أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - رمسيس كيلاني - إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطيني















المزيد.....



إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطيني


رمسيس كيلاني

الحوار المتمدن-العدد: 8043 - 2024 / 7 / 19 - 16:48
المحور: القضية الفلسطينية
    


بعد أكثر من 8 أشهر من الإبادة الإسرائيلية في غزة، ما زالت المقاومة الفلسطينية صامدة. اليوم، تهيمن المنظمات الإسلامية على هذه المقاومة. القوة العسكرية والسياسية الرائدة في قطاع غزة (وخارجه أيضًا بصورةٍ متزايدة منذ هجوم 7 أكتوبر) هي حركة حماس الإسلامية. تنفذ كتائب عز الدين القسام، الجناح المُسلَّح لحماس، العمليات العسكرية، غالبًا بالتعاون مع ثاني أكبر مجموعة مسلحة، الجهاد الإسلامي الفلسطيني. وبالرغم من أن منظمات يسارية مثل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين هي عضوة في غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، التي تشكلت في عام 2018 لتنسيق الكفاح المسلح في غزة، يظل التأثير العسكري والسياسي للتيارات التاريخية لليسار الفلسطيني هامشيًا في الوقت الحالي.

لم يكن هذا هو الحال دائمًا. في السبعينيات والثمانينيات، تمتعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين بشهرةٍ عالمية نتيجة لعملياتها العسكرية، وكانت أكبر منظمة سياسية فلسطينية تصف نفسها بأنها منظمة ماركسية-لينينية. أصدرت المنظمة صحيفة أسبوعية باللغة العربية باسم (الهدف) ونشرة شهرية باللغة الإنجليزية (نشرة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين). تضمنت كلتاهما تحليلات سياسية ونظري بالإضافة إلى مناقشة الشئون الدولية والقضايا الاجتماعية والثقافية. وقُدِّرت عضوية الجبهة في الأردن وحدها بحوالي 5 آلاف عضو، وكان ما يقرب من نصفهم مقاتلين. أدارت المنظمة مستشفيات ومدارس ودور رعاية نهارية وخدمات أخرى في كل من الأردن ولبنان. في الواقع، تعاطف والدي [والد الكاتب] وعشرات الآلاف من الفلسطينيين في غزة وخارجها مع الفصائل اليسارية العلمانية داخل منظمة التحرير الفلسطينية، والتي كانت تعمل كمظلة للفصائل الفلسطينية. كانت لهذه الجماعات اليسارية علاقات وثيقة مع الشتات الفلسطيني والأحزاب الشيوعية والمنظمات العسكرية حول العالم.

في هذا المقال، أزعم أن أسباب تراجع المنظمات التاريخية لليسار الفلسطيني تكمن أساسًا في منحها الأولوية للإستراتيجيات العسكرية، ما جعلها تعتمد على هياكل منظمة التحرير الفلسطينية. وكانت المنافسة البيروقراطية بين فصائل منظمة التحرير الفلسطينية على التمويل والدعم من الأنظمة في المنطقة قد ضيَّقت المساحة التنظيمية التي يمكن أن تطلق الطاقة الإبداعية للأشخاص العاديين من خلال النضال من أسفل. وعلاوة على ذلك، فإن هيمنة المفاهيم الستالينية للثورة على “مراحل” -حيث تكون الأولوية دائمًا للنضال الوطني على حساب النضال من أجل التحرر الاجتماعي من الاستغلال والاضطهاد- قد خنقت الديناميكيات الثورية للنضال الفلسطيني.

اليوم، أُعيدت أسئلة الإستراتيجية إلى السطح بسبب الثورات العربية والثورات المضادة منذ عام 2011، والتصعيد العسكري الكبير في الشرق الأوسط منذ الهجوم الذي قادته حماس ضد إسرائيل في 7 أكتوبر 2023، والرد الإسرائيلي الوحشي وصدى كل ذلك في حركة التضامن المتنامية مع فلسطين في الدول الغربية.

