم ، هزت رأسها وكأنها كانت تتوقع الإجابة. أيضاً كان هناك أصدقاء جدد ، كنا مجموعة صغيرة ، مازلت أذكر منهم ، رجاء ، وعبدالجواد ، الشخص الوحيد الذى قابلته فى حياتى ، يحمل نفس إسمى ، وماريا الجميلة ، قصة حبى اليونانية القصيرة!!!
كانت ماريا من آخر أجيال اليونان الذين ظلوا بمصر، بعد أن أجبر ناصر جميع الأجانب على الرحيل عن مصر، خطيئته الكبرى التى لن أغفرها له أبداً . كانت فى حوالى العشرين من العمر، جميلة، خفيفة الظل ، إجتمع فيها سحر الشرق والغرب ، كأى فتاة يونانية ، ترتدى الجينز بشكل دائم ، لكنها كانت تبدو دائما ، شديدة الأناقة ، وكأنها ترتدى ثوباً جديداً فى كل يوم ، كانت رحبة الصدر، تتقبل ضحكنا على لهجتها المصرية المكسرة ببساطة، وكأنها كانت تعتبر ذلك ميزة، وليس عيب. لم أقصد أبداً أن أتقرب منها ولاهى قصدت ذلك ، ولكن فى كل يوم كان يمر، وبدون وعى منا ، كنا نقترب من بعضنا أكثر، حتى أصبح ذلك واضحاً للجميع ، وحدث ذات يوم أن تأخرت عن المحاضرة ، وإذا بها وبمجرد حضورى ، أن صرخت بتلقائية - إتأخرت ليه ، فضج الجميع بالضحك ، حتى المدرسة الإنجليزية ، وإحمر وجه ماريا خجلاً ، ومنذ ذلك اليوم ، لم يعد لدينا شك ، فى أننا قد أصبحنا أكثر من زملاء ، وكان على أن أتخذ الخطوة التالية!!!
كان البار قد أصبح مملكتى الجديدة ، بعد أن إحتل أبى مملكتى القديمة ، كان مكاناً جميلاً هادئاً، عبارة عن جزء مقتطع من المطعم ، يفصله عنه جداراً مشربياً من الخشب ، وباب صغير يدفع باليد ، ولم يكن مملكتى وحدى ، كان المتر فارق وزميلى فتحى يستقبلان أصدقائهما فيه أيضاً ، لكن أصدقائى ، أو ماتبقى منهم ، كانوا أكثر ، كان حسين قد رحل إلى السعودية ، ورحل حمدى إلى الكويت فى أثره ، وظل محمود وعلى والرفعتين ، وكانوا دائمى التردد على هناك ، حيث لم يعد لدينا الوقت ولا المكان للقاء ، كما كنا فى الماضى . كان زبائن البار قليلى العدد ، فلم يكن هناك زبائن دائمين ، سوى لاعبى نادى الإتحاد السكندرى ، ومدربهم الشهير شحتة الإسكندرانى ، ومدير النادى ، المحامى النوبى عبدالله، الذى إرتفعت إسهمه فجأة فى الإسكندرية فى ذلك الزمن لقربه من الحزب الوطنى ، كانوا يأتون للإحتفال بالإنتصار إذا كسبوا أحد المباريات ، ويأتون للنسيان إذا خسروا مباراة أخرى. كان هناك أيضاً طلبة المدرسة الأمريكية الواقعة بحى شدس ، ومعظمهم كان من أبناء الدبلوماسيين المقيميين بمصر، كانو يقضون كثير من أوقات فراغهم هنا أيضاَ ، وفيما عدا ذلك كان الباقى مجرد زبائن عابرين ، وهكذا أصبح البار الهادئ مملكة مثالية أدعو إليها أصدقائى ، وإليه قررت أن أدعو ماريا، فعقدت عزمى وتشجعت ، وفى أحد الأيام عرضت دعوتى قائلاً بكل ماأملك من رباطة جأش - لماذا لاتزورينى فى المطعم ، نتكلم شوية، فوجئت بالدعوة وفكرت لدقيقة ، وكأنها تهم بالرفض ، لكنها أجابت بالموافقة، وهى تقول وعلى وجهها الجميل إبتسامة - صحاب بس ، فرددت خلفها - صحاب بس، وإتفقنا على اللقاء فى اليوم التالى مباشرة!!!
جاءت ماريا فى الموعد المحدد، حوالى السابعة مساءً ، كنا فى فصل الشتاء ، وكان البار خالى من الرواد وهكذا منحنى القدر فرصة أن أستمتع تماماً بهذه الساعة الجميلة فى حياتى. جلست أمامى على كرسى مرتفع وهى ترتدى سويتر كثيف أسود فوق الجينزالمعتاد وقد زادت جمالاً ، ووقفت أنا أمامها على البار، وعندما سألتها ماذا تشرب - أجابت مرحة وهى تشير إلى زجاجات الخمر - بلاش دى ، أى حاجة ثانية - ذهبت إلى المطبخ وأحضرت لها شاى ساخن، وبدأنا حديث متفرق ، عن الدراسة والزملاء ، حتى زال التوتر وبدأت فى الحديث عن نفسها وعن أسرتها وكيف حضر أجدادها إلى مصر ومن ظل بها ومن عاد ومن مات هنا ومن مات هناك ، حتى وبلهجتها المكسرة الجميلة ، قالت ، وهى تتجنب لقاء عينينا - إحنا شوية ، لازم نتجوز من بعض ، ماما مش ممكن خلينى أتجوز مصرى ، كان الكلام موجهاً لى بلاشك ، لكنه لم يؤلمنى فقد كان اللقاء نفسه يوحى بالألفة والقرب الشديد ، بحيث لم يكن أن يكون لأى كلام آخر معنى ، لم أشعر بالإلم إلا عند إنصرافها ، فعندما حاولت تقبيل يدها تعبيراً عن شكرى ، رفضت برفق ، وهى تردد نفس العبارة - صحاب بس ، وخزت الكلمة قلبى وأدركت أنها كانت مجرد حلم ، مجرد قصة حب من ساعة زمن واحدة لن تتكرر، وأخذت كلمتها على محمل الجد ، وقررت أن لاأعاود المحاولة ، لكننى كنت مخطئاً ، فعندما إلتقيت بها فى المحاضرة التالية فى المركز ، لاحظت بريق ندم وإعتذار فى عينيها ، لكنى لم أصدق نفسى، وإلتزمت بالمكان الذى حددته لى - صحاب بس ، لكن بريق الندم والإعتذار ظل فى عينى ماريا وكأنه يسألنى - لماذا لاتحاول مرة أخرى ، لم أحاول مرة أخرى ، وأخذ ذلك البريق فى عينى ماريا يتوارى يوم بعد يوم ، حتى كان قد إختفى إلى الأبد ، يوم ودعتها لآخر مرة، بعد أن أدينا الإمتحان النهائى لكن ذكراه ظل يعيش معى فى أغنية المطربة السورية ميادة الحناوى، ساعة زمن ، التى خرجت أثناء وجودى فى السعودية، حتى توارى وحل محله ذكريات أخرى!!!
أنجزت إمتحان الشهادة الأولى فى يونيو 1983 وإجتزته بنجاح ، وأصبحت مؤهلاً للحصول على شهادةالإجادة ، وكان على أن أنتظر أن يبدأ المركز البريطانى فى تنظيم الدورة الدراسية المؤهلة لذلك حين يكتمل عدد الدارسين المناسب ، لكنى ، وعلى غير توقع ، قررت قراراً آخر، ففى تلك الأثناء حضر رجل أعمال سعودى إلى مصر يبحث عن أربعة موظفين للعمل لديه فى الرياض ، وقد وجد ثلاثة منهم كان بينهم محمود أخو سامية الأكبر، بينما لم يجد المترجم، وهنا فكر محمود فى أنى قد أكون الشخص المناسب ، وعرض على الفكرة ، وكالعادة ، تعجلت بالقبول ، وأهملت فكرة إكمال الدراسة للحصول على شهادة الإجادة ، دون حتى أن أتأمل شروط عقد العمل ، رغبة منى فى الإستقلال عن أبى وفى العودة إلى حياة الورقة والقلم ، وذلك دون أن أتصور، أن قرارى المتعجل بالعودة إلى الورقة والقلم ، سوف يكلفنى أكثر من عشرين عاماً من الإبتعاد عن الورقة والقلم، وبنفس طريقة حرق المراكب ، تركت الفندق ، بلا إستقالة ولاأجازة !!!






























7- سنوات السعودية

وهكذا غادرت مصر إلى السعودية فى سبتمبر 1983. وهكذا تبادلنا الأدوار أنا وأبى، وأصبحت أنا المسافر الذى يرسل الخطابات والمساعدات المالية،وهوالذى يسكن فيلا السطوح مع أصدقائه. مازلت أذكر ذلك اليوم جيدا. فقد سافرت على متن الخطوط الجوية السعودية ومعى إبن الجيران محمود الذى عرفنى على صاحب العمل السعودى، وكان قد حصل على تأشيرة أو إشتراها منه بمعنى أدق ، لا ليعمل عنده ولكن ليبحث عن عمل بعد وصوله ولينقل كفالته منه بعد ذلك كما كان منتشراً فى ذلك الزمن من بيع تأشيرات العمل فى بلاد النفط ، وكما عرفت فيما بعد . لم أنسى الرحلة السعودية أبدا. لإنها كانت الرحلة الوحيدة التى كنت أتمنى أن لاأقوم بها . كانت طائرة عملاقة لاأذكر نوعها لكنها كانت هكذا طائرة عملاقة مزدحمة بلا مقعد خالى تقريبا وقد جلست بجوار جارى محمود وجلست بجوارنا فتاة مصرية فى نحو العشرين كان أبوها يعمل فى السعودية لدى أحد الجهات الدولية ولذا فقد كانت تتحدث معنا بالإنجليزية معظم الوقت كانت سعيدة مبتهجة ويبدو أن حياة الدبلوماسيين التى كانت تحياها مع أسرتها هناك كانت تختلف تماما عن حياة الناس العاديين التى عرفتها أنا بعد ذلك فى السعودية. كان مضيف الطائرة المعنى بنا أمريكيا أسود وعندما سألته من أين هو وأجابنى بأنه من الولايات المتحدة تصورت أن السعودية قد إستأجرت هذه الطائرة العملاقة من الولايات المتحدة الأمريكية بكل موظفيها لإننى لم أدرك على الفور أن هذا المضيف الأمريكى كان موظفا بالخطوط الجوية السعودية ، فلماذا توظف الخطوط السعودية هذا الأمريكى وهناك الآلاف من المضيفيين العرب؟. لكنى وبعد أن أصبحت مترجما فى مكتب توظيف سعودى أدركت أن معظم العمالة التى توظفها السعودية وفى معظم القطاعات كانت تأتى من بلاد غير عربية وهكذا وجدت نفس الوضع فى دولة الإمارات عندما عملت بها بعد ذلك بعدة سنوات .
وصلنا إلى مطار الرياض وكان صهر جارى محمود زوج أخته سهير فى إنتظارنا ومن المطار حملنا فى سيارته الصغيرة إلى منزله حيث قضينا اليوم الأول فى ضيافته وفى صباح اليوم التالى أخذنا إلى مكتب رب عملنا الجديد الشيخ سعيد الأسمرى . كان الشيخ سعيد فى إنتظارنا ومعه شريكه الباكستانى مستر نظير فى مكتبه الصغير الواقع أسفل البناية الصغيرة التى كان يملكها أيضا. وبعد أن تبادل معى مستر نظير بضعة أسئلة بالإنجليزية نظر إلى الشيخ سعيد وقرر أننى أصلح مترجما للمكتب وطلب منى أن أعود لإحضار حقائبى لأبدا العمل من مساء نفس اليوم وأخبرا جارى محمود أنه يمكنه نقل كفالته فى أى وقت يجد فيه عملاً. وإنصرفنا لإحضار حقائبى ولإننى لم أكن أعرف ماذا يعنى مكتب توظيف أومكتب إستقدام كما كان يسمى بالتحديد فقد شعرت بالفرحة لقبولى فى العمل كمترجم ، متصوراً إننى قد عدت أخيراً إلى حياة الورقة والقلم ، وعدت فى مساء نفس اليوم لأبدأ رحلة جديدة، لم أكن أعرف أنها ستكون من أقسى التجارب التى عانيتها فى حياتى.
تكونت إمبراطورية سعيد الأسمرى - وكان رجلا بدينا فى حوالى الخمسين من العمر يميل لونه إلى البياض ووجهه إلى الإستدارة ذو لحية صغيرة وملامح تنم عن سريرة شريرة - من خمسة موظفين أساسيين ، هم أنا و شريكه الباكستانى مستر نظير خان ، وكان فى حوالى الخمسين من العمر ، أسمر البشرة ، متوسط القامة ، يجيد الإنجليزية ويعرف العربية بشكل مقبول. وكان لمستر نظير مساعد باكستانى يدعى شوكت عباسى يبدو أنه قد جاء من عائلة باكستانية معروفة كان فى حوالى الثلاثين من العمر متوسط القامة أبيض البشرة ويتحدث الإنجليزية بطلاقة وذو إهتمام شديد بالأمورالسياسية الباكستانية يتحدث فيها ليل نهاروكأنه لايعمل مورد عمال بل سياسيا محترفا . ثم إلتحق بنا بعد ذلك موظف مصرى رابع إسمه حسن النمكى من بلد إسمها قلين فى الوجه البحرى كان خريج كلية التجارة وقد تولى عمل الحسابات بالمكتب . كان فى حوالى العقد الثالث من العمر، طيبا خجولا متدينا بشكل معتدل. وأخيرا جاء المراسل محمد عبدالسلام وهو سكندرى من أبناء حى باكوس أيضا وقد تم توظيفه لدى الشيخ سعيد بواسطة جارى محمود أيضا. كان فى حوالى الثلاثين أسمر اللون متوسط القامة قوى البنية متوسط التعليم قليل الثقافة لكنه كان يجيد القيادة ويعرف جميع أنواع الأعمال تقريبا السباكة والنجارة والكهرباء كان يعرف شئ من كل شئ ورغم طيبته الظاهرة فسرعان مأأصبح وثيق الصلة بالشيخ سعيد وساعده الأيمن وسائق أسرته ومحل ثقته فى إبتزاز الناس . وبينما أقمت أنا مع نظير وشوكت فى منزل شعبى قديم خلف المكتب أقام حسن النمكى مع أخيه الذى كان يعمل موزعا فى شركة تهامة للتوزيع وأقام محمد عبد السلام فى شقة خصصها له الشيخ سعيد فى بنايته بعد أن أحضر أسرته وزوجته وطفله الوحيد خالد والذى سمعت بعد ذلك بسنوات طويلة أنه توفى شابا فى مقتبل العمر بمرض عضال بعد أن باع محمد على علاجه العمارة التى بناها من عمله بالسعودية دون جدوى.
وبالإضافة إلى هؤلاء كان الشيخ سعيد يكفل عددا كبيرا من العمال الأجانب معظمهم هنود وباكستان وبنجلاديش وكان يعطيهم الإذن بالعمل لدى الغير مقابل مبالغ شهرية يؤدونها له ولم يكن للمكتب علاقة بهؤلاء فقد كان ذلك هو عالم سعيد السرى والذى لم يكن يعرف تفاصيله سوى محمد عبدالسلام فقط ، لكننا كنا نرى هؤلاء المساكين بالمصادفة أحيانا عندما كانوا يأتون إلى المكتب لطلب خدمة ما من الشيخ سعيد أو لطلب جوازاتهم للسفر فى أجازة إلى بلادهم ويبدأ الشيخ سعيد فى الضغط عليهم ومساومتهم مقابل تجهيز جوازاتهم حتى تنهار معنوياتهم تماما ويصبحون مستعدين لتقديم كل مايملكون مقابل السماح لهم بالسفر. رأيت نماذج كثيرة من هؤلاء ومنهم رجلا أردنيا كان صديقا لسعيد وكان يحضر إلى المكتب كثيرا ويجلس معنا ومع سعيد كصديق مقرب له ولكن وبعد أن حصل هذا الرجل - وقد نسيت إسمه الآن - على فرصة عمل مناسبة وأراد نقل كفالته من سعيد تحول سعيد من صديق إلى وحش كاسر وإختفت الإبتسامة من على وجهه وأخذ يعامل ذلك المسكين بمنتهى القسوة وأخذ يساومه ويماطله حتى إنتزع منه مبلغا كبيرا من المال مقابل نقل كفالته. ثم تكررت نفس تلك المأساة مع رجل من الصعيد إسمه فتح الله كان أخوه عبدالله يعمل موظفا بالسعودية وكان صديقا مقربا لسعيد الأسمرى وكان هو الذى سافر معه إلى مصر لتوظيفنا جميعا. وكان سعيد قد وظف فتح الله - أخو صديقه المقرب عبدالله - لإدارة محل تصليح إليكترونيات يقع تحت البناية التى يملكها بالقرب من مكتب التوظيف لكن المحل لم يحقق أى أرباح ولذا فقد فشل فتح الله فى تقديم أى مبالغ لسعيد لكن سعيد رفض ذلك وطلب منه أن يستدين من أخيه عبدالله ويدفع له إيجار المحل على الأقل وعندما تجرأ فتح الله ورفع القضية إلى مكتب العمل قام سعيد بإبلاغ الشرطة عنه كهارب من العمل وتم إشعار الشرطة بعنوان إقامته فى منزل أخيه عبدالله حيث قامت بالقبض عليه وإيداعه السجن. وهناك تنازل عن القضية وتم ترحيله مكبلا بالأغلال على مرأى ومسمع من أخيه عبدالله - صديق سعيد المقرب - والذى لم يستطع تقديم أى نوع من المساعدة إلى أخيه سوى زيارته فى السجن . كانت سنوات تعيسة تركت علامات حزينة على مجرى حياتى كله بعد ذلك.
كانت مدينة الرياض هى الأخرى مصدر تعاسة لى فقد كانت مدينة صحراوية لاتطل على أى بحر أو أى نهر وقد كنت قد جئت من بلد ساحلى وإعتدت رؤية البحر طوال حياتى ولذا فقد كان إختفاء مشهد البحر المريح عاملا إضافيا من عوامل إحساسى بالوحدة فى تلك المدينة. بالطيع كانت مدينة الرياض مدينة كبيرة عصرية بكل معنى الكلمة تحتوى على كثير من المبانى الحديثة الشاهقة والشوارع الواسعة المتقاطعة مع بعضها البعض والفنادق والمطاعم والمحلات المكدسة بالبضائع من كل صنف ونوع. كانت مدينة متخومة بالثراء لكنها كانت مدينة تفتقد إلى الحياة فلم يكن بها سينما أو مسرح أو مكتبة عامة أو قصر ثقافة ولاشئ من هذا القبيل كما لم يكن بها إختلاط بين الرجال والنساء بشكل عام ولذا فقد كانت تفتقد إلى أقوى مصدر من مصادر الحياة وهو الحب. كانت مدينة منقسمة بشكل كبير تتبادل فيها العائلات العلاقات الإجتماعية مع بعضها البعض فى شكل تقليدى بينما يتبادل فيها العزاب العلاقات الإجتماعية مع بعضهم البعض فى وحدة أليمة. يقضون أوقاتهم فى إعداد طعامهم أو فى لعب الورق أو فى السهر أمام التليفزيون. كانت الحياة كلها عبارة عن عمل وكدح من الصباح حتى المساء.سلسلة متصلة من الكدح بلا لحظات راحة.لم تكن الأسس الطبيعية لمصادر سعادة الإنسان موجودة. وحتى الصداقة لم تكن موجودة بين الناس هناك ، فقد كان البحث عن المال هو الهدف الوحيد للجميع تقريبا.
وفى خضم تلك الوحدة نمت لدى عادة غريبة وهى الإستمتاع بالذهاب إلى المطار. مطار الرياض، لإحضار الخدم والعمال. لم يكن ذلك عملى فقد كان هناك سائق هندى للمكتب كما كان محمد عبدالسلام يقوم بتلك المهمة أحيانا ، لكننى أصبحت أتعلق بهم كلما ذهبوا إلى المطار ليلا لإستقبال أى مجموعة من العمال. كنت أجد فى ذلك وسيلة للتسرية عن نفسى وكان مطار الملك خالد المبنى حديثا يقع خارج المدينة وكان يفصله عنها مساحات صحراوية شاسعة فكنت إذا مررت على هذه المساحات الصحراوية أشعر كأنها ضفاف بحر تقع على جانبى الصحراء. كنت أشعر براحة كبيرة وأنا أبتعد عن المدينة وأستمتع بصوت ميادة الحناوى ينبعث من كاسيت السيارة ، وهى تغنى أول أغانيها ، ساعة زمن ، فتبعث إلى قلبى ذكرى ماريا ، وظلت أغانى ميادة الحناوى تصاحبنى فى كل رحلة الغربة بعد ذلك، حتى بعد أن توارت تلك الذكرى!!!
وكما نمت لدى عادات جديدة فقد فقدت أهم عاداتى القديمة وهى القراءة. لم يكن الوقت ولا المزاج يسمح بالقراءة . كانت طبيعة العمل شاقة وتحتوى على كثير من مشاكل ومآسى العمال كما كانت تشغل طوال اليوم تقريبا فمن الثامنة صباحا حتى الثانية ظهرا ثم من الخامسة مساءا حتى التاسعة ليلا بالإضافة إلى ما قد يطرأ فى أى لحظة أثناء فترة الراحة فى الظهيرة أو حتى بعد أن نعود إلى منازلنا ليلا . كان الشئ الوحيد الذى حاولت إكراه نفسى عليه هومواصلة دراستى للغة الإنجليزية فى المركز الثقافى البريطانى فى الرياض من أجل الحصول على شهادة إجادة اللغة الإنجليزية التى فاتنى الحصول عليها فى مصر . أصبح ذلك كل أملى وصارحت مستر نظير برغبتى تلك وبأننى قد أكون مضطرا للتغيب عن المكتب لقليل من الوقت أسبوعيا. تفهم رغبتى ووافق من حيث المبدأ وطلب منى الذهاب للسؤال عن مواعيد الدراسة. ذهبت إلى هناك فى نفس اليوم وإلتقيت بمدير المركز وقدمت له صورة من شهادتى الأولى من كمبردج الصادرة من الإسكندرية وعبرت عن رغبتى فى مواصلة الدراسة هنا فى الرياض ولكن كم كانت صدمتى عندما أجابنى الرجل بأسف شديد أن الدراسة فى المركز الثقافى البريطانى فى الرياض هى للسعوديين فقط. وقال لى بحزن شديد ولازلت أذكر كلماته حتى اليوم (إننى بشكل غير رسمى أود أن اقدم لك أى خدمات ولكن بشكل رسمى أنت لاتستطيع أن تدرس هنا). لم أعرف من كان صاحب هذا القرار. أكان قرار الحكومة السعودية أم قرار المركز الثقافى نفسه. لكنه فى كل الأحوال كان قراراً عنصرياً قاسياً ، كمعظم الأمور فى السعودية فى ذلك الزمن!!!
كان عمل مكتب التوظيف أوالإستقدام كما كان يسمى ينقسم إلى قسمين رئيسيين قسم يتعلق بإستقدام العمال وقسم يتعلق بإستقدام خدم المنازل وكان مستر نظير يدير كلا القسمين وكنت أنا المساعد الرئيسى له ففى قسم إستقدام العمال كان يوجد كثير من أعمال ترجمة التوكيلات والعقود والأوراق الرسمية المتعلقة بعملية الإستقدام والتوظيف أما فى قسم إستقدام خدم المنازل فقد كانت إجراءات الإستقدام أقل بساطة ولاتتطلب كثيرا من الأوراق لكنها كانت مزدحمة بالمشاكل وتتطلب كثيرا من الحديث مع العملاء وكثيرا من التدخل لحل المشاكل الناشئة بين الكفلاء ومخدوميهم وكان نظير يتهرب من تلك المهمة الشاقة ويلقيها على عاتقى ولذلك فقد أصبحت منهمكا فى معظم أعمال المكتب تمام الإنهماك وأصبح سعيد الذىكان يعرف أننى لاأحبه أبداً كما كنت أعرف أنه لايحبنى أبدأ يتودد إلى وينظر إلى على أننى المرشح لإدارة المكتب عندما تحين ساعة التخلص من شريكه الثقيل نظير. كنت أقرأ أفكاره وكان يقرأ أفكارى وكان يتصور أن كل المصريين فقراء ويضعفون أمام المال وكنت أتركه لأفكاره وتلميحاته بينما كنت أخطط للرحيل بمجرد إنتهاء عقدى وكانت مدة العقد سنتين وليس سنة واحدة كما كنت أتصور فى البداية.
كان عمل إستقدام العمال جريمة بكل ماتعنى الكلمة كنا نحن كمكتب إستقدام الطرف الرئيسى فيها بينما كان عمل إستقدام الخدم يساوى نصف جريمة فقط لإن الكفيل كان يدفع أتعاب إستقدام الخادمة كاملة ولم تكن هى تدفع شيئا وكان الواقع من معاناتها يترتب على طبيعة المجتمع السعودى المغلقة المتزمتة الذى لايسمح لها بالخروج أو بالتواصل مع أحد أو حتى مع سفارة بلادها وكذلك على العدد الكبير لأفراد معظم الأسر مما كان يحمل الخدم أعباء فوق طاقتهم ، لكننا بالطبع لم نكن مسئولين عن ذلك ، ولم نكن نستطيع أن نفعل شيئا لتغييره وهكذا إنحصرت مسئوليتنا فى أننا قد قبلنا بهذه الوظيفة كعمل نكسب من ورائه عيشنا وذلك بعكس إستقدام العمال الذى كنا المذنب الرئيسى فيه وبكامل إرادتنا!!!
كان إستقدام العمال الأجانب يتم عن طريق بيع وشراء تأشيرات العمل بمعنى أن صاحب العمل عندما كان يحصل على تأشيرات من وزارة العمل لإستقدام بعض العمال الأجانب للعمل لديه وفى حالة عدم رغبته للسفر بنفسه لتوظيف عماله فقد كان يوكل أحد مكاتب الإستقدام لتوظيف هؤلاء العمال مقابل مبلغ من المال تدفع إليه عن كل تأشيرة بمعنى أنه بدلا من أن يدفع أتعاب لتوظيف وإستقدام عماله كما كان متبعا فى توظيف الخدم فقد كان يطلب منا ثمنا لكل تأشيرة والتى كانت تعتبر فرصة ثمينة للعمل فى البلاد السعودية الغنية وكان الثمن يعتمد على طبيعة العمل والراتب وباقى المميزات فإذا إرتفعت المميزات إرتفع ثمن التأشيرة وإذا إنخفضت المميزات إنخفض ثمن التأشيرة وعلى هذا الأساس كانت تجرى المفاوضات وبعد أن تتم وندفع ثمن التأشيرات كنا نرسلها مع أوراق التوكيلات والعقود المطلوبة إلى وكلائنا فى الخارج وخاصة إلى مجموعة الدول الهندية - الهند وباكستان وبنجلاديش - ونطلب بدورنا ثمنا مضاعفا لها فإذا كنا قد إشتريناها بألف ريال مثلا للتأشيرة فقد كنا نطلب فيها ألفين ريال وهكذا وكان الوكيل بدوره يبيع التأشيرة أو فرصة العمل تلك لطالب العمل ببلاده بثمن مضاعف آخر لما دفعه لنا أو حتى أكثر فى حالة فرص العمل المتميزة مما كان يدفع بالعمال أحيانا إلى الإقتراض أو بيع ممتلكاتهم وكان يحدث أحيانا أن يحضر العامل ويفشل فى عمله ويقوم الكفيل بطرده أو ترحيله رافضا نقل كفالته فيكون بذلك قد خسر كل شئ وتتحول حياته إلى مأساة كاملة على مرأى ومسمع منا نحن الذين توسطنا فى إستقدامه وتوظيفه دون أن نستطيع أن نقدم له أى شئ سوى كلمات العزاء والمواساة والوعود الكاذبة أحيانا بإستقدامه مرة أخرى فى فرصة عمل أفضل. وهكذا عشت مشاركا فى تلك الجريمة على مدى نحو سنتين والتى كانت تمر بأمان فى بعض الأحيان فقط عندما ينجح العامل فى عمله ويوفق مع كفيله ويستطيع إسترداد المبالغ التى دفعها ويأتى لشكرنا أحيانا على فرصة العمل الجديدة التى منحناها له. لكنه كان عملا جريميا محفوفا بالمخاطر فى معظم الأحيان وكانت فرص النجاح تلك غير مضمونة لإن حالات الفشل كانت كثيرة فمن الطبيعى أن الكفيل أو صاحب العمل الذى يقبل أن يبيع تاشيرات العمل أن يقبل أيضا أن لايدفع للعمال رواتبهم وأن يعذبهم ويسجنهم ويرحلهم ويفعل بهم الأفاعل.
أما قصة إستقدام وتوظيف الخدم فقد كان لها مآسيها الأخرى. لم يكن هناك بيع أو شراء للتأشيرات فى حالة إستقدام الخدم فقد كان الكفيل يدفع أتعاب توظيف الخادمة وتذكرة سفرها من بلادها وعمولتنا وعمولة الوكيل فى بلاد الخادمة وكل شئ تقريبا مهما كانت قيمة الأتعاب التى نطلبها ولذا فقد كان سعيد يقول عن إستقدام الخدم وبكل فخر وكبرياء( حلال مائة بالمائة) ولعله بذلك كان يقر دون أن يدرى أنه يرتكب كثيرا من الحرام فى هذا العمل. وكنت أنا شخصيا أعتقد أن إستقدام الخدم على هذا النحو هو عمل شرعى تماما لكن طبيعة المجتمع السعودى المغلقة المتزمتة ومشاكل الخدم المعقدة الناتجة عن ذلك والتى كانت تؤدى بهم إلى الإنتحار أحيانا كانت هى المشكلة التى ظلت تؤرقنى كثيرا طوال سنوات عملى هناك دون أن أستطيع أن أساعد فيها شيئا وذلك بإستثناء القاعدة التى إقترحتها وقبلها سعيد ونظير على مضض وهى قاعدة عدم التعامل مرة أخرى مع أى كفيل فشلت عنده إحدى خادماتنا لأى سبب. ومن آلام الخدم ومآسيهم تشكلت المرحلة التالية من حياتى ففى السنة الثانية من عملى بالسعودية إزداد الإقبال على إستقدام الخدم من إندونيسيا بصفتهم مسلمين من دولة إسلامية تناسب عاداتها العادات السعودية ولاأعرف كيف أصبحت منهمكا فى هذا العمل دون الآخرين وكأننى اصبحت الطرف الرئيسى المسئول عنه فى المكتب فكلما إزدادت أعداد الخادمات المستقدمة بواسطتنا إزدادت مشاكلها وإزدادت مساحات الوقت المستهلكة فى الحديث مع الكفلاء سواء وجها لوجه أو تليفونيا مع ربات البيوت وإزداد مراجعة السفارة الأندونيسية ووجدت نفسى أبتعد وكأننى أهرب من مآسى العمال إلى مآسى الخدم وأفسح لى سعيد ونظير المجال فقد كنت مقنعا فى الحديث مع الناس وحتى مع الخادمات الإندونيسيات أنفسهن وبدأت أتعلم كثيرا من مفردات اللغة الإندونيسية و بدا عمل إستقدام الإندونيسيات يزدهر ويدر على المكتب أرباحا كثيرة ويطغى على مجمل عمل المكتب وهنا بدأ سعيد يفكر جديا فى التخلص من نظير وإحلالى محله لكن الوقت لم يكن قد حان بعد.
كان لتلك الأيام ذكرياتها التعيسة التى لم تفارق خيالى حتى اليوم.أذكر إننى بمرور الوقت أثناء حياتى فى السعودية ومن خلال إحتكاكى المتواصل بالناس من خلال عمل إستقدام الخادمات قد لاحظت أن معظم السعوديين يضمرون للمصريين شعورا مريرا بالبغضاء وعدم الثقة. كانوا بشكل عام عديمى الثقة بالأجانب لكنهم كانوا أكثر حساسية تجاه المصريين وكنت أحاول أحيانا نسيان تلك الحقيقة وأتصورأنها مشاعر فردية لاتنطبق على الجميع وأحيانا كنت أحاول تحليلها وأتصور أنها جزء من ثقافتهم البدوية التى تكره الغريب بشكل عام أو أنها بسبب تعقيدات التاريخ وصراع محمد على مع الدولة السعودية فى بداية نشأتها وخلاف جمال عبدالناصر مع الملك فيصل أو بسبب التنافس التقليدى بين مصر والسعودية على النفوذ فى العالم العربى ولكن كل ذلك لم يكن ليخفف من قسوة تلك الحقيقة شيئا وخاصة عندما كان يقع خلاف بيننا وبين أحد الكفلاء لأى سبب من الأسباب إذا نجد العميل المحبوب الذى كان يجلس بيننا بالأمس يحتسى الشاى العربى ويتبادل معنا الحديث الودى قد إنقلب عدوا لدودا وأبدى ندمه وأسفه الشديد عل أنه قد تعامل مع مكتب يديره مصريون. كانت مصر والمصريين موضوع طبيعى للكراهية على لسان معظم السعوديين وحتى سعيد الأسمرى نفسه كان يكرهنا جميعا وأتصورأنه كان يكره حتى محمد عبدالسلام صديقه الصدوق وذراعه الأيمن وكاتم أسراره فلم يكن يطيق رؤية إبنه خالد يجرى أو يلعب فى أى مكان أو أى مناسبة فكان يحتمله على مضض لكنه كان ينهره دائما إذا لم يكن محمد حاضرا وكنت أتسائل دائما لماذا يتعامل معنا هؤلاء الناس بكل هذا الحجم الكبير إذا كانوا يضمرون لنا كل تلك الكراهية الكبيرة؟ وذات مرة قال لى أحد الكفلاء صراحة أثناء مناقشة مشكلة أحد العمال ( أنا لاأحب المصريين) فاجبته ولماذا تتعاملون معنا إذن. كان سعيد حاضرا . لكنه لزم الصمت وإبتسم إبتسامة خبيثة لاأعرف إلى من كان يوجهها إلى أم إلى الكفيل؟.
وأذكر إننى كنت ضحية لهذه الكراهية فى مناسبات عديدة أذكر منها حادثة كبيرة إنتهز فيها ضابط شرطة سعودى غياب سعيد فى أجازة إلى بلده أبها وإصطحبنى مع خادمته الإندونيسية إلى قسم الشرطة الذى كان يعمل به وإحتجزنا هناك. أتصور أن إسمه كان محمد راشد وربما كان برتبة نقيب. كان مخلوقا شريرا جبانا بكل ماتعنى الكلمة وكان قد وجد بالمصادفة صورة مع الخادمة الإندونيسية لفنان إندونيسى يعزف على العود قالت الخادمة أنه من أقاربها وكانت الخادمة إندونيسية من أصول عربية يمنية وكان من النادر أن تكون الخادمات من أصول يمنية ولكن المصادفة شاءت أن تكون تلك الخادمة كذلك وأن يضبط محمد راشد تلك الصورة معها لرجل يبدو أنه عربيا حتى تنتابه كل أنواع الشكوك بها وبنا وبكل العالم حوله. فأحضرها وطلب منا إعادتها إلى بلادها ورد المبلغ الذى دفعه لإستقدامها وكان حوالى خمسة آلاف ريال ولما قلت له أن السبب غير مقنع لإعادة الخادمة كما أننا لانستطيع إتخاذ مثل ذلك القرار فى غياب صاحب المكتب حتى ثار وجال وقال بلهجته البدوية والله لأرجكم رجة تعرفون بعدها من أنا وأمسك بي من ملابسى وطلب منى الذهاب معه إلى قسم الشرطة ومعنا الخادمة. ويبدو أنه كان قد أعد هذه الخطة مع ضابط زميل له كان فى إنتظارنا فى القسم بملابسه المدنية السعودية الجلباب الأبيض والغترة والعقال وبمجرد دخولنا اجلسنى بعنف على كرسى أمامه بينما وقفت الخادمة بعيدا تبكى وأعطانى قلم وورقة وأخذ يملى على صيغة تعهد بإعادة الخادمة إلى بلادها على نفقة المكتب ورد فلوس النقيب محمد راشد وهو يهددنى بإحتجازى هنا إلى الأبد إذا لم أنفذ هذا التعهد. وأخذت أكتب التعهد مكرها ولكن أثناء ذلك دخل مدير القسم إلى الغرفة بالمصادفة وكان ضابط أسمر قصير القامة برتبة مقدم وعندما سأل عما يجرى أخبروه عن القصة فلم يعجبه الكلام فدخل وجلس إلى المكتب ونظر إلى ورقة التعهد التى كتبتها وقرأها ثم قال للنقيب محمد وهل يستطيع هو تسفير الخادمة ودفع ذلك المبلغ لك لماذا لاتنتظر حتى يحضر السعودى صاحب المكتب وتتفاهم معه ويبدو أنه تصور أن الخادمة الإندونيسية كانت مصرية فسألها بالعربية عما إرتكبت من خطأ لكنها إنفجرت بالبكاء ولم تستطع الجواب فشرحت له أنها إندونيسية من أصول يمينة ولذا فهى لاتعرف اللغة العربية فزاد ذلك من تعاطفه معنا بينما زاد من غضب النقيب محمد الذى أخذ يسبنى ويسب البلاد التى جئت منها فإنفعل المقدم مدير القسم وقام بتمزيق التعهد الذى كتبته وأمرنى بالإنصراف أنا والخادمة وأخذ يعنف محمد وزميله الذى كان قد أعد العدة لسجنى حتى أرد الفلوس وأعيد الخادمة إلى بلادها.كانت تلك من الحوادث المؤسفة التى مررت بها أثناء تلك السنوات المظلمة ومع ذلك فقد كشفت لى أن الشر مهما زاد وساد فإن الخير الذى مثلة المقدم مدير القسم سوف يظل موجودا أيضا. ولاأنكر ابدا أننى أثناء إقامتى فى المملكة العربية السعودية قد إلتقيت بكثير من الناس الطيبين الذين أكرمونا وساعدونا فى كثير من المناسبات كما كانوا غير راضين عن نظام الكفالة ومايجلبه من معاناة على الغرباء لكنهم ماكانوا يستطيعون فعل شئ لتغييره.
كان هناك حادثة أخرى أثرت فينا وهزت كياناتنا جميعا. كان بطل القصة هذه المرة زميلى المحاسب حسن النمكى . ففى أحد الأيام حضر إلينا أحد الكفلاء ومعه خادمته الإندونيسية تشكو من عدم قدرتها على مواصلة العمل. كانت فى حوالى الخامسة والثلاثين من العمر. ولم تكن تبدو بحالة سيئة. كانت مرهقة وتتلوى قليلا أثناء جلوسها لكننا لم نلاحظ أبدا أنها كانت تعانى من أى مرض ولإنها لم تكن تعرف سوى قليل من الكلمات العربية وكنا لانعرف سوى القليل من الكلمات الإندونيسية فإننا لم نستطع أن نفهم منها ماتعانيه تماما لكنا أدركنا بالطبع أنها كانتى تعانى من كثرة العمل بسبب كثرة عدد أفراد الأسرة. وكانت العادة فى مثل هذه الحالات عندما لاتكون المشكلة كبيرة هى أن ننصح الخادمة بالعودة لمواصلة عملها حتى ينتهى عقدها. لم نمارس عليها أى ضغوط وتعاملنا مع الموقف ببساطة شديدة وسلامة نية لإن الكفيل كان يبدو رجلا طيبا ولذا فلم نحاول إحتجاز الخادمة للذهاب بها إلى الطبيب كما كانت عادتنا فى حالات مرض الخادمات مرضا شديدا وطلبنا منها العودة مع كفيلها وطلبنا من الكفيل أن يقوم بإصطحابها إلى أى طبيب أو مستشفى بنفسه.وافق كلاهما وإنصرفا فى هدوء. مرت ساعات قليلة وعاد الكفيل شاحب الوجه ليخبرنا بأن الخادمة قد ماتت. لاأتذكر ماحدث جيدا فى ذلك اليوم لإن إحساسنا بالذنب قد أصابنا جميعا بحالة من الذهول. ولاأتذكر إذا كان الكفيل قد أخذها إلى مستشفى أو طبيب كما طلبنا منه أم لا؟ فكل ماأتذكره أنه قال أنه بعد عودتهما إلى المنزل دخلت الخادمة إلى فراشها بعد أن شربت كمية كبيرة من المياه ثم ماتت فجأة، وأن الجثمان مازال فى بيته وأنه لايدرى ماذا يفعل. كانت تلك الحادثة المفجعة هى الأولى من نوعها ولكنها لم تكن الأخيرة حيث عانيت من أحداث مماثلة أخرى أثناء عملى بدولة الإمارات بعد ذلك بسنوات. طلب سعيد من الكفيل المرتبك أن يذهب لإبلاغ الشرطة لنقل الجثة إلى المستشفى وطلب من زميلى حسن - ربما بحكم تدينه - متابعة إجراءات الدفن مع الكفيل على أن اقوم أنا بمتابعة الإجراءات مع السفارة للحصول على إذن الدفن. وهكذا جنبنى القدر مؤقتا معاناة مثل هذه التجربة المفجعة. لكن تأثيرها كان كارثيا على زميلى الطيب حسن فقد إنهار الباقى من معنوياته على أثر تلك التجربة، فبعد صدور التقرير الطبى بأسباب الوفاة - والتى لاأذكرها الآن- لكنها كانت أسباب طبيعية لاتحمل أى شبهة جنائية وبعد صدور تصريح السفارة الإندونيسية بدفن الخادمة فى السعودية ذهب حسن مع الكفيل لإستخراج الجثة من الثلاجة وتغسيلها ودفنها. وبعد أن أدى هذا الواجب عاد إلينا مرهقا شاحب اللون فاقد القدرة على مواصلة العمل وأعتقد أنه منذ هذه الحادثة كان قد قرر مثلى أن ينهى عقده ويسافر بلاعودة . كان هناك إحساس بالذنب لدينا جميعا وحتى سعيد عديم الضمير قد أمرنا جميعا بعدم التعامل مع ذلك الكفيل مرة أخرى ولاذلت أذكر كلماته ( لاتتعاملوا معه مرة أخرى خير شر). ولكن إشتراك حسن فى دفن الخادمة جعلته أقرب إلى الواقعة وجعلت إحساسه بالذنب أكبر وشعوره ببشاعة الموت أقوى.


