|
قصة فرن الطين وسط خيام النازحين
توفيق أبو شومر
الحوار المتمدن-العدد: 8048 - 2024 / 7 / 24 - 00:17
المحور:
حقوق الانسان
تسرب دخانٌ ذو رائحة كريهة إلى خيمتي المنصوبة على سور مركز اللجوء، الدخان الأسود ذو الرائحة الكريهة يطغى على لون النايلون الأبيض ويحجب نور الصباح الشفيف، رائحة الدخان تلتصق بالحلق وتستحلب البصاق، وتقتحم العينين مما يؤدي لانهمار الدموع بغزارة، فردت إصبعي لأفركهما في وقت واحد، كنت قبل تهجير الخيام أحذر من فركهما بهذه الشدة، لأنني أجريت فيهما عمليتين جراحيتين، رفعت رأسي عن الوسادة، دفعتني رائحة البلاستيك الكريهة لرفع البطانية عن الفراش وطيها ظنا مني أنها عندما تُطوى لا تتشرب تلك الرائحة، ألقيتها فوق وسادة نومي المحشوة بمزق من القماش، لم أعد أذكر عدد الغفوات التي غفوتها منذ الساعة العاشرة مساء أمس وحتى فجر اليوم، صوت القذائف والانفجارات المتقطعة هو الفاصل بين كل غفوة سريعة وأخرى، أما صوت الطائرة المسيرة في السماء فهو لا يتوقف أبدا، من بداية حلول الظلام وحتى اليوم التالي، إنه يقتحم الآذان بمزيج من الصفير الحاد، والزنين الباعث على الانقباض يمتزج بصوت طاحونة قديمة في منزل مهجور تطحن أحجار الصوان، يختلط هذا المزيج بصوت مايكروفون ضخم للصوت تعطلت مفاتيح إيقافه، كلها تخترق طبلة الآذان وتنتقل منها إلى كل مسامات الجسم، يظهر الانقباض بسهولة على كل الوجوه، إن صوت المسيرة مُعدٌّ خصيصا وفق دراسات دقيقة لنشر التشويش على مكان واسع، هذه الطائرة يمكنها بسرعة البرق أن تبتلع صوتها وتختفي عندما يأمرها مسيروها أن تفعل ذلك، صوتها الخارجي يزيد من حالة الخصام الدائم المسببة لاعتياد رفع الأصوات عند الحديث المتبادل بين مهجري الخيام، وهو بالتأكيد سبب للخلافات والنزاعات. استيقظ شابٌ من أقاربي ينام إلى جواري بفعل الدخان الكثيف ذي الرائحة الكريهة المتسربة من شقوق ثقوب النايلون الكثيرة، سألته: هل قصفت الطائرات منزلا قريبا وأشعلتْ فيه الحريق؟ قال وهو يبعد طرف النايلون الممزق وينظر إلى الخارج وهو يُردد لعناتٍ على طريقة الحياة قال: مصدر هذه الرائحة الكريهة هو خيمة تقع إلى الشرق من خيمتنا، إنه جارنا، بالأمس بنى فرنا من الطين ليكسب رزقا يمكِّنه من الانفاق على أسرته، نزع ما تبقى من بلاط شارع المشاة المرصوص بلا إسمنت، وبنى هيكلا للفرن من هذا البلاط، ألصقه بالطين ليصبح فرنا طينيا كبيرا، ولما شاهد استغرابي قال: سترى بعد أن يجف الفرن أنه سيرتزق منه، هذه المهنة إحدى المهن الجديدة في مخيمات اللجوء، بسبب عدم وجود غاز الطهي وشح الوقود وغلاء ثمنه، فبعد أن يجف الفرن سيجتمع أمام فرته كثيرون يحملون أرغفة عجين الخبز لينضجوه في الفرن، أكثر النازحين لا يملكون حطبا وفرنا! فهو ببنائه الفرن يوفر شراء الطحين اللازم للخبز لبيته، ويبيع ما يفيض، بعد أن فقد الجميع مهنهم الحقيقية، وفقدوا بيوتهم ومصادر رزقهم! قلت: إن الحطب غالٍ ولا يستطيع