ينمو يسارٌ فلسطيني جديد، خاصةً في الشتات، مع تشكيلات مثل “حركة الشباب الفلسطيني” التي تلعب دورًا في تشكيل التيارات الراديكالية في حركة التضامن.
بالنسبة للاشتراكيين الثوريين، لطالما كان للفلسطينيين -وما يزال لديهم- كل الحق في المقاومة بكل الوسائل الضرورية ضد المستعمر الصهيوني المدعوم من الإمبريالية الذي يحتل أرضهم ويضطهدهم. يجب أن يحظى الفلسطينيين بدعمنا غير المشروط عندما يقاتلون من أجل الحرية. ومع ذلك، فإن تضامننا مع نضال شعب مضطهد لا يمكنه أن يلغي الحاجة إلى نقد التكتيكات والإستراتيجيات التي تتبعها المنظمات الفلسطينية. إن إعادة النظر في التاريخ والنقاشات المثيرة للجدل داخل اليسار الفلسطيني يمكن أن يوفر موردًا حيويًا يساعدنا على فهم دروس الماضي وتطوير إستراتيجية للتحرر من الاستعمار الصهيوني اليوم.

أصول اليسار الفلسطيني
شهدت خمسينيات القرن الماضي تنامي شعبية شكلٍ من القومية العربية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. رأت هذه الأيديولوجيا أن العرب شعب واحد تم تقسيمه بفعل الحدود المصطنعة التي فرضتها الحقبة الاستعمارية. في عامي 1952 و1958، أطاح ضباط شباب في الجيشين المصري والعراقي بالملكيات المدعومة من بريطانيا، وبرز الزعيم المصري جمال عبد الناصر كمدافع عن القومية العربية. تحدَّى ناصر القوى الإمبريالية القديمة، بريطانيا وفرنسا، من خلال تأميم قناة السويس في عام 1956. غذّت هذه التطورات فكرة أن “الوحدة العربية” يمكن أن تتحقق من خلال أفعال القوميين الراديكاليين الذين يقودون الدولة. في عام 1958، وافقت مصر وسوريا على أول اندماج للدول العربية، الجمهورية العربية المتحدة. ورُوِّجَ لتحرير فلسطين كقضية مركزية للقومية العربية، حيث تطلع الكثير من الفلسطينيين إلى ناصر للتحرك ضد إسرائيل.

نشأ اليسار الفلسطيني من أزمة مزدوجة لهذه القومية العربية. جاءت اللحظة الأولى من الأزمة في عام 1961، عندما انفصلت الدولة السورية عن الجمهورية العربية المتحدة، التي كانت قد تشكَّلت قبل ثلاث سنوات فقط. أما اللحظة الثانية، والأكثر حدة، فقد جاءت مع الهزيمة المدمرة للجيوش العربية أمام إسرائيل في حرب الأيام الستة عام 1967. ولَّد الفشل العسكري لمصر والأردن وسوريا شكوكًا في العقيدة التي أفادت بأن الوحدة العربية ستحرر فلسطين. في هذا السياق، بدأت الأيديولوجيات اليسارية-القومية التي وصفت نفسها بأنها “ماركسية” تتنافس مع الناصرية في “حركة القوميين العرب”، وهي منظمة قومية عربية أسستها مجموعة من الطلاب الفلسطينيين في الجامعة الأمريكية في بيروت في أعقاب النكبة -الطرد القسري لحوالي 750 ألف فلسطيني من قبل دولة إسرائيل المنشأة حديثًا في عام 1948.

وفقًا لعالم الاجتماع الفلسطيني جميل هلال، كان النقاد اليساريون للناصرية يبحثون عن “كل ما هو متاح في السوق”. كانت الأيديولوجيات الأكثر شعبية في “السوق” في ذلك الوقت هي تلك التي برزت في نضالات التحرر الوطني في الجزائر وفيتنام، والتي كان العديد من الفلسطينيين يحترمونها بشكل كبير. كانت النصوص التي كتبها القادة البارزون في النضالات المناهضة للاستعمار -مثل ماو تسي تونغ، وتشي غيفارا، وهوتشي منه- تُقرأ وتناقش على نطاق واسع.

في هذا السياق، اكتسبت نظرية المراحل الستالينية تأثيرًا في اليسار الفلسطيني. جادلت هذه النظرية بأن دور الشيوعيين في نضالات التحرر الوطني هو دعم مشروع الطبقة الرأسمالية المحلية لبناء دولة قومية وتجنب مخاطر تفكك التحالفات مع الرأسماليين من خلال الامتناع عن دفع الثورة الاجتماعية ضد الرأسمالية. كان يجب تحقيق الاستقلال الوطني أولًا قبل إدراج الاشتراكية على الأجندة، كان يجب إكمال المرحلة الأولى، وهي الثورة البرجوازية، قبل بدء المرحلة الثانية، وهي الثورة الاشتراكية.