كان هناك تجربة كبيرة أخرى، هى تجربة زيارة البيت الحرام فى مكة ، كان صديقى حسين قد سبقنى فى السفر إلى السعودية، وكان قد إستقر فى جدة حيث كان كثير من أفراد أسرته يعمل هناك منذ فترة طويلة، فأردت زيارته وزيارة الحرم المكى فى نفس الوقت ، على سبيل الفضول ليس أكثر، وكان على أن أنتظر الفرصة، والتى حانت عندما فشل أحد العمال المصريين فى تجربة العمل فى أحد المزارع خلال الأشهر الثلاثة التجريبية الأولى ، وكان على المكتب ، وتبعاً للتعاقد ، أن يعيده إلى بلاده على نفقته ، فإقترحت على سعيد ونظير أن أتولى تسفيره عن طريق البحر من ميناء جدة ، على سبيل تقليل النقفات ، حيث كان ثمن تذكرة البحر أقل من تذكرة الطائرة من الرياض بحوالى النصف تقريباً ، وفى نفس الوقت أستطيع زيارة صديقى فى جدة وزيارة الحرم المكى معه. راقت لهما الفكرتين ، فكرة التذكرة المخفضة جداً، وفكرة الإيمان الذى هبط على فجأة، وسمحا لى بتسفيره على أن أعود بسرعة. حجزت له من الرياض على أحد العبارات ، وقمنا بالسفر براً إلى جدة مساء يوم الخميس، وفى صباح الجمعة قمت بتسفيره، ومن هناك توجهت للقاء صديقى حسين وتوجهنا فى سيارته إلى مكة. كان اليوم يوم جمعة ، وكانت صلاة الجمعة تساوى مواسم الحج والعمرة ،منتهى الإزدحام والفوضى. وخضت تجربة الصلاة فى الحرم المكى ، بين تلك الجموع التى تبكى وتدعى وهى تدور وتلف حول الكعبة والحجر الأسود ، قبل الصلاة وبعدها. مجرد إيحاء مسبق ، حمله المصلى معه قبل أن يدخل ، إيمان موروث يسقط عليه الإنسان آلام الحياة ، وبصرف النظر عن الفلسفة والتاريخ ، فقد أفصحت التجربة عن نفسها بشكل عملى، فعندما خرجنا أنا وحسين بعد الصلاة ، وجد هو حذائه لكنى لم أجد حذائى ، رغم أننا قد تركناهم فى نفس المكان ، لكن حذائى كان جديداً بالمصادفة ، لذلك فقد حمله السارق بينما ترك حذاء صديقى الأكثر قدماً ، بحثنا فى كل مكان بلاجدوى حتى أعيانا البحث وقررنا العودة، كان صديقى حسين يعرف أن الحذاء قد سرق، وأن هذه الحوادث عادية فى هذا المكان المقدس ، لكنه حول الموضوع إلى نكتة ، وأخذ طوال الطريق يضحك وهو يؤكد لى ، أن ربنا عارف أن نيتى مش صافية ، وعندما وصلنا إلى منزله وصعدنا ، وفتح الباب ورآنى أفراد الأسرة ، فى بدلتى الجديدة والكرافتة والجورب بدون حذاء ، سقطوا على الأرض ضحكاً ، ولم يسألونا ماذا حدث ، فقد عرفوا فوراً ، أن الحذاء قد سرق فى المسجد، لقد كانت تلك أحداث عادية لمن قضى هنا فترة ، وكما قالوا لى - معلش ، تعيش وتاخد غيرها. تناولت الغذاء مع أسرة حسين ، ثم نزلنا لشراء حذاء بديل عن الحذاء الضحية ثم إصطحبنى إلى موقف السيارات وإنطلقت عائداً إلى الرياض وفى رأسى تتردد فكرة ، كيف يمكن لذلك المقدس الذى لا يستطيع أن يحمى حذاء ، أن يحمى صاحب الحذاء نفسه !!!

لاأعرف كيف مرت هذه الأيام لكنها مرت بشكل أو بآخر وأخيرا تدخل القدر لإنتشالى من هذا السواد الذى بدأت أغرق فيه يوما بعد يوم. كان إزدهار عمل إستقدام الخادمات الأندونيسيات هو المخرج الذى هيأه لى القدر للرحيل عن السعودية فقد بدأ سعيد سياسة مضايقة نظير والإنتقاص من أرباحه فى كل تصفية حتى يستبد به الغضب ويترك المكتب على أن أحل أنا مكانه لكن نظير الذى كان يعبد المال عبادة وكان قد أودع كل ماإستثمره طوال عمله بالسعودية فى مشاركة سعيد قد إهتدى إلى إقتراح أو حيلة يحل بها مشكلته مع سعيد وهى إخراجى من معادلة الصراع تماما وذلك بوضعى فى إندونيسيا كمندوب مقيم للمكتب هناك للإشراف على إختيار الخدم وسرعة إرسالها نتيجة للطلب المتزايد عليها وشدة التنافس بين المكاتب فى ذلك الوقت. كان نظير يعرف أننى سأرحب بهذا الإقتراح من كل قلبى لإننى كنت كارها لبقائى فى السعودية وغير قادر على العودة إلى مصر فى نفس الوقت بسبب عدم إدخارى مايكفى من المال لبداية أى حياة جديدة وكان يعرف أن سعيد سيرضخ فى النهاية أمام الفكرة الجيدة وهذا ماحدث بالفعل فى نهاية الأمر وهكذا تقرر نقلى من السعودية إلى جاكرتا عاصمة إندونيسيا لأقيم هناك ممثلا للمكتب بنفس الراتب ونفس المميزات. وهكذا سمح لى سعيد أخيرا بمغادرة الرياض فى زيارة قصيرة إلى مصر أولا لزيارة والدى على أن أتوجه من هناك إلى جاكرتا مباشرة. وبدون ذلك ماكنت أعتقد أنه كان سيسمح لى بمغادرة السعودية أبداً. وهكذا خرجت من هذا السجن المظلم دون أن يكون فى نيتى العودة إليه مرة أخرى.




































8- سنوات إندونيسيا

لم أكن أعرف كثيراً عن إندونيسيا عندما سافرت إليها فى مارس سنة 1985م كانت الأعداد الكبيرة من الخدم التى قمنا بتوظيفها من إندونيسيا قد أعطتنى إنطباعا بأنها بلاد للفقراء فقط وكنت أتصور انها بلد إسلامى فقير كمعظم البلاد الإسلامية لكن الحياة فى السعودية كانت قد أثرت على معنوياتى سلباً وجعلتنى أتصور أن أى مكان آخر غير السعودية سوف يكون بالنسبة إلى جنة فى كل الأحوال. لكن الأمر المثير للدهشة هو أن إندونيسيا - وبصرف النظر عن معنوياتى المنخفضة - كانت جنة فعلاً وبكل معنى الكلمة. لم تكن أبدا كما تصورت بلداً فقيرا معدما معظم سكانه من خدم المنازل. لقد كان مجتمعا ناميا ضخما ذو طبقة رأسمالية عريضة وطبقة وسطى واسعة وثقافة مدنية راقية ناهيك عن جمال طبيعته الساحرة. كان خدم المنازل يأتون فقط من فقراء القرى الذين لم يحصلوا على فرصة تعليم جيدة. ولإن عدد سكان إندونيسيا كان ضخما بشكل عام فقد كانت أعداد الخدم ضخمة هى الأخرى. ولإن ثقافتنا فى الشرق الأوسط كانت ترتبط بالغرب أساسا فلم نكن نعرف كثيرا عن الشرق الأقصى. لقد كان عالما ساحرا غنيا بطبيعته وبثقافته وحضارته وتاريخه الطويل وكانت إندونيسيا فى نهاية الأمر جزءً من هذا الشرق الأقصى الساحروذلك رغم إعتناقها الإسلام وإرتباطها الثقافى بالشرق الأوسط.
لازلت أذكر اليوم الذى وصلت فيه إلى إندونيسيا حيث إستقبلنى فى المطار شابا إندونيسيا إسمه دمياطى طه كان قد تلقى تعليمه - شأنه فى ذلك شأن كثير من الإندونيسيين - فى الأزهر بمصر وكما يبدو من إسمه فقد كان أبوه قد أسماه دمياطى - وكما فهمت منه بعد ذلك - على إسم شيخ من الشيوخ الذين كان الأزهر - ومازال - يرسلهم فى بعثاته الدينية إلى إندونيسيا، فرغم أن دور مصر الثقافى فى إندونيسيا - وكما رأيت بنفسى بعد ذلك - كان فى تراجع مستمر أمام الدور السعودى العملاق الصاعد، والذى تمثل فى إفتتاح فرع لجامعة الإمام محمد بن سعود فى العاصمة جاكرتا بكامل طاقمها من المدرسين السعوديين والعرب، فقد ظل للأزهر مكانة كبيرة فى نفوس الأندونيسيين مع ذلك ، وأذكر أن رئيس بعثة الأزهر فى ذلك الوقت كان شيخاً ريفياً خفيف الظل إسمه عبدالمعز، كان لطيفاً فى كل شئ، بإستثناء أمر واحد، هو انه لم يكن يسمح لأحد أبداً بالتحدث فى أمور الدين طالما هو حاضر، فقد كان يعتقد وبحكم كونه ممثلاً لشيخ الأزهر، أن التحدث فى أمور الدين ملكية خاصة له وحده. كان هناك كثير من الذكريات مع الشيخ عبدالمعز بحكم قربه من شركة ألماس، ولكن الذكرى الأكبر كانت مع شيخ لم أراه أبداً ، حدثت بعد ذلك.
كان دمياطى يعمل فى شركة ألماس الوكيل الرسمى لمكتبى فى الرياض صهلاء القبائل وكان المفترض أن أقيم فى إندونيسيا على كفالتهم للمساعدة فى تدريب وإختيار الخدم والعمل على سرعة إرسالهم. كان أصحاب شركة ألماس عبدالملك عليون وأخوه الأصغر عبدالمنعم عليون مفاجأة أخرى بالنسبة إلى فقد كانا من أب إندونيسى وأم مصرية. كان الأب الإندونيسى من سكان جزيرة سومطرة وقد درس بالأزهر فى فترة ماقبل ثورة يوليو وعاش بمصر فترة طويلة وعمل بها وتزوج وأنجب أبنائه الثلاثة مريم وعبدالملك وعبدالمنعم ثم رحل عنها وترك بها زوجته وأبنائه الذين أكملوا تعليمهم الجامعى بمصر ثم لحقوا به بعد ذلك فى إندونيسيا حيث أسسوا شركة ألماس لتصدير العمالة إلى الشرق الأوسط أو إلى السعودية بالتحديد. كانت الأخت الكبرى مريم تقيم فى الرياض مع زوجها الذى كان يعمل بالسفارة الإندونيسية هناك وقد إلتقيت بها مرارا فى السفارة بالرياض أما عبدالملك وعبدالمنعم فقد كانت تلك هى المرة الأولى التى ألتقى فيها بهما. والواقع أن الأسرة كلها كانت توليفة ثلاثية عجيبة ، مصرية سعودية إندونيسية ، حيث ولدوا وعاشوا جميعا فى مصر أولا ومنها رحلوا للعمل فى السعودية ثانيا ثم عادوا أخيرا وإستقروا نهائيا فى إندونيسيا وإعتمد رزقهم على العمل مع السعودية بشكل خاص . كان حبهم لمصر شديدا وللسعودية شديدا ولإندونيسيا شديدا . ولذا فقد كنت أرى فيهم توليفة عجيبة تشكلت من ثلاثة أوطان لكل منها ثقافته وروحه المميزة لكنها إجتمعت كلها فيهم . كانوا نوع من البشر تختلط فيهم جميع صفات البشرمن خير وشر لكنى مازلت اذكر لهم أنهم قد رحبوا بى وساعدونى عندما أبديت رغبتى فى البقاء فى إندونيسيا وعدم العودة إلى السعودية كما كانوا هم الذين توسطوا لى فى زواجى من زوجتى راتنا وأقاموا لى حفل الزفاف ومنحونى مسكنا للإقامة. كل ذلك مازلت اذكره لهم. حقا أن معاملتهم لى قد إختلفت عندما إنحدرت من مركزمندوب لشركة سعودية إلى مركز موظف عادى عندهم كما أنهم قد وقفوا حائلا دون محاولاتى المستميتة للحصول على مركز أفضل لنفسى هناك لكن ذلك التغير كان موقفا طبيعيا بالنسبة لطبيعة البشر فقد كانوا يعتقدون أنهم أصحاب الفضل فى بقائى فى إندونيسيا ولذا فقد اصبح محتما على أن أظل ملكية خاصة بهم إلى الأبد. وربما يعتبر هذا الحديث سابقا لأوانه. لكنه قد فرض نفسه عند ذكرى لهم.
قضيت الأيام الأولى لى فى إندونيسيا فى فندق شهير إسمه فندق إندونيسيا يقع فى منتصف حى تمرين أكبر شوارع العاصمة الإندونيسية جاكرتا لكننى مالبث أن إنتقلت إلى منزل خاص بى فى حى يدعى أمباسيت كان يقع بالقرب من مقر شركة ألماس الذى كان يقع فى شارع رئيسى يدعى شيدنج بارات. كان المنزل عبارة عن فيلا صغيرة تتكون من دور واحد كمعظم المنازل الإندونيسية وفى ذلك المنزل قضيت السنة الأولى لى فى إندونيسيا وإتخذت أهم قرارات حياتى.
أخذت أتعرف تدريجيا على المجتمع الإندونيسى والحياة الإندونيسية وكانت الطبيعة الجميلة الإستوائية المميزة هى أول ماترك تأثيره على وجدانى كما كانت حرية الشعب الإندونيسى وسماحته لمحة مميزة أخرى أصابتنى بالإعجاب والدهشة فى آن واحد أما جمال المرأة الإندونيسية وعصريتها وشياكتها فقد كانت شيئا مبهرا حقا يختلف تماما عن الإنطباع الخاطئ الذى تركه الخدم الفقراء على عقلى. وشيئا فشيئا أخذت أنبهر بالحياة فى إندونيسيا ولعلى كنت فى حاجة إلى فترة نقاهة طويلة بعد فترة الحياة الجافة القاسية التى قضيتها فى السعودية وهذا ماحدث بالفعل فقد أطلقت لنفسى العنان أغترف من نعيم الحياة.
توثقت صلتى بعبد المنعم عليون الأخ الأصغر لعبدالملك عليون صاحب شركة ألماس وأصبحنا أصدقاء رغم فارق السن بيننا فقد كان يكبرنى بنحو عشر سنوات ولعله أيضا كان يفتقد إلى صديق من رائحة مصر التى ولد وعاش بها معظم سنوات عمره وقد وجد ذلك الصديق فى وهكذا شكلنا معا وعلى غير موعد أوإتفاق فريق للعمل أثناء ساعات العمل وللفرح والمرح أثناء ساعات السهر مع ضيوفنا السعوديين والإندونيسيين.
كان عبدالمنعم عليون- الذى توفى قبل سنوات قليلة فقط - نمطا غريبا من الناس ، كان طويل القامة يرتدى نظارة وكان قريب الشبه بالمطرب المصرى الراحل محمد فوزى تختلط فيه ملامح الشرق الأوسط بملامح الشرق الأقصى كان شديد التدين شديد العشق للنساء فى نفس الوقت ولكنه لايشرب الخمر ويعتقد أنها حرام بعكس عشق لنساء الذى لاأعرف كيف كان يفسره لنفسه وكان له فى كل يوم قصة حب جديدة وكانت طبيعة عمله توفر له الظروف المناسبة حيث كان هوالمدير التنفيذى لشركة ألماس فكان يلتقى بالخادمات عند توظيفهن كما كان يشرف على عمل موظفات الشركة ويتعامل مع شركات الطيران ومع الفنادق لحجز غرف الضيوف كانت حياته كلها محاطة بالنساء من كل جانب ولذا فقد كانت فرصته كبيرة فى الحصول على قصة حب جديدة فى كل يوم وكذلك فقد كانت طبيعة المجتمع الإندونيسى الحرة المنفتحة تسمح بذلك فلم يكن إختلاط الرجل بالمرأة محظورا بأى شكل من الأشكال. كانت إندونيسيا أشبه ببلد إسلامى يرتدى عباءة أوربية ولعل ذلك كان يرجع إلى جذور ثقافتهم القديمة قبل إعتناق الإسلام. كانوا شعبا مرحا محبا للحياة ولم يكن الإختلاط يعنى الرزيلة فى كل الأحوال بل أنه كان إختلاطا بريئا فى كثير من الأحوال لكنه كان يضفى على الحياة رونقا وجمالا كما كان يعطيها قوة دفع كبيرة وكثير من الصبر والهدوء الذى تميزت به الشعوب الآسيوية بشكل عام.
لازلت أذكر سهراتى مع عبدالمنعم كانت أيام جميلة من أيام حياتى وكان عبدالمنعم يعرفنا فى كل مناسبة على صديقات جدد بعضهن عالى الجمال والمستوى وبعضهن متوسط الحال وبعضهن حتى فقير الحال لكنهن كن نساء جميلات فى كل الأحوال بعضهن كن من أصول إندونيسية وبعضهن من أصول صينية وبعضهن حتى من أصول عربية يمينية كانت أندونيسية خليطا من أجناس كثيرة معظمها يعود إلى شعوب الملايو وهى مجموعة الشعوب الإندونيسية والماليزية الأصلية وبعضها إلى الشعوب الصينية والعربية التى هاجرت وإستقرت فى إندونيسيا وبعضها حتى يعود إلى بقايا دماء الإستعمار الهولندى القديم وكان هؤلاء يتركزون فى بعض الجزروخاصة جزيرة منادو وكان معظمهم على درجة شديدة من الجمال وكان هناك فصيل إندونيسى آخر رائع الجمال أبيض البشرة ممشوق القوام يسمى بجنس السوندا يتركز فى مدينة باندونج والمناطق المحيطة بها. كانت إندونيسيا متحفا كبيرا للجمال والعشق والطبيعة. وكما قال لى أحد الأجانب هناك أنك وقد جئت من تلك البلاد الصحراوية لابد أنك تجد هذه البلاد ساحرة فقلت له ، وبكل صراحة، - نعم.
كان هناك مناطق ترفيه شهيرة فى العاصمة الإندونيسية جاكرتا أقربها كان ميدان موناس الواقع فى منتصف جاكرتا بمسلته الشهيرة وحدائقه الفسيحة ولكن أشهرها بلاشك كان مجموعة جبال بونشاك أو القمة المحيطة بجاكرتا وكانت عبارة عن تلال جبلية خضراء مزروعة بالشاى يخترقها طريق أسفلت متعرج صاعد نحو قمة مجموعة الجبال وعلى جانبى الطريق كانت تنتشر المحلات والفنادق والفيلل وكلما صعدت إلى أعلى ونظرت حولك شعرت كأنك تبتعد عن الأرض وتطير نحو السماء حيث تبدو الأودية الخضراء على جانبى الطريق وأضواء الفيلل والفنادق والمحلات كل ذلك فى تشكيل عجيب ساحر لانظير له سوى فى البلاد الآسيوية وعندما تصل إلى غايتك وتنزل بالمكان الذى قصدته فيلا كان أو فندق وتجلس فى الشرفة لتطل على المساحات الخضراء الهائلة الممتدة أسفل المكان الذى تجلس فيه تشعر كأنك فى السماء ولاتعرف كيف وصلت إلى هنا ولا كيف إرتبطت كل هذه المساحات الجميلة ببعضها البعض فإذا نزل المطر إزداد المشهد كله جمالا وسحرا وأخذك بعيدا عن هذا العالم المرهق. كان هناك فى منتصف الطريق الصاعد إلى قمة جبل بونشاك مطعم شهير إسمه رندو علم ، على ماأذكر ، كان محل لمعظم زوار بونشاك فكان كثير منهم يكتفون بالوصول إليه وتناول طعامهم هناك ثم العودة إلى جاكرتا نزولا عبر الطريق المتعرج مرة أخرى وكان بعضهم يواصل الصعود نحو قمة بونشاك وكان البعض يقضى عدة ليالى هناك ثم يعود لكن وفى كل الأحوال ظل مطعم رندوعلم كمكان إستراحة فى منتصف الطريق تلتقى فيه كل الأجناس التى تزور أو تعيش فى جاكرتا. وفى الطريق الصاعد إلى بونشاك أيضا كان هناك حديقة حيوانات طبيعية تعيش فيها الحيوانات كأنها فى موطنها ألأصلى وكان الناس يدخلونها بسياراتهم ويظلوا يتجولون بها داخل سياراتهم فى طريق دائرى واسع يدور بهم من باب الخروج حتى باب الدخول وهم يشاهدون الحيوانات من كل صنف ونوع تمرح وترعى على جانبى الطريق وحتى الأسود والنمور والدببة وكل انواع الحيوانات. كان ذلك المتنزه يناسب العائلات أكثر أما العزاب فكانوا يفضلون قضاء لياليهم فى أعلى جبال بونشاك مع الحب والجمال. وقد تأثرت كثيرا بكل ذلك الجمال خلال رحلاتى الأولى إلى بونشاك وعشقت إندونيسا ورغبت فى الحياة فيها إلى الأبد لكن ذلك العشق سرعان ماذوى بعد ذلك عندما تغيرت الظروف.
كان هناك أماكن سياحية أخرى شهيرة أيضا مثل مدينة ملاهى أنشول الواقعة على أحد خلجان المحيط الهادى وكذلك مدينة تمن مينى التى كانت عبارة عن متحفا كبيرا يمثل فيه كل أنواع الحياة فى الجزر الإندونيسية العديدة. كانت تمن مينى مدينة للأطفال والعائلات وحتى الغرباء زوار إندونيسيا لكن أنشول كان مكانا آخر للحب والجمال. كانت تشبه قرية سياحية كبيرة وكان بها كل أنواع الملاهى والمشارب والمراقص والمطاعم والفنادق وشواطئ البحر وكانت مكانا للعشاق يعيشون فيه على سجيتهم دون أن يقتحم خلوتهم أحد وكم ذهبت إلى هناك مع عبد المنعم وصديقاته فى البداية ثم تعلمت الذهاب بنفسى بعد ذلك مع صديقتى وزوجتى راتنا ومع أولادنا ديفى وجمال بعد ذلك. كانت أنشول تحتوى على كل شئ كان الفقير يجد له مكانا تحت الأشجار وعلى الشواطئ المجانية ومتوسط الحال يجد له مكانا فى مطاعم مكدونالد والملاهى وكان الأغنياء يجدون أماكنهم فى الفنادق الكثيرة المنتشرة داخل أنشول والتى كانت تقام فيها كثير من الحفلات وحفلات رأس السنة من كل عام.
وأثناء تلك الشهور الأولى التى قضيتها فى إندونيسيا أتاح لى القدر فرصة أخرى لأرى مكانا آخر جميلا فى هذا العالم وهو مدينة سنغافورة فقد كان لابد لى من الخروج من إندونيسيا للحصول على تأشيرة الإقامة الدائمة من سفارة إندونيسيا بسنغافورة كما كان المتبع فى إجراءات الإقامة بأندونيسيا فى تلك الأيام وكان الدخول إلى سنغافورة سهلا وميسورا لكل أجناس العالم فى ذلك الزمن إذ كان أى زائر يمكن له أن يحصل على تأشيرة شهر أو أكثر عند وصوله إلى مطار سنغافورة شديد الروعة والجمال والنظام. وبعد حوالى ثلاثة أشهر من بقائى فى جاكرتا كان على أن أسافر إلى سنغافورة ومعى إذن من وزارة العمل الإندونيسية للحصول على تأشيرة إقامة دائمة فى إندونيسيا بصفتى مندوبا لشركة أجنبية.
ومرة أخرى وجدت نفسى مشدوها بسحر الشرق وجماله وذلك فى دولة جديدة عصرية إرتبط فيها سحر الشرق بتقدم الغرب.كانت سنغافورة مزيجا من الجمال والنظام والتقدم . كانت بها مناطق تتبع العالم الآسيوى الذى نشأت منه ومناطق تتبع العالم الغربى الإستعمارى الذى عاشت فى كنفه زمنا طويلا وتأثرت به وبثقافته. كان معظم السكان من الجنس الصينى وكان البعض الآخر من جنس الملايو وقليل من أصول عربية وهندية.كانت مزيجا ساحرا أكثر جمالا من إندونيسيا ساحرة صغيرة كفتاة فى ريعان الشباب يبدو عليها الجمال والصحة فكل شئ فيها نظيف مرتب. كانت زيارتى الأولى لها برعاية شركة ألماس إذا أرسلونى إلى هناك لأحصل على تأشيرتى وأوصوا أحد اصدقائهم وكان من أصول عربية بإنتظارى فى المطار وإصطحابى إلى السفارة وتسهيل مهمتى فى الحصول على التأشيرة . لاأذكر إسم الفندق الذى نزلت فيه لأول مرة فى سنغافورة لكنه كان فندقا فاخرا وكان كل شئ حولى يدل على الثراء والعصرية والتقدم وأذكر أن الرحلة الوحيدة التى إصطحبنى فيها مستقبلى كانت إلى حديقة الطيور السنغافورية النادرة .لقد هالنى مارأيت من نظافة وترتيب وجمال وتعجبت كيف نهضت هذه الشعوب الصغيرة بسرعة هكذا لتصبح فى مصاف الأمم المتقدمة. كانت سنغافورة فى الأساس قرية صيد صغيرة معظم سكانها من جنس الملايو وبعض المهاجرين الصينيين وقد إشتراهاالكابتن الإنجليزى ستامفورد رافيل من حاكمها الملايو وجعل منها قاعدة إنجليزية فى المحيط الهادى وبعد الإستقلال أصبحت جزءا من الإتحاد الماليزى الذى أصبح يضم ماليزيا وسنغافورة لكنها إنفصلت فى الستينات عن الإتحاد الماليزى الذى غلب جنس الملايو على سكانه بينما غلب الجنس الصينى على سكان سنغافورة ولازال هناك جسر كبير يربط بين الجزيرتين المتقدمتين والتى لم تقطعا علاقتها بالإستعمار البريطانى بشكل كامل وتبنتا اللغة الإنجليزية كلغة تعليم والديموقراطية كأسلوب حكم والرأسمالية كنهج إقتصادى وحققتا نهضة عظيمة مميزة بين دول العالم النامية.
تكررت رحلاتى إلى سنغافورة بعد ذلك وحتى بعد أن رحلت عن إندونيسيا إلى دولة الإمارات ولاأذكر عدد المرات الكثيرة التى زرتها فيها أثناء إقامتى فى إندونيسيا أواثناء حلولى فى إندونيسيا فى أثناء أجازاتى من دولة الإمارات ولقد عشقت كل شئ فيها شوارعها ومطاعمها ومراكزها وخاصة مكتبة الأم بى إتش التى إشتريت منها معظم كتبى الإنجليزية الموجودة فى مكتبتى فى جاكرتا واشتريت منها أول كتاب قمت بترجمته وهو كتاب تاريخ الشرق الأوسط لمؤلفه المستشرق بيترمانسفيلد.كما كان هناك كتاب أخير كان يجب على أن أقرأه، ولم أكن قد قرأته كاملاً بعد، وهو الكتاب المقدس( أى العهد القديم والعهد الجديد معا أو التوراة والإنجيل معا). وقد وجدت هذا الكتاب فى أحد غرف فنادق سنغافورة حيث كنت أنزل أثناء زياراتى القصيرة إلى هناك لتجديد إقامتى فى إندونيسيا. أخذت أتصفحه طوال الليل وأخذت ألاحظ تشابها كبيرا بين ثقافات الشرق الأدنى القديم وبين القصص والتشريع التوراتى وبين الأخيرة وبين القصص والتشريع الإسلامى. فطلبت من إدارة الفندق السماح لى بشرائه فسمحوا لى بشرائه مقابل عشرين دولار سنغافورى.فحملته معى إلى إندونيسيا وعكفت على دراسته. وبعد ذلك لم يعد لدى أدنى شك فيما كنت قد توصلت إليه بالفعل عبر رحلة حياتى الفكرية الطويلة وحتى قبل قراءة هذا الكتاب المقدس. وهو أن الدين صناعة بشرية، وأن الإيمان بالله هو فطرة خلق بها الإنسان، وأن هذه الأديان ماهى سوى إجتهادات بشرية إنتقلت من زمن إلى زمن فى الطريق الأزلى الطويل فى سبيل البحث عن الله وإشباع هذه الفطرة.
وكذلك عشقت متحف سنغافورة الصغير الجميل الذى كان يقع بالقرب من المكتبة والمركز التجارى العربى الكبير الذى كان يسمى مصطفى سنتر والذى كان يبيع كل شئ من الأوانى المنزلية حتى الذهب والماس ويعمل فيه كل الأجناس التى تعيش فى سنغافورة بصرف النظر عن إختلاف عقائدهم. وقد عشقت المشى فى الشوارع بشكل خاص فى حى ديكسون وحى روتشيلد وحتى الساحل الشرقى وكنت أترك نفسى أهيم فى الشوارع أتأمل الجمال والهدوء ساعات طويلة حتى إذا إستبد بى التعب أستقليت تاكسيا وعدت إلى الفندق. وكنت كثيرا ماأذهب مع الجولات السياحية التى ينظمها الفندق فرأيت متاحف وأماكن تسرية رائعة ومعامل ألماس وهضاب مرتفعة ننظر فيها بالتلسكوب على كل نواحى الجزيرة وتعرفت على المدينة كلها تقريبا على مدى الزيارات الكثيرة التى قمت بها إليها لكننى قرأت فى آخر زيارة قمت بها عن جزيرة إسمها سانتوسا كتب تحتها عبارة تقول بأنك إذا لم تزر سانتوسا كأنك لم تزر سنغافورة ولم أكن قد زرت سانتوسا بعد ولازلت نادما على ذلك حتى اليوم. إنتهت علاقتى بسنغافورة مع تفجيرات 2001م الإرهابية لمركز التجارة العالمى فى نيويورك فقد فرضت حكومة سنغافورة إجراءات دخول مشددة على معظم سكان الشرق الأوسط العرب ولذا كان على أن أغير وجهتى إلى ماليزيا القريبة والتى كان الدخول إليها سهلا بدون تاشيرة أيضا وذلك فى حال إضطرارى إلى الخروج من إندوتيسيا لتجديد إقامتى.
كانت ماليزيا هى الأخرى بلدا متقدما تحول نمط التعليم فيه إلى النمط الغربى وأصبحت الإنجليزية هى لغة التعليم وحقق كثيرا من التقدم الثقافى والصناعى ولكن الحقيقة هو إننى لم أحب ماليزيا كما أحببت سنغافورة وكنت أقضى معظم وقتى فى الفندق حتى يحين موعد مغادرتى . لم أغرم بالمشى فى الشوارع على غير هدى كما كانت عادتى فى سنغافورة وكانت المرة الوحيدة التى قمت فيها برحلة طويلة كانت مع سائق من أصل عربى إسمه جوهرى ذهبت معه لزيارة مدينة مالقا الميناء التجارى الشهير فى الحقبة الإستعمارية والذى كان يبعد ساعات قليلة عن العاصمة الماليزية كوالالمبور .كانت شوارعها ضيقة وبيوتها قديمة مدهونة بلون أحمر يغلب عليها الطابع الصينى. كانت تحفة بكل المقاييس لكننى لم أستمتع بالرحلة وعدت مرهقا وشعرت أننى لم أحب ماليزيا كما أحببت سنغافورة التى قضيت فيها أياما قليلة لكنها كانت من أجمل أيام عمرى. وقد إنتهى بى الحال عندما كنت اسافر إلى ماليزيا أن أقضى معظم الوقت فى فندق إسمه إمبيان يقع فى قلب العاصمة الماليزية كوالالمبور دون أن أحاول الخروج للتعرف على البلد على عكس ماكنت أفعل فى سنغافورة تماما والتى كنت أشعر فيها بأمان وراحة كبيرين. وقد ظلت علاقتى بتلك البلاد البعيدة خلال السنوات الطويلة التى قضيتها فى دولة الإمارات أيضا وأثناء أجازاتى فى إندونيسيا لكنها قد إنتهت تماما بعد عودتى إلى مصر فى نهاية الأمر.
تعرفت فى الشهور الأولى من إقامتى بأندونيسيا بفتاة إندونيسية إسمها راتنا كانت تعمل فى شركة ألماس وكانت فى نحو الحادية والعشرين من عمرها وكنت أنا قد تجاوزت الثلاثين قليلا وهى التى أصبحت زوجتى فيما بعد. كانت علاقتى بها علاقة صداقة سرعان ماتطورت إلى قصة حب نتج عنه زواج بعد حوالى سنة من تعارفنا ساهمت فيه الظروف التى مررت بها فلم يكن من الممكن أن استمر هناك دون أن يكون لى زوجة . كنت غريبا وكانت راتنا مثلى غريبة إذا كانت تنحدر من بلد بعيد إسمه ناوى يقع فى شرق جزيرة جاوة بعيدا عن العاصمة الإندونيسية جاكرتا وكانت تقيم مع عمة لها مقيمة فى جاكرتا وكان أبوها وأمها قد إنفصلا منذ طفولتها ولذا فقد نشأت حائرة بين منزل أبيها والذى تزوج بأخرى بعد أمها وبين منزل أمها والتى لم تتزوج بعد أبيها وبين منزل عمتها فى جاكرتا حتى إستقرت أخيرا هناك بعد أن حصلت على عمل فى شركة ألماس. كان كلانا غريبا ويحتاج إلى الآخر ولعل هذا هو ماربط بيننا فى الواقع. كانت صغيرة جميلة تنتمى إلى اسرة متوسطة الحال ولم تكمل تعليمها الجامعى تميل إلى القصر ولها ملامح شبه عربية وقد عطفت على وحدتها وتنقلها الحائر بين أبيها وأمها كما عطفت هى أيضا على غربتى ورحيلى أبحث عن الرزق فى بلاد بعيدة. ولاشك أنها كانت من عوامل إتخاذى قرارى الخطير بالبقاء فى إندونيسيا وعدم العودة إلى السعودية.
فبعد حوالى ستة أشهر من بقائى فى إندونيسيا وبعد إزدهار العمل وإستقراره طلب منى سعيد العودة للسعودية لتجديد إقامتى والعودة إلى إندونيسيا مرة أخرى حيث لم يكن مسموحا للعامل الأجنبى بالبقاء خارج السعودية لأكثر من ستة اشهر ولكن إنتابنى الشك بأن سعيد ماكان ينوى إعادتى إلى إندونيسيا مرة أخرى خاصة بعد أن إستقر العمل وإزدهر وتوطدت علاقتنا بشركة ألماس بشكل كبير وسرعان ماتأكدت ظنونى. ففى أحد الليالى وبينما كنت حائرا أفكر فيما أفعل فوجئت بالتليفون يرن فى منزلى بعد منتصف الليل بوقت طويل وكان التليفون من نظير وكان يبدو وكأنه يبكى وهو يرجونى فى تأجيل عودتى لحين تصفية حسابه مع سعيد والرحيل عن السعودية بأمان لإن سعيد كان يضمر له الشر وينوى الإستيلاء على نصيبه من أرباح المكتب وعلى رأس مال التأسيس وترحيله عن السعودية ووضعى على رأس العمل بدلا منه. وهنا كان على أن أتخذ القرار الخطير فى حياتى وهو أن أعود إلى السعودية وأترك راتنا وحيدة وأدمر فى نفس الوقت حياة نظير دون أن يكون هناك أى ضمان فى أن سعيد سوف لا يفعل معى مثل ماينوى فعله مع نظيرالآن بالضبط وذلك إذا ماوجد من هو أفضل منى ليحل محلى. كان سعيد نموذجا للغدر والشر الذى لم أرى مثله فى حياتى أبدا. أوأن أعتذر عن العودة بحجة زواجى المرتقب وأبقى لأجرب حظى فى إندونيسيا. لم يكن إخراج أصحاب شركة ألماس المصريين من هذه الدراما ممكنا فقد كان لابد من أخذ رأيهم فى هذا الأمر. عرضت عليهم قضيتى وقضية نظير فرحبوا ببقائى معهم إذا كنت أرغب فى ذلك ولكن بشروط إندونيسية بالطبع وليس بمميزات مندوب شركة سعودية فوافقت على الفور وبدون تفكير أو تروى وأخبرت الشيخ سعيد المصدوم إننى لاأستطيع العودة الآن لإننى على وشك الزواج. وإنهارت على أثر ذلك كل خطط سعيد الشريرة.
تصرف سعيد كما كنا نتوقع تماما فقد كان يعمل دائما بالمثل العربى القائل اليد التى لاتستطيع قطعها قبلها وكان هكذا فى كل تصرفاته فكان إذا إحتاج إلى أى شئ من أى إنسان تودد له وقربه وحدثه بحلو الحديث ورفع من شأنه وشأن أسرته وشأن بلاده حتى إذا ماإنتهت حاجته منه تجاهله تماما. كان تكوينة غريبة من الشر المتحرك على الأرض. وافق سعيد على بقائى فى إندونيسيا مندوبا لمكتبه حتى بدون تجديد إقامتى فى السعودية كما وافق على بقاء نظير فى إدارة المكتب وصفى معه الحساب المعلق بينهما وأعطاه كل حقوقه وأمنه ووعده بكل الوعود الطيبة. وكنا نعرف أنه يفعل ذلك وهو يضمر الشر ويخطط للضربة القادمة والتى لم تكن قد إتضحت بعد. لم ينسى لى نظير ذلك المعروف أبدا وظل يحمله لى فى قلبه سنوات عديدة حتى رده لى فى الوقت المناسب وأنقذنى عندما كانت حياتى على وشك الإنهيار فى إندونيسيا ولكن هذا حدث بعد عدة سنوات أخرى.
وفى حدود هذه الأيام، قبل نهاية سنة 1986، زرت مصر بالمصادفة ورأيت أبى للمرة الأخيرة قبل وفاته سنة 1993. كانت شركة ألماس قد حصلت على تذكرة ذهاب وعودة مجانية إلى مصر من أحد شركات الطيران المتعاملين معها، ولم يكن عبدالملك أو عبدالمنعم على إستعداد للإستفادة منها فى ذلك الوقت فقررعبدالملك تحويلها لإسمى ومنحى أجازة أسبوعاً لزيارة والدى مع تكليفى بمهمة غريبة. كانت المهمة هى دعوة الشيخ متولى الشعراوى لزيارة إندونيسيا مع خاله أنور جارالشيخ فى نفس البناية التى كان يعيش فيها فى حى السيدة زينب، والذى كان على وشك أن ينضم إلينا فى إندونيسيا بدوره. كان نجم الشيخ الشعراوى فى صعود كبير فى ذلك الوقت ، ليس فى مصر وحدها ، ولكن فى كل العالم العربى والإسلامى ،وكان عبدالملك وبعض أصدقائه من رجال الأعمال يريدون إستضافته والإحتفال به فى إندونيسيا ، فإنتهز فرصة نزولى إلى مصر وطلب منى زيارة خاله وطمئنته على أن تأشيرته للعمل فى إندونيسيا على وشك الصدور على أن أقوم معه بزيارة الشيخ الشعراوى وتوجيه الدعوة له لزيارة إندونيسيا بإسمه وبإسم أصدقائه الإندونيسيين. قضيت الأيام الأولى من الأجازة مع والدى وأصدقائى ، ثم سافرت إلى القاهرة لزيارة أنور خال عبدالملك بعد إتصال تليفونى معه. لفتت إجراءات الأمن الشديدة عند مدخل العمارة نظرى لكنى لم أستطع تفسيرها تماماً تصورت أن ذلك أمر طبيعى بالنسبة لداعية كبير كالشيخ الشعراوى، لم أكن أعرف بعد أن الشعراوى ليس مجرد داعية ولكن ركناً من أركان دولة مبارك كما كان ركناً من أركان دولة السادات قبله. صعدت إلى شقة أنور فى الدور الثالث وكان رجل لطيف فى بدايات العقد السادس من العمر يغلب عليه الطابع الشعبى وكان قد قدم إستقالة مبكرة من عمله الحكومى كى يعمل لدى إبن أخته عبدالملك فى إندونيسيا، وكان عبدالملك فى سبيل تجهيز تأشيرته بالفعل مع زوجته كوثر الذى كان قد تزوجها حديثاً بعد وفاة زوجته الأولى. تحدثنا بعض الوقت ثم نزل أنور إلى شقة الشيخ لأخذ الإذن بالزيارة وتقديم الدعوة ، كان الشيخ يعتقد أن حامل الدعوة إندونيسى ولذا فقد بدت عليه الدهشة وهو يستقبلنى بيده الممدودة لأقبلها ، وقد إكتشف أننى مصرى وليس إندونيسى، لكنى تداركت الموقف ، وصافحته بحرارة دون أن أقبل يده وقدمت نفسى على أننى مترجم ومدير العلاقات العامة لشركة ألماس وإننى هنا خصيصاً لتقديم الدعوة له لزيارة إندونيسيا نيابة عن صاحب الشركة وبعض رجال الأعمال الإندونيسيين ، ومعرفة شروط الزيارة فى حالة قبولها. لفتت كلماتى نظره وكان عنده أحد الصحفيين يجرى حواراً معه فإستئذن منه لدقائق وأخذ فى التركيز معى. قبل الدعوة مبدأيا لكنه وضع لها بعض الشروط الصعبة. ذكر أربعة أسماء بمثابة حاشية له لايمكن له أن يسافر بدونها إلى أى مكان ، منهم واحد إسمه الحاج أحمد أبوشقرة ، لاأعرف إذا كان هو صاحب المطعم الشهير أم لا، وباقى الأسماء نسيتها ، ثم حدد شرط آخر بأن الدعوة يجب أن تأتى عن طريق السفارة المصرية فى إندونيسيا. ولاأذكر باقى الشروط لكن هذه كانت أصعبها. شكرته على قبول الدعوة المبدأى وأخبرته أن الرد سوف يصله مع الأستاذ أنور وصافحته مرة أخرى وإنصرفت مع أنور الذى بدا غير راضى عما يحدث ، وبينما كان يودعنى بعد أن إجتزنا باب العمارة فاجئنى بقوله، شوف ياعبده حاأحملك رسالة وصلها لعبدالملك بطريقتك، إنتبهت بشدة وإذا به يقول- قل لعبدالملك ماتشغلش بالك بالرجل ده ، الراجل ده بتاع عيال ، ولسة من يومين الجيران عاملين له محضر فى القسم ، ولولا تدخل الدولة وتكتيمها على الموضوع كان فضيحة أمه كان زمانها بجلاجل. ذهلت من هذا الكلام وكأننى لاأصدقه ، ومن حسن حظى لم أكن مضطراً لإبلاغه لعبدالملك بطريقة أو بأخرى لإنه قد أهمل الموضوع عندما أخبرته بشروط الشيخ الصعبة. ومرت السنون وعدت إلى مصر أثناء سنوات ثورة يناير والتى فتحت جميع الملفات ، وأصبح الناس يتكلمون فى كل شئ بلا حرج ، ومنها قضية شذوذ الشعراوى وغرامه بالأطفال ، التى كان المرحوم أنور قد أخبرنى عنها قبل أكثر من عشرين عام.
رجعت إلى جاكرتا فى الموعد المحدد وسارت الأيام كما كانت تسير قبل سفرى وفى كل يوم كانت علاقتى تتوطد براتنا وكنت أقترب أكثر فأكثر من التفكير فى الإرتباط بها لكننى لم أستطع مقاومة إغراء مصاحبة عبدالمنعم فى سهراته مع أصدقائه السعوديين فى فنادقهم وملاهيهم الفاخرة. كانت راتنا تغضب لذلك لكنها ماكانت تستطيع منعى. وهكذا سارت حياتى بين العمل صباحا والسهر ليلا والخروج مع راتنا فى الأجازات الأسبوعية أيام السبت والأحد إذا لم يكن هناك ضيوف هامين.وفى تلك الأيام بدأت أفكر فى إستئناف دراستى للغة الإنجليزية مرة أخرى وذهبت بالفعل إلى المركز الثقافى البريطانى وسألت عن إمكانية مواصلة الدراسة هناك ولم يكن هناك مانع كما كان فى السعودية ولكن المانع هذه المرة قد جاء من جهة لم أتوقعها ابدا فقد جاء من عبدالملك وعبدالمنعم أصحاب شركة ألماس فقد رفضا الفكرة تماما وقالا لى لايمكن أن تترك العمل ساعات طويلة لإن جاكرتا مزدحمة والتنقل فيها صعب ونحن نحتاجك وقد اصبحنا نعتمد عليك كثيرا. والواقع أننى كنت قد اصبحت مدينا لهما ببقائى فى إندونيسيا ولذا فقد بدأت معاملتهما لى تتغير بعض الشئ وتدريجيا أخذا ينظران لى كأننى واحد من موظفيهم ولست مندوبا لشركة أجنبية فى الواقع. وهكذا تعطل حلم الحصول على شهادة الإجادة مرة أخرى ومع ذلك فقد واصلت حياتى السعيدة بشكل أو بآخر ولكن وكما يحدث فى الحياة فجأة نجد الرياح وقد جاءت بما لاتشتهى السفن. فبعد فترة قصيرة من رفضى للعودة إلى السعودية تعرض مكتب صهلاء القبائل لأزمة حادة مع وزارة العمل السعودية نتيجة لشكوى أحد العمال وصدر أمرا من الوزارة بإيقافه مؤقتا لحين الإنتهاء من التحقيق فى الشكوى التى قدمها ضدهم ذلك العامل وكان قريب أحد الموظفين فى سفارة باكستان فى السعودية وعندما وصل إلى السعودية للعمل بواسطة مكتب صهلاء القبائل وجد شروط العقد مخالفة لما إتفق عليه فى باكستان فذهب وبتأييد من قريبه موظف السفارة وتقدم بالشكوى إلى وزارة العمل فى الرياض وأبلغ عن المبالغ الباهظة التى دفعها مقابل الحصول على التأشيرة وفرصة العمل تلك ومخالفة ظروف العمل لما أتفق عليه فى العقد فتقرر إيقاف مكتب صهلاء القبائل عن العمل مؤقتا لحين الإنتهاء من التحقيقات. وأثناء ذلك سافر حسن النمكى فى أجازة إلى مصر ولم يعد كما سافر نظير إلى باكستان فى أجازة ولم يعد ولم يبقى سوى سعيد وصديقه المخلص محمد عبد السلام يقاتلان من أجل إستئناف المكتب لعمله وقد إستغرق ذلك فترة طويلة تقطعت خلالها الصلات مع شركة ألماس فى إندونيسيا ومعى وهكذا تركت وحيدا فى إندونيسيا تحت رحمة القدر ورحمة شركة ألماس وأصحابها عبدالملك عليون وعبدالمنعم عليون وأخذت حياتى منحى جديدا لم أكن أتوقعه ولم أكن حتى يمكن أن أتصوره فى خيالى.
بالطبع إنقطع راتبى من السعودية وأصبحت أعيش على الراتب الرمزى الذى تمنحه لى شركة ألماس. كان مازال لدى بعض المدخرات والتى بدأت فى إستخدامها لتعويض النقص الكبير فى دخلى الشهرى كما كان عقد إيجار الفيلا التى أسكنها بالقرب من شركة ألماس مازال سارى المفعول لعدة أشهر أخرى ولذا فلم أتصور حجم المأساة التى كنت على وشك أن أعيشها فى إندونيسيا. لكن الأيام مرت وإنتهى عقد إيجار الفيلا وكنت قد أنفقت معظم مدخراتى لكى أحافظ على نفس مستوى الحياة الذى إعتدت عليه منذ دخولى إندونيسيا والواقع أن الإسراف الشديد كان أحد أسوء عاداتى أو ربما كان حتى أكبر نقاط ضعفى والتى أثرت سلبا على مجرى حياتى كله. ولكن وعندما جاءت اللحظة الحاسمة وإنتهى عقد إيجار الفيلا وأصبح على دفع الإيجار الجديد لسنة أخرى فوجئ الجميع بأننى لاأملك المبلغ المطلوب. وأسقط فى يدى أصحاب شركة ألماس فقد كان عليهم إما أن يدفعوا الإيجار نيابة عنى على أساس أننى قد أصبحت من موظفيهم أو أن يتخلوا عنى ويقوموا بإعادتى لبلادى. وكما كان الإسراف أسؤ عاداتى فقد كان البخل أسؤ عادات عبدالملك عليون صاحب شركة ألماس وذلك برغم فضائله الكثيرة الأخرى. لكن البخل مفتاح كل الشرور كما يقولون. إهتدى عبدالملك إلى حل وسط وهو أن يضعنى أنا وصديقتى راتنا فى أحد الفيلل البعيدة التى يملكها ويستخدمها كسكن للخادمات أثناء تجهيزهن للسفر إلى السعودية وذلك على أن تتولى راتنا الإشراف على تدريب الخادمات هناك وأواصل أنا عملى فى الشركة كالعادة. وهكذا تقرر مصيرى الجديد وبدأت تبعات قرارى بعدم العودة إلى السعودية تتضح وتكشف عن جانبها المأساوى السلبى.
شهدت الأيام الأخيرة لى فى فيلا أمباسيت حفل زواجى بصديقتى راتنا فى يوم 6/2/1987م وتكفلت شركة ألماس بالحفل وحضره عبدالملك وعبدالمنعم وجميع موظفى الشركة كما حضر والد راتنا وبعض أقاربها من مدينة ناوى البعيدة وتولى الأستاذ شعرانى - خريج الأزهر - عقد القران وكان أحد المديرين بشركة ألماس ثم قمت أنا بعد ذلك بتسجيل الزواج بالسفارة المصرية بجاكرتا. وبعد ذلك بأيام قليلة إنتقلنا إلى مسكننا الجديد بحى أولو جامع البعيد الفقير المزدحم الواقع فى ضواحى العاصمة جاكرتا حيث بدأت أتعرف على الجانب الاخر من حياة إندونيسيا. الفقر والعنف والجريمة.
كانت فيلا أولو جامع فيلا كبيرة أكبر كثيرا من مسكنى السابق فى أمباسيت لكن الفرق بينها وبين مسكنى السابق كان كبيرا فلم يكن يعقل أن يسكن أجنبيا فى تلك الضواحى البعيدة الفقيرة المزدحمة والواقع أن بعدها كان أسوء مافيها فقد كانت المسافة بينها وبين موقع شركة ألماس فى قلب العاصمة جاكرتا تستغرق حوالى الساعتين بوسائل المواصلات العامة المزدحمة ولذا فقد اصبح لزاما على أن أقطع ساعتين فى الصباح عند الذهاب إلى العمل وساعتين فى المساء عند العودة إلى المنزل أى كان على أن اسافر أربعة ساعات يوميا ذهابا وإيابا ناهيك عن ساعات العمل المرهقة ومغامرات الطريق المحفوفة بالمخاطر فى تلك الأحياء الفقيرة العنيفة. وكنت فى كثير من الأحيان أضطر لخلع ساعتى ووضعها فى جيبى أثناء ركوب وسائل المواصلات العامة فى ذهابى أو عودتى خوفا من حوادث السطو الكثيرة التى كانت تحدث فى وسائل المواصلات العامة فى تلك الأحياء الفقيرة وكثيرا ماتعرضت إلى مضايقات الركاب الذى كان وجودى بينهم يثير فضول بعضهم فيسألنى من أى بلد أنا وماذا أفعل فى إندونيسيا. ومن حسن الحظ أنه كانت توجد فى منطقة أولو جامع وبالتحديد فى حوالى منتصف الشارع الذى أسكن به مدرسة إسلامية ثانوية نسيت إسمها الآن فإذا تطفل على أحد بالسؤال من أى بلد أنا وإلى أين أذهب كنت أجيب بأننى مدرس لغة عربية فى مدرسة أولو جامع الإسلامية وبذلك كنت أتخلص من فضولهم وأحصل على بعض الحماية والإحترام لنفسى من جمع الغوغاء الذى أجلس بينهم. ومع ذلك أتصور أن الفضول لم يفارق ركاب تلك الحافلات تجاهى أبدا كما أن بعض السائقين أصبحوا يعرفوننى شخصيا أثناء فترة حوالى العام التى قضيتها فى فيلا أولو جامع. كان مما يزيد الرحلة سوءً هو عدم وجود وسيلة مواصلات مباشرة إلى هناك فقد كان لابد أن أغير الحافلة لأكثر من مرة. من جاكرتا إلى ضاحية مزدحمة كأنها السوق نسيت إسمها الآن ومن هناك استقل حافلة أخرى إلى منطقة أولو جامع وعندما أصل إلى منطقة أولو جامع كان على أن أستقل حافلة صغيرة أخرى لتدخل بى إلى الشارع الضيق التى كانت تقع به الفيلا التى أسكن فيها مع خادمات شركة ألماس. ولازلت لاأعرف كيف كنت أذهب إلى هناك يوميا ولا كيف كنت أعود. كانت أيام شاقة صعبة شبه مستحيلة جلبها على قرارى بعدم العودة للعمل فى السعودية مرة أخرى وقد ظللت صامدا مع ذلك لكننى أصبحت ضحية لتناقض كبير بدأ يعذبنى ويقلق ضميرى فقد نسى عبدالملك وعبدالمنعم كل شئ عنى ولم يعدا يتعاملان معى كما كان الحال عندما كنت مندوبا لمكتب صهلاء القبائل كما لم يزيدا فى راتبى إلا قليلا وإعتمدا على إننى أتلقى إكراميات من الضيوف السعوديين وكان هذا فى الواقع مابدأت أعيش عليه لتغطية إحتياجاتى أنا وراتنا فلم يكن راتب شركة ألماس يكفينى أبدا وهكذا وجدت نفسى أهرب من عبودية السعوديين فى الشرق الأوسط لأٌقع فى عبوديتهم مرة أخرى فى الشرق الأقصى كما أننى فى كلا الحالتين كنت أعمل مورد عمال سواء كنت فى السعودية أو كنت فى إندونيسيا ومورد عمال إلى بلد لم أكن أنا نفسى مقتنعا بالحياة فيه فلماذا أرسل إليه غيرى؟ وهكذا بدأت حياتى تتحول إلى كابوس ومأساة كبيرة فى الواقع وقد زاد الأمور سوءً وصول أنور خال عبدالملك وعبدالمنعم من مصر للعمل معهم كأحد المديرين فى شركة ألماس وكان رجلا متوسط التعليم قد تجاوز الخمسين من عمره وعندما حضر إلى إندونيسيا ورأى الثراء الذى كان يعيش فيه أبناء أخته إختل توازنه وحاول إثبات ذاته بكل الطرق ليكسب رضى عبدالملك ويحصل لنفسه على نصيب فى إدارة الشركة وأخذ فى الضغط والتخبط يمينا يسارا حتى أرهق جميع من حوله من الموظفين بما فيهم أنا وذلك رغم الصداقة التى نشأت بيننا.
وفى هذه الأيام الصعبة حدثت الذكرى مع ذلك الشيخ الأزهرى الذى لم أراه أبداً ، ففى أحد الأيام أرسل لى عبدالملك سيدة إندونيسية جاءت من جزيرة بعيدة وطلب منى مساعدتها. لاأعرف كيف عرفت هذه السيدة أن أصحاب شركة ألماس من أم مصرية فجاءت إاليهم من جزيرتها البعيدة تطلب مساعدتهم فى البحث عن زوجها الأزهرى الغائب منذ سنوات طويلة.كانت مازلت شابة ، فقيرة مرهقة ، يبدو عليها الطيب والنبل مع ذلك. جعلتنى أفهم أنها لاتريد شئ من زوجها سوى التواصل معهم ، لإن إبنها قد كبر وأصبح دائم السؤال عن أبيه وأن هذا السؤال يزعجها ولاتعرف له إجابة. قدمت لى كل ماتعرفه عن زوجها الأزهرى الغائب، والذى تزوجها أثناء بعثته فى جزيرتها ثم رحل بعد إنتهاء البعثة ولم يتصل بعد ذلك. كان كل ماتعرفه هو عنوان مدرسته فى الصعيد إحتفظت به كل هذه السنوت الطويلة قدمته لى مع صورة لإبنها وهى ترجونى ان أساعدها. كتبت الخطاب على الآلة الكاتبة وقد غلبنى التأثر ، لم تكن الكتابة على الكمبيوتر قد إنتشرب بعد، وأرفقت به الصورة وطبعت العنوان على المظروف وتعهدت بإرساله ، لكنها فاجأتنى بطلب آخر غير متوقع فقد طلبت منى أى مبلغ يساعدها فى مصاريف العودة ، فلم يكن مامعها يكفى ، لكننى أنا نفسى كنت أعانى ضائقة مالية فى تلك اللحظة ، فإعتذرت آسفاً وقلبى يوخزنى، فإنصرفت وهى مازلت تبتسم، وقمت بإرسال الخطاب فعلاً ، لكن تلك الذكرى ظلت تحزننى كلما مرت ولازلت أسأل نفسى كلما عبرت ، كيف عادت تلك السيدة الطيبة إلى جزيرتها البعيدة ، وهل وصل خطابى فعلاً؟