توفيره، فقد بلغ سعر كيلو الخشب والحطب غير الجاف دولارا، وهو سعر غالٍ جدا على جيوب الفقراء، فهو أغلى من الخبز، قال: لأجل ذلك فإنه لا يستخدم الحطب في تجفيف الفرن سريعا بإشعال النار فيه مدة طويلة ليتحول الطين إلى فخار محروق، بل إن صاحب الفرن كلف ثلاثة من أبنائه كي يجمعوا له كل ما يمكن إشعاله من بقايا البلاستيك من حاويات القمامة المملوءة بالنفايات بعد أن اختفى الكرتون من الطرقات وأصبح هو الآخر سلعة تباع، إنهم يبحثون عن نفايات الجلود والبلاستيك وإطارات السيارات، بالأمس رأيت ابنيه يحملان كيسين كبيرين محشوين بالأحذية البالية القديمة، حتى هذه البقايا من البلاستيك والجلود أصبحت ثروة، هم يستخدمونها اليوم لإحماء الفرن ليتخلص من الرطوبة، ومن ثَمَّ يخبزون فيه باستخدام ألواح الأبواب المنزوعة من البيوت المُدمرة ومن بقايا خشب كراسي الطلاب في مدارس اللجوء، هذه الأخشاب ليست رخيصة تُباع بالكيلو، عندما يجف الفرن يبدأ في استقبال الخبز العجين غير الناضج، ويتقاضى على إنضاجه رغيفا واحدا لكل خمسة أرغفة يجري إنضاجها نصف إنضاج ليوفر أكبر قدر من الحطب، كنتُ مقتنعا إن رائحة البلاستيك السامة تمتزج مع الطين، وتنتقل إلى أرغفة الخبز التي يأكلها أصحابها غير أن هذه النظرية الصحية لا تصلح في زمن تهجير الخيام، ستقابل بالاستنكار بعد أن يردد السامعون: لا تُوجد بدائل صحية. قلت: إذن سنقضي يومنا كله ونحن نستنشق هذه الرائحة بخاصة إذا ظلت الرياح تهب اليوم منذ الفجر من جهة الشرق، ندعو الله أن يتغير اتجاه الريح ليصبح اتجاهها غربا، حينئذ فإن رائحة احتراق الأحذية ورائحتها السامة الكريهة ستدخل خيام جيرانه في الجهة الشرقية، لا أحد يجرؤ على الاحتجاج على هذه الرائحة السامة، فنحن نعيش خارج زمن المنطق والصحة والبيئة في هذا العالم، لا أحد يُحس بمعاناتنا، نخشى أن نحتج على مسبب هذه الرائحة، لأننا سنجد أن الجميع يرددون: دعوه يفعل ما يريد، إنه يريد أن يوفر لقمة العيش لأسرته ويرتزق. إذن، يجب أن أغادر الخيمة الآن في هذا الصباح الباكر، وأتجه غربا وأجلس قريبا من الشاطئ حتى لا تتحول سموم رائحة احتراق الأحذية الجلدية والبلاستيكية القديمة إلى سرطانات في أعماقي، لأن الرياح ستظل تعبئ خيمتنا بهذه الرائحة الكريهة السامة طوال اليوم. سكنتْ رائحةُ احتراق خليط البلاستيك والجلود أعماقي، كنت أحاول ألا أنظر للبصاق في منديل الورق في يدي حتى لا أرى لون سواد البصاق لكنني لم أنجح، لم يعد السعال قادرا على إزالة الرائحة واللون، أصبح السعال يتكرر كل ثانيتين! عندما اقتربنا من الشاطئ لم تفلح نسمات البحر الخفيفة في إزالة رائحة احتراق الجلود من الحلق، كانت الرياح الشرقية تطغي على نسمات البحر الغربية وتهيمن على الأمواج وتنسج منها بساطا أزرق ناعما، وتحول البحر إلى بحيرة ساكنة بلا أمواج، على الرغم من إعجابي بهجوع البحر وهدوئه في هذا الصباح، لم أنجح في إزالة رائحة عفونة الجلود المحترقة في