من بين المهتمين بهذا النموذج من التحرر الوطني، كان هناك مؤسسان لحركة القوميين العرب: جورج حبش، الفلسطيني الذي أُجبر على النزوح بسبب التطهير العرقي في مدينة اللد خلال نكبة عام 1948، ووديع حداد، الذي أُجبر على النزوح من مدينة صفد في العام نفسه. كان كلاهما طبيبين شابين قوميين عربيين، وأدارا معًا عيادةً طبية في العاصمة الأردنية عمان. لقد ساعدا في تحويل القسم الفلسطيني من حركة القوميين العرب إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مندمجين مع جبهة تحرير فلسطين وغيرها من مجموعات “الفدائيين”.

في المقابل، تأسست منظمة التحرير الفلسطينية في البداية كمنتجٍ لعبد الناصر وأداةً له في ظل التنافسات الإقليمية في عام 1964. إلا أن هذا قد تغير بعد الهزيمة العسكرية لعبد الناصر في حرب الأيام الستة والعملية الفدائية الناجحة بشكل مفاجئ التي نفذتها حركة فتح ضد الجيش الإسرائيلي في الأردن في معركة الكرامة. لاحقًا، استولت فتح على منظمة التحرير الفلسطينية وحولتها بصورةٍ جعلتها حركة جماهيرية وأكثر استقلالية عن القاهرة. وانضمت إليها الجماعات اليسارية الجديدة التي كانت قياداتها قد رفضت سابقًا منظمة التحرير الفلسطينية.

وبالتالي، صارت منظمة التحرير الفلسطينية في تلك الفترة تتألف من مجموعة من الفصائل المسلحة ذات الأيديولوجيا العلمانية. كانت حركة فتح هي الأكبر وكانت قائمةً بالفعل منذ الخمسينيات، رغم أنها بدأت العمليات العسكرية فقط في عام 1965. كانت سياستها تستند إلى شكل من أشكال “الوطنية” التي رفعت هوية وطنية فلسطينية مشتركة متميزة عن المشروع القومي العربي. كان هدف وطنية فتح هو تمثيل جميع الطبقات الاجتماعية الفلسطينية. وقد تردد صدى ذلك مع البرجوازية الفلسطينية التي كانت بحاجة إلى حركة جماهيرية لخوض نضالها لإنشاء دولة فلسطينية ولكنها سعت أيضًا إلى تجنب تعريض تحالفاتها مع الدول الرأسمالية العربية القائمة للخطر. أصبحت فتح حزب البرجوازية الفلسطينية. كانت الشخصيات القيادية في حركة فتح، وكذلك في الفصائل اليسارية المنافسة لها داخل منظمة التحرير الفلسطينية المُشكَّلة حديثًا، من الطبقة الوسطى الفلسطينية والمثقفين الذين يعيشون في المنفى في الدول العربية.

حاولت فتح أن تلتزم بسياسة عدم التدخل في شئون الدول العربية، رافضةً التورط في الصراعات السياسية داخل الدول العربية الأخرى. على النقيض من ذلك، رأت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن التدخل أمر أساسي. ومع ذلك، فشلت في الانفصال الكامل عن خلفيتها القومية العربية، ولم يكن مفهومها للتدخل يهدف إلى ثورات العمال وتدمير أجهزة الدولة الرأسمالية. حذت المفاهيم الأيديولوجية والتنظيمية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حذو حركات التحرر الوطني في العالم الثالث، حيث كان المثقفون الراديكاليون يتوجهون نحو النماذج الصينية والسوفييتيية لرأسمالية الدولة كوسيلة لتحقيق النمو الاقتصادي والاستقلال. واصلت المنظمة تمسكها برؤية التحرر الوطني على أنه يتطلب دعم الحكومات العربية للمقاومة الفلسطينية. هذا ما قصده حبش، الأمين العام الأول للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عندما تبنى الشعار القومي العربي الذي صاغه في الأصل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري: “الطريق إلى فلسطين يمر عبر عمان، يمر عبر بيروت، يمر عبر القاهرة، ويمر عبر الرياض”. لكن الاشتراكيين الثوريين عندما يرفعون الشعار نفسه، فإنهم يقصدون به معنى مختلفًا تمامًا: أن النضالات الثورية للعمال والكادحين في البلدان المحيطة بفلسطين ضرورية من أجل انتصار الثورة الفلسطينية.