كان هناك ذكرى أخرى فى تلك السنة الصعبة، كانت تجربة سريعة مع منظمة العمل الدولية ، ففى أحد الأيام دعانى عبدالملك إلى مكتبه لحضور لقاء له مع ممثل منظمة العمل الدولية فى جاكرتا، كان رجل أمريكى يدعى تيرنس كيلى وكان يرأس برنامج لتنمية الثروة البشرية كانت منظمة العمل الدولية تقوم بتنفيذه فى إندونيسيا.كان كيلى فى بداية مهمته وكان يزور شركات العمالة للتعرف على وجهات نظرها فى كيفية رفع مستوى العمالة وتدريبها وتوفير الحماية لها تبعاً لمعايير منظمة العمل الدولية حتى يصل إلى إستخلاص النتائج والتوصيات المطلوب رفعها للحكومة الإندونيسية ، وقد أبدى إهتماماً شديداً بحضورى اللقاء بعدما عرف إننى كنت أعمل فى السعودية قبل أن أستقر فى إندونيسيا ودعانى لزيارته فى مكتب الأمم المتحدة الواقع فى شارع تمرين لمزيد من الحوار، وقد رحب عبدالملك بالدعوة وشجعنى على قبولها حيث رأى فيها برستيج للشركة وهكذا بدأت علاقتى القصيرة بمستر كيلى والعاملين معه فى مكتب منظمة العمل الدولية فى جاكرتا. ذهبت فى الموعد المحدد وإستقبلنى كيلى ومعه زميلين آخرين أذكر أن واحداً منهم كان فلبينى والآخر نسيت جنسيته، وسألنى كيلى عن ظروف عمل العمال المهاجرين فى السعودية ، وماهى الطريقة المثلى لحمايتهم ، فشرحت له وجهة نظرى التى كنت قد كونتها فعلاً ، وهى أنهم يواجهون مشكلة على المستوى الإجتماعى والقانونى، وفسرت له ذلك بطبيعة العادات والتقاليد السعودية المغلقة من جهة وغياب الآليات القانونية لحمايتهم من جهة أخرى خاصة فى ظل قانون الكفالة المجحف، وأن الوسيلة الممثلى لحمايتهم هى منع التوظيف المباشر وقصره على مكاتب التوظيف مقابل أن تتعهد هذه المكاتب بالمسئولية عن متابعة حقوقهم ، وضرورة أن يكون هناك عقد عمل إندونيسى تصادق عليه السفارة الإندونيسية فى السعودية كشرط لإتمام عملية التوظيف بحيث تكون السفارة شريكاً فى عملية والتوظيف والمتابعة من البداية ، وقد راق له هذا الشرح وطلب منى أن أضعه فى نقاط على ورق لعله يتمكن من نشره بإسمى مع التقرير السنوى المعتاد للمنظمة عن أحوال العمالة المهاجرة. طرت فرحاً وتصورت أننى قد أصبحت فجأة عضواً من أعضاء منظمة العمل الدولية فى جاكرتا رغم أنه كان من الواضح ً أن كيلى يحاول الإستفادة منى ليس أكثر، ولكن وكما يقول المثل ، الغريق يتعلق بقشة. شاركتنى زوجتى راتنا السعادة دون أن تفهم كثيراً ماذا يحدث وكانت قد عرضت أن تعود إلى العمل للمساعدة فى هذه الظروف الصعبة لكنى كنت أرفض دائماً على أمل أن تتغير الظروف فى أى لحظة وهاهى قد تغيرت فعلاً. لاأعرف ماذا دار بخلدى بالتحديد ، أكنت سعيداً لإننى سوف أمسك بالقلم مرة أخرى وأكتب ، أم لمجرد إختلاطى بهذا الوسط الراقى بعيداً عن ذلك المستنقع الذى لم أعد أعرف كيف أخرج منه ، أم إننى قد تصورت فعلاً أنهم سوف يمنحونى وظيفة معهم ، بشكل أو بآخر، ربما كانت هذه الأفكار مجتمعة تدور بخلدى دون أن أستطيع التمييز بينها ، لكن المهم، أننى أصبحت فجأة فى غاية السعادة فعلاً. وبدأت المهمة وبدأت أطرح تصوراتى على الورق فى نقاط بعد أن كتبت لها مقدمة طويلة عن طبيعة المجتمع السعودى المغلق شديد التحفظ. كنت فى حالة شديدة من الإنسجام وأنا أراجع ماكتبت كل مساء فى أوراق كنت أحملها معى عند عودتى إلى المنزل ، وراتنا تراقبنى وتشاركنى سعادتى دون أن تفهم تاماً ماذا يحدث فلم يكن هناك شئ قد تغير فى الواقع فعلاً. إنتهيت من كتابة كل أفكارى وطبعتها على الآلة الكاتبة وإتصلت بكيلى وحددت معه موعد للقاء وذهبت إاليه فى مكتبه وسلمته الأوراق. تأمل كيلى الأوراق وقرأها قراءة سريعة وأبدى إستحسانه لما بها من أفكار لكنه طلب منى منحه بعض الوقت لدراستها والتعليق حتى يمكن إتخاذ قراره بنشرها من عدمه. وعشت على نار فى إنتظار مكالمته التى أتت أخيراً ومعها مفاجأة أخرى، إذا طلب منى الحضور للتعرف على باحث أمريكى شاب من أصل مصرى يعمل معهم إسمه يحيى الجمال للمساعدة فى صياغة الأوراق صياغة علمية حتى ترتقى إلى المستوى المطلوب لأوراق منظمة العمل الدولية وكان هذا يعنى ضمناً أنه قد قبلها ، ومرة أخرى طرت فرحاً وسط ذهول راتنا التى لم تعد تفهم ماذا يحدث فعلاً.
ذهبت للقاء يحيى الجمال ، الذى بدا متحفظاً تجاه إندفاعى وكأننى قد إخترعت الذرة، لكنه إستقبلنى بشكل حسن ودعانى لزيارته فى فيلاه بمجمع الدبلوماسيين الأجانب فى العطلة الأسبوعية لمناقشة هذه الأفكار وإعادة صياغتها نظراً لضيق الوقت فى المكتب. ومرة أخرى طرت فرحاً، فمن مكتب الأمم المتحدة إلى مساكن الدبلوماسيين ، شئ لايصدق. عرفنى يحيى بزوجته الأمريكية التى تكبره سناً ، وأخبرنى أنها هى التى ستعمل على إعادة صياغة الأوراق نظراً لضيق وقته وإهتمامها الشديد بموضوع حماية العمال المهاجرين فى نفس الوقت ، وأنها ستعرض على ماكتبت لإبداء الرأى ، فإذا إتفقنا على الصياغة النهائية فإن هذه الأوراق سوف تنشر فى تقرير منظمة العمل الدولية لهذا العام بإسمى وإسمها معاً. ومرة أخر طرت فرحاً ، لم أكن أعرف أنهم يدبرون لى مؤامرة.
إنتظرت على نار مرة أخرى، وبعد حوالى أسبوع أو عشرة أيام إتصل بى يحيى وأخبرنى بأن الأوراق جاهزة للمراجعة وإعتذر بعدم إمكانية مقابلتى نظراً لإنشغاله فى إجتماع وأن الأوراق سوف تكون جاهزة بمكتبه يمكننى أن أحضر لإستلامها فى أى ساعات من ساعات اليوم ، وعلى الفور طرت إلى هناك ،وإستلمت الأوراق من سكرتيرته ، كانت حوالى خمسة عشر ورقة بالإنجليزية ، مازلت أحتفظ بها فى مكتبى بإندونيسيا حتى اليوم ،ومعها رسالة مختصرة من يحيى كتبها بالعربية على أوراق مكتبه الرسمية يرجونى فيها سرعة التعليق على الصياغة حتى تأخذ فرصتها بالنشر نظراً لضيق الوقت. كان ذلك حوالى شهر أكتوبر سنة 1987 وكانت المنظمة تنشر تقاريرها السنوية فى نهاية كل عام تقريباً.أخذت الأوراق معى إلى المنزل وأخذت فى قرائتها وسط دهشتى الشديدة ، فلم تكن تشبه تلك التى كتبت إلا فى الإقتراحات الأخيرة أما المقدمة فكانت عبارة عن سباب فى السعودية والسعوديين وأذكر من العبارات التى إستوقفتنى بشدة تلك العبارة التى قالت فيها زوجة يحيى أن جزءً كبيراً من مشكلة السعوديين أنهم يعانون من عقدة النقص وأن ذلك مايدفعهم فى العادة إلى ظلم الآخرين، وهنا فقط فارقتنى نشوة الأمم المتحدة ، وأدركت خطورة ماأفعل ، فنشر مثل هذه الأوراق قد يتسبب فى طردى من إندونيسيا ، وكما تذل الحاجة أعناق الرجال ، أذلت الحاجة عنقى ، وإتصلت بيحيى ، وإعتذرت عن نشر الأوراق.

كان سفرى إلى إندونيسيا مجرد مصادفة ، لم يكن لها أى تخطيط ولاحسابات ، ولاحتى فى الخيال ، لقد إعتدنا أهل الشرق الأوسط أن نهاجر غرباً ، دون أن نعرف عن الشرق شيئاً ، على الأقل فى هذا الزمن الذى أحكى عنه الآن ، منتصف الثمانينات. كانت السنتان اللتان قضيتهما فى العمل بمكتب الإستقدام فى الرياض هى الأكثر إرهاقاً فى حياتى ، فما بين مآسى العمال وتعسف الكفلاء وإنغلاق الحياة فى الرياض ، كانت معنوياتى قد إنهارت تماماً ، وكنت أحصى الأيام حتى ينتهى عقد السنتين وأعود إلى مصر ، وأبدأ من الصفر من جديد ، بفرض أن الكفيل كان سيسمح بالعودة ، ولكن وقبل نهاية عقدى بأشهر قليلة حدث تطور لم يكن فى الحسبان ، لقد قرر سعيد ونظير إيفادى إلى أندونيسيا كمندوب دائم للمكتب هناك. كانت الثمانينات فترة سيطرة المال السعودى على العالم ، كانت فترة إستقدام جميع جنسيات العالم للعمل هناك ، ومن هذه الجنسيات كانت الجنسية الإندونيسية، وخدم المنازل بشكل خاص ، والتى أصبحت كبيضة الذهب بالنسبة لمكاتب الإستقدام ، فلم يكن أى بيت سعودى يخلو من خادمة إندونيسية وأثنين وثلاث ، وهكذا وفى زحمة منافسة مكاتب الإستقدام على هذه البيضة الذهبية ، قررر سعيد ونظير إيفادى إلى إندونيسيا ، لإختيار وتسهيل إرسال العمالة من هناك، وهكذا شاءت الأقدار، أن يكون لى فى هذه البلاد الطيبة البعيدة ، أسرة ووطناً.
فى إندونيسيا كان هناك كثير من الذكريات ، منهم ذكرى تجربة سريعة مع منظمة العمل الدولية ، تجربة قصيرة لكنها ذات مغزى، فقد حملت معها لعنة الخوف من كفيل عصر النفط ، التى علقت بمصائرنا وأرواحنا ، حنى لو تركنا له العالم وهربنا . ففى أحد الأيام دعانى عبدالملك ، صاحب شركة ألماس ، وكيلنا فى إندونيسيا ، إلى مكتبه لحضور لقاء مع ممثل منظمة العمل الدولية فى جاكرتا، كان رجلاً أمريكياً يدعى تيرنس كيلى ، وكان يرأس برنامج لتنمية الثروة البشرية كانت منظمة العمل الدولية تقوم بتنفيذه فى إندونيسيا. كان كيلى فى بداية مهمته وكان يزور شركات العمالة للتعرف على وجهات نظرها فى كيفية رفع مستوى العمالة وتدريبها وتوفير الحماية لها تبعاً لمعايير منظمة العمل الدولية ، حتى يصل إلى إستخلاص النتائج والتوصيات المطلوب رفعها للحكومة الإندونيسية، وقد أبدى إهتماماً بحضورى اللقاء بعدما عرف إننى كنت أعمل فى السعودية قبل أن أستقر فى إندونيسيا ، ودعانى لزيارته فى مكتب الأمم المتحدة الواقع فى شارع تمرين لمزيد من الحوار، وقد رحب عبدالملك بالدعوة وشجعنى على قبولها حيث رأى فيها مكسباً للشركة ، وهكذا بدأت علاقتى القصيرة بمستر كيلى والعاملين معه فى مكتب منظمة العمل الدولية فى جاكرتا.
ذهبت فى الموعد المحدد وإستقبلنى كيلى ومعه زميلين آخرين أذكر أن أحدهما كان فلبينياً ، والآخر نسيت جنسيته، وسألنى كيلى عن ظروف العمال المهاجرين فى السعودية، وماهى الطريقة المثلى لحمايتهم فى رأيى ، فشرحت له وجهة نظرى التى كنت قد كونتها فعلاً ، وهى أنهم يواجهون مشكلة على المستوى الإجتماعى والمستوى القانونى، وفسرت له ذلك بطبيعة العادات والتقاليد السعودية العنصرية المغلقة من جهة، وغياب الآليات القانونية لحمايتهم من جهة أخرى، خاصة فى ظل قانون الكفالة المجحف، وأن الوسيلة المثلى لحمايتهم هى منع التوظيف المباشر وقصره على مكاتب التوظيف مقابل أن تتعهد هذه المكاتب بالمسئولية عن متابعة حقوقهم ، وضرورة أن يكون هناك عقد عمل إندونيسى مصدقاً من السفارة الإندونيسية فى السعودية، كشرط لإتمام عملية التوظيف، بحيث تكون السفارة شريكاً فى عملية والتوظيف والمتابعة من البداية، وقد راق له هذا الشرح وطلب منى أن أضعه فى نقاط على ورق لعله يتمكن من نشره بإسمى مع التقرير السنوى المعتاد للمنظمة عن أحوال العمالة المهاجرة. طرت فرحاً وتصورت أننى قد أصبحت فجأة عضواً من أعضاء منظمة العمل الدولية فى جاكرتا، رغم أنه كان من الواضح أن كيلى كان يحاول الإستفادة منى ليس أكثر، ولكن وكما يقول المثل ، الغريق يتعلق بقشة. شاركتنى زوجتى راتنا السعادة دون أن تفهم كثيراً ماذا يحدث. لاأعرف ماذا دار بخلدى بالتحديد ، أكنت سعيداً لإننى سوف أمسك بالقلم مرة أخرى وأكتب ، أم لمجرد إختلاطى بهذا الوسط الراقى بعيداً عن ذلك المستنقع الذى لم أعد أعرف كيف أخرج منه ، أم إننى قد تصورت فعلاً أنهم سوف يمنحونى وظيفة معهم ، ربما كانت كل هذه الأفكار مجتمعة قد دارت بخلدى دون أن أستطيع التمييز بينها ، لكن المهم، أننى قد أصبحت فجأة فى غاية السعادة ، بعد أن كانت آلام الغربة البعيدة قد بدأت تتسلل إلى نفسى ، وبدأت المهمة وبدأت أطرح تصوراتى على الورق فى نقاط بعد أن كتبت لها مقدمة طويلة عن طبيعة المجتمع السعودى العنصرى المغلق ، شديد الإرتياب من الأجانب ، كما رأيته فى ذلك الزمن ، كنت فى حالة شديدة من الإنسجام وأنا أراجع ماكتبت كل مساء فى أوراق كنت أحملها معى عند عودتى إلى المنزل ، وزوجتى تراقبنى وتشاركنى سعادتى دون أن تفهم تماماً ماذا يحدث فلم يكن هناك شئ قد تغير حولنا فى الواقع . إنتهيت من كتابة كل أفكارى وطبعتها على الآلة الكاتبة وإتصلت بكيلى وحددت معه موعد للقاء وذهبت إليه فى مكتبه وسلمته الأوراق، تأمل كيلى الأوراق وقرأها قراءة سريعة وأبدى إستحسانه لما بها من أفكار، لكنه طلب منى مهلة بعض الوقت لدراستها حتى يمكنه إتخاذ قرار بنشرها من عدمه. وعشت على نار فى إنتظار مكالمته التى أتت أخيراً ومعها مفاجأة أخرى، إذ طلب منى الحضور للتعرف على باحث أمريكى شاب من أصل مصرى يعمل معهم إسمه يحيى الجمال ، للمساعدة فى صياغة الأوراق صياغة علمية حتى ترتقى إلى المستوى المطلوب لأوراق منظمة العمل الدولية ، وكان هذا يعنى ضمناً أنه قد قبلها ، ومرة أخرى طرت فرحاً وسط ذهول زوجتى راتنا التى لم تعد تفهم ماذا يحدث فعلاً.
ذهبت للقاء يحيى الجمال ، الذى بدا متحفظاً تجاه إندفاعى وكأننى قد إخترعت الذرة، لكنه إستقبلنى بشكل حسن ودعانى لزيارته فى فيلاه بمجمع الدبلوماسيين الأجانب فى العطلة الأسبوعية ، لمناقشة هذه الأفكار وإعادة صياغتها نظراً لضيق الوقت فى المكتب. ومرة أخرى طرت فرحاً، فمن مكتب الأمم المتحدة إلى مساكن الدبلوماسيين الأجانب ، شئ لايصدق. عرفنى يحيى بزوجته الأمريكية ، وأخبرنى أنها هى التى ستعمل على إعادة صياغة الأوراق نظراً لضيق وقته ، وإهتمامها الشديد بموضوع حماية العمال المهاجرين أيضاً ، وأنها ستعرض على ماكتبت لإبداء الرأى ، فإذا إتفقنا على الصياغة النهائية فإن هذه الأوراق سوف تنشر فى تقرير منظمة العمل الدولية لهذا العام بإسمى وإسمها معاً. ومرة أخرى طرت فرحاً ، لم أكن أعرف أنهم يدبرون لى مؤامرة.
إنتظرت على نار مرة أخرى، وبعد حوالى أسبوع أو عشرة أيام إتصل بى يحيى وأخبرنى بأن الأوراق جاهزة للمراجعة ، وإعتذر بعدم إمكانية مقابلتى نظراً لإنشغاله فى إجتماع وأن الأوراق سوف تكون جاهزة بمكتبه يمكننى أن أحضر لإستلامها فى أى ساعة من ساعات اليوم ، وعلى الفور طرت إلى هناك ،وإستلمت الأوراق من سكرتيرته ، كانت حوالى خمسة عشر ورقة بالإنجليزية ، مازلت أحتفظ بها فى مكتبى بإندونيسيا حتى اليوم ، ومعها رسالة مختصرة من يحيى كتبها بالعربية على أوراق مكتبه الرسمية يرجونى فيها سرعة التعليق على الصياغة حتى تأخذ فرصتها فى النشر نظراً لضيق الوقت. كان ذلك حوالى شهر أكتوبر سنة 1987 وكانت المنظمة تنشر تقاريرها السنوية فى نهاية كل عام تقريباً. أخذت الأوراق معى إلى المنزل وأخذت فى قرائتها وسط دهشتى الشديدة، فلم تكن تشبه تلك التى كتبت إلا فى الإقتراحات الأخيرة فقط ، أما المقدمة ، فقد تحولت صياغتى المتحفظة عن المجتمع السعودى إلى سباب صريح فى السعودية والسعوديين ، وهنا فقط فارقتنى نشوة الأمم المتحدة ، وأدركت خطورة ماأفعل ، إن نشر أوراق كهذه ، كفيل بطردى من إندونيسيا ، وكما تذل الحاجة أعناق الرجال ، أذلت الحاجة عنقى ، وإتصلت فوراُ بيحيى وأخبرته برفضى للصياغة ، وعدم رغبتى فى المشاركة مرة أخرى.