أعماقي حتى بعد مرور ساعتين، ظللتُ أسعل وأفرك عيني، اقتربتُ من أمواج الشاطئ المنسابة فوق رمل ناعم، غرفتُ بيدي حفنة من ماء البحر لأغسل وجهي بها، لكنني أضفتُ ملحا إلى عيني الحمراوين، أرغمتي ملوحة ماء البحر في عيني أن أعود إلى الشارع العام لأبحث عن زجاجة ماء لأغسل بها عيني، سرت أكثر من كيلو متر تقريبا، وجدتُ شخصا يبيع بعض زجاجات الماء، عندما صببت الماء على يدي ووضعت بعض القطرات في عيني أحسست بالراحة، لأنني صرتُ بعيدا عن غيمة الدخان السامة. لم أكن أتوقع أن لرائحة احتراق البلاستيك السامة أثرا آخر عليَّ، اكتشفتُ وأنا أعود بعد أكثر من ساعتين لأجلس على بقايا رمال الشاطئ المخلوطة بالعلب الفارغة وبقايا ملاعق البلاستيك، وقطع أكياس النايلون الممزقة المملوءة بالنفايات، اكتشفتُ بعد مرور الوقت إن رائحة حرق الأحذية المتسللة إلى أعماقي كانت لها فائدة في زمن شح الغذاء، إن هذه الرائحة أغلقت شهيتي بالكامل لتناول طعام الإفطار، لم أعد أحس بالجوع، إذن لن أنشغل بالبحث عن وجبة طعام الصباح، ولم أعد بحاجة إلا لوجبة طعام واحدة في اليوم، علبة من قطع التونة المحفوظة سأتناولها في ساعات العصر ستكون وجبتي طوال اليوم!
#توفيق_أبو_شومر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
إعلام التضخيم والتقزيم!
-
الترنسفير القسري والطوعي!
-
احذروا الاحتراب بين العائلات في غزة!
-
قصة من غزة ..عبوات غذائية متفجرة!
-
لوحات (غرونيكا) في غزة!
-
الموساد يهدد قضاة العدالة!
-
هل الأونروا منظمة دولية إرهابية)
-
قضايا فلسطين المركزية!
-
مضيفة الطائرة لا سامية!
-
مظاهرات الطلاب الأمريكيين مؤامرة روسية صينية!
-
برفسورة يهودية تدعو لنبذ الحركة الصهيونية!
-
خطط إسرائيلية لاستبدال الأونروا!
-
إلى فقهاء التحليل السياسي!!
-
اربطوا أحزمتكم، أنا من غزة!
-
إسرائيل جندت بلاك ووتر في غزة!
-
المرأة الفلسطينية المهَجَّرَة في معسكرات اللجوء!
-
اقرؤوا تاريخكم!
-
هل أدرك متخذو قرار الحرب هذه النتائج؟
-
الجوع يتجول في شوارع غزة!
-
استراتيجية إسرائيل من دمار قطاع غزة!
المزيد.....
-
ماذا قال منسق الأمم المتحدة للسلام في الشرق الأوسط قبل مغادر
...
-
الأمم المتحدة: 7 مخابز فقط من أصل 19 بقطاع غزة يمكنها إنتاج
...
-
مفوضية شؤون اللاجئين: 427 ألف نازح في الصومال بسبب الصراع وا
...
-
اكثر من 130 شهيدا بغارات استهدفت النازحين بغزة خلال الساعات
...
-
اعتقال رجل من فلوريدا بتهمة التخطيط لتفجير بورصة نيويورك
-
ايران ترفض القرار المسيّس الذي تبنته كندا حول حقوق الانسان ف
...
-
مايك ميلروي لـ-الحرة-: المجاعة في غزة وصلت مرحلة الخطر
-
الأمم المتحدة: 9.8 ملايين طفل يمني بحاجة لمساعدة إنسانية
-
تونس: توجيه تهمة تصل عقوبتها إلى الإعدام إلى عبير موسي رئيسة
...
-
هيومن رايتس ووتش تتهم ولي العهد السعودي باستخدام صندوق الاست
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|