ثمن التبعية
استخدمت منظمة التحرير الفلسطينية تكتيكات الحرب غير المتكافئة لمواجهة عدوها الإسرائيلي القوي. ومع ذلك، كانت المخاطر هائلة بالنسبة لأولئك الذين كانوا يقودون الكفاح السري والمخلص للمقاومة (والتي كانت غالبًا ما تكون سرية بالضرورة) ضد عدو متفوق عسكريًا. مع انتصار إسرائيل على القومية العربية خلال حرب الأيام الستة، أصبحت الدولة الاستعمارية الاستيطانية حارسًا للإمبريالية الأمريكية في المنطقة. كان القادة السياسيون الفلسطينيون يواجهون خطر الاغتيال أو السجن سواء داخل فلسطين أو خارجها، وجرَّمت إسرائيل والغرب منظماتهم.

بعد انفصالها عن ناصر، قبلت منظمة التحرير الفلسطينية الدعم من جهات دولية جديدة، بدءًا من الممالك الخليجية إلى الجزائر ما بعد الاستعمار، وفيتنام وكوبا. حاولت المنظمة الانتعاش ماليًا وعسكريًا ودبلوماسيًا من خلال الاستفادة من التنافس بين القوى الإمبريالية، واشنطن وموسكو، خلال الحرب الباردة وكذلك من المنافسات الإقليمية بين الأنظمة العربية.

لم يكن الجناح اليساري لمنظمة التحرير الفلسطينية استثناءً من الاعتماد على الدعم الخارجي من الجهات الدولية. يشير عمر مصطفى إلى:
“رغم أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين رفضت -عن حق- فكرة أن بعض الأنظمة العربية كانت اشتراكية، إلّا أنها قامت بتمييز خاطئ بين الأنظمة الرجعية التي كانت تتكيف مع الإمبريالية والأنظمة الوطنية التقدمية التي كانت مضطرة للنضال ضدها. بناءً على هذا التمييز، تحالفت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع عدد من الحكومات العربية القمعية، مثل النظام البعثي في العراق ونظام الأسد في سوريا”.

كانت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أكبر فصيل يساري في منظمة التحرير الفلسطينية، لكنها لم تكن الوحيدة.

في البداية، تشكَّلت الجبهة الديمقراطية الشعبية لتحرير فلسطين بعد انقسام يساري من أعضاء سابقين في الحركة القومية العربية والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، حيث نشأت كـ”جناح تقدمي” حول مجلة “الحرية”. وفي عام 1969، انفصلت عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على أساس رفض النظرية التي تفرق بين الدول العربية الرجعية والتقدمية، واعتمدت رسميًا اسم الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في عام 1975. وانتقدت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أيضًا النهج العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، إذ جادلت في البداية بضرورة الانتقال إلى “حرب شعبية” شاملة للتحرير من خلال رفع “الوعي السياسي الأساسي” بين الجماهير.

ومع ذلك، فشلت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين في الاستقلال المالي عن الأنظمة العربية التي رفضتها نظريًا. ادعى ممدوح نوفل، أمين الصندوق السابق في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، في مقابلة مع قناة الجزيرة أن “الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين تلقت مليون دولار شهريًا من ليبيا، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أكثر من مليون دولار، والقيادة العامة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 1.5 مليون دولار خلال الفترة بين 1978 إلى 1980”.