ولكن وفى ظل ذلك التخبط وتلك العتمة كان القدر يدخر لى مفاجأة حقيقية فعلاً .فبعد إنتهاء مغامرة منظمة العمل الدولية تلك وصل بعض الضيوف السعوديين قادمين من جدة يحملون معهم مشروع فى غاية الأهمية. كان الضيوف هم الشيخ عبدالعزيز طيبة وكيل شركة ألماس فى جدة والأستاذ جابى سوريكاتى مدير شركة السليمان السعودية للتأمين. وكان المشروع هومشروع للتأمين على حياة العمال والخدم الإندونيسيين العاملين بالسعودية. وظهر فى الأفق رجل إندونيسى متقدم العمر يدعى منصور سنكالا كان ضابط بحرية سابق وعضو برلمان سابق وكان على صلة وثيقة بسودومو وزير العمل الإندونيسى فى نظام سوهارتو الذى كان يحكم إندونيسيا فى ذلك الوقت بطريقة تتشابه تماما مع طريقة حكم حسنى مبارك وأسرته لمصر فى سنواته الأخيرة. ولاأعرف كيف تعرف عليه عبدالملك ومن كان منهما صاحب فكرة التأمين على العمال الإندونيسيين ولاكيف شكلوا ذلك الفريق من عبدالعزيز طيبة مورد العمال وشركة السليمان للتأمين وشركة ألماس للعمالة ومنصور سنكالا الضابط والبرلمانى السابق لكن كل ذلك حدث أمامى فجأة وفجأة وجدت نفسى أنا أيضا وكأننى أحلم طرفا أساسيا فى هذا المشروع فقد عيننى عبدالعزيز طيبة وبعد أن أرسلنى فى مهمة عمل سريعة إلى بنجلاديش لإختيار بعض العمال وتحصيل مبلغ من المال كان مستحقا له هناك، مندوبا له فى إندونيسيا لإختيار عماله ولمتابعة مشروع التأمين مع منصور سنكالا فى نفس الوقت وكان من حسن حظى أن هذا التعيين قد نال رضى جابى سوريكاتى مدير شركة التأمين كما نال رضى منصور سنكالا نفسه الذى كان يحب التحدث إلى كثيرا باللغة الإنجليزية ولم يكن لدى شركة ألماس أى إعتراض على هذا التعيين حتى ذلك الوقت فحضرت معهم الإجتماع الأول مع الوزير سودومو لعرض المشروع بصفتى أحد أعضاء الفريق السعودى الزائر ونجحت المقابلة ورضى الجميع عن أدائى أثناء المقابلة وهكذا وفجأة أصبح لى عملا جديدا ودخلا إضافيا فقد أعطانى عبد العزيز طيبة قبل مغادرته مبلغا من المال ووعد بإرسال حوالى أربعمائة دولار لى شهريا كمصروفات بمعدل مائة دولار أسبوعيا على أن يزيد هذا المبلغ ويتحول إلى راتب ثابت بعد إقرار مشروع التأمين من قبل الحكومة الإندونيسية وإفتتاح مكتب لشركة التأمين السعودية فى وزارة العمل فى جاكرتا. وهكذا تغيرت حياتى فى لمح البصر واصبح بإمكانى الإنتقال من منفى أولو جامع البعيد إلى مسكن صغير فى حى يدعى كاريت متفرع من شارع جاتوت سوبروتو أحد أكبر شوارع جاكرتا بالقرب من مبنى وزارة العمل الإندونيسية مقر عملى المحتمل الجديد وبالقرب من فندق شهير فى ذلك الزمن إسمه فندق كارتيكا شاندرا ،والتى أصبحت السينما وصالة البولنج الملحقين به ملاذ أجازاتنا الأسبوعية، أنا وراتنا. وهكذا بدأت فى هذه الغربة الموحشة البعيدة حياة جديدة ملؤها الأمل والتفاؤل ولم يكن التغير المادى الذى طرأ على حياتى هو مصدر سعادتى الوحيد فقد كان التغير المعنوى أهم فأخيرا قد تحررت أو أصبحت على وشك أن أتحرر من مهنة مورد عمال التى كانت تسومنى العذاب إلى مهنة جديدة أخرى هى مهنة التأمين عليهم. وما أعظم الفرق بين المهنتين؟.
بدأت رحلة عمل جديدة وشيئا فشيئا أصبحت منهمكا فى مشروع التأمين مع منصور سنكالا ومصاحبتى له شبه الدائمة فى جولاته على المسئولين الإندونيسيين لشرح وترويج المشروع وأصبحت أتغيب كثيرا عن عملى فى شركة ألماس وكنت فى غاية السعادة بهذا العمل الجديد وهذه الحياة الجديدة لكن أصحاب شركة ألماس عبدالملك وعبدالمنعم وخالهما أنور لم يبدو أنهم كانوا سعداء بمسلكى الجديد هذا فقد إعتبروه نكرانا منى لجميلهم وإهمالا لعمل شركتهم من أجل مشروع مازال فى علم الغيب. كان عندهم مايكفيهم وكانت عمولتهم المتوقعة من المشروع مجرد إضافة إلى الكثير الذى كانوا يملكونه بالفعل فلم يستطيعوا إدراك شدة معاناتى فى تلك الغربة الموحشة الفقيرة حيث كانوا يعيشون جميعا فى سلام ورخاء بينما كنت أعانى أنا الفقر والغربة والحرمان وكان نجاح ذلك المشروع هو طوق النجاة الوحيد الذى ألقاه إلى القدر والذى كان على أن أتمسك به بكل قوة هذا فضلا عن أن الدخل الذى أصبحت أعيش منه فى الواقع كان هو المبلغ الذى كان عبدالعزيز طيبة يرسله إلى من السعودية وليس الراتب البسيط الذى كان يمنحانه إلى ولذا فقد كان من الطبيعى أن أركز كل جهدى مع منصور سنكالا فى عملنا الجديد. لم يتفهموا أى شئ من هذا وهكذا بدأت بيننا رحلة خصام بطيئة لم تنتهى حتى رحيلى عن إندونيسيا.
مضت أشهر قليلة شهرين أو ثلاثة ونحن فى تواصل شبه يومى مع المسئولين الإندونيسيين ومع عبدالعزيز طيبة وشركة التأمين فى جدة كان كل شئ قد إتفق عليه فى الرحلة الأولى مع الوزير سودومو ولم يبق إلا أن تنجز شركة التأمين بوليصة التأمين التى إتفق على بنودها ألأساسية والتى كان على الوزير أن يفرضها على شركات العمالة فرضا كشرط من شروط مغادرتهم للسعودية وحتى بعد أن أقيل سودومو من منصبه وتولى وزير جديد يدعى كوزموس باتوبارا تمكن منصور سنكالا من الوصول إليه والإتفاق معه على نفس الشروط التى كان قد إتفق فيها مع الوزير سودومو من قبل ، عمولة للوزير عن كل عامل مؤمن عليه قبل مغادرته بدفع حوالى عشرة دولارات إلى مكتب شركة التأمين فى جاكرتا مقابل التمتع بفوائد بوليصة التأمين التى كانت تؤمن على العمال فى حالات الوفاة وإصابة العمل وحتى فى بعض حالات العلاج الحرجة. كان إتفاقا نموذجيا للجميع وأخذنا ننتظر عودة الفريق السعودى ومعه البوليصة الموعودة. وأخير عاد عبدالعزيز طيبة وجابى سوريكاتى ومعهما بوليصة التأمين صادرة من أحد أكبر شركات التأمين فى العالم وهى شركة لويدز وكان يوما مشهودا لن أنساه ماعشت إلتقينا مع الوزير الجديد الذى رحب كل الترحيب ببنود البوليصة وأبدى كامل إستعداده لفرضها فرضا على شركات العمالة كشرط لمغادرة العمال إلى السعودية وإتفق على تحديد يوم قريب لإقامة حفل كبير فى أحد فنادق جاكرتا تدعى إليه جميع شركات العمالة وأعضاء السفارة السعودية والصحافة وكل المعنيين بالأمر لحضور توقيع الوزير على الإتفاق مع الأستاذ جابى سوريكاتى المدير التنفيذى لشركة التأمين. كان حفلا كبيرا ألقى فيه عبدالملك عليون صاحب شركة ألماس كلمة بصفته صاحب هذه الفكرة ثم تكلم الأستاذ جابى سوريكاتى عن مزايا البوليصة وختم الوزير الحديث مرحبا بالمشروع وتم توقيع الإتفاق مع شركة التأمين أمام عدسات المصورين وتم تقديمنا فى نهاية الحفل أنا ومنصور سنكالا وفتاة إندونيسية وسط تصفيق حاد من الجمهور على أننا موظفى شركة التأمين فى جاكرتا المنوط بهم جمع أقساط التأمين من شركات العمالة وإصدار كروت التأمين ، منصور بصفته مديرا وأنا مساعدا له والفتاة الإندونيسية بصفة سكرتيرة . كأن كل شئ يبدوكحلم حلم لم أكن أريد أن أفيق منه أبدا. فجأة اصبحت إنسان له وجود ومعنى وعمل وأسرة بعد أن كنت تائها شريدا فى بلاد بعيدة لاأعرف كيف جئت إليها أصلاً.
منحتنا وزارة العمل مكتبا فسيحا مجهزا وأخذنا نداوم به يوميا فى إنتظار موافقة وزارة العمل السعودية على المشروع ولكن طال الوقت وخيم سكون رهيب على حياتنا ولم يعد هناك أى أخبار من جدة كما لزمت شركة ألماس الصمت ولم تعد تعطينا أى أخبار. مضى وقت طويل على هذا النحو حتى أصبحنا على وشك الإنهيار وأخيرا تكلم عبدالملك عليون وقال لنا أن وزارة العمل السعودية رفضت المشروع بحجة أن التأمين على الحياة مخالف للشريعة الإسلامية. كان وقع الصدمة على صاعقا ولاأعرف كيف تحملته وكذلك كان الحال بالنسبة لمنصور الذى كان قد عقد كل آمال شيخوخته على هذا المشروع أما شركة ألماس فقد أخذت الموقف ببساطة شديدة غير متوقعة فقد كان لديها عملها المربح المستمر فى تصدير العمال إلى السعودية ولم يكن فشل هذا المشروع يعنى الكثير بالنسبة لها. أما بالنسبة إلى فقد كان يعنى كل شئ وكان فشله مأساة عظيمة لاأعرف كيف تجاوزتها وأخذنا فى تلك الليلة نبكى بقلب محترق أنا وزوجتى راتنا على تلك الفرصة العظيمة التى بخلت بها السعودية علينا. وهكذا وقعت تحت رحمة شركة ألماس مرة أخرى بعد أن أوقف عبدالعزيز طيبة المبلغ الذى كان يرسله إلى أسبوعيا وعدت فقيرا مرةأخرى ولم نعد أنا وراتنا نستطيع حتى خروج يومى الأجازة الأسبوعية السبت والأحد وأصبحنا نلزم منزلنا الصغير معظم الليل والنهار ونعيش على حد الكفاف بل وأكثر من ذلك فى حالة من الإذلال مع شركة ألماس الذين كانوا يشعرون أننى قد تخليت عنهم تماما ونسيت جميلهم وأنهمكت بكليتى فى مشروع التأمين على حساب مصالحهم فى تصدير العمالة. وأخذت أفكر جديا فى العودة إلى مصر أنا وزوجتى الحامل . مفلسا مهزوما بعد كل تلك السنوات التى قضيتها بعيدا عن مصر. كان البقاء يعنى الموت البطئ وكان الرحيل إلى مصر فاشلا بعد كل تلك السنوات يعنى أيضا موتا بطيئا هناك لكن لم يكن أمامى خيار إزاء معاملة شركة ألماس السيئة سوى أن أرحل وهكذا قررت الرحيل وأخذت فى إعداد جواز سفر لزوجتى على أن نعود لمصر بعد أن تضع مولودها. وتحملت الأيام الباقية بنفس منكسرة وقلب حزين .
جاءت إبنتى ديفى إلى الدنيا فى العشرين من ديسمبر عام 1988م فى مدينة مديون بأندونيسيا فى منزل عمة راتنا حيث عاشت راتنا معظم طفولتها وكانت زوجتى وعمتها هم من أطلقوا عليها إسمها المكون من ثلاثة مقاطع حسب العادة الإندونيسية فأسموها(رزقى ديفى موناليزا) لكنها إشتهرت بعد ذلك بإسم ديفى فقط حتى حوله أصدقائها بعد ذلك فى المرحلة الثانوية إلى إسم منى إختصاراً لكلمة موناليزا وهوالإسم الذى ظلت تشتهر به دائماً. ورغم تخوفى من المستقبل بعد أن أصبح لى زوجة وإبنة وأصبح على مسئولية لم أكن أعرف أين ولا كيف أتحملها فقد أثبتت ديفى أنها حقا كانت إسما على مسمى فقد كانت رزقا بكل ماتعنى الكلمة فبعد أشهر قليلة فقط من ولادتها فأجأنى القدر بهدية من أعظم الهدايا التى حصلت عليها فى حياتى.
ففى صباح أحد الأيام وصلت إلى شركة ألماس مبكرا على غير العادة قبل وصول باقى الموظفين كان الوقت حوالى السابعة والنصف صباحا وكانت العادة أننا نصل فى حدود الثامنة صباحا لكننى فى هذا الصباح وعلى غير العادة وصلت مبكرا وصعدت مباشرة إلى غرفة التلك ، وأخذت أمارس عملى فى ترتيبها وترجمتها ترجمة موجزة لتقديمها إلى عبد المنعم بعد حضوره لقرائتها والتوقيع عليها كالعادة وإذا بى وأنا أرتب هذه التلكسات - لم يكن الإيميل قد عُرف بعد فى هذه الأيام كما كان الفاكس أيضا إختراعا حديثا - أفاجأ بتلكس من مديرى القديم فى السعودية مستر نظير خان موجه إلى شركة ألماس يسألهم فيه إذا ماكانوا يعرفون أين أنا؟ كان التلكس صادرا من دولة الإمارات العربية المتحدة وكان نظير قد وصل إلى هناك من باكستان بنية تأسيس مكتب لتوريد العمالة فى أبوظبى عاصمة دولة الإمارات. ورغم طول تلك السنوات الثلاث التى إفترقنا فيها ولم يسمع فيها عنى ولم أسمع عنه فإنه لم ينسانى ولم ينسى اليوم الذى أنقذته فيه من غدر سعيد عندما إتخذت قرارى بعدم العودة إلى السعودية. وفى اللحظة المناسبة الحاسمة فى حياتى رد نظير إلى الجميل.
أخذت نسخة من التلكس ووضعتها فى جيبى - كان التلكس من ثلاث نسخ فى العادة - وأنا لاأصدق نفسى ثم رتبت التلكسات كما جرت العادة ووضعت عليها ملاحظاتى وقدمتها إلى عبدالمنعم بمجرد أن دخل إلى مكتبه ثم تركته ورجعت إلى غرفة التلكس. كنت أتوقع منه أن ينادينى ليخبرنى أن نظير يسأل عنى لكن شئ من ذلك لم يحدث. مرت الدقائق وأنا أنتظر إستدعائه لكنه لم يستدعينى فعدت إلى غرفة مكتبه فوجدته قد إنتهى من قراءة التلكسات والتوقيع عليها وأعادها داخل الملف. أخذت الملف وعدت به إلى غرفة التلكس وأخذت أتصفحه فوجدته وقع على كل التلكسات التى وصلت فيما عدا التلكس الصادر من نظير تركه كما هو كأنه لم يراه. فحمدت الله أننى أخذت نسخة منه وأعدت الملف إلى مكانه على الرفوف ولم أفتح معه هذا الموضوع. ولست أعلم حتى اليوم - وقد توفى عبدالمنعم منذ سنوات قليلة - أكان قد فعل ذلك عن عمد ليبيقنى مستعبدا عندهم أم أنه لم يرى التلكس فعلا. لكن الله وحده يعلم.
عدت إلى منزلى فى المساء فرحا سعيدا وأنا أحمل هذه الأنباء إلى زوجتى راتنا التى طارت فرحا وأخذنا نحمدالله معا حتى أغرورقت عينانا بالدموع وخرجنا معا مساءً إلى سنترال كبير يقع فى وسط العاصمة جاكرتا وقمت بإرسال رد التلكس إلى نظير وأخبرته بأننى مازلت أعمل فى شركة ألماس ولإننى لم أكن أملك تليفونا خاصا - لم تكن الموبايلات قد إخترعت بعد- فقد أعطيته تليفون الجيران وفى مساء نفس اليوم إتصل بى نظير ليخبرنى أنه يريدنى للعمل معه فى مكتب العمالة الجديد الذى كان على وشك أن يفتتحه فى أبوظبى. قبلت عرضه فرحا دون شروط وفى صباح اليوم التالى أخبرت عبدالملك وعبدالمنعم المندهشين بإتصال نظير بى ورغبته فى توظيفى للعمل لديه فى مكتبه الجديد بدولة الإمارات العربية المتحدة. ورغم الدهشة البادية على وجوهما فقد نظرا إلى بعضهما البعض وأبديا عدم ممانعتهما فى ذلك. لم يكن يستطيعان منعى بالطبع اللهم بعرض أفضل من عرض نظير ولم يكن لديهم مثل هذا العرض وحتى لو كان لديهم لما قبلته. لم ينسانى الله فى تلك الغربة البعيدة الموحشة وكان ذلك مما لم أنساه أنا أيضا فقد عملت بعد ذلك فى دولة الإمارت وأحببتها وأحبتنى وخدمت مئات العمال وتحملت معهم آلامهم ومشاكلهم وقدمت لهم كل مايمكن أن يقدمه الإنسان لأخيه الإنسان من خير وتعاطف.
تغيرت معاملة شركة ألماس معى مرة أخرى. كان عبدالملك رجل أعمال بفطرته وكان معجبا بنظير وأسلوبه فى العمل والإدارة ولذا فقد رأى فى وجودى بمكتب نظير الجديد فى أبوظبى فرصة لفتح مجال جديد لتصدير العمالة الإندونيسية إذ لم تكن دولة الإمارات قد تعرفت بعد على العمالة الإندونيسية وكان عبدالمنعم يتبع كل مايقوله أو يفعله عبدالملك كأنه نصوص كتاب مقدس دون مناقشة أو تفكير فتحسنت معاملته لى هو أيضا أما خالهما أنور والذى تحسنت علاقتى بى أيضا وعدنا اصدقاء مرة أخرى فقد شاءت الأقدار أن يتوفى فجأه بالسكتة القلبية قبل مغادرتى بحوالى الشهر. كان مصابا بإرتفاع ضغط الدم وكانت الحياة فى جاكرتا قد أصابته بشئ من الدوار فقد طمح إلى المال وأراد أن يجنى أقصى مايستطيع من تلك الفرصة ورغم أنه كان قد أحضر زوجته معه فقد عشق النساء الإندونيسيات وأرهق نفسه معهن حتى كانت نهايته فى أحد ألأيام بالسكتة القلبية فى منزله بدون شكوى أو سابق إنذار.كان حادثا مأساويا خيم على الأيام الأخيرة لى فى إندونيسيا فإستعجلت نظير فى الرحيل. لم تكن رخصة مكتب التمنى للخدمات التى كان نظير على وشك إستخراجها وإستئجارها من صاحبها عبدالله عبدالرحيم القبيسى قد خرجت بعد من وزارة العمل وذلك حتى يتسنى له عمل إقامة دائمة لى عليها ولذلك فقد فكر نظير وبناء على إلحاحى فى الرحيل فى عمل تأشيرة زيارة لى إلى الإمارات أولا على أن أبقى هناك بعد الوقت ثم يرسلنى إلى العراق فى مهمة تسويقية لتوريد عمال من مكتبه فى باكستان إلى العراق الذى كان قد خرج شبه منتصرا بعد حربه مع إيران سنة 1989م. وهكذا غادرت إندونيسيا متوجها إلى دولة الإمارات فى يونيو عام 1989م لأبدأ مرحلة جديدة من حياتى. وبعد رحيلى رحلت زوجتى راتنا مع طفلتنا ديفى للإقامة مع عمتها فى مدينة مديون حتى أدبر أمورى فى الإمارات أولا. كان فراقا صعبا لكن راتنا كانت قد أصبحت تعرفنى وتثق بى وتعرف أننى لايمكن أن أتخلى عنهما مهما بعدت بيننا المسافات.
--------------


مذكرة / قصة زيارة الشيخ الشعراوى فى منزله بحى السيدة زينب لدعوته لزيارة إندونيسيا بطلب عبدالملك عليون صاحب شركة ألماس للعمالة ، ورواية المرحوم أنور خال عبدالملك عن سمعة الشعراوى السيئة بين الجيران ، مفاجئة من العيار الثقيل ، أصحاب الفضيلة الشواذ ،،،






























-










9- سنوات الإمارات

تكرر نفس التصور الخاطئ مرة أخرى، فعندما سافرت من السعودية إلى إندونيسيا كنت أتصور إننى فى طريقى إلى بلد إسلامى فقير متخلف الثقافة كباكستان أو بنجلاديش مثلا فإذا بى أجد نفسى فى بلد ساحر يسير بخطى ثابته على طريق المدنية والتحضر ومرة أخرى عندما كنت مستقلا الطائرة فى طريقى إلى أبوظبى بعد إستدعاء نظير لى كنت أتصور إننى فى طريقى إلى سعودية صغيرة أخرى فإذا بى أجد نفسى فى بلد ساحر رائع الجمال يسر بدوره بخطى ثابتة على طريق المدنية والتحضر .
أرسل نظير تذكرة سفرى على شركة طيران لاأتذكرها الآن وأرسل لى مبلغ من المال لأتركه لأسرتى قبل المغادرة وحتى بعد وصولى أرسل مبلغا آخر. لقد قدم لى الكثير فى هذه اللحظات العصيبة من حياتى مما لايمكن أن أنساه ماحييت. وقد تعلمت من هذه التجربة أن الخير الذى تقوم به فى الحياة لايمكن أن يضيع سدى، لإنه سوف يرد لك يوما ما ومن حيث لاتدرى وعندما تكون فى أشد الحاجة إليه.
نشأت بينى وبين أبوظبى قصة حب من أول نظرة. كم كانت جميلة أبوظبى كما رأيتها أول مرة وكما ظللت أراها حتى آخر لحظة غادرتها فيها. حسناء فى مقتبل العمر بشاطئها الهادئ وخضارها الصناعى البديع الممتد على طول شوارعها الطويلة المتقاطعة فى تصميم عصرى رائع. كل شئ يوحى بالدفء والحنان والترحاب والأمان. شعرت كأننى قد عدت أخيرا إلى وطنى أو أننى قد وجدت لنفسى وطنا جديدا. كنت فرحا سعيدا وأخذت استعيد تواصلى مع الحياة مرة أخرى بعد أن فقدت التواصل معها طوال السنوات التى قضيتها فى السعودية وإندونيسيا. إتصلت بوالدى فى مصرعلى تليفون الحاجة صفية لأخبره إننى قد حللت أخيرا فى أبوظبى وإتصلت بأصدقائى الباقين منهم فى مصر أوالعاملين منهم بدول الخليج مثلى لأخبرهم بأننى قد حللت أخيرا فى ابوظبى . كنت أريد أن أخبر العالم كله بأننى قد حللت أخيرا فى أبوظبى ولسوء الحظ فلم يكن لدىزوجتى تليفون فى منزل عمتها فى مدينة مديون بإندونيسيا لأتصل بها لأطمئنها عن أخبارى. لم يكن هناك موبايل ولا إيميل بعد. كانت الخطابات وحتى بداية التسعينيات مازلت هى وسيلة التواصل الأساسية بين الناس وقد مثل لى ذلك مأساة كبرى عندما سافرت من أبوظبى إلى العراق بعد ذلك ولكن ربما يكون هذا الحديث سابق لأوانه الآن.
قضيت أياما قليلة فى أبوظبى شعرت خلالها وكأننى رحت فى نوم عميق بعد العودة من تلك الغربة السحيقة. كان نظير يقيم فى منزل قديم فى حى يسمى الخالدية بأبوظبى. وكان مكتب عبدالله القبيسى صاحب ترخيص مؤسسة التمنى التى إستأجرها نظير يقع فى حى يسمى النادى السياحى. فكنا نذهب لمقابلته يوميا لمتابعة أخبار إنتهاء إجراءات الترخيص. كان عبدالله القبيسى عاشقا لمصر والمصريين وكان عندما إلتقيته لأول مرة فى حوالى الثلاثين من عمره طويل ممتلئ يميل إلى البياض ذو لحية خليجية وكان له بناية يملكها فى منطقة النادى السياحى بها مكتب خاص به يديره شاب مصرى إسمه ممدوح كان يعمل تحت إدارة عبدالله أيضا فى بلدية أبوظبى التى كان يحتل فيها عبدالله منصباً هاماً. أخذت أتعرف على كل شئ حولى تدريجيا. دُهش عبدالله عندما رآنى لأول مرة مع نظير وسألنى عن قصتى وماالذى دفع بى إلى هذه الغربة البعيدة فى إندونيسيا. كان عبدالله يعرف كثيرا عن المصريين ويتكلم اللهجةالمصريةبشكل جيد وكان يعرف أن المصريين لايهاجرون إلى آسيا أبدا، فلماذا وكيف هاجرت أنا إلى هناك؟ حكيت له قصتى بإختصار ولاأعرف إذا كان قد إقتنع بها تماما أم لا لإننى أعتقد أنه قد ظل ينظر إلى بعين الدهشة طوال السنوات الطويلة التى أقمت فيها فى أبوظبى وكأننى مصريا يختلف عن كل المصريين الذين عرفهم؟ وفى تلك الأيام الأولى القليلة الجميلة التى قضيتها فى أبوظبى وقع لى حادث عرضى بسيط جعلنى أكره ركوب المصاعد فيما تبقى من حياتى. ففى أحد الأيام وبعد رجوعنا من مكتب عبدالله القبيسى عرج نظير على منزل قديم لزيارة أحد أصدقائه الباكستانيين المقيمين فى منطقة النادى السياحى. كانت البناية قديمة شبه مهجورة وكان بها مصعد قديم وكان باب المصعد مفتوحا على مصراعيه كعلامة لسكان البناية أن المصعد عطلان. لكنا لم ندرك ذلك فركبنا المصعد أنا ونظير وشخص ثالث تصادف وجوده معنا أيضا. ودسنا الأزرار وصعد بنا المصعد للدور الثانى أو الثالث ولكننا عندما حاولنا الخروج لم ينفتح باب المصعد فدسنا زرار النزول إلى الدور الأرضى مرة أخرى فنزل بنا المصعد بالفعل ولكنا عندما حاولنا فتح الباب فلم ينفتح أيضا .كانت البناية قديمة شبه مهجورة وكأنه لايقيم بها أحد أبدا فإستولى علينا الرعب وأخذنا نصرخ ونصيح أن يخرجنا أحد ولكن بلا فائدة. تمالكت أعصابى وبحثت عن مخرج بينما أخذ نظير ورفيقنا الثالث يتصببان عرقا. رأيت زرار الإنذار فدست عليه فأحدث ضجيجا كبيرا ملأ البناية كلها فأعاد إلينا الأمل بأن أحد سوف يسمعنا ويأتى لإنقاذنا لكن أحد لم يأت. فكرت فى وسيلة أخرى للخروج . نظرت إلى السقف وطلبت من رفيقنا أن يساعدنى فى الوصول إليه لعلنى استطيع فتحه فرفعنى رفيقنا على يديه المرتعشتين وأخذت أضرب السقف بكل قوة ولكن بلا فائدة فلم يتحرك شئ. إستبد بنا التعب واليأس والخوف وكان الظلام مخيما على البناية وتصورنا أننا على وشك أن نموت إختناقا فى هذا المكان. ولكن وبعد حوالى مرور الساعة ومع ضرباتى اليائسة برجلى على الباب المغلق وأنا أنادى بما تبقى لدىمن صوت ضعيف مرهق هلب هلب أى المساعدة باللغة الإنجليزية فؤجئنا برجل باكستانى من سكان البناية القديمة يفتح لنا الباب ليخرجنا إلى نور الحياة والحرية مرة أخرى. أثرت تلك الساعة الكئيبة على معنوياتى وجعلتنى أكره ركوب المصاعد القديمة إلى الأبد، لكنها لم تؤثر أبدا على حبى وعشقى وإستمتاعى بأبوظبى. قضيت أياما أخرى بأبوظبى حتى أعد نظير كل شئ ، تذكرة السفر ومبلغ من المال يكفينى لحوالى الشهرين والتعليمات وأوراق مكتبه فى أبوظبى كما رتب حتى أمر حجز الفندق الذى سأنزل به ببغداد فإتصل برجل مصرى يدعى بأبى وليد كان يعمل مديرا لفندق إسمه فندق أسوان كان يقع بشارع السعدون ببغداد وكان نظير قد تعرف عليه أثناء زيارته لبغداد قبل وصوله إلى الإمارات وأخبره بوصولى المرتقب وحجز لى غرفة وفى اليوم التالى سافرت إلى بغداد.
كان ذلك فى حوالى شهر يوليو سنة 1989م وكان المصريون ومواطنى الدول العربية بشكل عام يدخلون العراق بدون تأشيرة دخول تبعا لسياسات حزب البعث العراقى العروبية التى كان يقودها صدام حسين القائد الذى كان قد خرج لتوه منتصرا من حربه الطويلة مع إيران. لم تمنحنى بغداد إنطباعا قاطعا كمافعلت أبوظبى لم أحبها ولم أكرهها كما أننى لم أفهمها تماما فقط بدت لى مدينة قديمة لكنها برغم ذلك تبدو مترفة متخومة بالتخمة النفطية كسائر بلاد الخليج. إستقليت تاكسيا وذهبت إلى فندق أسوان كان أبو وليد فى إنتظارى وكنت أحمل له هدية من نظير. نزلت بالفندق وفى اليوم التالى أخذت أرتب نفسى للمرور على الشركات وترك خطاب بالعربية وكتيب دعاية عن شركة نظير لتوريد لعمالة الباكستانية. كان النظام العراقى آنذاك يفرق فى التعامل فى كل شئ بين العربى والأجنبى ولذا فعندما حولت مبلغ الدولارات التى حملتها معى من أبوظبى إلى دينارات عراقية أصبح إيجار الفندق رمزيا جدا وأصبح المبلغ الذى أملكه ثروة كبيرة بالمقياس العراقى ولذا فعندما تعرفت على سائق تاكسى مصرى إسمه محمود بالمصادفة فى الأيام الأولى وجدته ينظر لطريقة إنفاقى بإندهاش بل كان مجرد نزولى فى فندق مدعاة كبيرة لدهشته. أصبح محمود سائقى الخاص لفترة بقائى فى العراق كلها فكان يأتينى كل صباح حيث نتوجه لزيارة أحد الشركات أو أحد السفارات للسؤال عن عناوين شركات بلادها العاملة فى العراق ثم يعيدنى إلى الفندق ويعود هو إلى حيث يسكن مع رفاقه المصريين ثم يعود إلى فى المساء مرة أخرى لنقضى السهرة. كنا نخرج إلى شارع السعدون وشارع آخر إسمه أبو نواس يقع على نهر الدجلة حيث المطاعم التى تشوى اسماك النهر بالطريقة العراقية. كان العراقيون يقضون معظم سهراتهم فى المطاعم يأكلون السمان ويشربون البيرة كما كانوا يفعلون نفس الشئ أيضا على نهر الدجلة مع أسماك النهر المشوية. كانت سهرات الطعام وحفلات الزواج فى الفنادق هى اللمحة المميزة لمدينة بغداد فى شوارعها الكبرى لإننى لم أرى أحيائها الفقيرة إلا نادرا مع رفيقى محمود. كان محمود ينظر إلى كأحد كبار رجال الأعمال الذين يعيشون فى السماء ثم يهبطون فجأة عليهم فى الأرض. كان المبلغ الذى أمنحه له يوميا يبدو ضخما جدا بالمقياس العراقى ولايمكن أن أتذكر كم كان هذا المبلغ. كان محمود يشير إلى دائما بإسم سعادة البك صاحب الشركات ولم يكن يعلم إننى مجرد موظف عند مورد عمال باكستانى ولم يكن على إستعداد لإن يدرك ذلك بأى حال. كانت أعداد المصريين ضخمة جدا فى العراق فى ذلك الوقت وكانوا قد ملئوا الفراغ الكبير الذى نتج عن رحيل كثير من الشباب العراقى إلى الحرب مع إيران والذين لقى الكثير منهم حتفه فيها وأذكر إننى قد مررت يوما بالمصادفة مع محمود على منطقة مقابر وجدنا على كثير من شواهدها الحجرية كلمة شهيد. وفى ذلك الوقت كانت مشكلة كراهية المصريين ومحاولة طردهم بالقوة من قبل المواطنين العراقيين قد بدأت فى الظهور. كان المصريون قد تزوجوا من كثير من نسائهم أو صادقوهم على الأقل أثناء سنوات الحرب وبدأ العراقيون المحبوسون المحبطون ينظرون إليهم على أنهم إستعمار جديد أحاط ببلادهم فأخذنا نسمع عن حوادث قتل للمصريين يوميا هنا وهناك وسمعت كثيرا من العراقيين ينصحون المصريين بالمغادرة قبل أن تتفاقم الأمور ولازلت أذكر واحدة منهم وكانت سيدة عراقية جميلة خفيفة الظل تعمل فى أحد شركات السفريات وكانت تنصح كل مصرى يأتى إليها للحجزبسرعة السفر وأحسب أنها كانت مخلصة فى نصيحتها. كانت السيدة العراقية الوحيدة التى أعطتنى إنطباعا بالجمال ولاأعرف لماذا لم يصلنى ذلك الإنطباع عن المرأة العراقية بشكل عام رغم أننى قد رأيت كثيرا منهم جميلات بالفعل ولكنى أعتقد أن اللهجة العراقية المختلفة كثيرا عن اللهجة المصرية قد وقفت حائلا دون ذلك أو ربما كانت طبيعة الذوق المصرى ذاته أنه يقف عند حدود الشام ولايستطيع تخطيه بعد ذلك وذلك منذ زمن سحيق . وحتى عندما عشت فى الإمارات بعد ذلك ورغم جمال المرأة الإماراتية فإننى لم أستطع أن أشعر به فقط كنت أدرك الجمال المصرى والجمال الشامى فى كل شئ وليس فى النساء فقط. أعتقد أن ذلك كان جراء عقدة مصرية تاريخية قديمة لم يحن الوقت لحلها بعد.
كان الوقت شديد الحرارة فى بغداد فى ذلك الوقت - شهرى يوليو وأغسطس سنة 1989م- وقد زاد ذلك من صعوبة التجربة المتخومة بالزيارات ووجبات الطعام فى شوارع بغداد الكبيرة. أذكر أنه كان هناك كثير من دور السينما فى شارع السعدون كانت كلها تعرض الأفلام المصرية التى كان يعشقها عامة المصريون والعراقيون على السواء. كانت تبدو شبه شعبية وقد ترددت عليها لمرات قليلة لكنى لم أحبها. كانت وسائل التسرية قليلة فى بغداد بشكل عام. وقد زرت المتحف العراقى ورأيت كثير من الآثار البديعة ومنها اللوح المنقوش عليه قوانين حمورابى الشهيرة كما زرت مناطق الآثار فى بابل لكنها لم تكن على هذا القدر من الجمال كما توحى شهرتها التاريخية وكانت فى معظمها عبارة عن أثار مرممة. وقد زرت المشاهد الدينية المقدسة فى النجف وكربلاء ورأيت الشيعة فى ملابسهم السوداء وصلواتهم بقطعة حجارة على الأرض تلامس جباههم عندما يسجدون ورأيت المدن التى تشبه المدن المملوكية القديمة ورأيث المشاهد الفاخرة وآلاف الناس يحتشدون حولها كأنها الكعبة فى مكة أو كأنها مقابر أولياء الله الصالحين فى مصر أثناء مواسم الموالد فلم أشعر سوى بمزيد من الغربة والإكتئاب وإستعجال اليوم الذى أهرب فيه من هذا العالم الشقى المتخلف إلى أبوظبى العصرية مرة أخرى . وقد قمت - ومعى محمود - بزيارات لشركات البترول الواقعة فى شمال العراق فى محافظة صلاح الدين وأربيل وكركوك حيث الطبيعة أكثر برودة وجمالا لكنى لاأتذكر إننى شعرت بالسعادة أبدا فى العراق خلال هذين الشهرين. كان رفيقى محمود أكثر سعادة منى، كان مبتهجا بالحياة الجديدة التى فتحت له فى العراق بوجوده معى ، آثار وسفارات وشركات بترول . كل ذلك بدا له جديدا مبهرا لكنه كان بالنسبة إلى مجرد روتين باعثا على الضيق. لاأذكر أننى إستطعت تكوين صداقة واحدة مع أى إنسان عراقى بإستثناء الأستاذ سامى مدير التوظيف فى إحدى شركات المقاولات العراقية الكبرى والذى كان نظير قد تعرف عليه قبلى. كان يأتى لمقابلتى فى فندق الشيراتون حيث كنا نتناول عشائنا على أنغام أغنية إشتهرت كثيرا فى العراق فى ذلك الوقت وهى أغنية (عبرت البحر على موجك) للمطرب العراقى الصاعد آنذاك كاظم الساهر. وكنا نتوقع من الأستاذ سامى أن يمنحنا أمر توريد عمال من باكستان فى أى لحظة لكنه كان يعدنا دائما دون أن ينفذ. وكان يتوقع أن يمنحه نظير شئ من المال قبل أن يعطيه أمر التوريد. لكن نظير كان قاطعا فى تعاملاته. أمر توريد العمال أولا ثم دفع العمولة بعد ذلك. كانت كل اللقاءات مع الأستاذ سامى مجرد مضيعة للوقت فلم نجنى منه شئ كما لم يجنى هو منا أى شئ بإستثناء عزومات العشاء فى الشيراتون. وكانت رحلة العراق كلها مضيعة للوقت فلم نستطع أن نجنى منها أى شئ ولا حتى الحصول على أمر توريد عمال واحد ولم يستطع نظيرأن يلومنى لإنه هو نفسه قد جاء قبلى وفشل فى الحصول على أى شئ.
كانت العراق مملوكة لرجل واحد إسمه صدام حسين ففى أى شارع تكون فيه توقع أن ترتبك الأمور فجأة لإن سيادة الرئيس فى الطريق يجرى مئات المصريون والعراقيون وراء موكبه يهتفون بحياته. وفى أى لحظة تدير فيها التليفزيون توقع أن ترى صورة الرئيس هو يتحرك هنا وهناك أو يتكلم هنا وهناك بملابسه العسكرية الخضراء ومسدسه على جانبه الأيمن. كان حزب البعث العراقى يسيطر على كل شئ فى العراق وكان المسئولون البعثيون فى ملابسهم العسكرية الخضراء آلهة حينما حلوا وأذكر أنه حتى الأستاذ سامى الموظف المدنى كان يرتدى هذه الملابس العسكرية الخضراء. كانت العراق ضحية كبيرة لهذا النظام المستبد ضيق الأفق. وبرغم ثروتها الضخمة وذكاء عقول أهلها فقد بدت لى العراق بلدا فقيراً جدا فى الواقع.
كانت العراق تتبع نظاما شبه إشتراكى وكانت تلك المرة ألأولى التى أدخل فيها فى صدام شخصى كبير مع هذا النظام - وذلك رغم يساريتى أنا نفسى - فعندما أردت تحويل مبلغاً من المال لزوجتى فى إندونيسيا وجدت أن ذلك ممنوع. لاأعرف كيف ولا لماذا لكنه كان ممنوعا وممنوعا بشدة أن تحول عملة الأجنبية إلى خارج البلاد. لم تكن هناك بنوك خاصة. كانت البنوك كلها حكومية. وكانت تلك البنوك تمنع تحويل العملة الأجنبية أو التعامل فيها بأى شكل من الأشكال. تحولت تلك الأيام إلى مأساة بالنسبة إلى فقد تعذر تحويل أى مبالغ إلى زوجتى كما كانت وسائل الإتصالات شبه معدومة فى ذلك الزمن وخاصة فى العراق الذى كان لايملك سوى جهاز فاكس كبير يضعه فى متنتصف صالة البريد العمومى فى بغداد وقد كتبت عليه عبارة(الرسائل الإليكترونية) وكأنه إختراع نووى. لم يكن لدى زوجتى فاكس ولاتليفون ولم يكن هناك سوى الخطابات التى كانت تستغرق وقتا طويلا وكنت أعرف وأشعر تماما وفى كل لحظة أن زوجتى وإبنتى فى حاجة إلى المال فلم يكن أهلهما من الأغنياء ولم يكن من الممكن لهما أن يعتنوا بهما كما أفعل أنا. وأخيرا لجأت إلى صديقى حمدى فى الكويت وطلبت منه تحويل شيك بمبلغ ثلاثمائة دولار إلى زوجتى فى إندونيسيا وأعطيته الإسم والعنوان فقام بتنفيذ ذلك مشكورا وهكذا أصبح حمدى هو الواسطة بينى وبين زوجتى حتى حان موعد رحيلى عن بغداد. وأخيرا تنفست الصعداء وإستدعانى نظير للعودة إلى أبوظبى بعد أن إنتهت إجراءات ترخيص مؤسسة التمنى وإنتهت إجراءات إستخراج تأشيرة عمل لى على المؤسسة بوظيفة مترجم. وحان موعد الرحيل. كنت فرحا مبتهجا كأننى أخرج من السجن بعكس رفيقى محمود الذى بدا حزينا منكسرا لفراقى. وقد ظل محمود يراسلنى لفترة طويلة بعد ذلك إلى أن تقطعت بنا الصلات كما يحدث عادة فى الحياة.
عدت إلى أبوظبى فى حدود أوائل سبتمبر 1989م وكان نظير فى إنتظارى فى المطار متفائلا كعادته فى نجاح مشروعنا الجديد كما نجح مشروعنا قبل ذلك فى الرياض. كان المال والنجاح الإقتصادى هو كل مايعنى نظير فى الحياة. لم يكن يشرب الخمر ولايعشق النساء. كان رجلا متدينا . كثير القراءة للجرائد الباكستانية والإنجليزية. يعشق العمل ويعبد المال.
كان المكتب الجديد يقع فى بناية قديمة على الشارع الرئيسى لحى الخالدية بشارع زايد الأول بالقرب من المنزل الذى كنا نسكن فيه لكنا سرعان ماإنتقلنا منه إلى مكتب آخر قريب يقع فى الدور الأرضى لبناية حديثة كانت تسمى ببرج الخالدية فى ذلك الوقت. وفى ذلك المكان قضيت أجمل سنوات إقامتى فى دولة الإمارات . كان نظير كعادته قد رتب كل شئ وقد تعرف على أبوظبى بسرعة شديدة وسرعان مابدأنا العمل. وظف نظير سيدة سورية تسمى فاتن للعمل كسكرتيرة للمكتب كما أرسل فى إستدعاء شابا من أقاربه يسمى ممتاز لتدريبه على عمل تسويق العمالة الباكستانية. كان ممتاز رمزا للغباء بكل ماتعنى الكلمة وقد أحاطه نظير بعنايته وعمل على إلحاقه بدورات تعليم لغة إنجليزية لتحسين لغته وكعادته عندما يريد شيئا فإنه كان يضحى فى سبيل ذلك بأى شئ. لكنى عرفت بعد ذلك بسنوات أن ممتاز لم يكن رمزا للغباء فقط فقد كان أيضا رمزا للجحود فقد تعلم ممتاز هذه المهنة وبقى فى أبوظبى بعد رحيل نظير وأسس لنفسه مكتبا خاصا وإنفصل عن نظير وأصبح من الأغنياء ، بل وسمعت منه أيضا أن نظير قد أصبح مدينا له بمبلغ كبير من المال .
وهكذا بدأ فريقنا الرباعى العمل نظير وأنا وممتاز وفاتن وقد ضم إلينا نظير أيضا شابا باكستانيا إسمه عزيز شاه وذلك لمراجعة الدوائر الحكومية وإستقبال العمال من المطار. كان شاه نموذجا غريبا من الناس. كان يشبه الممثل الراحل الضيف أحمد وكان يعيش فى الإمارات منذ زمن طويل ليس لديه أى اسرة ولاأى نية للعودة إلى باكستان وكان كل هدفه فى الحياة هو أن يعيش فى دولة الإمارات إلى الأبد. كان يقيم على كفالة أسرة إماراتية ولاأعرف كيف تعرف عليه نظير. ومن نوادره التى لاأنساها أنه ذات مرة قد أحضر خادمة سيلانية من مطار أبوظبى فى ساعة متأخرة بعد منتصف الليل وعندما وصلا إلى المكتب أدخلها شاه إلى الغرفة المخصصة لنوم الخدم ولإنه لم يكن يعرف اللغة السيلانية ولاكانت الخادمة تعرف اللغة العربية فقد أخذ شاه يشرح لها بيديه وحركات جسمه كيف يمكن لها أن تقضى الليلة فى المكتب وحيدة حتى يأتى الموظفون فى الصباح كما أشار إليها بمكان دورة المياه فى حالة إذا ماإحتاجت إليها وأخذ على هذا النحو يحاول أن يكون طيبا معها لكن الخادمة وقد إستبد بها التعب والإحساس بالخوف تصورت أنه كان يريد الإعتداء عليها فأخذت تبكى وتصرخ بصوت مرتفع فإستبد بشاه الرعب وهرب وترك المكتب وذلك حتى جئنا فى الصباح ومعنا السكرتيرة فاتن فوجدنا الخادمة مازلت تجلس فى ركن الغرفة ترتعد وتبكى لكنها عندما رأت فاتن إطمئنت وهدأت وعندما جاء عزيز شاه شرح لنا ماحدث بالأمس فإستولى علينا جميعا ضحك هستيرى وعندما سمعتنا الخادمة نضحك ورأت عزيز شاه فهمت ماحدث وأخذت بدورها تضحك معنا. كان هناك شخص سادس لاأعرف كيف تعرف عليه نظيرأيضا وضمه إلينا. كان رجلا مصريا إسمه أبوالفتوح كان يعمل فى وزارة العمل فى أبوظيى ، وقد جعله نظير جاسوسا له فى الوزارة مقابل راتب شهرى أو رشوة شهرية. كانت مهمة أبوالفتوح هى أن يعطى لنظير أول بأول أحدث الأخبار عن الشركات التى تتقدم للوزارة بطلب توظيف عمالة من الخارج حتى يسرع نظير بزيارتها وعرض خدماته عليها قبل أن يسبقه الآخرون.ولاأعرف لماذا كان بداخلى يقين من أن أبو الفتوح كان عميلا مزدوجا وأن الأخبار التى كان يعطيها لنا كان يعطيها أيضا للمكاتب الأخرى. كان مناخ توظيف وجلب العمالة كله قذرا كما كان الحال فى السعودية تماما. ولازلت لاأفهم حتى اليوم لماذا كان رجلا طيبا مثل نظير يجد سعادته فى مثل ذلك العمل القذر. كان نظير قد كون ثروة من هذا العمل. وقد عمل فى أول الأمركمساعد مهندس فى السعودية. ثم إنتقل إلى عمل التوظيف وشارك سعيد فى الرياض ثم رحل عن السعودية وإفتتح له شركة خاصة فى باكستان ثم حضر إلى أبوظبى وأسس مؤسسة التمنى لجلب وتوظيف العمالة بنفس الروح الدؤوبة المثابرة على جمع المال بهذا الطريق.
لم تكن أبوظبى مثل الرياض بالطبع فقد كانت مدينة صغيرة بها كثير من كل شئ ولذا فقد كانت فرصة الحصول على نصيب لك فى السوق ضعيفة جدا. كان عليك أن تنتظروتصبر طويلا حتى تأخذ لك مكانا. ورويدا رويدا بدأ العملاء يتوافدون على مكتبنا وبدأ نظير يحصل على بعض طلبات توريد العمالة من باكستان وأيضا من دول أخرى كالهند وبنجلاديش والتى كان يجنى منها أرباحا كبيرة أيضا عن طريق شراء وبيع التأشيرات. كنت أنا شريكا له فى كل شئ. كان يعطينى راتبا شهريا يكفى نفقاتى الشخصية وكان باقى الإتفاق أن أأخذ عمولة عن كل عاملة أو عامل يقوم المكتب بتوظيفها. كان نظير يريد أن يمنحنى الدافع للإنهماك فى العمل فقد كان يعلم منذ البداية أننى أكره هذا العمل. لكن الأمر كان مختلفا هذه المرة فقد كان قد أصبح لى أسرة فى إندونيسيا كما كان والدى وحيدا فى مصر وكان على أن أعيل كلاهما كما أننى لم أكن محبطا كارها لوجودى فى أبوظبى كما كنت فى السعودية فقد أحببت المدينة وأحببت الحياة فيها ولذا فقد بدأت أعمل بكل طاقتى مع نظير وبدأنا نتقدم بخطوات بطيئة ولكن ثابتة وطرأت لى فكرة محاولة جلب عمالة من إندونيسيا وذلك بهدف إشراك زوجتى معى فى العمل وتقريب المسافة بيننا وعرضت الفكرة على نظير وكعادته فى أى أفكار إيجابية تتعلق بالعمل تحمس للفكرة ووافق عليها وقمنا بإرسال مبلغ من المال لها من حساب المكتب للإنتقال إلى جاكرتا مرة أخرى والعمل كمندوبة لمكتبنا هناك كما قمنا بوضع إعلان فى الجرائد عن جلب عمالة من إندونيسيا وبدأ الناس يستفسرون بالفعل. وهكذا بدأت الحياة تفتح أبوابها أمامى مرة أخرى ولكن كالعادة تأتى الرياح بما لاتشتهى السفن ففجأة قام العراق بغزو الكويت فى أغسطس سنة 1990م وفجأة تعطل كل شئ وتوقفت معظم حركة الطيران وإمتنعت معظم الدول المصدرة للعمالة عن إرسال عمالتها إلى الخليج بل أنها بدأت فى إخلاء الموجودين منهم هناك. وخيم ظلام كثيف على كل شئ وتعطلت مسيرة حياتى مرة أخرى. كان من حسن حظنا كجالية مصرية فى الإمارات أن موقف حكوتنا الرسمى كان مؤيد للحق الكويتى ضد الغزو العراقى وقد قربنا ذلك من الناس وجعل حياتنا آمنة هناك لكن ذلك لم يعوضنى عن رزقى الذى توقف. ظل نظير ملتزما بمبلغ الإعاشة الشهرى لى بينما أوقف السكرتيرة فاتن عن العمل لكن ذلك المبلغ كان يكفى سد حاجتى فقط ولم يعد لدى فائض أرسله إلى زوجتى فى إندونيسيا أو إلى أبى فى مصر ولم يكن من الممكن طلب مساعدة نظير الذى بدأ يتململ من الخسائر الكبيرة التى تكبدها فى إفتتاح مؤسسة التمنى ولذا فقد عدت إلى الشعور بالمعاناة والألم الناتج عن الفشل فى سد إحتياجات الحياة الرئيسية ولم يكن هناك طريق سوى الصبر. كان اليوم يمضى بطيئا بلا عمل وأصبح الليل أكثر بطئا بلا مكان نذهب إليه سوى الجلوس أمام التليفزيون فى المنزل حيث أصبح المشى على شاطئ الكورنيش ممنوعا ليلا فقد أصبح الكورنيش مكان إنزال محتمل للقوات العراقية إذا ماقررت ضرب أبوظبى فى أى لحظة. وفى تلك الظروف بدأت أعداد كبيرة من الكويتيين الفارين من العراق فى التوافد على أبوظبى وبذلت حكومة الإمارات - برعاية الشيخة فاطمة زوجة الشيخ زايد - كل جهد ممكن فى الترحيب بهم بإيوائهم وصرف معاشات لهم بل وإعطائهم حق جلب خادمات لخدمتهم أيضا. وقد تعرفت على كثير منهم ممن جاء يسأل عن جلب الخادمات وكما سمعت عنهم فقد كانوا أكثر الخليجيين غرورا وصلفا لكن ذلك لم يمنع وجود كثير من الطيبيين بينهم وقد كان لى معهم عداوات كما كان لى معهم صداقات إستمرت لسنوات بعد ، فقد بقى كثير منهم فى أبوظبى لفترة قبل أن يعود لبلاده بعد إنتهاء الحرب وقد قام بعضهم بإستقدام خادمات بواسطة مكتبنا. وقد كنت أتعاطف معهم وأرحب بهم وأعطى لهم خصومات على الأتعاب المطلوبة لكن ذلك لم يمنع أحد العائلات التى أكرمتها من تقديم شكوى ضدى فى إدارة الجوازات بسبب هرب خادمتهم السيلانية وإتهامى فى تهريبها دون أن يكون لى أى ذنب فى ذلك وبرغم كل التعاطف والترحاب التى تعاملت بهما معهم ، لكن ضابط الجوازات فى أبوظبى - ولازلت أذكرإسمه- إبراهيم السركال - أنصفنى وخذلهم وقال لهم المكاتب غير مسئولة عن هرب الخادمات ثم قال لى أمامهم صراحة إذا إتصلت بك الخادمة لاتتصل بهم إحضرها إلى هنا وسوف أتصرف أنا. وعلى عكس تلك الحادثة فقد نشأت بينى وبين أسرة كويتية أخرى صداقة طويلة إستمرت لسنوات طويلة بعد إنتهاء الحرب وكنت قد قمت بإستقدام خادمة إندونيسية لهذه العائلة التى نسيت إسمها الآن وقد وفقت الخادمة فى خدمتهم وأحبوها وأخذوها معهم إلى الكويت بعد رحيلهم لكنهم ظلوا يتوافدون على أبوظبى سنويا بعد ذلك - ومعهم الخادمة- عرفانا بالجميل ولزيارة الناس الذين رحبوا بهم أثناء أحداث الغزو وكان مكتبنا من ضمن الأماكن التى كانت تلك الأسرة الطيبة تحرص على زيارتها سنويا. وقد إستمروا على ذلك عدة سنوات ثم إنقطعت أخبارهم بعد ذلك.
وفى تلك الأيام الكئيبة تعرفت بالمصادفة على شاب مصرى من المنصورة إسمه عبدالله كان يسكن فى حى الخالدية أيضا كان لديه مكتب يعمل فى تأجير العقارات وتخليص المعاملات ونشأت بيننا صداقة بحكم روابط الجيرة والجنسية المشتركة وأصبحت أزوه فى منزله كما أصبح يزورنى فى مكتبى ومن خلاله تعرفت على كفيله على سالم السعدى والذى أصبح كفيلى فيما بعد وعلى شخص إماراتى آخر غريب الأطوار يسمى خليفة عبدالكريم. كان خليفة عبدالكريم ضابط تحريات إماراتى برتبة رائد ولاأعرف كيف تعرف على عبدالله أو كيف تعرف عليه عبدالله ونشأت بينهما تلك الصلة الوثيقة.كان المنزل الذى يسكنه عبدالله فى حى الخالدية هو فى الواقع مسكن خليفة وكان قد إستأجره ليقضى فيه أوقات فراغه ولهوه وبعدما تعرف على عبدالله عرض عليه الإنتقال للحياة فى ذلك المسكن الذى كان نادرا مايزوره فوافق عبدالله وإنتقل للحياة فى مسكن خليفة. وهناك تعرفت على خليفة وأصبحنا أصدقاء وتكونت منا نحن الثلاثة أنا وهو وعبدالله شلة للسهر والعربدة أثناء أيام الحرب. لم يكن هناك شئ نفعله أثناء النهار كما كان الليل طويلا وأصبح البقاء مع نظير وممتاز وضيوفهما طول الوقت مملا فكان على أنا أيضا أن أبحث لى عن أصدقاء من بنى جنسى وهكذا شاء القدر أن أتعرف على عبدالله وخليفة ونكون هذه الشلة العربيدة. كان خليفة هو الرئيس وكنا أنا وعبدالله مجرد كومبارس لكنه كان يرتاح إلينا ويثق بنا ولذا فقد كان يترك نفسه على سجيتها معنا. كان خليفة رمزا للتفاهة والضياع. كان عمله أثناء أيام الحرب هو المرور فى سيارته على كورنيش أبوظبى ليلاً لتقديم تقارير عن الحالة الأمنية على الكورنيش عبر اللاسلكى الذى كان يحمله. لكن خليفة كان يدور على الكورنيش دورة واحدة أو دورتين على الأكثر ثم يأتى ويوقف سيارته أسفل البناية التى يسكنها فى حى الخالدية ثم يصعد ومعه صندوق البيرة اليومى الذى كان يشتريه من فندق إسمه العين بالاس وتبدأ السهرة بشرب أكواب البيرة ثم يبدأ خليفة فى إعطاء تقاريره عن الحالة الأمنية المستقرة على الكورنيش وهو سكران وسط ضحكنا الهستيرى أنا وعبدالله ومن كان ينضم إلينا من أقارب أو أصدقاء عبدالله أحيانا . كانت السهرة تمتد إلى ساعة متأخرة من الليل وأحيانا كان خليفة يتوجها بإستدعاء إحدى النساء. كان خليفة يعرف عددا مهولاً من النساء من كل الجنسيات المقيمة فى دولة الإمارات. وقد رأيته يستدعى مصريات ولبنانيات وسوريات ومغربيات وسودانيات وحتى إماراتيات.كن يقضين الجزء الباقى من الليل معنا يرقصن ويمرحن ثم ينصرفن فى الصباح على موعد آخر مع خليفة لم يكن يتحقق أبدا لإنه فى كل مرة كان يستدعى إمرأة جديدة. لم يكن سكان البناية المساكين يستطيعون فعل شئ إزاء الضجيج الذى كنا نحدثه أثناء الليل لإنهم كانوا يعلمون أن خليفة كان ضابط تحريات. إستمر ذلك الحال طوال فترة توقف الأعمال ولكن و بعدما وضعت الحرب أوزارها وإنتظمت حركة الطيران وإستؤنف إرسال العمالة إلى أبوظبى مرة أخرى وإنتظمت أعمال المكتب لم يعد من الممكن لى أن أواظب على حضور تلك السهرات مرة أخرى لكن خليفة كان قد أدمن عليها ولم يعد من الممكن له أن يستغنى عن وجودى معه هو وعبدالله ولذا فقد كان يضغط على يوميا للحاق بهم بعد إنتهاء عملى لكن هذا لم يكن ممكنا فقد كنت أشعر بإرهاق بعد عمل يوم طويل وكان على أن أنام لأصحو مبكرا لإستئناف عملى فكان خليفة يأتى إلى مكتبى مع عبدالله كل ليلة لإقناعى بالإنضمام إليهم دون جدوى. وأحيانا كان خليفة المعتوه يحضر معه بعض علب البيرة ويأخذ فى شربها فى مكتبى بعد ساعة الإغلاق. حاولت الإحتفظ بصداقة خليفة لكن ذلك كان مستحيلا. بدأت أتهرب منه بشكل سافر حتى غضب وقطع علاقته بى بدوره وقد إستمرت علاقته بعبدالله فترة من الزمن بعد ذلك حتى تشاجرا وإنقطعت علاقتهما أيضا. بعد ذلك بفترة قصيرة إتهم خليفة فى قضية معاكسة تليفونية بإحدى النساء وكاد أن يطرد من عمله من جهاز شرطة أبوظبى. كان خليفة أصلاً من إمارة تسمى رأس الخيمة وقد إصطحبنا معه إلى هناك عدة مرات كما قدمنا لعائلته فى أبوظبى وإحتفل بنا فى أكثرمن مناسبة.لاشك أنه كان يحبنا لكنه كان شخصا غريب الأطوار لا يستطيع تقدير ظروف الآخرين. وفى النهاية خرج خليفة من شرطة أبوظبى مستقيلا أو مطرودا لاأعرف لكنه كان قد ورث مبلغا كبيرا عن والده وإفتتح محلا كبيرا لإستيراد الملابس والأدوات الرياضية من الخارج ونجح وأصبح مليونيرأ وظل معظم موظفيه من المصريين الذين ظل يحبهم ويكرههم فى نفس الوقت بشكل غير مفهوم.
إنتهت الحرب وإستؤنف العمل مرة أخرى لكن نظير فاجأنى بقرار كأنه الزلزال. قرر نظير تصفية مؤسسة التمنى والعودة إلى باكستان والإكتفاء بتوريد العمالة من مكتبه فى باكستان من خلال قريبه ممتاز الذى قرر الإحتفاظ به فى أبوظبى. وهكذاوجدت نفسى فى مهب الريح مرة أخرى. حاولت إقناع نظير بكل طريقة أن يبقى وأن يحاول مرة أخرى وأن هناك ثروة قادمة من خلال جلب الخادمات الإندونيسيات الذين كنا المكتب الوحيد المستعد فى ذلك الوقت لإستقدامهن. كنت أدافع عن مستقبلى ومستقبل عائلتى يائسا لكننى كنت صادقا فى نفس الوقت ففى الفترة التى سبقت الحرب مباشرة وبعد أن وضعنا إعلاننا عن جلب الخادمات الإندونيسيات بدأت أستشعر إهتمام الناس من خلال إتصالاتهم وبدأت أشم رائحة الرياح القادمة على هذا المجال من العمل. مجال جلب وتوظيف الخدم. ولكنى فشلت فى إقناع نظير. كان نظير كعادته قد أخذ وقته فى التفكير ومراجعة حساباته أثناء فترة توقف العمل خلال الحرب وأدرك أنه لم يكن فى حاجة إلى مثل هذه التكاليف الكبيرة الناتجة عن إفتتاح مكتب وتوظيف موظفين وأنه يستطيع أن يعمل من خلال موظف واحد هو قريبه ممتاز وأن يركز جهوده على تصدير العمالة من شركته فى باكستان بدلا من تشتيت جهوده وماله فى مجال جلب وتوظيف الخدم المتعب. وأخيرا إنسحب نظير وتركنى على كفالة مؤسسة التمنى وعاد إلى باكستان وأصبحت أمام طريقين لاثالث لهما وهو إما أن أبحث عن أى عمل جديد وأنقل كفالتى من مؤسسة التمنى أو أن أبحث عن مستثمر جديد يحل محل نظير فى مؤسسة التمنى وأواصل مشروعى مع زوجتى فى جلب الخادمات الإندونيسيات إلى دولة الإمارات. عرضت الموضوع على صديقى الوحيد آنذاك عبدالله فعرضه على كفيله على سالم فطلب على سالم مقابلتى للتشاور حول المشروع. جاء على سالم لزيارتى فى المكتب فى برج الخالدية حيث أصبحت أسكن بعد سفر نظير وتناقش معى حول فرص نجاح المشروع وعن المبلغ المطلوب لإستثمار مؤسسة التمنى.كان هناك مبلغ خمسين ألف درهم مطلوبة للتأمين على المؤسسة بدل التأمين الذى أودعه نظير وعشرين ألف درهم لإيجار المكتب ومثلهم لإيجار الرخصة من صاحبها عبدالله القبيسى وحوالى عشرة آلاف مصاريف نثرية لبدء العمل أى حوالى مائة ألف درهم . كان على سالم فى حوالى الثلاثين من عمره متوسط الطول نحيلا دمث الخلق ومن أصول عمانية وكان موظفا بسيطا فى وزارة التخطيط ولم يكن يملك هذا المبلغ آنذاك لكننى بعد أن أقنعته بالفرص الكبيرة فى نجاح مشروع المبادرة بجلب الإندونيسيات وبعد أن إرتاح إلى شخصيا قرر إقتراض هذا المبلغ بضمان راتبه الشهرى والحلول محل نظير كمستثمر فى مؤسسة التمنى. أشعرنا عبدالله القبيسى صاحب المؤسسة بذلك فلم يمانع وقام بإصداروكالة جديدة للمؤسسة بإسم على سالم وهكذا بدأنا العمل أنا وعلى سالم بصفة شركاء فى مؤسسة التمنى هو بصفته صاحب رأس المال وأنا بصفتى صاحب الإدارة. لم يكن على سالم يعرف شيئا عن هذا العمل فلم يتدخل فى شئ فى البداية كما أنه لم يلزم نفسه بشئ نحوى فقط كان لى ألف درهم مصاريف شهرية استخرجها من دخل المكتب فى حالة وجود أى دخل إضافى بعد دفع الفواتيرالأساسية كالتليفونات وغيرها. أما إذا لم يحقق المكتب دخلا إضافيا فإن إعاشتى كانت مسئوليتى الشخصية. كان الإتفاق مخاطرة لكلا الطرفين لى وله ، لكننا إرتضينا به وقد أمهلنا القدر بعض الوقت وكبدنا بعض المعاناة قبل أن يثبت لنا أننا كنا قد أتخذنا القرار الصائب.
لم يكن النجاح قريبا بالشكل الذى توقعته، لاشك أنه كان فى الأفق لكنه لم يكن بهذا القرب. وكأنه من قوانين الحياة أنك يجب أن تعانى أولا قبل أن تنجح. وبالفعل قضيت سنة صعبة أخرى فى حياتى كنت على وشك أن أفقد خلالها الأمل فى أى نجاح كما كان الندم يستولى أيضا على على سالم فى كثير من الأحيان لإتخاذه هذا القرار الخطير بمشاركتى وبإستدانة هذا المبلغ الكبير من أجل مشروعى الفاشل. مرت شهور آمنه كنا نستطيع خلالها أن نغطى نفقاتنا ونستخرج مصاريفى الشهرية ومبلغ بسيط لعلى يعوضه عن قسط البنك الشهرى. ولكن مرت أشهر أخرى لم نكن نستطع فيها دفع فواتير التليفونات أو أقساط إيجار المكتب والرخصة. مرت أيام كان تدبير طعامى اليومى نفسه أمرا صعبا. ومرت أيام أسوء عندما كان على يضطر لإن يدبر مبالغ من الباقى من راتبه الشهرى لدفع بعض الفواتير الضرورية مثلا. ومرت بنا لحظات أكثر سوءً كنا على وشك خلالها أن نعلن فشلنا وتخلينا عن مواصلة المحاولة . مرت الأيام صعوداً وهبوطا وقد أصبح مكتبنا يعيش على إستقدام الخدم فقط بعد إنسحاب نظير منه وبعد رحلة متواضعة قمت بها إلى بومباى الهند لإستقدام بعض العمال، الذين حصلنا على طلب توظيفهم بالمصادفة ، من شركة مقاولات لبنانية تسمى شركة الحسام بواسطة مصرى إسمه عاطف كان مديراً للعلاقات العامة بالشركة . كانت خبرتى بمجال بيع وشراء التأشيرات ضعيفة وكانت علاقتى بالمتعاملين فى هذا المجال ضعيفة فلم أكن أعرف منهم سوى نظير. وهكذا تركز عملنا فى جلب الخدم من ثلاثة بلاد رئيسية هى سيريلانكا والفلبين وإندونيسيا. كان فقراء المواطنيين الإماراتيين والمقيميين يفضلون جلب الخدم من سيريلانكا لتدنى رواتبهم ولقلة أتعاب إستقدامهم وكان الأغنياء يفضلون إستقدام الفلبينيات أما الإندونيسيات فلم يكونوا معروفين على نطاق واسع فى الإمارات حتى ذلك الوقت ولذا فقد بدأت عملية دخولهم إلى سوق العمل فى دولة الإمارات تدريجية بطيئة بقيادة مكتبنا ومكتب آخر كان شهيرأ فى ذلك الوقت إسمه مكتب النرجس. لم تتحرك الأمور بسرعة كما توقعت. وإزداد الأمر سوءً بكثرة مشاكل الخدم السيلانيات والفلبينيات حيث كان كثير منهن يفشلن فى التكيف مع المجتمع أو فى أداء عمله كما كانت قسوة بعض العائلات تدفع بالكثير منهن إلى الهرب وكان المكتب المتهم الرئيسى دائما فى نظر العميل .وكثيرا مادخلت فى معارك طاحنة مع العملاء وكثيرا ماإستدعيت إلى إدارة الجوازات بسبب شكاوى العملاء . وأشهد بأن على سالم كان ينصفنى دائما ويلحق بى فى أوقات الشدة التى كنت كثيرا ما أمر بها . أصبحت أسكن فى نفس المكتب الذى أعمل فيه ببرج الخالدية فلم يكن لدينا أى فائض لتدبير حتى سكن متواضع لى وكان على سالم يشعر بتعاطف كبير معى وربما حتى ببعض الألم عندما كان يزورنى ويرى حياتى البائسة المحصورة فى مكان واحد صغير. كان له زوجة طيبة وكانت تتعاطف مع الغرباء وكانت توصيه دائما بالصبر وتوصيه بى خيرا. كان على فى هذه المرحلة المبكرة من كفاحنا المشترك أخا بكل ماتعنى الكلمة وكان يشجعنى ويعطينى القوة بوجوده معى فى أى وقت أحتاج فيه إليه.
ولكن تدريجيا وفى بطء وهدوء وفى حدود سنة 1993م بدأت أعداد العملاء الراغبين فى جلب الخادمات الإندونيسيات تزداد وبدأ إسم مكتبنا فى الإشتهار بجلب الإندونيسيات وبدأنا نتلقى طلبات شبه يومية وبدأت حياتنا تتغير فلم يعد هناك مشكلة فى دفع الفواتير ولا الإيجارات وأصبح لدى فائض أستطيع أن أعيل به نفسى وأعيل أسرتى فى إندونيسيا وأبى فى مصر وأصبح لدى على مايكفيه لسد دينه الشهرى ويزيد. بدأ كل ذلك تدريجيا لكنه ظل فى تصاعد مستمر. فمن فائض ألف درهم شهريا لكل منا إرتفع الفائض إلى ألفين فإلى ثلاثة فإلى أربعة فإلى خمسة فإلى أكثر فأكثر فأكثر ونحن نستقبل ذلك غير مصدقين. إتخذنا قرارا بإيقاف إستيراد الخدم من سيريلانكا والفلبين لكثرة المشاكل وحصر عملنا فى إندونيسيا فقط للسهولة النسبية فى الإجراءات ولنجاح الإندونيسيات البادى فى التكيف مع المجتمع الإماراتى. كنت قد زرت أسرتى فى إندونيسيا أكثر من مرة خلال السنتين الأخيرتين وذلك رغم صعوبة الظروف المادية أما أبى فى مصر فلم يكن قد زرته منذ وصولى إلى إندونيسيا قبل عدة سنوات ولذا فقد كان من الطبيعى وبعد أن إستقرت أحوالى أن أقرر النزول لزيارته. وإتفقت مع على سالم على أن يسمح لى بأجازة طويلة لزيارة والدى فى مصر فى يناير 1994م وأن يجلس هو مكانى فى المكتب لحين عودتى. وافق على وبدأت أستعد للعودة الظافرة بعد غياب سنين طويلة فى نلك الرحلة العاصفة. بدأت أجهز للأجازة منذ وقت مبكر وبدأت حتى بشراء الهدايا للجيران والأصدقاء وبشراء ملابس فاخرة للشتاء. كنت أريد أن أعود ظافرا بعد كل هذا الغياب الطويل لكنه وكالعادة تأتى الرياح بما لاتشتهى السفن وكانت الرياح هذه المرة شديدة قاسية فقد خذلنى أبى ومات فى 23 نوفمبر 1993م قبل نزولى المقرر إليه بحوالى شهر واحد فقط.
كانت لحظة قاسية فى حياتى عندما إتصلت بى سامية - لتقول لى إن والدى يحتضر. كنت قد تكلمت معه قبل أيام قليلة فقط وكان صوته يبدو خفيضا على غير العادة وقد شعرت بشئ من الإنقباض والخوف لكنى واسيت نفسى بأنه سوف يتجاوز تلك الوعكة الصحية كالعادة وأنه سوف ينتظرنى ولكن ذلك لم يحدث فعندما إتصلت فى اليوم التالى عرفت أنه قد مات فى المستشفى وأن أصدقائه وأصدقائى قد قاموا بدفنه . إستولى على ذهول إستمر ساعات إنفجرت بعده فى بكاء متشنج طويل أفقت منه وحيدا فى مكتبى ولم أبكى بعد ذلك أبدا حتى بعدما عدت إلى مصر .
كان على سالم غائبا فى بلده عمان وكان لابد من إنتظار عودته. إتصلت به تليفونيا لأخبره أن على النزول سريعا بسبب وفاة والدى وعاد على سالم على الفور إذا لم تكن المسافة بين عمان وأبوظبى بعيدة وكان يقطعها دائما بسيارته. وبمجرد عودته سافرت من أبوظبى إلى الإسكندرية مباشرة. كان صديقى الدكتور رفعت رسمى وإبنه عبدالرحمن فى إنتظارى فى المطار. ذهبت مباشرة إلى منزلنا حيث حضر كل من عرف من الجيران بوصولى لتعزيتى وكان بعضهم يبكى بكاءً مريرا لاأعرف تعاطفا مع الميت أم تعاطفا معى أنا الحى. فقد كان موقفى الوحيد بدون أهل أو أقارب يبدو مثيرا للشفقة حقا. لكنى إستقبلتهم بهدوء ولم أبكى. وحتى فى اليوم التالى عندما قمت بزيارة المقبرة التى دفن بها أبى لم أبكى. لاأعرف لماذا جفت ينابيع بكائى فجأة . وقد فسر بعض من حولى ذلك بأننى لم أكن أحب أبى لإننا عشنا بعيدين عن بعضنا البعض. لكن هذا لم يكن حقيقيا. فليس هناك إبن لايحب أبيه أو أب لايحب إبنه اللهم فى حالات إستثنائية غير إنسانية. لكنى كنت أحب أبى كسائر الأبناء وذلك رغم عدم التفاهم والإنسجام بيننا. ولكنها ربما كانت لحظات من الكبرياء. يستطيع القوى أن يبكى أمام الناس كيفما شاء ولكن الضعيف عليه أن يحبس دموعه كى لايزيد موقفه ضعفا. ربما كان هذا هو ماحدث فعلاً.
قضيت الليلة وحيدا فى منزلنا الذى بدا لى قديما عجوزا إنتهى عمره برحيل أبى وفى اليوم التالى زرت مقبرته صباحا مع صديقى الدكتور رفعت وصديق أبى المرحوم جابر الحلاق الذى تولى دفنه فى مقابر عائلته بالشاطبى وفى المساء أقمت له سرادق عزاء. ثم إنتهى كل شئ. أصبح ابى ذكرى ككل الناس الذين يمرون على هذه الحياة.
كان هناك بعض الإجراءات الروتينية التى كان يجب القيام بها قبل عودتى إلى أبوظبى .ترك أبى ورائه مبلغا بسيطا من المال كان هو كل ماإدخره طوال حياته الطويلة .حوالى عشرة آلاف جنيه موزعة بين صندوق البريد وأحد البنوك. وقد قمت بعمل توكيل لصديقى رفعت لإستخراج إعلان الوراثة وإستلام هذا المبلغ نيابة عنى. وقد قام بذلك مشكورا.كان هناك أمور أخرى أقل أهمية. مثل إلغاء بطاقة التموين وأشياء من هذا القبيل. وقد كفانى صديقى الدكتور رفعت عناء هذه الأمور وقام بها كلها نيابة عنى. لكن أمر واحد أخير كان على القيام به وحدى. وهو تفتيش أوراقى وأوراق أبى حتى أأخذ منها مايلزم وأتخلص مما لايلزم. كانت حاجياتنا موزعة بين دولاب صغير فى غرفتى وصوفا بلدى فى الصالة. كان الأمر يتطلب مجهودا وتركيزا. وقد أردت أن أقضى هذه الليلة وحدى مع ذكرياتى. أشفق على صديقى رفعت من هذه التجربة وعرض أن يكون معى لكننى فضلت أن أكون وحدى. كنت أودع منزلنا القديم وحياتى القديمة إلى الأبد. وبالفعل لم أعد إليه مرة أخرى وتركته للمرحوم عبدالفتاح إبن صاحب العمارة والذى أراد أن يتزوج فيه. تركته له كى يتزوج فيه لكنه قد مات بدوره بعد سنوات قليلة من وفاة أبى ولم يكن قد تزوج بعد.
كان هناك أوراق كثيرة متناثرة. شهاداتى الدراسية و صورى ومراسلاتى مع أصدقائى وصور ومراسلات أبى مع أصدقائه. رأيت بينها صورة إبنى جمال الذى كان قد ولد قبل سنة واحدة من وفاة أبى وكنت قد أرسلت له صورته فى عيد ميلاده الأول وقد توفى ابى بعد إستلام هذه الصورة بأيام. كذلك وجدت صورة لسيدة جميلة هى صورة مدام آمنة التى كانت جزءً من طفولتى دون أن أعرف من تكون ابداً وثد ضعفت عن تمزيفها وحملتها معى إلى ابوظبى ثم إلى جاكرتا.
كذلك رأيت لعبة قديمة من ألعاب طفولتى ، لكنها كانت قد تحولت إلى قطع متناثرة وكأن حياتها قد إنتهت مع حياة أبى. كانت تلك هى البطة التى أهداها إلى أبناء الجيران اليونانيون قبل رحيلهم عن مصر. كان هناك كثير من مقتنيات أبى الفاخرة. من سكاكين وأدوات مطبخ وقطع صينى مميزة. أخذت مايلزمنى من صور وأوراق وتركت كل الباقى مع ملابس أبى للحاجة صفية توزعه على من تشاء بمعرفتها.
وقبل سفرى حكت لى الحاجة صفية قصة غريبة. قالت لى أن عمك الأصغر قد جاء لزيارة أبيك قبل فترة وعندما رآه مريضا إقترح أخذه معه إلى بلادهم فى الواحات ليموت بين أهله. لكن أبيك رفض عرضه وأساء إستقباله ووبخ الشخص الذى دله على عنوانه. إستمعت إلى هذه القصة ذاهلا فقد كنت نسيت أن لأبى أهل وأن لى أقارب وأعمام وتعجبت من أمر أبى الذى أصر على عناده وفراقه لأهله حتى اللحظة الأخيرة ومات وسره معه فى سبب كل هذا العناد وهذا الإصرار على الفراق.
عدت إلى أبوظبى وإستأنفت عملى مرة أخرى. تغيرت حياتى وحياة أسرتى فى إندونيسيا تماما عما كانت قبل ذلك فقد أصبح لدينا دخل آخذ فى الإرتفاع بشكل متواصل سريع وأصبحت زوجتى تستفيد من توظيف الخدم من إندونيسيا كما استفيد أنا تماما فأصبحنا بذلك نكسب من مصدرين وليس من مصدر واحد. بدا أن أيام الفقر والشقاء قد إنتهت إلى الأبد. ولحكمة لايعلمها إلا الله فقد كانت السنة التى توفى فيها والدى هى نفس السنة التى بدأ الحظ يحالفنى فيها. وكأنه لم يكن مقدرا له أن يرانى ناجحا بعد كل ذلك العناء المرير. كان النجاح المقصود هنا هو النجاح المادى بالطبع أما النجاح المعنوى فقد كان مازال بعيدا عن متناولى. كان دخول المال إلى حياتى عاملا من عوامل سعادتى لاشك فى ذلك. فقد تغيرت أشياء كثيرة حولى بفعل المال وأصبحت كثير السفر إلى مصر وإندونيسيا فى زيارات قصيرة لأكثر من مرة فى السنة وفى زيارات طويلة إلى إندونيسيا خلال فصول الصيف. اذكر أننى فى أحد تلك الزيارات إلى إندونيسيا وبالتحديد فى صيف سنة 1995م شهدت سقوط الديكتاتورالأندونيسى سوهارتو على اثر ثورة شعبية قام بها طلاب الجامعات. كانت إبنتى ديفى وإبنى جمال مازالا أطفالا صغارا لايدركون معنى كل مايحدث حولهما لكنهما خرجا معنا للإحتفال بهذه المناسبة ولازلت أذكر محاولاتهما المضحكة تسلق سور البرلمان الإندونيسى كما كان يفعل كثير من الجمهور المحتشد حول المبنى. شهدت أندونيسيا أيام مجيدة بعد ذلك وإختارت الديموقراطية والحكم المدنى طريقا للرقى والتقدم وإستطاع الشعب الإندونيسى لفظ التيارات الإسلامية من حياته السياسية لكنه ظل مع ذلك مخلصا لعقيدته شديد التمسك بها ولم يعانى فى ذلك أى تناقض أو مشكلة. بعد سنوات قليلة من سقوط سوهارتو تمكنت سيدة إندونيسية غير محجبة ولامحافظة ولامدعية التدين هى السيدة ميجاواتى إبنه الرئيس أحمد سوكارنو أول رئيس لإندونيسيا بعد إستقلالها من الحكم الهولندى سنة 1948م الوصول إلى رئاسة إندونيسيا. حكمت ميجاواتى أربعة سنوات فقط ثم اسقطها الشعب الإندونيسى فى إنتخابات ديموقراطية حرة وتولى بعدها الرئيس سوسيلو بامبانج. وخلال كل تلك السنوات منذ سقوط سوهارتو وحتى اليوم فشلت التيارات الإسلامية فى الحصول على أى نصيب فى الحياة السياسية الإندونيسية بإستثناء السنة الوحيدة التى حكمها الرئيس عبدالواحد والتى أسقطه الشعب بعدها. تمكنت إندونيسيا من القضاء على حركة الإرهاب والتطرف الدينى التى قادها شباب إندونيسى تلقى تعليمه فى الجامعات العربية وتشرب بروع التعصب الدينى البغيضة التى أصبحت سمة من سمات هذه المجتمعات العربية. لكن الشعب الأندونيسى أسقط كل ذلك ومضى فى طريق التطور والنمو يوم بعد. ورغم أن الطريق كان مازال طويلا إلا أن إندونيسيا كانت قد قطعت الخطوة الأولى والتى هى دائما أصعب الخطوات فى أى رحلة يقطعها فرد أو جماعة. كنت سعيدا متفائلا بالمستقبل لكل تلك التطورات التى شهدتها البلد النامى الذى دخلت إليه بالمصادفة وأصبحت آمنا على مستقبل ديفى وجمال وأثبتت لى الأيام إننى كنت على حق فى تفاؤلى هذا.
لكن دخول المال إلى حياتى جلب معه أيضا الإحساس بأزمة منتصف العمر حيث أصبح لدى من الوقت مايسمح لى بمراجعة تلك التجربة الحياتية الشاقة والتى إنتهت بنجاح مادى كبير وفشل معنوى أكبر، فبدأت وبدون وعى منى أراجعها وأحاول بنائها من الصفر مرة أخرى. كانت العودة إلى القراءة وإقتناء الكتب من أولى مظاهر الإحساس العميق بتلك الأزمة. وبعد هذه الرحلة الطويلة بدت القراءة نفسها أمرأ مختلفا. فكأننى كنت أبدأ من الصفر تماما.وكما تغيرت كثير من الأشياء حولى فقد تغيرت نظرتى لكثير من الأمور أيضا. أدركت قيمة الحرية والديموقراطية فى حياة الناس. وتخليت تماما عن نظرتى اليسارية المتطرفة وبدأت أفهم أكثر معنى الأفكار الليبرالية التى بنت هذا العالم المتقدم والتى خلقت الفارق العظيم بين إندونيسيا والسعودية مثلا أو حتى بين السعودية والإمارات. وبدت أفكارى تميل بإتجاه الفكر الليبرالى وعدت إلى قراءة التاريخ المصرى من منظور مصرى ، فأدركت أن العروبة والإسلام هما شئ واحد وأن الحقبة العربية الإسلامية هى أسوء وأكثر حقب التاريخ المصرى سوادً ، وبسرعة إنتقلت إلى قراءة كل تاريخ العالم بمنظور إنسانى واحد . كان كل شئ يتغير بسرعة وزادت التطورات التى شهدها العالم بسقوط الإتحاد السوفيتى سنة 1990م من هذه القناعات الجديدة رسوخا . وبدأت فى إقتناء مزيد من الكتب وفى تكوين مكتبة ضخمة فى منزلى فى إندونيسيا. كنت كلما نزلت إلى مصر فى أجازة عدت محملا بالكتب وكلما وجدت معرض للكتاب فى أبوظبى إشتريت منه كل مايروقنى من كتب لأخزن كل ذلك فى المكتب حتى يحين موعد سفرى إلى إندونيسيا فأعود بحقيبة ضخمة ممتلئة كتب فى كل مرة. ولازلت هذه المكتبة فى منزلى حتى اليوم نثير دهشة كل من يزور منزلنا ويدخل بالمصادفة إلى مكتبى ليسأل نفسه نفس السؤال الحائر كيف حملت كل هذه الكتب العربية إلى إندونيسيا؟
وأخيرا عبرت أزمة منتصف العمر عن نفسها بكل وضوح داخل نفسى فى رغبتها العودة إلى الوطن وإستئناف دراستى العليا لكن إغراء المال كان قويا كما إننى كنت مازلت فى بداية الطريق ولذا فقد كنت أؤجلها دائما واستغرق أكثر فى الإستمتاع بمباهج الحياة، ومن قواعد الحياة أنه عندما يأتى المال إلى حياتك يأتى معه شيئان أساسيان هما الأصدقاء والنساء. أصبح لى كثير من الأصدقاء كان معظمهم من أعضاء السفارة الإندونيسية فى أبوظبى كنت أدعوهم لقضاء أجازة نهاية الأسبوع يومى الخميس والجمعة فى فندق الهوليداى إند بأبوظبى أسبوعيا تقريبا وأحيانا كنت أأخذهم فى رحلة إلى دبى أو إلى أى مكان آخر يختارون وكنت أحضر لهم مايريدون من طعام وفواكه وجرائد ومجلات من إندونيسيا مع كل مجموعة خدم تصل من إندونيسيا كما كنت أحضر لهم هدايا ثمينة معى كلما عدت من مصر أو إندونيسيا وحتى إذا سافرت إلى إندونيسيا كنت أزور بعض أهاليهم أحيانا وأحمل لهم هدايا أو مايطلبون من أدوية أو أشياء أخرى من الإمارات. وبدورهم فقد سهلوا لى كل أعمالى فى السفارة فكانت أوراق مكتبى هى أول أوراق يوقعها القنصل عند الحاجة كما كانت مشاكل خادماتى التى التى أعجزعن حلها بنفسى هى الأولى بالرعاية فكانوا يتصلون بالكفلاء وبإدارة الجوازات بأنفسهم لحل المشاكل كما قدمونى لعدد كبير من الناس فى أبوظبى ودعونى إلى الحفلات والمناسبات الدبلوماسية التى كانت تقيمها السفارة حتى أصبحت على وشك أن اصبح شخصية إجتماعية معروفة فى مجتمع أبوظبى فى ذلك الوقت. كان ذلك طبيعة حياة الأعمال التى بدأت تفرض نفسها على مجرى حياتى وتلونه بلون النفاق الإجتماعى المعروف عنها. وقد إستغرقت فى تلك الحياة لبعض الوقت قبل أن أفيق. كان الإسراف عادة أصيلة فى نفسى وقد وجدت فى المال الذى إنهال على فجأة الفرصة لإشباع تلك العادة وأتصور إننى كنت أنفق كل المبالغ الكبيرة التى كنت أحصل عليها من أرباح المكتب شهريا. كنت كثير السفر كثير السهر كثير العبث لاأستريح قبل أن أنفق كل مامعى من مال. وبرغم ذلك فلم أكن سعيدا أبدا كنت أعانى من تناقض داخلى يعذبنى فلم أكن مقتنعا أبدا بوضعى الإجتماعى كمورد خدم وكنت أحسد ضيوفى موظفى السفارة الإندونيسية - الذين كانوا ينظرون إلى بعين الحسد أيضا - على وضعهم الإجتماعى كدبلوماسيين بينما كنت أنا مضيفهم مجرد مورد عمال فى نهاية الأمر.
وبالنسبة لرجل يعانى من تناقض داخلى مثلى فقد كان من الطبيعى أن يصبح ضحية مثالية لنوع معين من النساء، وهنا تذكرت خليفة عبدالكريم ولماذا كان يعرف هذا العدد الكبير من النساء. إن فائض المال الذى كان يملكه وذلك الخلل النفسى الذى كان يعانيه هو الذى جعل منه هذا الرجل المحبوب لدى ذلك النوع من النساء. إن المرأة تشم رائحة ضعفاء الرجال عن بعد منذ أيام حواء وآدم. وقد ساهمت نقطة الضعف تلك فى إكمال صورة حياتى المشوهة الضائعة. مورد عمال مثقف مسرف مستهتر يقرأ كتب التاريخ ويعشق النساء. فكيف يمكن أن تتصالح كل هذه الصفات مع بعضها البعض؟