ورغم أن الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين بدأت كفصيل يساري منشق عن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، رافضةً نظرية “الأنظمة العربية التقدمية” بينما ما تزال متمسكة بنظريات ضعيفة أخرى مثل نظرية المراحل، إلا أنها قامت بتحوّل حاد إلى اليمين بعد الأزمة التي واجهتها منظمة التحرير الفلسطينية في الأردن عام 1970، عندما شن النظام الملكي الأردني حربًا أهلية وحشية ضد منظمة التحرير. وفي عام 1973، بعد بضع سنوات فقط من حديثها عن نيتها تشكيل سوفييتات، تبنت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين برنامجًا يسمى “سياسة المراحل”، الذي جادل بإنشاء “سلطة وطنية مقاتلة مستقلة”، بمعنى آخر، دولة فلسطينية صغيرة في غزة والضفة الغربية. في العام التالي، في المجلس الوطني الفلسطيني، تبنى زعيم حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية، ياسر عرفات، تلك البادرة لحل الدولتين.

كانت التراجعات السياسية للجبهة الديمقراطية وفتح حول هذه المسألة بمثابة رد فعل مأساوي وخاطئ على الهزيمة الكبيرة التي لحقت بالحركة الوطنية الفلسطينية جراء أحداث الأردن عام 1970. وظل موقف دول المنطقة تجاه الحركة الوطنية الفلسطينية متناقضًا، فزعمت المملكة السعودية والكويت أنهما تدعمان منظمة التحرير الفلسطينية، لكنهما في الوقت نفسه دعمتا النظام الملكي الأردني ماليًا عندما بدأ في تصعيد هجماته على المنظمات الفلسطينية.

ورغم مؤشرات عدم استقرار النظام الأردني ودعوات الأحزاب الفلسطينية اليسارية في الأردن إلى إنهاء الحكم الرجعي للملك حسين، لم تكن أي من هذه المنظمات مستعدة بشكل جدي لاحتمالية اندلاع انتفاضة ثورية ضد النظام الملكي في 1969-1970. كان من الممكن أن يؤدي حشد الآلاف من الفلسطينيين والأردنيين في حركة جماهيرية ضد النظام الملكي إلى منع التهديد الوشيك بطرد الفدائيين الفلسطينيين من الأردن، بل كان من الممكن أن يفتح الطريق أمام تحرير فلسطين. ومع ذلك، بدلاً من ترسيخ نفسها في صفوف الطبقة العاملة الفلسطينية والأردنية، ركزت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على اختطاف الطائرات، إذ استولت على عدد من الطائرات الغربية وهبطت بها في الأردن في سبتمبر 1970.

وعندما شن النظام الأردني حملته على منظمة التحرير الفلسطينية، مبررًا ذلك بأنه رد فعل على عمليات الاختطاف، لم تكن أي من القوى الفلسطينية مستعدة للمواجهة. ومع حرصها على تجنب تحدي أشقائها العرب في الطبقات الحاكمة، وافقت قيادة فتح على هدنة وسط الاشتباكات، الأمر الذي سمح ببساطة للملك حسين بتعزيز الانضباط في جيشه. لم تكن هناك محاولات جادة لكسب صفوف الجيش ضد قيادته غير الشعبية. وبعد شهور من المد والجزر، هُزم الفدائيون الفلسطينيون وأُجبروا على الخروج من الأردن فيما أصبح يُعرَف بـ”أيلول الأسود”. وتقاعس القادة العرب المفترض أنهم أكثر “راديكالية” عن مساعدة الفلسطينيين. كتب كريس هارمان، في تعليقه على قصف الأردن للمقاومة الفلسطينية: “في الوقت نفسه، يقف ناصر، الذي طالما أعلن نفسه “زعيم الثورة العربية”، على الهامش آملًا أن يفوز الملك”. واتخذ حافظ الأسد، ديكتاتور سوريا، نفس الموقف السلبي.

رغم الدعم الدبلوماسي والعسكري الذي قدّمه ستالين لإنشاء دولة إسرائيل، أصبح الاتحاد السوفييتي مرجعًا أساسيًا لمنظمة التحرير الفلسطينية. بحلول عام 1970، كان السوفييت يقدمون ليس فقط المال والمعلومات، بل أيضًا التدريب العسكري وقاذفات الصواريخ والألغام والصواريخ. كانت الأسلحة تُوجه بشكل خاص إلى مقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. تجاوز توجه المجموعة نحو الاتحاد السوفييتي الاستفادة من الفوائد المادية ليشمل تبني مفاهيم تنظيمية مثل اللجنة المركزية المبنية على تفسير ستاليني لـ”المركزية الديمقراطية”. وفي الممارسة العملية، كان نموذج التنظيم الستاليني يعني: المركزية البيروقراطية، مما أدى إلى تقويض الديمقراطية الداخلية.