وكما دخل حياتى كثير من الأصدقاء فى تلك الأيام ، فقد كان من الطبيعى أن تدخل عبير إلى حياتى أيضاً ، كانت عبير فتاة مصرية تصغرنى بأكثر من خمسة عشر عاما، كانت فى حوالى الخامسة والعشرين من العمر، طويلة، متوسطة الجمال ، خريجة قسم التاريخ بجامعة القاهرة ، وقد جاءت لتعمل فى جمعية إحياء التراث الإماراتية وقد تعرفت بها مصادفة ، ونشأت بيننا قصة حب عابرة إستغرقت عدة أشهر فقط ، لكنها كلفتنى كثير فى حياتى بعد ذلك. وقد تعلقت بها وأغدقت عليها بسخاء من العواطف والمال . ولاشك إنها قد وجدت فى شئ آخر غير المال فلم أكن بالطبع أملك شئ يذكر فى مجتمع غنى كالمجتمع الإماراتى. لكنها ربما أدركت فى ذلك الإطمئنان الذى تنشده النساء فى علاقتهن بالرجال . ولاشك إننى قد وجدت فيها شيئا جديدا أيضا فقد كانت صغيرة ، خبيرة ، وكانت مصرية مثلى وكان قد مضى على زمن طويل أعيش بعيدا عن وطنى غريبا عن ثقافتى ، فى وسط آسيوى سواء على مستوى الأسرة أومستوى العمل. إستمر الأمر عدة أشهر فقط إستغرقت فيها فى المتعة والسعادة الزائفة . كانت تعيش بين أبوظبى ودبى فى مساكن جمعية إحياء التراث الإماراتية . وكان من الطبيعى عندما تكون فى أبوظبى أن تكون لقائاتنا أكثر وأسهل. كان على فقط ان أنتظر حتى يأتى المساء حتى أذهب لإحضارها. كانت تهرب من فتحة فى سور مسكن الجمعية المطل على شارع المطار. كانت تنتظرنى هناك وكنت أذهب لإحضارها لتبيت معى فى المكتب أو فى فندق الهوليداى إند ، حيث كنت عضواً وزبوناً دائماً ، ثم تعود فى الفجر قبل أن يصحو زملائها ويعرفون بغيابها. كانت جريئة لاتمل من الغرام ، ، وكان الحال يختلف عندما تكون فى دبى إذا كان على أنا أن أذهب إليها هناك فى نهاية كل اسبوع لنبيت فى أحد الفنادق يومى الخميس والجمعة ثم أعود وحدى إلى أبوظبى. ومع ذلك فقد كانت أحيانا وعندما تشتاق إلى تقوم بالهرب من مسكن الجمعية فى دبى الواقع فى منطقة الجميرة. كانت تقفز من فوق السور وتستقل تاكسيا ليتوجه بها وحدها إلى أبوظبى فى جنح الليل ، دون خوف أوتردد. كنا نقضى معا ساعات قليلة فى المكتب تعود بعدها إلى دبى مع خيوط الفجر أيضا. كانت نوعا مفترساً من النساء ، رغم أنها لم تكن على ذاك القدر من الجمال ، وقد أرهقتنى علاقتى القصيرة بها ماديا ومعنويا لكنى كنت سعيدا كالمخمور لاأدرى ما أفعل ، أواصل معها الليل بالنهار والنهار بالليل، ورغم أهدافها المادية ومطالبها الكثيرة ، التى كانت تتضح يوم بعد يوم ، فلم أستطع أن أتخلص من تعلقى بها ، إلا بعد أن غادرت الإمارات ، فعندما إفترقت عن شريكى على سالم وكنت على وشك العودة إلى إندونيسيا مؤقتاً ، وكانت هى قد طردت من جمعية إحياء التراث وعادت إلى مصر قبلى ، دبرت لها تأشيرة زيارة أسبوعين بكفالة فندق الهوليدى ان ، حيث قضينا معا أيامنا الأخيرة ، أخبرتها خلالها بإنفصالى عن شريكى وبأننى سوف أعود إلى الإمارات بمجرد ترتيب إقامة أخرى، وأنها يمكن أن تنتظرنى أو تتصل بى فى حالة الضرورة القصوى ، وأعطتها عنوانى فى إندونيسيا ، لأفاجأ بعد نحو أربعة أشهر بخطاب منها تطلب منى إرسال بعض المال إليها فى مصر حيث أنها موقعة على شيكات حان وقت صرفها ، وليس عندها قيمتها ، أرتبكت بشدة وإحترت كيف أتصرف وبدا الإبتزاز واضحاً من صيغة الطلب ومن الطلب نفسه ، وإحترت ماذا أفعل ، وقررت عدم الرد لعلها تستسلم وتنسى الأمر، لكنها لم تستسلم وأرسلت خطاباً آخر، وبدا واضحاً كأنها تبتزنى بتلك الخطابات فى عقر دارى وبصورى الكثيرة معها ، وأدركت أخيراً كم تورطت فى هذه العلاقة ، لكنى تمالكت وطمأنت نفسى بأن فارق المسافة البعيدة لن يمكنها من إبتزازى مهما أرسلت من خطابات ، ربما لو كنا فى مصر أو فى الإمارات جميعاً لأختلف الأمر ، ولكن أين مصر وأين إندونيسيا ، وقررت عدم الرد مرة أخرى، وإستسلمت فعلاً هذه المرة ، ولم تتصل بى فى إندونيسيا مرة أخرى ، أو ربما إتصلت ، ولم يصل الخطاب إلى صاحبه ، فقد كنا قد إنتقلنا من منزلنا االقديم فى حى ديبوك إلى فيلتنا الجديدة فى حى كاليسارى ، التى عشت فيه حتى اللحظات الأخيرة من حياتى فى إندونيسيا . ولكن الغريب فى هذه القصة العابرة هو أن تلك الفتاة المحتالة ، التى لم أشعر أنها قد أحبتنى أصلاً، لم تستطع أن تنسانى ، وبصرف النظر عن أى دوافع مادية ، فبعد هذه الأحداث بعدة سنوات وكانت قد إستقرت فى مصر وتزوجت، وكنت أنا أقضى معظم وقتى فى إندونيسيا فى ذلك الوقت، لاأعرف لماذا أخذت تبحث عن عنوانى فى الإمارات ، بعد أن تغيرت عناوينى فى الإمارات أيضاً ، ولما لم تستطع الوصول إليها إتصلت بصديقى حمدى فى الكويت تسأل عن عنوانى ، وكنت قد أخبرتها ذات مرة إنه إذا ما تقطعت بيننا السبل يوما ما وأرادت أن تتصل بى يمكنها أن تتصل بصديقى حمدى فى الكويت وسوف يخبرها بعنوانى لإنه كان فى ذلك الوقت أقرب أصدقائى إلى، وأعطيتها رقم تليفونه وإتصلنا به معا وعرفت كل منهما بالآخر. والغريب أنها ظلت تحتفظ بتليفونه طوال هذه السنوات ولماعجزت عن الحصول على أرقام تليفوناتى فى الإمارات أوفى إندونيسيا ، قامت بالإتصال به فى الكويت وسألته عن عنوانى. دُهش حمدى كما دهشت أنا أيضا وقام بالإتصال بى فى إندونيسيا يسألنى ماذا يفعل وهل يعطيها أرقام تليفوناتى فى الإمارات أو إندونيسيا أم لا؟ وإحترت بدورى فى الإجابة. لم اشعر بأى بقايا من عاطفة أو ذكرى نحوها لكننى وفى نفس الوقت لم أشأ أن أتركها فى حيرة . طلبت من حمدى أن يطلب منها رقم تليفونها ويخبرها بأننى سوف أتصل بها بنفسى بعد عودتى من إندونيسيا إلى الإمارات. وبالفعل عندما إتصلت به مرة أخرى أخبرها برسالتى فأعطته رقم تليفونها فى مصر. وبمجرد عودتى إلى الإمارات قمت بالإتصال بها فى حضور زميل كان يعمل مساعدا لى إسمه على كان شاهدا على قصتنا معا لكنها لم ترد على التليفون لسبب لاأعرفه ، فكتبت لها رسالة قصيرة وطلبت من على قرائتها عليها فى أى وقت نيابة عنى لإننى لم أكن أنوى البقاء طويلاً فى الإمارت هذه المرة . قلت لها فيها أن ماكان بيننا كان حدثا عابرا لن يعود ، وأنها تعرف إننى متزوج من البداية وأننى لم أخفى عنها شيئاً ، ولم أذكر شيئاً عن محاولة إبتزازى بطلب المال من إندونيسيا. وأضفت فى نهاية الرسالة عبارة تقول أنه لاداعى للإتصال بحمدى مرة أخرى ، لكى يكون ذلك دليلاً على أننى صاحب الرسالة، وقام على بتوصيل الرسالة فعلا لإننى لم أسمع عنها بعد ذلك لفترة طويلة.
لكن ظل هناك فى قصة عبير حدث خيالى أخير ، فبعد حوالى عشرين عام على كل هذه الأحداث، وبعد إنتهاء كل هذا الزمن وأصحابه، وبعد عودتى من مصر سنة 2017 بعد نشر كتابى أساطير الدين والسياسة، وعندما كنت فى إندونيسيا أرعى زوجتى فى مرضها الكلوى ، وأعد كتابى قصة مصر فى العصر الإسلامى ، بعيداً عن كل العالم ، فوجئت ذات يوم برسالة على أنبوكس صفحة الترجمة تقول ، جميل تعريفك بنفسك ، هل يمكن أن تزيد؟ كانت الرسالة بالإنجليزية ومن عبير ، التى يبدو أنها قد عثرت على صفحة مكتب الترجمة على النت بالمصادفة أو أثناء بحث متعمد ، رددت عليها أهلاً عبير ، نحن نعرف بعضنا جيداً، ودخلت على صفحتها وأرسلت طلب إضافة ، لكنها لم تقبله ، لكنى فوجئت برسالة أخرى فى اليوم التالى على نفس صفحة الترجمة تقول ، حصلت على الماجستير فى التاريخ ، وأعمل على الدكتوراة الآن ، وأريد مساعدتك فى اللغة الإنجليزية ، فأجبت فوراً ، تحت أمرك إرسلى أى نص تحتاجينه وسوف أترجمه فوراً ، ردت لا أريد ترجمة ، أريد أن أتكلم معك بالإنجليزية ، إذا سمح وقتك ، أريد أن نلتقى وجهاً لوجه ، كانت هى نفس عبير اللئيمة التى عرفتها ، والتى إذا أرادت شيئاً لفت ودارت حوله أولاً ، فكتبت لها ، هذا شئ يسعدنى ، لكنى الآن فى إندونيسيا بسبب مرض زوجتى ، ولايمكننا أن نتكلم إلا فى الواتساب، وأعطتها رقم الواتساب ، فردت فوراً، وكأن قد لسعها عقرب ، شكراً ، الله يبارك زوجتك . ولم أسمع عنها بعد ذلك فعلاً.
كانت عبير تجربة قصيرة ولكن ذا أثر مدمر على حياتى، لم أتوقعه أبدأ ، فقد كانت المبالغ التى أنفقتها عليها فى تلك الأشهر القليلة التى عرفتها فيها ، حلم لم يتكرر بعد ذلك فى حياتى ، وكنت أعتقد أن حسن الحظ الذى بدأ أخيراً بعد سنوات الغربة الطويلة سوف يستمر إلى الأبد ، لذلك لم أعباً بتلك المبالغ والتى كنت أنوى تخصيصها لشراء شقة فى مصر، بعد أن تخليت عن شقة أبى لأصحاب العمارة، حيث لم تعد تناسببنى، وأجلت مشروع شراء الشقة لظرف آخر، لكن ذلك ذلك الظرف لم يأت أبدأ مع الأسف ، رغم أن ظروف العمل قد إستمرت فى إزدهار لعدة سنوات بعد ذلك فعلاً ، لكن الإزدهار لايتأتى بالضرورة بالإدخار، خاصة فى حياة المسرفين أمثالى ، كان المبلغ الذى كنت قد إدخرته حين تعرفت بعبير مجرد صدفة ، كان حوالى عشرين ألف دولار، وكان مبلغ معقول بحسابات التسعينات ، وبالإضافة إلى مداخيلى الشهرية التى أنفقتها أيضاً أثناء وجودها بالإمارات ، فقد كان ذلك يكفى لشراء شقة فاخرة بأسعار ذلك الزمن ، لكن المصادفة لم تتكرر مرة أخرى ، وزاد الأمر سوءً بالإرتفاع الجنونى المفاجئ فى أسعار الشقق ، حيث أصبحت بالملايين بعد أن كانت بالآلاف ، فضاع حلم الشقة الذى كان بين يدى إلى الأبد، وحين تغير شعور أبنائى نحو بعد ذلك بسنوات طويلة ، ونفروا من وجودى وأرادوا الإستئثار بالمنزل وبحياتهم الخاصة ، وأردت العودة إلى مصر بشكل نهائى ، لم أجد منزلاً يأوينى ، بعد أن رفض أخى عبدالسلام إستقبالى فى منزله ، الذى أنفقت عليه أكثر من عشرين عاماً عندما كانت الدنيا معى ، ومرة أخرى لم أجد سوى دبلوم الترجمة، الذى لم يعد العمل به يساوى شيئاً فى عهد السيسى، الذى إنقلبت فيه أحوال مصر رأساً على عقب ، بشكل لم يكن فى الحسبان أيضاً. إنطوت قصة عبير على كثير من العبر ، إن المرأة لاتنسى الرجل الذى هجرها أبداً ، حتى لو لم تحبه أصلاً ، كما إن إهدار المال والعواطف ، هما أكبر خطايا الإنسان فى حق نفسه.
وهكذا وبينما كنت أعيش هذه الحياة المترفة الضائعة المتناقضة كانت زوجتى فى إندونيسيا تعيش الحياة بطريقة عملية أخرى، إنتهزت زوجتى تلك الفرصة التى إبتسمت لنا فيها الحياة. فإشترت قطعة من الأرض ثم قامت تدريجيا ببناء فيلا كبيرة عليها كما إشترت سيارة وبدأت تتحرك إلى الأمام ببطء حتى إتخذت فى النهاية الخطوة الحاسمة التى غابت عنى تماما وهى إستئجار رخصة لتصدير العمالة الإندونيسية لحسابنا الشخصى. كانت تلك خطوة حاسمة فعلا رفعت من مستوانا المادى بشكل كبير جعل حتى الإستغناء عن عملى فى أبوظبى أمرا ممكنا فى نهاية الأمر. لكن تلك الخطوة كانت نذيرا بتغير رفيق كفاحى على سالم فقد إستبد به الحسد وتصور أننا نكسب من هنا وهناك وأننا لانستحق كل هذا فإستولى عليه الحسد وكشف عن وجه قبيح لم أكن أعرفه عنه طوال هذه السنوات وتماما كما تصرف سعيد تجاه شريكه نظير قبل عدة سنوات فى السعودية بدأ على سالم يتصرف تجاهى وفى النهاية لم يكن هناك فرق بين السعودية والإمارات إلا من حيث الشكل فقط . تغير سلوك على سالم تماما وأخذ يدبر المكائد للتخلص منى. كنت من فرط ثقتى بعلى قد نقلت كفالتى من مؤسسة التمنى إلى كفالته الشخصية. وهكذا عندما جاء الوقت بدأ يخيفنى بالطرد من دولة الإمارات وفقدان كل شئ. لكن الأمور كانت قد تغيرت كثيرا دون أن يدرى. فقد كنت أنا وزوجتى المتحكمين الحقيقيين فى العمل وكان طردى يعنى إنهيار العمل كله. لكن على من فرط حسده كان مندفعا شديد القسوة وأخذ يدمر كل شئ حوله فكان يضرب الخادمات الإندونيسيات بقسوة شديدة لأقل الأسباب على غير العادة إستفزازا وإهانة لى وكان كلما حضر أحد من اقاربه لزيارته فى المكتب لايبدى لى الإحترام الذى إعتاد أن يبديه لى فكان ينادينى بإسمى المجرد عبدالجواد بدلا من أن يقول أبوجمال كما إعتاد وكان دائما يردد بعض الكلمات الجارحة بصوت عالى حتى تصل إلى سمعى فكان دائما يقول لضيوفه (حايشاركونا فى ملك أبونا) كانت تلك الكلمة دائمة التردد على لسانه. وكنت كلما عدت من أجازة تغير لونه وتباطئ فى تسليمى العمل وجعلنى أوقع على ورقة باننى قد تسلمت كل مستحقات نهاية الخدمة ولم أفهم إذا ماكان يفعل ذلك تمهيدا لطردى بالفعل أم إرهابا لى للتقليل من نصيب المناصفة فى أرباح المكتب لم أفهم لكننى عندما فاض بى الكيل قررت أن أهدم المعبد على رأس الجميع وأن أترك كل هذا العبث وأعود إلى إندونيسيا.
كان على أن أتخذ بعض الخطوات الضرورية لتأمين إستمرار العمل من إندونيسيا ففكرت فى نقل مؤسسة التمنى من على سالم إلى صاحبها الأصلى عبدالله القبيسى بحيث يصبح هو وكيلى الرسمى بدلا من على الذى لم يكن من الممكن أن أثق به بعد ذلك. وبالفعل ذهبت إلى ممدوح سكرتير عبدالله القبيسى وقصصت عليه ماكان من أمرى وأمر على وعرضت عليه فكرة نقل المؤسسة إليهم فى مكتبهم فى النادى السياحى على أن يتولى هو إدارتها وأن أضمن أنا تزويده بالخادمات من إندونيسيا وتعريفه بكل شئ يخص العمل. رحب ممدوح بالفكرة التى كانت تعنى دخلا إضافيا له وعرضها على عبدالله فلم يمانع عبدالله إكراما لممدوح الذى كان عبدالله يثق به ثقة كبيرة . وهكذا وفى الوقت المناسب وقبل إنتهاء عقد تأجير الرخصة إتصل ممدوح بعلى سالم وأشعره بعدم رغبتهم فى تجديد تأجير الرخصة مرة أخرى وأنهم سوف يديرون المؤسسة بأنفسهم. فزع على سالم لهذا الخبر وكان قد أعد نفسه لطردى والإستحواذ على منجم الذهب لنفسه فقط وفجأة وجد كل خططه تنهار وحاول الإبتسام لى مرة أخرى كعادة الكفيل عندما يحتاج إلى شئ منك. لكن الوقت كان قد فات. أشعرت على سالم المذهول أننى ايضا قررت العودة إلى إندونيسيا وطلبت منه إلغاء إقامتى. هى نفس تلك الإقامة التافهة التى كان يهددنى بها وجدنى أطلب منه إلغائها بكل بساطة وإستهانة وإحتقار. فلم يصدق نفسه وإنهار. توسل إلى أن أبقى لنؤجر رخصة أخرى ونبدأ من جديد. تعهد إلى بأن نوقع معا عقد شراكة رسمى فى المحكمة يضمن كل حقوقى مستقبلا. تنازل عن حق النصف وإرتضى بأى نصيب أرتضيه له من أرباح المؤسسة. ولكن هيهات. رفضت كل عروضه وأصريت على إلغاء الإقامة. لم يكن أمام على والذى أدرك المؤامرة بالفعل سوى أن يرضخ فى النهاية لإنه كان يعلم أن هناك أوراق كثيرة فى يدى. فكثير من تعاقدات الخدم لم تكن قد نفذت بعد وكان يمكننى إلغائها وأسبب له كثير من المشاكل مع العملاء كما أن مبلغ الخمسين ألف درهم تأمين على المؤسسة كان فى يد ممدوح سكرتير عبدالله القبيسى وكان يعلم أنه لن يستطيع إسترداده إذا ماسبب لى أى تعطيل أو أى مشكلة من أى نوع. فى النهاية إستسلم على سالم وألغى إقامتى وغادرت الإمارات إلى إندونيسيا فى بداية سنة 1996م وبعد أشهر قليلة إنتهى عقد تأجير مؤسسة التمنى لعلى سالم و تم نقل مقرها من الخالدية إلى النادى السياحى وأصبح ممدوح هو مديرها الجديد. وخرج على سالم بخفى حنين.
كان بينى وبين على سالم أحلام وعهود كثيرة. كنا قد إتفقنا - وبدأنا التنفيذ بالفعل - فى أن نستخدم أرباحنا من جراء إستقدام الخدم فى فتح مجالات تجارية جديدة من إندونيسيا. كالملابس الجاهرة مثلا والتى إستوردنا بعض منها بالفعل. كانت صناعات إندونيسيا الصاعدة فى رواج فى دولة الإمارات فى ذلك الوقت. وكانت صناعة الملابس الجاهزة بصفة خاصة وقبل أن تنافسها الملابس الصينية فى رواج كبير. لكن على سالم تعجل ولم ينتظر وفقد توازنه عندما رأى الأرباح الكبيرة التى تحققها تجارة الخدم فنسى أى أحلام أو عهود مشتركة وفكر فى طرد هذا المصرى الفقير والإستحواذ على منجم الخدم لنفسه فقط لكنه فشل فى مسعاه وعاد هو موظف بسيط كما كان وعدت أنا إلى بلادى مصر فى نهاية الأمر، ولئن كنت أنا قد إرتضيت بما آلت إليه احوالى فى النهاية فلا أعرف إذا كان هو قد رضى بما آلت إليه أحواله؟، والواقع أننى لم أعرف عنه شئ بعد ذلك فقد نسيته بعد ذلك بفترة قصيرة وكأننى لم ألتق به أبدا فى حياتى وربما لم أتذكره إلا وأنا أسرد هذه الذكريات الآن. وقديما قرأت كلمة فى كتاب تقول أن أقسى عقاب توقعه بإنسان هو نسيانه ومحوه من ذاكرتك تماما.
قضيت سنة 1996م فى إندونيسيا وفى سنة 1997م إستخرج لى ممدوح إقامة جديدة فى دولة الإمارات على كفالة مؤسسة التمنى فعدت إلى دولة الإمارات مرة أخرى ولكن كضيف زائر وصاحب شركة عمالة إندونيسية هذه المرة.
كان من الطبيعى فى كل مرة أزور فيها الإمارات أن أواصل الرحلة إلى مصر لأزور أصدقائى واقضى بعض الوقت هناك ثم أعود إلى الى إندونيسيا عبر الإمارات مرة أخرى. وكان من الطبيعى أن يعود إلى ذاكرتى أثناء تلك الزيارات حلم مواصلة دراستى العليا الذى ظل يراودنى منذ مغادرة مصر. كان الوقت قد تأخر فقد كنت قد تجاوزت سن الأربعين. ولكن الإغراء كان قويا . كانت حياتى قد أصبحت شبه مستقرة ولى دخل مناسب من خلال شركتنا فى إندونيسيا. وأصبح عندى فائض وقت يمكننى أن أقضيه فى الدراسة إذ كانت زوجتى تستطيع إدارة العمل بنفسها ولاتحتاج منى سوى إلى مساعدة بسيطة فى متابعة بعض الأمور المتعلقة بالعمل كلما مررت بالإمارات. وهكذا تهيأت الظروف لتحقيق حلم الدراسات العليا.



















10- سنوت الثورة

توجهت نيتى فى بداية الأمر إلى مواصلة دراستى العليا فى مجال التاريخ. تخليت عن طموحى الصغير فى مجرد الحصول على إجازة فى اللغة الإنجليزية إلى طموح أكبر فى الحصول على الماجستيروالدكتوراة فى التاريخ. كان فائض الوقت والمال يسمح بهذا الطموح. قدمت أوراقى لأحد معاهد الخدمات التعليمية بأبوظبى، وتركت له حرية البحث لى عن مكان للحصول على درجة الماجستير فى التاريخ من جامعة الإسكندرية أو جامعة القاهرة. كنت أتصور أنه يستطيع تأمين هذا المكان لى بأفضل مما لو بحثت عن ذلك بنفسى وبالفعل لم يمض وقت طويل حتى إتصلت بى مديرة المعهد وأخبرتنى بأنهم وجدوا لى مكانا فى معهد الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة. ترددت فى بادئ الأمر لإنه لم يكن لى إهتمام بتاريخ إفريقيا و كان إهنمامى الأكبر بتاريخ الشرق الأوسط ، ومع ذلك فقد أقنعتنى مديرة المعهد بأن مصر تقع أيضا فى إفريقيا وإننى يمكن أن أبحث فى أى عصر من عصور التاريخ المصرى من خلال تاريخ إفريقيا نفسه. ولإننى كنت متعجلا ، كعادتى ، فقد صدقتها ونزلت إلى القاهرة فى الموعد المحدد لإجراء إختبار القبول. كان ذلك فى حدود سنة 1998م.
إجتزت إمتحان القبول بنجاح وبدأت الدراسة بعد ذلك بوقت قصير. سكنت بفندق بحى الدقى القريب من جامعة القاهرة إسمه فندق كونكورد. كنت أبدو طالبا فريدا من نوعه بين زملائى الذين كانوا يصغروننى سنا. طالب يعمل ويعيش بين إندونيسيا والإمارات ويدرس فى مصر وينزل بفندق بالقاهرة ومع ذلك فقد نشأت بينى وبين معظمهم ألفة سريعة. لكن الدراسة بدت لى منذ البداية غير جذابة مرهقة عديمة الجدوى. كان رئيس قسم التاريخ آنذاك هو الدكتور سيد فليفل الذى أصبح عميدا للمعهد بعد ذلك وكان له أسلوب فريد من نوعه أيضا فى تدريس الطلاب. كان يتعامل معنا بطريقة التدريب التأهيلى العسكرى إذ كان يعتقد أن الطالب الذى يصبر أكثر على الصعاب هو الطالب الذى يمكن أن يكمل حتى الماجستير والدكتوراة ولذا فلم يكن هناك كتب جاهزة يمكننا الرجوع إليها كان علينا فقط حضور المحاضرات والرجوع بعد ذلك لمكتبة المعهد للحصول منها على المعلومات الإضافية التى نحتاجها كما لم يكن تصوير كتاب كامل من المكتبة مسموحا به، كان مسموحا بتصوير جزء منه فقط. وهكذا كنا نقضى معظم اليوم بين المحاضرات والمكتبة ومحلات التصوير خارج الجامعة فكنت أعود إلى الفندق فى ساعة متأخرة كل يوم مرهقا محبطا غير مقتنع بأننى قد إخترت الطريق الأمثل لمواصلة دراستى العليا. وكلما مضى بى الوقت كلما أدركت أن المعهد كان معهد للدراسات الإفريقية كما تعنى الكلمة، فلم يكن من الممكن دراسة أى حقبة من حقب التاريخ المصرى إلا من حيث علاقته بإفريقيا فقط وليس بالشرق الأوسط الذى كان محل إهتمامى الحقيقى. مرت الأيام وبدأت أفقد الحماس للدراسة وبدأت أفكر فى العودة إلى إندونيسيا. لم تكن القاهرة بدورها مرحبة بى هذه المرة. تأجلت قصة الحب بينى وبين القاهرة لعدة سنوات أخرى. كنت أقضى عطلتى الأسبوعية يوم الجمعة مع أصدقائى الذين كانوا يجيئون لزيارتى من الإسكندرية فيقضون معى اليوم ثم يعودون إلى الإسكندرية. كنا نقضى معظم الوقت فى الفندق وأحيانا كنا نذهب لزيارة الأماكن الأثرية وأذكر إننى رأيت مشروع الصوت والضوء بمنطقة الأهرام الأثرية أثناء إحدى هذه الزيارات الأسبوعية. وأحيانا أخرى كنا نذهب لتناول العشاء خارج الفندق ثم يعود أصدقائى إلى الإسكندرية وأعود أنا إلى الفندق لأبدأ رحلة جديدة مرهقة مع تصوير الكتب ودراسة تاريخ إفريقيا الذى لم يجذبنى أبداً برغم كل محاولات إقناع النفس التى بذلتها ، وفى النهاية قررت العودة إلى إندونيسيا خلال اجازة نصف العام على ان أفكر فى الأمر من هناك لكننى أننى لم أعد إلى معهد الدراسات الإفريقية بعد ذلك أبدا.
قضيت هذه السنة فى إندونيسيا وفى العام التالى عدت إلى مصر وإلتحقت بمعهد الدراسات اللغوية والترجمة بكلية الآداب بجامعة الإسكندرية. كان ذلك فى آخر سنة 1999م. إجتزت إمتحان القبول بكفاءة وبدأت الدراسة فى شهر يناير سنة 2000م وهكذا تصادف رجوعى وإستقرارى بمدينتى الإسكندرية مرة أخرى مع بداية سنة مميزة فى التاريخ. ويبدو أن ذلك كان فألا حسنا فقد كانت هاتان السنتان من أجمل أيام حياتى فعلاً.
كان كل شئ حولى يبدو جديدا متألقا وكأننى عدت شابا من جديد. أصبح لى أصدقاء جدد وحياة دراسية جديدة. كانت الدراسة تبدأ فى حدود يناير وتنتهى مع إمتحان نهاية السنة فى نوفمبرأى أنها كانت تستغرق عاما كاملا. ومع ذلك فقد مرت هاتان السنتان كالبرق، كنت أقضى الشتاء فى الدراسة بالإسكندرية ثم أسافر إلى إندونيسيا فى حدود مايو واقضى الصيف فى المذاكرة هناك ثم أعود فى حدود أكتوبر لمراجعة مافاتنى مع زملائى استعدادا للإمتحان فى نوفمبر. مضى كل شئ فى سلام ، علاقات حسنة مع الأساتذة و علاقات ودية مع الزملاء رعم فارق السن الكبير أحياناً. وإجتزت إمتحان السنة الأولى بتقدير جيد جيدا وكذلك السنة الثانية وهكذا حصلت على الدبلوم بتقدير عام جيد جدا سنة 2001م ولم يكن ذلك بالأمر الهين ولا السهل فقد بذلت جهدا مضاعفا كبيرا لكن مجهودى توج فى النهاية بالنجاح. لم يكن الدبلوم هو كل ماحصلت عليه فقد تكونت فى تلك السنين صداقات ضاع معظمها لكنى مازلت أحتفظ ببعض ذكرياتها حتى الآن. أذكر منها صداقتى بأستاذ الأدب العربى الدكتور صالح الياظى الذى إختطفه الموت منا بعد سنوات قليلة من تخرجى . ومازلت أذكر سحر زميلتى النوبية النبيلة التى كانت تحتفظ لى بكل مافاتنى من محاضرات أثناء فترات غيابى فى إندونيسيا وترفض حتى مجرد هدية من الهدايا الرمزية التى كنت أحضرها لزملائى المقربين أثناء عودتى مروراً بالإمارات، وقد دامت صداقتى بها حتى بعد التخرج وعودتى للإستقرار بمصر لفترة طويلة، وكذلك عنايات مدرسة اللغة الإنجليزية الطيبة والتى لا تقل عن سحر نبلاً. أما مروة الفرانكفونية الجميلة، زميلة شعبة الترجمة الفرنسية والتى جمعنى بها حضورنا المشترك لمادة النحو العربى أثناء السنة الدراسية الأولى فقد ظللنا على تواصل خلال السنة الثانية بعد أن إنتهت محاضراتنا المشتركة وحتى بعد التخرج وعودتى إالى إندونيسيا لحوالى سنة أخرى، ونمى بيننا برغم فارق السن شئ من عاطفة لم يمنع تطورها سوى زواجى وإرتباطى بأسرتى فى إندونيسيا ، أما الصداقة الوحيدة التى إحتفظت بها لفترة طويلة فهى صداقة زميلى العقيد محمد إبراهيم وهو عقيد متقاعد فى الجيش المصرى إلتحق بمعهد الدراسات اللغوية والترجمة بعد معركة شرسة مع إدارة جامعة الإسكندرية التى كانت ترفض الإعتراف ببكالوريوس العلوم العسكرية فى ذلك الوقت، وقد إستمرت علاقتى به بعد التخرج لفترة طويلة، ثم إنقطعت ربما بسبب إختلاف الطباع فى نهايةالأمر ،،،
حصلت على الدبلوم سنة 2001م وعدت إلى إندونيسيا لتدبير المال اللازم لشراء شقة صغيرة والبدء فى تأسيس مكتب ترجمة لأبدأ به حياة جديدة تحررنى من الإعتماد الإقٌتصادى على شغل العمالة الذى كنت أكرهه من كل قلبى رغم كل ماكان يدره على من ربح ، لكن الأقدار كانت تخبئ لى مالم أتوقعه.فجأة لم تعد المشكلة هى إزدياد عدد العملاء أو تناقصهم ولكنها أصبحت عدم توافر العمالة نفسها. ففجأة حدثت مشكلة ندرة فى سوق العمالة الإندونيسية نتجت عن إزدياد الطلب على توظيف الخادمات الإندونيسيات فى كل دول الخليج فلجأت شركات العمالة الكبرى فى إندونيسيا إلى دفع عمولات لموردى الخدم من القرى فى محاولة للحصول على أكبر عدد منهن وقد إنعكس ذلك على الشركات الصغرى - كشركتنا - بطبيعة الحال إذ إنصرف عنها معظم موردى الخدم إلى الشركات الكبرى التى تدفع لهم عمولات وكان على الشركات الصغرى أن تدبر الأموال المطلوبة للحصول على الخدم أو تغلق أبوابها. لم يكن هذا هو الحال فى الماضى ، فقد كان موردى الخدم هم الذين يدفعون لنا من أجل توظيف خادماتهن، على الأٌقل قيمة إستخراج جواز السفر، وكان المقياس بين الشركات هو مدى الخدمات التى تستطيع كل شركة تقديمه لعمالتها وليس ماتدفعه من عمولة لموردى تلك العمالة. وبحكم وجودى فى الإمارات فقد كنت أستطيع تقديم كثير من الخدمات لعمالتنا هناك والحفاظ على التواصل الدائم بينهم وبين أهاليهم فى إندونيسيا ولذا فقد راجت أحوال شركتنا الصغيرة فى إندونيسيا وأذكر إنه لم يكن يمر يوم واحد دون أن يحضر إلينا بعض موردى الخدم من أى مكان فى إندونيسيا ومعهم خادماتهم وعمولاتهم ورجائهم بأن نبحث لهن عن فرصة عمل جيدة فى الإمارات. لكن الأحوال قد إختلفت فجأة وبدأ موردى الخدم الذين ظلوا يتعاملون معنا لسنوات طويلة فى الإختفاء تدريجيا بإتجاه الشركات الكبرى التى تدفع لهم عمولات، وكان علينا أن ندفع أيضا لإسترجاعهم أو نغلق أبواب شركتنا. وإستطعنا بما كان لدينا من مدخرات محدودة مواجهة الموقف فى البداية و لكن حرب الأسعار سرعان ما إشتعلت بين الشركات ، فإذا مادفعت شركة مائة دولار لمورد الخدم دفعت شركة أخرى مائتين وهكذا إشتعلت حرب أسعار مجنونة بين الشركات نتج عنها إفلاس كثير من الشركات وأصبحنا بدورنا على وشك الإفلاس بعد أن نفذت كل مواردنا وبعنا قطعة الأرض الزراعية التى كنا نملكها فى "ناوى" بلدة زوجتى وقمنا حتى برهن فيلتنا لأحد البنوك مقابل قرض يقل كثيرا عن قيمتها الأصلية.، وزاد الأمور سوءً إفتتاح الأسواق الآسيوية الصاعدة للعمالة الإندونيسية والتى قدر لها أن تستحوذ على النصيب الأعظم من هذه العمالة فى النهاية ، ولم يعد هناك سوى وسيلة أخيرة لمحاولة تجنب الكارثة الوشيكة وهى عودتى للعمل فى أحد مكاتب التوظيف فى الإمارات كما كنت قد بدأت قبل سنوات طويلة ، فمن خلال إدارتى لأى مكتب توظيف مناسب كان يمكننى فعل الكثير لإنقاذ شركتنا الإندونيسية من الإفلاس . بالطبع لم يكن هناك فرصة للعودة لإدارة مؤسسة التمنى مرة أخرى ، فقد كانت قد اصبحت ، بدخلها المحدود ، ملكا لممدوح وأقاربه. وكان على أن ابحث عن عمل فى مكان آخر. وهكذا شاءت الأقدار أن أعود إلى أبوظبى لأبدء من الصفر مرة أخرى وأن ألتقى بعلى حسن الحوسنى صاحب مؤسسة المدينة للخدمات فى أبوظبى، أسوء صاحب عمل يمكن أن تبتلى به فى هذا العالم.
كانت قصتى مع على حسن الحوسنى مأساة بكل ماتعنى الكلمة وبعد كل هذه السنوات الجميلة التى قضيتها فى أبوظبى جاءت الخاتمة كأسوء يمكن أن يتصورها الخيال. فذات يوم وجدت إعلانا فى جريدة الخليج يطلب مديرا لأحد مكاتب الخدمات فى دبى. فأرسلت صورة من سيرتى الذاتية على الفاكس المذكور فى الإعلان وكان الرقم فى أبوظبى. وفى صباح اليوم التالى وجدت شابا مصريا يتصل بى ويخبرنى انهم قد إستلموا سيرتى الذاتية ويحدد لى موعدا فى مساء نفس اليوم للحضور للقاء أبو محمد وهو إسم الشهرة الذى كان يعرف به على حسن الحوسنى ، صاحب مؤسسة المدينة للخدمات والمشاريع الواقعة بمنطقة الخالدية بأبوظبى. نفس المكان الذى كنت قد بدأت فيه قصة كفاحى مع مؤسسة التمنى وعلى سالم قبل أكثر من عشر سنوات. وكأن التاريخ عاد يكرر نفسه ولكن بشكل أكثر قسوة هذه المرة. إستقبلنى على الحوسنى إستقبالا حافلا كعادة هؤلاء الناس عندما يكونوا فى حاجة إليك. ومن النظرة الأولى أدرك أننى الشخص المناسب لإدارة مكتبه الجديد المزمع إفتتاحه فى دبى وعندما سمع قصتى وعرف بإرتباطى بإندونيسيا إزداد إبتهاجا ووعدنى بكثير من المزايا فى حالة نجاح المكتب. ووعد بالمساعدة بتسيير أمور شركتنا فى إندونيسيا على أنها ستكون مصدرهم الرئيسى فى الحصول على العمالة. سعدت بكلامه وصدقته دون أن ألاحظ أن إيهاب الذى إستدعانى لمقابلته ظل طوال المقابلة واقفا بجوار الباب دون أن يجرؤ حتى على الجلوس فى مقعد بعيد. لم يكن من الممكن أن الاحظ ذلك وحتى لو لاحظت فلم يكن هناك طريق آخر. وافقت على عرضه بدون الدخول فى كثير من التفاصيل وبدأت إجراءات نقل الكفالة من مؤسسة التمنى إلى مؤسسة المدينة.
وفى الأيام الأخيرة لى فى مكتب التمنى قبل أن ابدأ عملى مع على الحوسنى إعترض حياتى حادث عكر صفوها لفترة طويلة وهو حادث إنتحار خادمة إندونيسية إسمها إيمى سوحيمى فى أبوظبى. كنت أجلس وحيدا فى مكتبى الذى كنت على وشك مغادرته بعد سنوات الرخاء الطويلة التى قضيتها به. وفجأة رن جرس تليفونى الخاص. كان المتحدث هو عمر مسئول القسم العمالى بسفارة أندونيسيا فى أبوظبى فى ذلك الوقت. كان يتحدث من مركز شرطة العاصمة. قال لى أن هناك خادمة منتحرة من خادماتى وطلب منى الحضور لمقابلته فى السفارة. وقع الخبر على كالصاعقة فقد كنت أعرف ماذا يعنى هذا. كان يعنى مأساة إنسانية بل وعملية أيضا سوف تخيم على وعلى أسرتى فى إندونيسيا فى مواجهة أهل الخادمة ومسئولى وزارة العمل. وفى ظل هذه الظروف القاسية التى كنا نجتازها كان هذا الحادث هو آخر مانحتاجه. لم تكن تلك تجربة جديدة فى الواقع فقد سبق أن ماتت إحدى خادماتى فى أبوظبى قبل ذلك لكنها كانت قد ماتت فى حادث سيارة مع إبنة كفيلها فى ملابسات واضحة تمام الوضوح ومع ذلك فقد إستغرق الأمر شهورا حتى حسم وحتى أقنعنا أهلها بقضاء الله وقدره وحصلنا لها على حقوقها بمساعدة كفيلها الذى قام بإرسال جثمانها إلى إندونيسيا كما إستطاع الحصول لها من شركة التأمين على السيارة المنكوبة بتعويض قدره سبعين ألف درهم. لاأذكر إسم تلك الخادمة الآن لكن حادث موتها كان حادثا طبيعيا ومع ذلك فقد إستغرق تسوية الأمر كثير من العناء ، فأى عناء إذن كان سيستغرقنا لتسوية حادث إنتحار؟
ذهبت لمقابلة عمر فى السفارة وأخذ كعادته يساومنى فلم أكن استطيع الحصول على الأوراق الرسمية الخاصة بالحادث دون مساعدة السفارة .كان عمر نمطاً شريراً آخر من الناس ، لاتعرف الرحمة إالى قلبه سبيلاً ، حتى مع بنى جنسه الإندونيسيين ، كان قد درس الشريعة والقانون فى كلية دار العلوم بالقاهرة وحصل على درجة الماجستير على حد قوله. لكنه كان مجردا تماما من المشاعر الإنسانية إلا فيما يخصه ويخص عائلته ويخص مصالحه الشخصية. كان فى العقد السادس من العمر يميل إلى السمرة متوسط القامة يتحدث بصوت خفيض يرحب بك عندما يحتاج إليك،ويتجاهلك عندما لايكون فى حاجة إليك، لايعترف بفضل ولاجميل ولايشبع أو يشكر أبدا. كان من مآسى هذه الحادثة أنها أوقعتنى فى يد عمر مرة أخرى بعد أن كنت قد تحررت من التعامل معه فى السنوات الأخيرة. طلب منى أن أشعر أهل الخادمة بالحادث وأحصل منهم على الموافقة على دفنها فى أبوظبى تجنبا للمشقة على الجميع. قلت له لاأستطيع ذلك دون أن يكون فى يدى شهادة وفاة الخادمة وتقرير البوليس عن الحادث ومحضر النيابة. لزم الصمت وكنت أعرف أنه يريد الثمن ، أعطيته ماإستطعت وبدأنا معا رحلة إنهاء الإجراءات الشاقة حتى دفناها سويا. وفى اليوم المحدد للدفن ذهبنا معا لإستخراج الجثة من الثلاجة. رأيت وجه إنسان برئ يرقد فى سلام بعد أن ودع هذا العالم الظالم.إنسان مات فى ظروف غامضة لم تكشف عنها تحقيقات النيابة الساذجة التى تقول أن الخادمة القت بنفسها من الشرفة بعد منتصف الليل فى لحظة غضب بعد شجار مع الكفيلة. وهل هناك عمل بعد منتصف الليل؟ أوراق تحقيقات ساذجة عديمة الضمير عن إنسان مات دون أن يحصل على أى حقوق أوأى تعويض فقد رفضت الكفيلة مدام نجوى وهى إماراتية من أصل سعودى نقل الجثمان إلى إندونيسيا على نفقتها أو دفع أى تعويض فقط سلمت حقيبة صغيرة بها ملابس الخادمة مع مبلغ بسيط هو باقى رواتبها. فعلت ذلك وهى تنعتها بالوسخة. وقبلت السفارة أوراق التحقيقات الساذجة وشتائم نجوى القبيحة وصرحت بدفن الخادمة فى أبوظبى دون طلب أى تعويض .
كانت تلك هى آخر ذكرياتى مع مؤسسة التمنى قبل أن ابدأ مع كفيلى الجديد على الحوسنى رحلة عمل لم تختلف نهايتها كثيرا عن نهاية القتيلة الإندونيسية إيمى سوحيمى مع كفيلتها نجوى.كان على حسن الحوسنى محاطا بموظفين من جميع الجنسيات تقريبا وخاصة من الفلسطينين والمصريين والفلبينيين والهنود . كان فى نحو الخمسين من العمر، ضابط تحريات سابق فى شرطة أبوظبى ، طويل القامة ، معتل الصحة بسبب داء السكرى ، شديد الغرور متكبر ، جاهل لا يقرأ حتى الجريدة ، لايعرف فى العالم سوى جمع المال وإستغلال الأجانب كعادة معظم خليجى ذلك الزمن ، وقد أعطته قوانين الكفالة الإستعبادية وعلاقاته القوية بجهاز الشرطة ، إحساس بأنه إله وسط عبيد يركعون ويسجدون له فى الصباح والمساء.كان ضعيفا أمام النفاق والإطراء إلى درجة المرض فكان يقرب كل من يطريه ويمدحه ويبعد كل من يكتفى بأداء عمله فى صمت .يعتمد على سياسة فرق تسد بين الموظفين ولذا فقد كان يوظف أناس من جنسيات مختلفة ويشعل بينهم الفتنة فيتشاجرون وينقل كل منهم أخبار الآخر له. ولاشك أنه كان قد تعلم ذلك من عمله السابق كضابط تحريات. وقد تزوج عدة مرات ، من مصرية وإماراتية وكويتية ، وقد طلق الأولى والثانية وعاش مع الأخيرة . كان عديم الإنسانية لايؤمن سوى بالمصالح وبأن لكل شئ ثمن فمن يكسب من ورائه ألف درهم كان يعطيه من وقته عشر دقائق فقط أما من يكسب منه ورائه عشرة آلاف فلا بأس من إعطائه ساعة كاملة ، وكان يفتخر بقول ذلك علانية. لم أرى رجلا مجردا من القيم مثله ، حتى سعيد الأسمرى الذى عملت معه فى الرياض كان بداخله وازع دينى كان يمنعه عن إرتكاب بعض المظالم أحيانا ، فمثلاً كان إذا ماخطط لإستغلال أحد مكفوليه ومساومته على إنتزاع أكبر قدر ممكن من المال ، إذا ماأراد أجازة أو أى خدمة أخرى ، ثم تصادف أن قابله فى المسجد يصلى كان يمتنع عن إستغلاله أو يخفض ثمن الخدمة المطلوبة، ، أماعلى الحوسنى فكان لايمتنع عن الأذى إلا لمن ينافقونه ويمدحونه وينقلون له أخبار زملائهم الموظفين فقط. وجدت نفسى أدخل إلى عالم شديد القذارة أستنشق هواءا ملوثا صباحا مساءً. كانت السنوات التى قضيتها فى كفالة عبدالله القبيسى صاحب مؤسسة التمنى مختلفة تماما لم يكن عبدالله قاسى القلب وإن كان شديد الكبرياء مثله كمعظم الخليجين فى ذلك الزمن البترولى ، لكنه لم يكن يكره الغرباء ولاكان يستعبدهم بل كان صديقا لكثيريين منهم فى الواقع، ولذا فلم أشعر أبدا أثناء السنوات التى قضيتها فى كفالته بأى غبن أو قلق لكنى فى عالم على حسن الحوسنى وجدت نفسى أدخل إلى عالم صراع الجنسيات المرعب فى الخليج ، والتى رحت ضحيته فى النهاية. كان مساعد على الحوسنى ويده اليمنى شاب لبنانى من أصل فلسطينى إسمه فادى قدورة كان قد حصل على درجة الماجستير فى إدارة الأعمال من إنجلترا ويحمل الجنسية الإنجليزية ولذا فقد كان شديد الكبرياء يعتقد أنه الوحيد الذى يتكلم الإنجليزية ويفهم فى علم الإدارة فى هذا العالم. لكنه كان أيضا شديد الشبه بعبدالله الحوسنى نفسه، مغروراً، قاسى القلب، ماديا، ولايهمه سوى إيذاء الآخرين ، ومن الطبيعى أن يعجب نموذجه على الحوسنى فكان محل ثقته التامة وقد قام فادى بتوظيف لبنانى آخر من أصل فلسطينى أيضا إسمه عبدالسلام بوظيفة مدير مالى وقد قاما كلاهما بالسيطرة على كل أعمال على الحوسنى بما فى ذلك مكتب الخدمات الذى كنت أديره، ، وكان من سوء حظى أن نقلت كفالتى إلى على الحوسنى وهما فى أوج سطوتهما ونفوذهما. ومنذ البداية لم يرتاحا لوجودى وأعلنا على حرب الجنسيات فوراً . كان الإتفاق مع على الحوسنى على أنه بعد إنتهائى من تأسيس مكتبه الجديد فى دبى وتدريب الموظفين أن يتركنى أتحرك بين إندونيسيا والإمارات بحرية بحيث أضمن له توفير العمالة التى يحتاجها من هناك مع الإستمرار فى إدارة المكتب فى نفس الوقت ، وذلك مقابل راتب وعمولة محددة عن كل عامل وعاملة يتم توظيفهم، وكان من شأن هذا الإتفاق فى حالة تنفيذه أن يفيد مكتبه وينقذ شركتنا من الإفلاس أيضاً ، وفى البداية سارت الأمور على مايرام وبعد إفتتاح المكتب فى دبى بأشهر قليلة سافرت إلى إندونيسيا لبعض الوقت ثم عدت ومعى عدد كبير من طلبات التوظيف ولكن هذا الإتفاق قد اثار حسد فادى ورفيقه عبدالسلام فأخذا يضغطان على على الحوسنى من أجل تغييره أو إلغائه فإما أن أبقى فى الإمارات وأعمل معهم كما يعمل أى مدير مكتب عادى وإما أن تلغى إقامتى وأعود إلى إندونيسيا لأورد لهم الخدم كأى شركة إندونيسية دون أن يكون لى أى إقامة دائمة فى الإمارات. وإستجاب على الحوسنى لضغطها وأخذ يضغط على بدوره من أجل تغيير الإتفاق بحيث أصبح مديرا عاديا لمكتب دبى وأعيش واستقر فى الإمارات ويكون لى أجازة سنوية فقط كسائر الموظفين. وعندما قلت له بشئ من الغضب فى وجهه لم يكن هذا إتفاقنا غضب وأضمر لى الشر. ومرة أخرى حاول أن يتكلم فى حق المصريين بأنهم شعب سئ فرددت عليه وقد صدمنى تصريحه المفاجئ هذا ، بأننا شعب كبير وبيننا الصالح والطالح والخير والشرير مثلنا مثل أى شعب آخر، فلم يعجبه هذا الرد أيضا أخذ سوء الفهم بيننا يزداد يوما بعد يوم حتى فاجأنى يوما بقراره بإلغاء إقامتى فى دولة الإمارات. حاولت جاهدا أن أثنيه عن عزمه أو حتى أن يتركنى أنقل كفالتى إلى جهة أخرى لكن قلبه الشرير كان قد نوى إيذائى وكان يعرف أن إلغاء إقامتى فى الإمارات هو ضربة قاتلة لى ولأسرتى فى إندونيسيا ، فى ظل ظروف شركنا المتعثرة ، لكنه أراد ضربى فى مقتل وفعل والغى إقامتى بدون أسباب وجيهة وكان ذلك فى آخر سنة 2006م لمجرد إلحاح من فادى وعبدالسلام ورغبة منه فى الإنتقام من إمتناعى عن تملقه ونفاقه أو الصمت على الإساءة. كان وقع الخبر كالصاعقة على أسرتى والتى كانت قد إستضافته قبل اشهر قليلة اثناء مروره من الفلبين إلى إندونيسيا وذبحت له خروفا على عادة العرب، وهكذا بكل بساطة إنتهت قصة سبعة عشرعاما من عمرى قضيتها فى الإمارات خرجت منها خروجا لا يختلف كثيرا عن خروج القتيلة إيمى سوحيمى ، بسبب قوانين الكفالة الملعونة ، و ربما أيضاً بسبب الشر الملازم لطبيعة هذه المنطقة من العالم ،،،
إحتفظت بمعنوياتى عالية ولم أركع أو أنهار وعدت إلى إندونيسيا أحاول مساعدة زوجتى فى إدارة ماتبقى لها من عمل لكننا لم نستطع المقاومة طويلا فقد قتل طردى من الإمارات الأمل الأخير لنا فى أن نستمر فى سوق العمالة وسرعان ماأعلنا إفلاسنا وصفينا شركتنا وأصبحت زوجتى مجرد سمسار عمال بعد أن كانت صاحبة شركة ناجحة مزدهرة وأصبحت أنا بلا عمل وظهر بطل جديد غير متوقع فى حياة أسرتنا الآخذة فى الإنهيار. كانت إبنتى موناليزا قد حصلت على الثانوية العامة وإلتحقت بإحدى كليات السياحة والفنادق فى جاكرتا لكنها ومنذ السنة الأولى فى الدراسة وجدت نفسها مضطرة وبحكم هذه الظروف الغير متوقعة إلى العمل فى أحد الفنادق بجانب مواصلة دراستها من أجل مساعدتنا، وسرعان ماترقت فى عملها وأصبحت ديفى موناليزا الجميلة الرقيقة التى نشأت فى تدليل ورفاهية هى البطل الحقيقى الذى أنقذ أسرتنا من الإنهيار.
قضيت بعض الوقت مع أسرتى فى إندونيسيا حائراً لاأدرى ماذا أفعل ، فبعد تصفية الشركة هناك لم يعد لدى ماأفعله فقررت العودة إلى مصر حوالى سنة 2007م لأبدأ حياة جديدة ، وحيدا ، كما كانت العادة لكن بعيدا جدا هذه المرة ، ظللت أحتفظ بمعنوياتى عالية وبأمال كبيرة فى حياتى الجديدة ، سكنت شقة أرضية صغيرة متواضعة للغاية بحى سيدى بشر، وذلك بعد أن كنت أسكن بالفنادق أو مساكن منازل الضباط الفاخرة بحى مصطفى كامل ، لكنى مع ذلك عكفت على العمل بجد وإجتهاد وقمت بنشر ثلاث كتب مترجمة على التوالى هى كتاب تاريخ الشرق الأوسط لبيتر مانسفيلد، وكتاب أساطير شرق أوسطية ، لصموئيل هنرى فورد ، وكتاب مصر المسيحية لإدوارد هاردى ، وأذكر إننى عندما كنت أقوم بنشر كتابى الثالث مصر المسيحية قد إحتجت لبعض المال للمساعدة فى نشر الكتاب فطلبت مبلغ من صديقى القريب جدا حمدى وكان فى ذلك الوقت يعمل كمدير مالى لفرع إحدى الشركات العقارية الكويتية الكبرى فى دبى ، وبالفعل قام حمدى بإرسال المبلغ لكن صداقتنا بدأت فى الإهتزاز والتراجع ،،،
وفى الوقت الذى عكفت فيه على ترجمة الكتب فقد عملت كمدرس لغة إنجليزية فى معهد أكسفورد الواقع بشارع الإقبال بحى لوران كما حصلت على فرصة للعمل كمترجم حر مع أحد مكاتب الترجمة بالقاهرة عبرالإنترنت وهكذا إستطعت أن أزور أسرتى فى إندونيسيا بعد حوالى السنة زيارة طويلة نسبيا كما إستطعت بعد عودتى وبفضل المساعدة الشهرية التى أصبحت ترسلها لى إبنتى أن أنتقل من شقتى المتواضعة بحى سيدى بشر إلى شقة متوسطة المستوى بحى بولكلى بجوار قريبى الوحيد ، أخى غير الشقيق عبدالسلام ، كما قررت أن اشارك فى العمل العام وهو الهدف الحقيقى الكامن فى أعماق قلبى ، والذى كنت أسعى إليه بعودتى إلى مصر.
كنت أنوى الإنضمام إلى حزب الوفد فبعد إعادة قراءتى لتاريخ بلادى بعد أن تحررت من الرؤية الشيوعية للتاريخ وجدت أن ثورة 1919م العلمانية الليبرالية كانت هى البداية الصحيحة لتطور مصر الحديثة وبنفس الشكل الذى حدث فى تركيا وفى نفس الوقت تقريبا مع مصطفى كمال أتاتورك. لكنى وجدت وفد آخر غير ذلك الذى قرأت عنه فى التاريخ وجدت وفدا تابعا يتحالف مع نظام الحكم العسكرى أحيانا ومع الإخوان أحيانا أخرى يسيطر عليه رجال الأعمال وصراعات السلطة. كان رئيس الوفد فى ذلك الوقت هو نعمان جمعة ثم تلاه محمود أباظة ثم تلاهم السيد البدوى وبالطبع فلم يكن لأى من هؤلاء علاقة بسعد زغلول ولا بمصطفى النحاس من قريب أو بعيد. حجمت عن الإنضمام للوفد لكننى ظللت أحبه فى قلبى وحتى هذه الساعة مازال هذا الحب فى قلبى وأرى أن إستفاقة مصر المعاصرة لن تتحقق إلا بقيادة حزب الوفد إذا ماتوفرت له قيادة بحجم سعد زغلول أومصطفى النحاس ، أو بقيام حزب بديل، يحمل نفس المبادئ ويلعب نفس الدور الذى لعبه الوفد فى حياتنا خلال الحقبة الليبرالية قبل ثورة 1952م ، مع حساب فارق الزمن وتطوير الأهداف تبعاً لرؤية طه حسين فى مستقبل الثقافة فى مصر، وبالطبع لم يكن من الممكن أن أشارك فى العمل العام وحيدا فالإنسان لايعمل إلا من خلال جماعة وهكذا إنضممت إلى حزب مغمور تحت التأسيس يسمى الحزب المصرى الليبرالى تعرفت عليه مصادفة على شبكة الأنترنت تصورت متعجلاً أنها تحمل نفس أفكارى وهكذا إتصلت بهم وإنضممت إليهم حوالى سنة 2009م .
كان رئيس المجموعة أستاذ جامعى سابق متخصص فى الكيمياء فى حوالى السبعين من العمر إسمه صلاح الزينى. كان شديد الثقافة بالطبع لكنه كان يفتقد إلى الكاريزما السياسية كما كان شديد الإعتزار ببرنامجه السياسى لدرجة المرض وبحيث أصبح يعتقد أن كل شئ على مايرام وأنه فى سبيله إلى حكم مصر إن عاجلا أو آجلا بمجرد هذا البرنامج الفريد وكان دائما مايردد ( أنا عندى برنامج مافيش زيه فى مصر أبدا). كان له صديق فى نفس عمره تقريبا يشاركه نفس الإيمان المطلق بقوة أفكاره وقوة حزبه إسمه عبدالعزيز جمال الدين وكان قد حقق لنفسه شهرة فى أوساط القاهرة الثقافية كمحقق للكتب التراثية وكان الناشر لمجلة يسارية شهيرة فى حوالى الثمانينيات عرفت بإسم ( مصرية) وذلك على إسم إبنته الوحيدة وقد عاد لنشر مجلة شبيهة أخرى أثناء فترة تواجدى معهم بإسم (المصرى الليبرالى). كان خرف الشيخوخة قد إستبد بعبدالعزيز وكان يعتقد أنه هو رئيس الحزب وليس صلاح وكان شديد العدوانية تجاه الآخرين كما كان هو وصلاح يرفضان أى محاولات للنيل من مكانتهما فى ذلك الحزب المغمورمن خلال أى إنتخابات داخلية.أصبح الحزب بالنسبة إليهما هو ملاذ الشيخوخة الأخير كمقهى المعاش الذى يتسليان بالجلوس عليه. كان معهم شخصية فريدة أخرى هى شخصية محمود الفرعونى الذى سخر حياته للعمل السياسى وللتبشير بأفكار الحزب المصرى الليبرالى فى الوطنية المصرية. كان الفرعونى شابا من أسيوط بصعيد مصر، قد تجاوز الثلاثين من العمر ضئيل الجسم كثير التدخين ذو ثقافة لابأس بها ، وقد سيطرت السياسة والوطنية على عقله تماما بحيث أصبح معروفا فى الأوساط السياسية القاهرية وكان يمثل قيادة الشباب فى الحزب. كان هناك أيضا كثير من الأقباط ، لم أكن أعرف بعد أن مايهم معظم الأقباط فى الأساس هو مهاجمة الإسلام من خلال الأحزاب العلمانية، وليس الدفاع عن تلك الدولة العلمانية المزعومة، لقد كانوا مجرد جيل من الإخوان المسيحيين ، وليسوا كأقباط ثورة 1919 الذين أغرمت بهم على صفحات التاريخ . كان هناك إسحاق حنا مسؤول جمعية التنوير ، هانى الجزيرى ناشط سياسى قبطى وأمجد خيرى طبيب وناشط قبطى ورامى كامل ناشط قبطى ومينا مجدى طبيب وناشط قبطى ومجدى سليمان تاجر وناشط قبطى، ورومانى جاد الرب ناشط قبطى ومبشر، وكذلك أشرف راضى ناشط سياسى معروف فى القاهرة ومحمد أبو الوفا مهندس وكاتب قصة قصيرة ومحمد البدرى الفخور بإلحاده وكراهيته العمياء للمملكة السعودية والمهندس على سامى الذى ىشاءت الأقدار فى ذلك الوقت أن يكون هو الوحيد من بين من أعرفهم الذى يتعرف على أسرتى فى إندونيسيا حيث تصادف سفره إلى إندونيسيا بعد ذلك بعدة سنوات بحكم عمله كخبير فى برامج الكمبيوترفعرفته عليهم. كان هناك أسماء كثيرة أخرى لم أعد أذكرها وكثيرا ماظهرت أسماء جديدة ثم إختفت ليظهر بعدها أسماء جديدة لتختفى وهكذا .
كان للحزب مقر وحيد بمنزل قديم فى منطقة شبرا وكانوا يجتمعون فيه كل أسبوعين تقريبا وهكذا أصبحت أسافر إلى القاهرة كل أسبوعين وقد نشأت بينى وبينها قصة حب شديدة كانت قد تأجلت سنوات منذ الأشهر القليلة التى قضيتها بمعهد الدراسات الإفريقية بجامعة القاهرة. كانت الإجتماعات عبارة عن مناقشات غير مرتبة تتطرق فى الغالب إلى مناقشة الأحداث الجارية وكنا فى كل مرة نجتمع نقرر أننا يجب أن نتحرك بين الناس وننشر أفكار الحزب وأننا يجب أن نقيم ندوات ومؤتمرات ونحصل على مزيد من التوكيلات المطلوبة لإشهار الحزب لكننا لم نكن نفعل شئ من هذا أبدا. كنا فى كل مرة نكرر نفس الكلام ونشعر بنفس الحماس ثم يعود كل منا من حيث أتى لنجتمع مرة أخرى لنكرر نفس الكلام حتى ينفض الإجتماع على لاشئ.
وهكذا إنقضت سنة ثم سنة أخرى وأخذ عدد الحضور يتناقص بشكل ملحوظ . كانوا عندما إنضممت إليهم يقدرعددهم بالعشرات وقد أكد لى محمود الفرعونى أنهم كانوا يوما ما بالمئات لكن الحضور قد إنخفض فى النهاية حتى أصبح عدد الحاضرين لايزيد عن عشرة أفراد فى أحسن الأحوال. وكانت كل محاولة لإزاحة الدكتور صلاح وصديقه عبدالعزيز عن مركز القيادة تبؤ بالفشل وكان كثير من أعضاء الحزب قد إنصرفوا عنه وعزوا فشله إلى هذه القيادة. وفى النهاية إنتزعت منا شقة شبرا التى كان طبيب قبطى إسمه الدكتور خيرى قد تبرع بها كمقر للحزب وفشلت محاولتنا لإستئجار مكان بديل بسبب إنخفاض عدد الحضور وأصبحنا نلتقى على مقهى فى نصف البلد يسمى البورصة وكان الحاضرين فى النهاية لايزيدون عن الدكتور صلاح وصديقه عبدالعزيز والمهندس على سامى ومحمود الفرعونى وأنا. وحتى فى هذه الدائرة الصغيرة التى أصبحت مجرد دائرة للأصدقاء وليست مشروع حزب تحت التأسيس نشأت كراهية دفينة لدى عبدالعزيز تجاه محمود الفرعونى الذى كان يعتبر نفسه الرئيس الحقيقى للحزب وحاول عبدالعزيز إبعاد محمود عن حضور الجلسات فما كان من محمود إلا أن دعى الأعضاء القدامى المنسحبين إلى إنتخابات داخلية لتجديد القيادة . رفض صلاح وعبدالعزيز هذه الإنتخابات بينما أصرينا نحن على إجرائها. وهكذا إنفرط عقد هذه المجموعة الصغيرة بسبب التنافس على كعكة غير موجودة ، ومع قيام ثورة يناير توقفت اللقاءات ولم تعود مرة أخرى وإنتهت تقريبا فكرة تأسيس الحزب المصرى الليبرالى. كانت الأفكار قوية لكن الرجال كانوا صغاراً.
شاركت مع الحزب المصرى الليبرالى فى حدثين هامين شهدتهما مصر سنة 2010م هما حادث إستقبال الدكتور البرادعى بعد إنتهاء عمله كمدير للمنظمة الدولية للطاقة الذرية وعودته إلى مصر فى فبراير من نفس السنة وحادث مظاهرات السادس من إبريل التى قادتها حركة 6 إبريل ومهدت لثورة يناير 2011م. كنت غريبا على الحياة السياسية فى مصر ولكن كانت قد تكونت لدى قناعات سياسية قوية من خلال قرائتى للتاريخ المصرى وكنت أرى أن مصر فى حاجة شديدة لزعامة قوية ملهمة لإنها تراجعت كثيرا إلى الوراء وتخلفت عن ركب الحضارة وأصبحت تحتاج إلى دفعة قوية إلى الأمام وأن الزعامة القوية هى وحدها الكفيلة بتحقيق هذه الدفعة، فالشعب المصرى يتأثر أكثر من كل شعوب العالم بشخصية الحاكم الذى يحكمه. كنت أرى أن سيطرة تيار الإسلام السياسى هو العقبة الكأداء الحقيقية أمام تطور مصر نحو تحقيق المجتمع المدنى الديموقراطى وأن ذلك يحتاج إلى زعامة كبرى. وهكذا تصورت أن الدكتور البرادعى هو هذه الزعامة المنتظرة، كما تصور غيرى، ورغم إننى لم أكن أعرف عنه الكثير إلا إننى ومن خلال التطورات العامة لسيرة حياته كرجل قانون ودبلوماسى ومدير للمنظمة الدولية للطاقة الذرية وكحائزعلى نوبل للسلام بدا لى الزعيم المناسب الذى يجب أن تلتف حوله القوى المدنية المصرية كلها لمقاومة مشروع حسنى مبارك فى التوريث من جهة ومقاومة الإنتشار الإسلامى من جهة أخرى. وهكذا أخذت أبشر بزعامة البرادعى أثناء إجتماعات الحزب المصرى الليبرالى وأدعو إلى المشاركة فى إستقباله المرتقب لكن الأمر الغريب إننى لم أجد إستجابة من معظم الزملاء. كان صلاح وعبدالعزيز كعادتهما ضد أى شئ يقع خارجهما، بينما رأى الفرعونى أن البرادعى يحتقر الأحزاب ويرفض التعاون معها وعندما نطق رامى كامل بأن البرادعى رجل بلا رؤية إنفجرت فى وجهه صارخا ومن إذن عنده رؤية؟ صُدم رامى من رد فعلى العنيف وصُدم معه باقى الحاضرين. وصممت على المضى فى المشاركة ولم يوافقنى سوى زميل واحد هو رومانى جاد الرب الذى ذهب معى إلى المطار يوم 19 فبراير 2010م للمشاركة فى الإستقبال.
كان الإستقبال حافلا لم تكن الحشود كبيرة إلى الدرجة المتوقعة حوالى ثلاثة آلاف يتصدرهم شباب حركة 6 إبريل وكثير من الشخصيات العامة لكن الحماس كان شديدا وكأن مصر كانت تستقبل زعيما بالفعل. هتفنا بملْ الحناجر وأنشدنا بلادى بلادى بالدموع. ودخل البرادعى إلى مصر وأخذ يتحدث إلى الجميع وكأنه يتخبط لايدرى ماذا يريد و شمل حتى بالحوار جماعة الإخوان المسلمين الذى كنت أعتبرهم العدو الرئيسى لتطور مصر والذى كنت أنتظر أن يأتى الزعيم المنتظر لينقذنا منهم . وفى النهاية وبرغم كل حسن نياته وسجل حياته المشرف أثبت الرجل أنه لم يكن يفتقد إلى كاريزما القيادة فحسب ولكنه كان أيضا يفتقد إلى الرؤية السياسية للموقف فى مصر، تماماً كما سبق وقال الشاب الصغير رامى.
بعد أقل من شهرين من ذلك التاريخ قررت حركة 6 إبريل القيام بتظاهرة كبرى فى ذكرى تأسيس الحركة إحتجاجا على المواد الدستورية المعدلة التى كانت تمهد لتوريث الحكم لجمال مبارك إبن حسنى مبارك. وفى هذه المرة أيضا كان هناك خلاف على المشاركة بين أعضاء حزبنا الصغيرولنفس السبب تقريبا وهو غياب الرؤية السياسية لحركة 6 إبريل وإنتماء الكثير من أعضائها للتيار الإسلامى لكنى وبعد أن رأيتهم يوم إستقبال البرادعى كنت قد أصبحت شديد الإعجاب بهم وقد تصورت خطأ أنهم من العلمانيين حتما ، لذلك فقد تحمست كعادتى للمشاركة وإستطعت إقناع ثلاثة غيرى بالمشاركة هم الدكتور صلاح والفرعونى ورومانى.وفى صباح السادس من إبريل سافرت إلى القاهرة للمشاركة فى التظاهرة فى ميدان التحرير لكنى وأنا على مشارف القاهرة فوجئت بتليفون من زميلى محمود الفرعونى يخبرنى بأن الأمن المركزى قد قبض على كل المتواجدين فى ميدان التحرير وينصحنى بعدم التوجه إلى هناك والتوجه بدلا من ذلك إلى مقر حزب الغد بشارع طلعت حرب حيث سيجتمع بقايا المشاركين ليقرروا ماذا سيفعلون لتنفيذ التظاهرة.
كان أيمن نور يعقد مؤتمرا صحفيا يعلن فيه برنامجه الإنتخابى للترشح للإنتخابات الرئاسية القادمة جلسنا بين الحضور وحيانا الدكتور أيمن وكان يعرف الدكتور صلاح وبعد إنتهاء المؤتمر الصحفى تشاور الدكتور أيمن مع الحاضرين فيما نفعل فقرر الجميع التوجه إلى ميدان التحرير برغم كل التحذيرات. وافق الدكتور أيمن وتقدمنا نازلا إلى شارع طلعت حرب، ولاأنكر إننى رأيت فيه فى تلك اللحظة رجلا شجاعا مخلصا لقضية الحرية وشعرت بكثير من الإعجاب تجاهه وذلك بعكس أحاسيس الحيرة والإستغراب التى شعرت بها بعد ذلك عندما رأيت حزبه يخوض الإنتخابات البرلمانية التى أعقبت ثورة ينايرعلى قائمة حزب الحرية والعدالة التابع للإخوان. وبمجرد خروجنا إلى الشارع من مبنى جروبى الذى يقع فيه مقر حزب الغد فوجئنا بالمكان كله محاط بقوات الأمن المركزى والتى سرعان ماأحاطت بنا ومنعت تقدمنا إلى ميدان التحرير. إنسحبت جماعتنا الصغيرة إلى مبنى نقابة الصحفيين فوجدنا المكان محاصرا بقوات الأمن المركزى أيضا. توجهنا من هناك إلى مبنى نقابة المحامين القريب فوجدنا بعض المحامين وبعض الشباب الفارين من ميدان التحرير قد تجمعوا هناك، إنضمننا إليهم وأخذنا نهتف جميعا يسقط يسقط حسنى مبارك حتى غربت الشمس. كان يوما لاينسى من أيامى مع الحزب المصرى الليبرالى. لم يكن ذلك هو كل ماتركه لى الحزب المصرى الليبرالى، فقد كان الحزب المصرى الليبرالى هو الذى أعاد إكتشافى ككاتب بعد كل هذه السنين الطويلة، فمعه بدأت الكتابة على الفيس ، ثم على موقع حركة مصر المدنية ، ثم على الحوار المتمدن ، ولم أتوقف بعد ذلك.
ومع الحزب الليبرالى خضت تجربة حب آثمة خرجت منها سالماً بشق الأنفس ، فمن خلال أحد الندوات التى حضرناها أنا والدكتور صلاح وعبدالعزيز والمهندس على سامى فى يوليو سنة 2010م تعرفت بسيدة قاهرية، جلست أمامنا بالمصادفة ، كانت هيام فى الأربعينيات من العمر، متوسطة الجمال ، ممتلئة ، تميل إلى القصر، فى عينيها جحوظ خفيف لايكاد يلحظ ، لكنها كانت تفيض أنوثة وتتمتع بروح الدعابة وبحس المرأة الخبيرة بمعاملة الرجال، ومن النظرة الأولى أدركت فى مغامرتها الجديدة. إنتقلت للجلوس بجوارنا ودار بيننا حوار تغلفه نظارات العيون المغرمة وفى نهاية اللقاء أعطيتها الكارت الخاص بى ووعدت بإضافتى على الفيس ودوام التواصل، وإفترقنا فى صمت ولكن الحب كان قد نشأ بالفعل. جاء كالبرق كما وصفته هى بعد ذلك.
عدت إلى الإسكندرية فى حوالى الثالثة صباحا وكما توقعت فتحت الفيس فوجدت طلب الإضافة، قبلته وقلبى يخفق فرحا وبدأت القصة. فى كل يوم تحية أومجرد كلمة أو صورة أو أغنية أو دعابة ، ثم حديث طويل بين الشات والتليفون يستغرق دقائق أو يطول إلى الصباح وحسب ظروفها العائلية ، كانت تتحرك بهدوء وثقة وتعرف أننى لن أستطيع المقاومة ، عرفت أنها متزوجة وأم لإبنين لكنى لم أتراجع ، لقد كان فراغى كبيراً وجوعى وحرمانى أكبر ، ولأول مرة فى حياتى أكسر تلك القاعدة الأخلاقية التى سرت عليها دائماً، أن أبتعد عن إمرأة متزوجة، نسيت كل شئ وأصبحت أسيراً لتلك اللقاءات الأنترنتية التليفونية والتى كان يتخللها كل شئ الدموع والآهات وحتى التلميحات الجنسية. كان طبيعى أن أطلب اللقاء بها مرة أخرى ،لكنها كانت تتهرب وتتعلل بالظروف العائلية، لاأعرف كان ذلك بسبب الظروف العائلية بالفعل ، أم لإنه كان هناك آخرين غيرى أكثر قرباً، لكنها وعندما إزداد الحاحى وخشيت أن أمل وأبعد، وافقت ، بشرط أن نؤجل اللقاء إلى حين إفتتاح الجامعات فى شهر أكتوبر، بحيث نلتقى بعد محاضراتها الأسبوعية.كانت تدرس فى أحد الجامعات بنظام التعليم المفتوح وكانت المحاضرات فى يوم الجمعة من كل أسبوع ، لم يكن أمامى سوى الموافقة إنتظار اللحظة التى حددتها، والتى توافقت، وبالمصادفة ، مع إجتماعات الحزب المصرى الليبرالى أحياناً .وهكذا قضينا الثلاثة أشهر الأولى من عمر علاقتنا فى شات محموم على النت أحياناً وفى حوارات تليفونية طويلة أحيان أخرى، وبمجرد حلول شهر أكتوبر خطت علاقتنا خطوة أكبر وذلك فى سلسلة رحلات أسبوعية إلى القاهرة، قبل أن تنتهى النزوة وتبلغ القصة نهايتها .
كنت أصحو فى حوالى السادسة صباحاً من كل جمعة ، وأستقل أول وسيلة مواصلات متاحة من محطة سيدى جابر ، قطار كانت أم سيارة، حتى أستطيع الوصول فى وقت مناسب ، كانت الرحلة الأسبوعية ، وفى حالة الوحدة التى كنت أعانيها، كنت تبدو كنزهة ، لم يكن هناك من أصدقائى القدامى سوى رفعت رسمى ورفعت بهجت ، وكانت لقاءاتى بهم محدودة ، كما لم أكن بعد قد تعرفت على المجتمع بعد طول غياب وكونت صداقات جديدة ، وكان بداخلى كثير من الإحباط بعد عودتى مفلساً بعد هذه السنوات الطويلة ، ولذلك أصبحت هذه العلاقة تمثل لى أشياء كثيرة ، الحب والصداقة والتعويض عن النجاح، وكل شئ تقريباً ، أصبحت أستمتع حتى بمعالم الطريق ، بأى أغنية يشغلها السائق ، بأى نسمة هواء عابرة من نسمات الشتاء ، حتى يأتينى صوتها ، الذى كان يبدو لى آنذاك ساحراً ، لتسأل هل أنا فى الطريق ، وذلك حتى أصل القاهرة ، ومن هناك أستقل تاكسى حتى مكان اللقاء المتفق عليه ، والذى كان يتغير دائماً ، نظراً لبحثنا الدؤوب عن مكان أفضل ، أى عن مكان أكثر أمنا وأقل إزدحاما ، تماماً كما يفعل اللصوص ، لأنتظر على شوق حتى تحضر من الكلية ، ونبدأ فى ملامسة بعضنا البعض، غير عابئين بنظرات العيون التى ترمقنا من كل جانب، لنقرر بعدها البحث عن مكان آخر. أصبحت الرغبة هى العامل المسيطر وأصبح البحث عن مكان لإشباع هذه الرغبة هو شغلنا الشاغل، وبتلميح منها فهمت أن هذه مهمتى وأننى يجب أن أتصرف، لم أكن أعرف القاهرة ،كما كانت إمكاناتى المادية محدودة، لذلك فقد بدت المهمة صعبة وذلك حتى تعرفت، وبمجرد المصادفة، على فندق فى أحد أحياءالقاهرة الجديدة ، كان به مانريد. كان به كافيتريا مهجورة بالروف، بسبب برد الشتاء، كما كان به عدد قليل من الزبائن وإحساس كبير بالأمان، وأصبحنا نلتقى هناك فى كل أسبوع، نشبع تلك الرغبة المسعورة، فى حدود ماتسمح به ظروف المكان، ومن هناك بدأ تفكيرنا يتجه إلى خطوة أكبر، لماذا لانستأجر غرفة فى ذلك الفندق المهجور. وافقت مبدأيا على الفكرة لكنها أجلت لحظة التنفيذ. قالت المسألة عايزة شوية شجاعة ، خلينى أستعد الأول ، وإتفقنا على ذلك ، لكن القدر لم يمهلنا فقد إندلعت ثورة يناير وتعطلت الجامعات، وتعطلت معها لقاءاتنا لأكثرمن شهرين، وإنحصرت فى التليفون والشات ، وهنا حدث التغيير الذى لم أكن أتوقعه أبداً ، فقد بدت علاقتنا ، على الأقل بالنسبة لى ، غير قابلة للنهاية ، لكن تقديرى لم يكن حقيقياً ، كان مجرد وهم أو حلم المفلس ، ففى فترة الإنقطاع ، أخذت تعيد تقييم تلك العلاقة ، التى لم تجنى منها سوى التلصص فى الكافيريات ، رغم وجود من هو اكثر منى إمكانات وقرباً ، وهو ماإتضح بعد ذلك فعلاً.
بعد إستئناف الدراسة ، كان من الطبيعى أن نعاود لقائنا الأسبوعى مرة أخرى، لكنى وعلى غير التوقع ، وجدت منها تهرب وعزوف ، بحجة أن الظروف فى القاهرة لم تعد آمنة ، وأن زوجها أصبح يصاحبها فى الذهاب والعودة ، وأن الظروف لم تعد مناسبة للقائنا ، ولاتعرف متى تصبح مناسبة مرة أخرى ، صدقت هذا الكلام فى البداية، أو أقنعت نفسى بتصديقه كعادة المغرمين العميان، لكنى بدأت ألاحظ تغير فى التواصل على الشات وعلى الهاتف أيضا، وعندما سألت عن السبب ، تعللت بنفس ظروف الأسرة وأنه وبسبب ظروف الثورة والوضع غير الآمن فى القاهرة لم يعد الزوج يذهب إلى عمله بإنتظام وأصبح يقضى معظم وقته فى المنزل، وكذلك الأولاد لم يعدوا منتظمين فى الدراسة ، ومرة أخرى أقنعت نفسى بهذه الأسباب ، لكنى بدأت ألاحظ ظهور بطل جديد على صفحتها فى الفيس ، وعندما دخلت على صفحته وجدت سيل من اللايكات منها على أى شئ فى الصفحة ، إنقبض قلبى وشعرت بعذاب شديد وسألتها عن ذلك ، فقالت بلهجتها التمثيلية المحترفة ، لا ده قريبنا جاى فى أجازة من أمريكا وأنا باأجامله بس مش أكثر، وصدقتها مرة أخرى لكن قلبى ظل منقبضاً ، وبالمصادفة وفى أحد الأيام فتحت الفيس فى ساعة متأخرة من الليل ، قبل الفجر تقريباً ، وتصادف أن تكون تلك الساعة بالتحديد هى ساعة مغادرة البطل الجديد عائداً إلى أمريكا ، وإذا بى أجد على صفحتها أغنية(أقولك إيه عن الشوق ياحبيبى) لأم كلثوم وتحتها لايك منه، وهى أغنية تناسب بدايات قصص الحب ، وبالمثل وجدت على صفحته أغنية(أنت عمرى)وتحتها لايك منها، وهى أغنية تناسب بدايات قصص الحب أيضاً، مع التمنيات بسفر سعيد وسرعة التواصل بعد الوصول. لم يعد لدى شك بأن هذا البطل الجديد قد حل محلى، فقد كانت الإشارات واضحة ، كما كان هو نفس الأسلوب الذى إتبعته معى فى بداية تعارفنا ، إعتصر الألم قلبى وفقدت عقلى تماماً وكتبت لها على صفحة الفيس تحت الأغنية مباشرة ، يعنى مش قادرة تستنى لحد مايوصل ، وكانت مازالت ساهرة تتابع الشات معه ، فردت على فوراً ، ماذا تقصد ، فأجبتها على نفس الصفحة ، الزبون الجديد، فمسحت البوست كله فوراً ودخلت على الشات وإنهالت على سباب ، ياسافل ، ياحقير، كان يوم أسود يوم ماعرفتك ، عايز تخرب بيتى يامجرم، والله لأعملك بلوك وأمسحك من حياتى، وبالفعل خلال ثوانى عملت بلوك وإختفت صفحتها ، وعندما حاولت الإتصال بها على الموبايل، كان قد أغلق. أصبت بصدمة عصبية شديدة ولم أستطع تصور أنها قد خرجت نهائياً من حياتى، وسقطت صريعاً لنوبة إكتئاب خطيرة ، لم ينقذنى منها سوى مضادات الإكتئاب ، وتدخل صديقى رسمى ، ويبدو أن حالى قد أصبح سيئاً فعلاً دون أن أشعر، إذ ارسل إليها رسالة على الفيس ، وبدون إذن منى ، يقول فيها إننى فى وضع مهدد للحياة ، إستجابت للنداء ولكن بشرط، أن نكون مجرد أصدقاء ، قبلت الشرط بدون مساومة ، وأعادت إضافتى على الفيس من جديد ، وبدأت مرحلة جديدة من علاقتنا ، إنتقلت فيها من دور البطل المنتصر إلى دور الكومبارس المعذب.
لم تكن صادقة فى صداقتها ، كما لم أكن أنا أيضاً، كان أملى أنه ومن خلال التواصل يمكن أن تعود الأيام الجميلة ، كنت أعدو خلف سراب، أما هى فقد كان لها أهداف أخطر وأعمق ، كانت تكتب بعض مقالات تافهة وتنشرها فى أحد المواقع ، وكنت أقوم بمراجعة هذه المقالات وتصحيح أخطائها وقد إعتادت على هذا ولم تعد تستغنى عن مراجعتى ، ولذا فقد أرادت أن تحتفظ بى كمراجع ، كان هناك شئ أخطر، رسائلها الإليكترونية عندى ، كانت بالعشرات ، ربما حتى بالمئات ، على الفيس والإيميل ، وكان لابد أن تتخلص من هذه الرسائل فى الفرصة المناسبة ، وهكذا رحنا نلعب معاً لعبة القط والفار، أنا أحلم بعودة زمن ضائع لن يعود أبداً ، وهى تحلم بالإحتفاظ بالمراجع وبمسح رسائلها.
أصبحت شيئاً ثانوياً فى حياتها ويبدو أنها قد رسمت لوجودى فى حياتها خطة وحددت له خريطة ، إتصال تليفونى كل أسبوع ، قد يزيد إلى إتصالين أحيانا ، وتعليق على الفيس بين الحين والآخر، لمجرد أن تظل العلاقة قائمة ، بلا أى حقوق ، فلم أعد أنا ذلك الإنسان الذى تتصل به يوميا وتحادثه على الشات بالساعات ، ويعرف عنها كل شئ حتى خلجات أفكارها ، إنتهى ذلك إلى الأبد وظل هناك خطة صغيرة محفوفة بالمخاطر. كنت كلما إستبد بى الشوق أبادر أنا بالإتصال فلا أجد الموبايل إلا مغلقا أو مشغولاً، فينقبض قلبى حزناً وأقرر أنا لااحاول الإتصال مرة أخرى ، لكنى كنت دائماً أفشل ، وأكرر التجربة المؤلمة مرة أخرى ، كانت فى الماضى تخبرنى مقدما عن الساعة التى ستغلق فيها الموبايل كى لاأقلق إذا وجدت الموبايل مغلقاً، ولاتطيل أى مكالمة مع أى إنسان مهما كان شأنه ، خشية أن أتصل وأجد الهاتف مشغولاً، كل ذلك إنتهى ولم يعد له وجود. أصبحت أعيش فى عالم مظلم كئيب ، أسير للحظات من السعادة المسروقة ، لاأنا قادر على نسيانها ، ولا أنا قادر على إستعادتها مرة أخرى ، وكأننى فى بحر هائج تتقاذفنى أمواجه ذات اليمين وذات اليسار، دون أن أعرف لى قرار. وظلت كلما إنتهت من مقالة سخيفة تتصل بى كأنها تتصل تلقائياً بدون سبب، لأفاجاً فى اليوم التالى بالمقال على الإيميل مع رجاء بالتصحيح والمراجعة، وذلك كى لايبدو أنها لاتتصل إلا إذا أرادت خدمة ، كما ظلت تحتفظ فى قلبها بالهدف الثانى فى إلغاء المراسلات ، حتى فاجئتنى ذات يوم بلهجتها التمثيلية المعتادة- عارف ياجواد، إمبارح حصل مصيبة ، نسيت الفيس مفتوح وإبنى قعد يقرا فى صفحتى ، من حسن الحظ أنه مادخلش على الرسائل ، أنت عارف لو رسالة بتفتح بتجيب معها كل الرسائل ، ياريت ياجواد لو تلغيهم عشان خاطرى، لم تكن خاصية الإلغاء بواسطة صاحب الرسالة قد أدخلت بعد ، ، لم يكن هناك بد من الموافقة ، السبب منطقى وهذا حقها فى النهاية ، فقمت بإلغاء الرسائل وقلبى يعتصر ألماً على هذه الذكريات الجميلة ، زهور وأغانى وأشعار وذكريات لاتنسى ، لكنى ألغيتها وأنا مازلت أتمنى أن تعود ، وثم وبعد فترة وجيزة ، وعملاً بالمثل القائل ، إطرق الحديد وهو ساخن ، ألقت بالمفاجاة الثانية ، وبنفس اللهجة التمثيلية المحترفة - أنا تعبانة أوى ياجواد ، مش عارفة أنام ، لدرجة إنى بأفكر فى الذهاب إلى دكتور نفسى ، حكاية دخول إبنى على الفيس سبب لى صدمة شديدة ، وأصابنى بكابوس الرسائل ، ياريت ياجواد لو تلغى رسائل الإيميل إلى عندك كمان ، ممكن حد يشوفها عندك بالمصادفة ، وتبقى فضيحة ، ياريت تلغيها عشان أرتاح. ومرة أخرى ألغيت رسائل الإيميل وقلبى يتمزق ألماً، على هذا الكم الهائل من الذكريات الجميلة ، الذى أتى وضاع فى لمح البصر.
كانت تتحرك بهدوء شديد ، كأنها مجرم محترف ، حتى ذلك الصديق المهاجر إلى أمريكا ، والذى فجر الخلاف بيننا ، إختفى تماماً من صفحتها ، ولاأعرف كيف أصبحت تتواصل معه بعد ذلك، ولعل هذه المحادثات التليفونية الطويلة، التى كنت أكتشفها عندما أتصل بها وأجد الموبايل مشغولاً لفترة طويلة ، كانت معه، هذا ماأصبحت أشك فيه ، لكنى بعد ذلك أصبحت أشك فى أن هناك حتى أكثر من صديق آخر. فعندما حل موعد إمتحانات الترم الدراسى الثانى ، أردت أن ألعب دور الراعى والمشجع الذى لعبته فى إمتحانات الترم الأول ، فطلبت منها أن تكون على إتصال أيام الإمتحانات ، فإعتذرت قائلة - ياريت ياجواد ، أنت عارف أنا أد إيه بأحتاج تشجيعك ، بس مش عارفة ظروفى حاتسمح ولالا ، ممكن جوزى يوصلنى ويستنانى بعد الإمتحان ، وفى الحالة دى مش حاأعرف أكلمك ، فمعلش ، تشجيعك فى قلبى والله ، أنا مش ممكن أنسى وقفتك معايا فى الترم الأول ، وفى الترم الثانى كمان ، ولو بدون إتصال وعندما ألححت وتوسلت ، قالت - على كل حال أكيد حاأطمئنك بعد ماأرجع البيت ، بس مش حاأقدر أتكلم بعد الخروج من اللجنة مباشرة زى زمان ، لإنه تقريباً ناوى يوصلنى ويستنينى كل أيام الإمتحانات. وهكذا ظل تليفونها مغلقاً طوال أيام الإمتحانات ، لاأعرف عنها شئ ، حتى تتصل لتطمئنى بعد رجوعها للبيت ، ولكن فى المساء ، يعنى بعد ساعات من خروجها من اللجنة ، فأين كانت كل هذه المدة ، كان هناك صديق آخر ينتظرها ، ولم يكن من المعقول أن يكون ذلك هو زوجها الذى أدمن فجأة الإنتظار فى كافتيريات الكليات، ولا ذلك البعيد فى أمريكا ، كان هناك صديق آخر بالتأكيد.
ومع بداية السنة الدراسية الجديدة، لاحظت ظهور نجم جديد فى حياتها، فقد لاحظت متابعاتها لمقالات أحد الكتاب فى أحد المواقع، وعندما سألتها عنه ، أخبرتنى بأنه أحد أساتذتها فى الكلية ، وأن متابعته لاتنبع من إعجاب بقدر ماتنبع من مجاملة ، كما تفعل سائر الطالبات الأخريات ، رغم أنه لم يكن هناك تعليقات سوى تعليقاتها فقط ، وبنفس الأسلوب المعتاد فى الثناء على الكاتب ، والتحيات الرقيقة المعتادة. وفى أحد الأيام فوجئت بمقال جديد كنت قد قمت بمراجعته لها منشوراً على نفس الموقع الذى ينشر فيه هذا الأستاذ مقالاته ، رغم معرفتى بتمسكها بالنشر فى الموقع الذى إعتادت أن تنشر فيه مقالاتها ، فتعجبت من تغير الأحوال ، وسألتها عن السبب ، وهل له علاقة بذلك الأستاذ ، فقالت ، جازمة ، أبداً ، ليس بينى وبينه أى تواصل ، مجرد مصادفة ، بيقولوا موقع كويس ، قلت أجرب حظى ، وعندما سألتها ، لكنك لم تخبرينى عن ذلك ، أجابت بنفس الأسلوب المخادع ، آسفة ، نسيت والله.كانت تجيد الكذب بشكل غريب ، والأغرب من ذلك ، أننى كنت أصدقها.
مأساة بدت بلانهاية ، ففى كل حياتى قبل ذلك ، كنت قد تعلمت أن الحب شئ يمكن تعويضه ، مهما كانت قوته ، إلا هذه المرة ، فقد بدوت ضعيفاً مفلساً تماماً ، وزادت وحدتى من ضعفى وإفلاسى ، أو ربما كانت هى سبب كل هذا الضعف والإفلاس ، نسيت أسرتى وأولادى وكل شئ ، وكأن العالم لم يعد به أحد سوى هذا المخلوق المخادع ، هيام .
مرت حوالى السنة على هذه الحال، وهى تستفيد منى وأنا لاأستفيد سوى العذاب والإنتظارعلى أمل كاذب، حتى فوجئت يوماً بأحد أصدقائى يخبرنى، بأنها دائمة التعليق على مقالاته والدخول على صفحته فى الفيس ، تحاول لفت نظره بأى طريقة، وعندما دخلت على صفحته ووجدت التعليقات واللايكات الكثيرة ، وبنفس الأسلوب التى تتبعه مع كل رجل تقريبا، قررت، وبما تبقى لى من بقايا عقل، وبقايا إرادة، أن أقف مع نفسى وقفة أخيرة ، وأن أخرج هذا الشيطان من حياتى ، قبل أن يخرجنى هو من كل الحياة ، وقمت على الفوربعمل بلوك على الفيس ، وإمتنعت عن الرد على تليفوناتها ، فى محاولة بدت وكأنها إنتحار، فقد كان من المحتمل جداً أن أضعف وأعود إلى التوسل لإعادة الصداقة كما حدث قبل ذلك ، لكن ذلك لم يحدث ، نجحت المغامرة الإنتحارية ، فبعد فترة ليست طويلة ، صحوت من نومى ، وكما يحدث فى العادة ، وجدت هذا الكابوس وقد وصل إلى نهايته، وهذا الشيطان وقد خرج من حياتى، ومع ذلك فقد ظل هناك خاتمة أخيرة لم أكن أتوقعها ، فبعد سنوات طويلة ، وقبل عودتى إلى مصر من أجازتى الطويلة فى إندونيسيا لنشر كتاب أساطير الدين والسياسة ، ظهرت هيام على صفحتى فجأة ، بحساب جديد ، وصورة بروفايل جديدة ، عبارة عن دمعة كبيرة تدمى القلب ، حزناً على زوجها المتوفى قريباً ، ولم يكن من الممكن أن أرفض الصداقة والوقوف معها فى هذه المحنة ، لكنها بعد أن شفيت من الألم ، وتجاوزت أحزانها وغيرت صورة البروفايل إلى وردة ، أو ربما بعدما نجحت فى إعادتى مرة أخرى وأرضت غرورها فقط بدون أى سبب آخر، كما تفعل بعض النساء أحياناً ، بدأت فى توزيع الأدوار مرة أخرى، وإتفقت معى على زيارتى فى الإسكندرية بين الحين والآخر ، ولكن بدون أن يكون لى الحق فى زيارتها فى القاهرة ، بحجة أن أولادها يراقبونها ، وبدأ إهتمامها يخفت ، وبدت مرتبكة بينى وبين علاقاتها الأخرى ، وأصبح واضحاً ، أن الأفعى تظل هى الأفعى ، حتى لو مرضت أحياناً ، ولم أتردد ، بلوك أخير وإنتهت قصتها إلى الأبد هذه المرة. كانت هيام أفعى نادرة الوجود ، شديد الخطورة فعلاً ،،،

كنا فى الحزب المصرى الليبرالى وفى آخر إجتماعات عقدناها قبل أن نفترق إلى الأبد قد أبدينا مخاوفنا من إشتعال الثورة قبل توفر القيادة والأهداف. كنا جميعا تقريبا نتفق أن سقوط النظام العسكرى فى ذلك الوقت سوف يؤدى بالضرورة إلى سقوط مصر فى يد الإسلاميين فى النهاية. كنا نرى أن الممكن الآن هو الضغط من أجل إلغاء مشروع التوريث وإعطاء مزيد من الحريات السياسية وإطلاق حق تأسيس الأحزاب حتى يبلغ المجتمع المصرى المدنى درجة من النمو تمكنه من إزاحة النظام العسكرى وإستبداله بنظام مدنى وليس بنظام إسلامى كما حدث فى إندونيسيا. كان ذلك التحليل صائبا إلى حد كبير لكن الأحداث جرفتنا جميعا فى طريق الثورة بمجرد أن بدأت.

بدأت الثورة يوم 25 يناير ونزل الشباب إلى الشوارع بالمئات ثم بالآلاف ثم بدأ هدير الملايين. كنا فى الإسكندرية نراقب أحداث ميدان التحرير من خلال شاشات التليفزيون لكن شوارع الإسكندرية كانت قد تحولت بدورها إلى ميادين تحرير. ظللت ممتنعا عن النزول ثلاثة أيام لإننى كنت أعرف أن ثورة بلا قائد ولا أهداف واضحة سوف يجنى ثمارها الإسلاميون وحدهم وسوف تتحول الثورة فى النهاية إلى إنتكاسة للثورة. لكنى لم أستطع المقاومة لأكثر من ثلاثة أيام جذبنى خلالها هدير الشعب الغاضب وإلحاح أصدقائى على بالنزول. كان غضب الناس قد وصل ذراه من موضوع التوريث الواضح وحانت ساعة الإنفجار. لم يكن هناك شئ يمكن أن يمنع الغضب وأن يمنع الإنفجار. كان التخلف عن المشاركة فى ساعة إنفجار غضب شعب كامل خيانة .وكان صديقى الدكتور رفعت رسمى يضغط من جهة وصديقى رفعت بهجت يضغط من جهة أخرى فما كان هناك بد من النزول والمشاركة فى نهاية الأمر. حدث ذلك فى يوم الثامن والعشرين من يناير نزلت مع أسرة صديقى رفعت بهجت وتجمعنا فى ميدان القائد إبراهيم مع ملايين من البشر رجال ونساء شيوخ وأطفال وهناك سمعنا صيحات المطالبة بالحرية والعدالة الإجتماعية فإطمئنت قلوبنا وقررنا قطع الطريق إلى نهايته. لاشك أنها كانت أيام مجيدة فى تاريخنا الحديث. ولكنها - مع الأسف - قد إنتهت بشكل مأساوى.
إزداد تحدى الشعب لإصرار حسنى مبارك على التمسك بالسلطة ولم تجدى كل الوعود ومحاولات المصالحة التى تقدم بها . أصبح هناك هدف واحد لشعب كامل هو التنحى أو عبارة إرحل والشعب يريد إسقاط النظام التى رددها الملايين. شاركنا فى كل التظاهرات التى حدثت فى الإسكندرية وجبنا الشوارع مع الملايين نهتف بسقوط حسنى مبارك وننشد بلادى بلادى وحبيبتى يامصر يامصر. لم نكل ولم نمل ولم نشعر بأى تعب أو إرهاق أصبح هناك هدف واحد نموت دونه هو إسقاط حسنى مبارك وكلما مرت الأيام إزداد عناد الناس وإزدادت أعدادهم كطوفان هادر لم يكن من الممكن إيقافه حتى بمعجزة وفى النهاية عندما قرر شباب ميدان التحرير التوجه إلى قصر الرئاسة بمصر الجديدة إضطر الجيش إلى التدخل وأجبار حسنى مبارك على التخلى عن السلطة. وأعلن نائبه عمر سليمان - الذى عينه فى الأيام الأخيرة - وبوجه متجهم وصوت حزين( أن الرئيس حسنى مبارك قد قرر التخلى عن الحكم). وإنتصرت إرادة الشعب فى النهاية وإنفجرت صيحات الفرح من قلوب الملايين. كنا فى ذلك اليوم قد شاركنا فى مسيرة من ميدان القائد إبراهيم حتى قصر رأس التين متوقعين نبأ إعلان الإستقالة وعندما طال الوقت دون الإعلان كان التعب قد إستبد بنا فقررنا العودة إلى منازلنا ولكن بمجرد عودتنا رأينا وجه عمر سليمان المتجهم يعلن نبأ تخلى الرئيس عن السلطة على شاشة التليفزيون. قررنا العودة إلى الشارع مرة أخرى ذهبنا إلى طريق الكورنيش وسهرنا مع الجموع المبتهجة حتى الصباح. كانت الفرحة تملأ قلوب الجميع. أيام مشهودة فى تاريخنا فعلا. لكن فى خضم كل ذلك الفرح كان فى قلبى شئ ناقص. شئ ناقص هو اليقين المفتقد عن المستقبل. لم تكن القوى الثورية قد إتفقت على قائد أو أهداف أو خطة عمل للمستقبل وعندما إقترح إسم الدكتور البرادعى كقائد للثورة إختلفت الرموز السياسية على ترشيحه كما لم تفرز الثورة لنفسها أى زعامات جديدة ذات قيمة بل أفرزت مئات الإئتلافات الثورية. كان كل شئ ينذر بحدوث فراغ سياسى وأن الأمر مرشح إما لعودة سيطرة الجيش على الحياة فى مصر مرة أخرى أو بنجاح الإسلاميين فى سرقة الثورة والسيطرة على مصر بعد طول إنتظار.
وسرعان مابدأ الإصطفاف من أجل معركة الإنتخابات والدستور القادمين. وبدأت عشرات الأحزاب السياسية فى الظهور. كان الإسلاميون يعرفون طريقهم جيدا فأنشأ الإخوان حزبا سياسيا لهم بإسم حزب الحرية والعدالة وظهر من التيار السلفى مولود حزبى شرير آخر إسمه حزب النور كان مفاجأة للجميع فلم يكن التيارالسلفى مساهما فى اللعبة السياسية أبدا كما أنه كان يرى الديموقراطية والإنتخابات حراما لكنه وعندما وجد المجال مفتوحا تخلى عن كل ذلك الفكر وأنشأ حزبه السياسى ودخل إلى لعبة السياسة. وكذلك فعل العلمانيون فأنشئت أحزاب علمانية جديدة مثل القومى المصرى والعدل والمصرى الديموقراطى الإجتماعى والمصريين الأحرار. وكذلك إستطاعت فلول الحزب الوطنى المنحل إنشاء أحزاب جديدة لها بمسميات جديدة وحصلت بعض الأحزاب القديمة المعلقة على حق التأسيس كما ظلت الأحزاب التقليدية القديمة كالوفد والغد والجبهة ثابتة فى مكانها وقد عفى عليها الزمن. كان الوفد فى ظل قيادة السيد البدوى قد أصبح حزبا رجعيا يتحالف مع الإسلاميين وبالتالى لم يعد من الممكن إعتباره عباءة تلتف بها القوى الليبرالية لخوض المعركة ضد الإسلاميين كما كان يفترض أن يكون. وبرز من بين الأحزاب الليبرالية الجديدة حزب المصريين الأحرار الذى أسسه رجل الأعمال القبطى الشهير نجيب ساويرس وإلى هذا الحزب إنضممت بواسطة صديقى الجديد مؤمن سلام الذى تعرفت به على الفيس وكتب طلب إنضمامه وإنضمامى فى نفس اللحظة بعد أن وافقت على الفكرة .
وكأى شئ فى الحياة كان للتجربة محاسنها ومساوئها كان لها ذكرياتها الجميلة وذكرياتها الحزينة. لكن الرحلة لم تكن موفقة فى النهاية. كان الحزب شبابى التوجه منذ البدايه وكأنه كان حزبا للشباب فقط بل ولمجموعة من الشباب بالتحديد كانوا من بقايا حزب الجبهة الديموقراطية وحزب الغد. وكعادتى دائما عندما أسير فى طريق كنت أصمم على أن أقطعه إلى نهايته. إنسحب مؤمن سلام الذى كان صاحب فكرة الإنضمام أساساً ، كما إنسحب كثير من أهالى الإسكندرية الذين أخذتهم الحماسة للحزب فى بداية الأمر ثم تراجعوا ، لكننى قررت أن أخوض التجربة إلى نهايتها. كنت أعرف أن لكل شئ جديد سلبيات وأن التغيير إلى الأفضل لابد أن يأتى. لكن هذا لم يحدث أبدا. ظلت هذه المجموعة الشبابية مسيطرة على الحزب حتى لحظة خروجى منه. كانت المنسقة العامة للحزب بمدينة الإسكندرية فتاة نوبية لاتتجاوز الخامسة والعشرين من العمر إسمها مشيرة لاتتمتع بأى ثقافة متميزة أو أى صفات قيادية ، ولاأعرف بأى عقل أو منطق تم وضعها على رأس حزب كبير يفترض أن يصارع التيار الإسلامى المهيمن على مدينة كبيرة كالإسكندرية لكن مشيرة ومعها بعض الوجوه الأخرى ظلوا هم الوجوه المسيطرة حتى النهاية لأسباب بدت غير مفهومة فى حينها ثم إتضحت بعد ذلك. وإنصرف كل الرجال المثقفين من شعب الإسكندرية والذين كانوا يتوافدون على الحزب لبعض الوقت ثم يختفون. كان هناك فساد ومحسوبية وإنعدام مبادئ. فى البداية كان هناك يساريون وقوميون وحتى إسلاميون. كان هناك كل شئ. كان المبدأ غائب والهدف غير واضح وبدأ الحماس الذى أثاره ذلك الحزب الوليد يتبدد. حاولت أن أصبر حتى النهاية وأن أحفر فى الصخر لنفسى مكانا بينهم .لكننى لم أكن أروق لهم كنت أبدو عجوزاً علمانيا متشددا وكانوا يبدون منافقين صغارا يقيمون الموالد الدينية ويوزعون المواد الغذائية على الفقراء تماما كما كان يفعل الإخوان وعندما رفضت يوما إلقاء خطاب فى مؤتمر شعبى بالمشاركة مع زميلة منقبة من عضوات الحزب إشتدت كراهية مشيرة لى ولم يعد هناك أمل فى التفاهم. إشتركت معهم فى مؤتمرين شعبيين ناجحين واحد بحى سيدى بشر والثانى بميدان الساعة وفى كلا المؤتمرين كانت كلمتى عن مزايا الدولة المدنية ومخاطر الدولة الدينية وقد وصلت الرسالة إلى الناس ولاقت إستحسانهم لكن مشيرة كانت ترى دائما أننى أسئ إلى الشعور الدينى العام للمصريين أو إننى لاأستجديه بمعنى أدق وأقول مثلا أن دولة الرسول فى المدينة كانت دولة مدنية. كان من الصعب أن أقول نعم لفتاة مغرورة فى عمر إبنتى لكنى كنت أقول نعم عسى أن يأتى التغيير من القاهرة فى أى لحظة وتحدث إنتخابات داخلية تضع على رأس الحزب إنساناً رشيدا يقود الحزب لكن هذا لم يحدث ، وبدا أن القاهرة نفسها راضية عن هذا العبث والمحسوبية فكيف يمكن للحزب الذى توقعنا منه أن يدخل إلى الساحة السياسية ليملأ الفراغ الذى تركه حزب كبير كحزب الوفد ويبشر بالليبرالية والديموقراطية بين صفوف الناس أن تسيطر عليه هذه المجموعة من الشباب الذين يتصورون أن السياسية ماهى إلا مجرد مظاهرات ضد النظام السابق، بلا إيمان برسالة أو رؤية للمستقبل .
فى نهاية الأمر ولونى منصبا بسيطا كمسئول للتثقيف السياسى بدائرة الرمل الذى أتبع لها وكان ذلك هو كل ماحصلت عليه ولم يكن يعنى أى شئ؟ كان على أن ألقى بعقلى وبكرامتى إلى البحر كى أبقى لفترة أطول بين هؤلاء الشباب وعندما إقترب موعد الإنتخابات التشريعية وبدأت لجنة الإنتخابات فى الحزب فى إعداد قوائم مرشحى الحزب ظهر الفساد جليا واضحا فتم إستتبعاد شخصية سكندرية شهيرة مثل الدكتور محمود رشدى من الترشح لأى منصب وزج بأعداد كبيرة من الشباب الذين لايعرف عنهم أحد شئ حتى أعضاء الحزب نفسه لمجرد أنهم كانوا يملكون بعض المال للإنفاق منه على حملاتهم الإنتخابية أو لأسباب أخرى لم أفهمها إلا فى اللحظات الأخيرة. وكذلك بدأ التفاوض مع شخصيات أخرى من خارج الحزب على النزول على قوائمه وذلك بصرف النظر عن مبادئهم وإنتمائاتهم وإعتمادا على قدراتهم المادية ومايستطيعون دفعه فقط ليس أكثر ثم حدث أن إنسحب بعض المرشحين فجأة وأعلنوا فى مؤتمر صحفى فى الإسكندرية أن لجنة الإنتخابات تطالبهم بمبالغ مالية ضخمة لتضمن لهم بقائهم على رأس القوائم. وهكذا إتضحت الصورة كاملة ، وبدا وكأن الثورة لم تسفر سوى عن جيل من اللصوص الجدد يحاولون الحلول مكان جيل اللصوص القدامى . لقد كان يمكن أن يكون حزب المصريين الأحرار هو البديل الكبير الذى كنا ننتظره لتعويض غياب الوفد من حياتنا، لكنه أراد أن يزايد بالشباب فقط ، فخسر الوطن كله ، كما كان يلعب لعبة تحالف الأقليات فى الخفاء وذلك بتولية المناصب القيادية للشباب النوبى مثل مشيرة ، لم يكن من الممكن الإستمرار فى هذه المسرحية الهزلية وإنسحبت فى صمت وفى الإنتخابات التشريعية أعطيت صوتى لحزب الوفد بعد أن أعلن تخليه عن التحالف مع الإخوان.
كانت نتيجة الإنتخابات التشريعية التى إكتسحها الإسلاميون صدمة كبيرة لجميع العلمانيين وأنصار الحرية فى مصر كما أنها لم تكن تعبر عن تيار الثورة المطالب بالحرية والعدالة الإجتماعية وحدث ماكنا نخشاه من أن يسرق الإسلاميون الثورة وإكتمل المشهد المأساوى بوصول المرشح الإخوانى محمد مرسى إلى رئاسة مصر فى يونيو 2012م ودخول الوطن فى رحلة تخبط وضياع لاتبدو لها نهاية .

ومرة أخرى قدم لى صديقى مؤمن سلام البديل عن طريق الإنضمام إلى صالون زمرة الثقافى الذى كان يرأسه زميل دراسته أحمد زايد ، أصبح هذا التجمع الصغير يمثل كل ماتبقى لى من جسور مع المجتمع ، فركزت فيه كل نشاطاتى السياسية والثقافية والإجتماعية أيضاً ، وكان زمرة عند حسن الحظ ، إذ قدم لى كل ماكنت أحتاجه فى الواقع ، فمع زمرة حضرت وشاركت فى كثير من الندوات بين الأتيليه والجيزويت وفاعليات تأسيس العلمانية التى كان ينظمها الدكتور مراد وهبة فى القاهرة ، ومع زمرة أصبح لى أصدقاء ليبراليين حقيقيين من كل الأعمار ، ومع زمرة عدت للمظاهرات بعد إعلان مرسى الدستورى فى ديسمبر 2012 بتعطيل القانون فى محاولة لتمرير دستور الإخوان، ومع زمرة شاركت فى ثورة يونيو وإسقاط مرسى والإخوان بنية تحقيق الحكم المدنى وليس حكم الجيش ، ومع زمرة أخرجت كتابى الأول مصر بين الأصولية والعلمانية عن دار كلمة بالإسكندرية سنة 2013 ، ومع زمرة عدت بعد صدور الكتاب فى أجازة طويلة إلى إندونيسيا بعد أن قضيت بمصر أربع سنوات ،،،
























11- أجازة طويلة

قصة الأجازة (سبتمبر2013- 2117) - جراحة عين زوجتى وظروفها الصحية وتأثير ذلك على عدم رغبتى فى العودة إلى مصر سريعاً - الإحتفال بعيد ميلادى الستين فى أحضان الأسرة للمرة الأخيرة - إعلانى الهدنة فى مقال بعد إنتخاب السيسى رئيساً مباشرة والإنحياز للوطن فى معركة الإرهاب - التركيز فى كتابة المقالات التنويرية الأسبوعية وإنجاز بعض الدراسات الهامة ونشرها إلكترونيا ، تضاؤل الغربة فى ظل الأنترنت - تغيير إبنتى ديفى لعملها من الفنادق إلى تصميم الأزياء - خبر وفاة رفعت رسمى - وفاة الحاجة صفية – أصدقاء العمر والأسرة البديل – إصرار أخى عبدالسلام على إرساله مبلغ شهرى رغم توضيح ظروفى الجديدة فى إندونيسيا كضيف على الأولاد ، الفلوس حياً أو ميتاً - إفلاس لبنى عبدالله صاحبة دار كلمة بالإسكندرية و فشل التجربة الرابعة فى النشر كتاب مصر بين الأصولية والعلمانية الكتب الثلاثة السابقة كانت ترجمات ، مشكلة الناشر المصرى المستحيل - ظهور كراهية إبنى جمال مع السنة الثانية وإنحياز إبنتى له بسب عدم قدرتى على الوفاء بإلتزاماتى المادية بعد إغلاق شركة العمالة وعدم نجاح كارير الكتابة – الكراهية بدأت من الذكر وإنتقلت إلى الأنثى على المدى الطويل ، إنزالى لصورى من مكتبى إستعداداً للرحيل - قيمة المال فى حياة الإنسان بالنسبة لباقى الأشياء ، المال كل شىء ، بداية لسلوك إبنتى طرق السحر الشرقية للتخل منى بمساعدة صديقتها نسمة الإندونيسية من أصل يمنى ، العرب فى إندونيسيا أشرار أو معظمهم، تطرف دينى أوسحر أسود ودجل وشعوذة ، بدأت إبنتى ترتدى اللون الأسود الذى أكرهه بإستمرار وتشيح بوجهها كلما رأتنى وتغادر أى مكان أنا فيه تكتيكات كثيرة من إخراج نسمة صديقة المدرسة الثانوية والتى كانت تحظى منى بكل رعاية وإحترام وسيطرت بالشر على إبنتى المكلومة فى الأب المفلس الذى يقضى وقته بكتابة الكتب والمقالات التى لاتنتج فلوس ، نسمة أصبحت الصديق الأثير وبديل الأخت لإبنتى الموهوبة، الرسامة مصممة الأزياء ، نست إبنتى إننى أنا الذى إكتشفت هذه الموهبة مبكرا فى المرحلة الإبتدائى وأحضرت لها مدرس خاص للرسم ، نست كل شىء ، فقط تذكرت نسمة الساحرة الإندونيسية اليمنية الشريرة ، وبعدها سيأتى امت الهندى ويكتمل غدر الزمان ، الإتفاق على مساعدتى فى تأسيس مكتب ترجمة ومنحى مهلة للرحيل فى يناير 2016م .تفتيش أوراقى وصورى ومتعلقاتى قبل الرحيل وإتخاذ القرار بشأنها وإعدام بعضها والإبقاء على بعضها نفس التجربة التى عشتها بعد وفاة والدى قبل أكثر من عشرين عاماً.عثورى بين الأوراق على صورة مدام آمنة و روايتى الوحيدة ، الحب أولا وأوراق العمل مع ترنس كيلى ويحيى الجمال منظمة العمل الدولية ومشروع التأمين عبدالعزيز طيبة ومؤسسة السليمان والقرار الصعب ب‘دام كل هذه الذكريات - صداقة السلاحف وصداقة القط منصور ثم الإقتصار على صداقة القطط وتحرير السلاحف من أسر الأحواض - موقفى المؤيد للسعودية فى مواجهة الغزو الإيرانى لليمن وتأثيره على علاقتى بصديقى مؤمن سلام ومصر المدنية عدو السعودية اللدود {ايت الخمينى أخطر من إبن سعود فخسرت صديقى القريب وهكذا تفعل السياسة أحياناً - بداية الكتابة فى الحوار المتمدن مع إنطلاقة جديدة وتحرر من أسر مصر المدنية - تخرج إبنى جمال وإرتياحه النفسى وعودة علاقتى به بشكل طبيعى وتصورى الخاطئ بعودة الأمور إلى طبيعتها مع أولادى - عودة إبنتى بعد رحلة قصيرة إلى لندن لكورس تصميم أزياء ، وبداية تنفيذ خطة تجاهل ونفور لإجبارى على الرحيل - تعرفى على الناشر أحمد منتصرعلى الفيس وقصة نشر الطبعة الأولى أساطير الدين والسياسة ، ونية النزول إلى مصر لحفل توقيع أساطير الدين والسياسة بعد عيد الفطر يوليو 2017 وتأسيس مكتب ترجمة والإستقرار النهائى. زيارة أحمد زايد المفاجأة فى إبريل قبل النزول وتسجيله حوار معى ومع أسرتى وتصوير منزلى ونشره على قناته التليفزيونية كأثر حى على حياتى فى إندونيسيا – ونسيانى مع الأسف تصوير غرفة مكتبى أدرنا اللقاء فى الشرفة ، حياتى حياة الفرص الضائعة حتى فى اللقاطات ، مفاجئة أخيرة إنفصال إبنتى عن صديقها الإندونيسيى أأه بعد علاقة ثلاث سنوات ، والذى ساعدها بالفعل على التحول من مجال الفندقة إلى مجال تصميم الأزياء ، ثم زواجها برجل الأعمال الماليزى قمر الدين قبل أن تلتقى بصديقها الهندى الأثير ، أمت العنصرى الشرير - سفرى إلى مصر لنشر كتاب أساطير الدين والسياسة.











12-أساطير الدين والسياسة

مختصر الفترة القصيرة التى قضيتها بمصر قبل أن أعود إلى إندونيسيا مرة أخرى ، حوالى سبعة أشهر ، قصةالبداية العنيفة للعودة إلى مصر، أحداث مطار إسطنبول ، فوت الطائرة فى مطار إسطنبول لعدم الإعلان بالميكروفنات الواضحة ، خليل وفرقان وإبتزاز ألف دولار لحجز مقعد بديل بدل من الإنتظار أيام ، نفس الشرق الأوسط الشرير ، خداع الناشر أحمد منتصر وعدم توزيعه لكتاب أساطير الدين والسياسة وإعطائى أسماء مكتبات وهمية أجد عندها الكتاب ، تأسيس صفحة على الفيس والإستقرار فى مسكن مفروش بنفس حى فلمنج بالقرب من منزل أخى عبدالسلام و فقط بداية تعلم العمل على اللاب توب والموبيل الحديث فى الإعلان عن صفحة الترجمة وهى تجربة لم تفيد ، إجتماع الأصدقاء الأسبوعى ، صالون جلجاميش ، خروج أصدقاء ودخول أصدقاء ، تصفية حسابى كتبى المضحك مع منشأة المعارف بعد والذى أسفر عن خروجى مديناً لهم بألف جنيه بعد وفاة جلال حزى المعمر الأمين صاحب المؤسسة الشهير ،السفر إلى طنطا مع أحمد زايد وطارق وصفى وإنتزاع نصف طبعة الأساطير من الناشر أحمد منتصر بعد أن رفض إرسالها إلى فى الإسكندرية إلا بمبلغ إضافى كبير من المال من المال ، حفل التوقيع فى الجيزويت ، العودة السريعة إلى إندونيسيا بسبب مرض زوجتى وغسيل الكلى المفاجىء ،،،























13-غدر الحياة

إستمرار عداء إبنتى ديفى موناليزا وإبنى جمال رغم قيامى الكامل بواجب مصاحبة الأم فى عملية غسل الكلى والرعاية فى المنزل أيضاً ، لا أمان لمن لايملك ثمن الطعام ، ولاأمان للشرق الأوسط فى آسيا ، أضيف إلى ذلك أذى وافد جديد هى ديا زوجة إبنى التى كانت زميلته فى المدرسة وكانت تأتى إلى المنزل صغيرة وكنت أرحب بها وبكل زملائهم لم تكمل الدراسة الجامعية وأكمل إبنى جمال مع ذلك إستمرت علاقتهما وتحولت إلى زواج بمباركتى بصفة خاصة كانت يتيمة وكنت أشفق عليها وأشجع إبنى المتردد على الزواج بها ، أول مافعلته بعد الزواج هو أن بدأت التخطيط لطردى من منزلنا اكبير حتى يصفوا لعائلتها من ذلك الشرق أوسطى الغريب ، وبعد أن عجزت عن ذلك أقنعت إبنى بإستئجئار منزل قريب ، وإستقلوا فعلا بمنزلهم بعد أن أذاقتنى مر العذاب على نحو عامين ، ديا هى أحد النماذج الكبرى فى الحياة على مثل إتق شر من أحسنت إليه ، أضيف أيضاً أذى صديق إبنتى رجل الأعمال الهندى أمت ، والذى كان بدلاً من نصحها رفقاً بالوالد الغريب كان يزيد العيار حتى أصبح الصديق الوحيد الأثير والذى وجدت عنده الإستقرار وبدأت تناديه بأبى بدلاً من أبيها الذى إستقبلها إلى الحياة ورعاهاهعلى مدى نحو سبعة عشر عاماً قبل أن تغلق إندونيسيا شركات العمالة سنة 2006م ، الإستثمارات الهندية بدأت تكتسح آسيا وكانت عائلتى أول ضحياها ، إنتهى زمان العرب أصحاب شركات العمالة ، إندونيسيا بلد غنى الآن ونحن الفقراء ، لم يكن هناك سوى الحل النموذجى فى كل العصور وهو العودة للوطن لكن تدمير السيسى لمصر جعل من المستحيل التفكير فى الرجوع هناك ، أيضاً فشل كل المحاولات اليائسة للرحيل إلى وطن بديل بواسطة وكالات غوث اللاجئين فى إندونيسيا وماليزيا وغيرهم - ثم يبدد فرحة نشر كنوز للطبعة الثانية من الأساطير ، والتفكير فى نشر قصة مصر فى العصر الإسلامى أيضاً ، لكن تأتى الرياح بما لاتشتهى السفن ، أذهلنى قهر الغربة عن ملاحظة المرض ، القائل الصامت الرهيب ، سرطان القولون .



#عبدالجواد_سيد (هاشتاغ)       Abdelgawad_Sayed#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- فتنة إفرنج أحمد - مقتطفات من كتابى قصة مصر فى العصر الإسلامى ...
- العرجانى والصعود الخطير
- واقعة الصناجق ، الفقارية والقاسمية، مقتطفات من كتابى قصة مصر ...
- عواصمنا القاهرة والإسكندرية ، لا لعاصمة الجاسوس
- محمد وورقة بن نوفل والتاريخ وحقوق الإنسان
- محمد والشعر الجاهلى وإمرىء القيس
- محمد والحنيفية وأمية إبن أبى الصلت
- الجاسوسان ، من سد النهضة إلى رأس الحكمة
- التوراة والتلمود والمدراش - مقتطفات من الطبعة الثانية من أسا ...
- شاؤول الطرسوسى/بولس/مقتطفات من الطبعة الثانية من أساطير الدي ...
- الطبعة الثانية من أساطير الدين والسياسة تبحث عن ناشر
- كل عام وأنتم بخير 2024- إنقذوا المنطقة من محمد بن زايد
- عبد الجواد سيد - مقتطفات من السيرة الذاتية
- كامب ديفيد ورحيل روزالين كارتر
- كتاب مصر بين الأصولية والعلمانية
- لعنة إبراهيم - الجزء الثانى
- لعنة إبراهيم - الجزء الأول
- الإنتخابات المصرية والديكتاتور المجنون
- هشام قاسم والبحث عن الحزب المفقود
- رسالة إلى الفريق عسكر


المزيد.....




- -كما في فيلم رعب- طعن طفلين في إنجلترا حتى الموت وجرح آخرين ...
- انتهاء معرض الكتاب الدولى 19 بمكتبة الاسكندرية(صالون التونى ...
- استقبل الآنـ تردد قناة ناشيونال جيوغرافيك 2024 National Geog ...
- روبرت داوني جونيور يعود إلى عالم مارفل السينمائي في فيلم جدي ...
- هتتفرج على كل الأفلام الحصرية بأعلى جودة على تردد قناة روتان ...
- اليونسكو تدرج مواقع أثرية عربية وعالمية على قائمة التراث الع ...
- -الملحد-.. فيلم إبراهيم عيسى الجديد يثير الجدل والسبكي ينفي ...
- مهرجان الجاز الدولي الأول في بطرسبورغ يجمع 600 موسيقي و200 أ ...
- تفاعل واسع مع تتويج بلال محمد كأول بطل عالم فلسطيني للفنون ا ...
- عاصمة مملكة كندة.. المنظر الثقافي لمنطقة الفاو الأثرية ثامن ...


المزيد.....

- البحث عن الوطن - سيرة حياة عبدالجواد سيد / عبدالجواد سيد
- Diary Book كتاب المفكرة / محمد عبد الكريم يوسف
- مختارات هنري دي رينييه الشعرية / أكد الجبوري
- الرفيق أبو خمرة والشيخ ابو نهدة / محمد الهلالي
- أسواق الحقيقة / محمد الهلالي
- نظرية التداخلات الأجناسية في رواية كل من عليها خان للسيد ح ... / روباش عليمة
- خواطر الشيطان / عدنان رضوان
- إتقان الذات / عدنان رضوان
- الكتابة المسرحية للأطفال بين الواقع والتجريب أعمال السيد ... / الويزة جبابلية
- تمثلات التجريب في المسرح العربي : السيد حافظ أنموذجاً / عبدالستار عبد ثابت البيضاني


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - الادب والفن - عبدالجواد سيد - البحث عن الوطن - سيرة حياة عبدالجواد سيد