سعى الاتحاد السوفييتي فعليًا إلى تحويل المنظمات المرتبطة به إلى أدوات وفية لأهداف سياسته الخارجية الخاصة. كشف تقرير من الخدمة السرية السوفييتية عن النوايا خلف دعمها لمقاتلي الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين: “طبيعة علاقاتنا مع حداد تتيح لنا درجة من السيطرة على أنشطة قسم العمليات الخارجية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين [مما يسمح لنا] بممارسة تأثير لصالح الاتحاد السوفييتي – وأيضًا تحقيق بعض أهدافنا الخاصة من خلال أنشطة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مع مراعاة السرية اللازمة”. كان الاعتماد على الاتحاد السوفييتي يعني على الأقل درجة معينة من الطاعة لتعليماته ومتطلباته الأيديولوجية.

حدود إستراتيجية التحرر الوطني العسكرية
ركّزت القوى اليسارية داخل منظمة التحرير الفلسطينية، التي استمدت إلهامها من فِكر جيفارا، بشكل كبير على الكفاح المسلح والتطوع الثوري. ليلى خالد، العضوة في كادر الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وإحدى خاطفات الطائرات في سبتمبر 1970، عكست في سيرتها الذاتية كلمات جيفارا الشهيرة حول مهمة الثوار: “نحن نتصرف كثوار لنلهم الجماهير ونفجر الثورة في عصر الثورة المضادة”. الفكرة المعبر عنها هنا هي أن الإرادة الثورية للأفراد يمكنها أن تحول مرحلة الثورة المضادة إلى مرحلة ثورية. كان يُنظر إلى المقاومة المسلحة كوسيلة لتحقيق الثورة. تخيلت خالد إستراتيجية لتحرير فلسطين تستند إلى مثال الكفاح المسلح في سياقات استعمارية أخرى: “يجب أن نتعلم من أشقائنا الجزائريين”. وبالمثل، ادعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أن جبهة التحرير الوطني الفيتنامية “أثبتت أنه فقط من خلال صيغة” حرب العصابات الشعبية “يمكننا مواجهة الإمبريالية بتفوقها التكنولوجي والاقتصادي والعسكري”.

رفضت العديد من القوى داخل اليسار الفلسطيني -عن حق- منطق فتح المتمثل في الدبلوماسية الزائفة والتنازلات السياسية والجولات العقيمة من المفاوضات مع القوة الاستعمارية الإسرائيلية. وصف غسان كنفاني، الروائي والعضو البارز في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، هذه المحادثات غير المتكافئة بأنها “حديث بين السيف والعنق”. ومع ذلك، كما لاحظ جبرا نيقولا، الثوري الاشتراكي الفلسطيني المهم -عن حق- فإن التركيز شبه الكامل على الإستراتيجية العسكرية يعني أن المنتقدين اليساريين لفتح امتنعوا عن المشاركة الضرورية في النضالات من أسفل التي قادتها المنظمات الفلسطينية القاعدية. كانت المقاومة المسلحة بديلاً عن مشروع المشاركة الجماهيرية في عملية التحرير الوطني. جبرا، الذي كتب بالاسم المستعار “أ سعيد” في مقال بعنوان “أطروحات حول الثورة في الشرق العربي”، لخّص فهمه لـ”أسباب الهزيمة الفلسطينية” كما يلي:

“1. فشل القيادة في التحديد النظري والعملي لنطاق الثورة الإقليمي (الشرق العربي بأكمله)، وفصل النضال من أجل “تحرير فلسطين” عن النضال ضد جميع الأنظمة العربية من أجل ثورة اشتراكية بروليتارية في الشرق العربي ككل، وهي الوحيدة التي يمكنها هزيمة الإمبريالية والصهيونية الإسرائيلية.

2. تبنيها لنظرية “الثورة على مراحل” ونظرية “التناقضات الأولية والثانوية”، مما أدى إلى إخضاع النضال الطبقي لفترة معينة إلى “الوحدة الوطنية”، وبالتالي اعتبار الأنظمة العربية والطبقات الحاكمة العربية حلفاء في النضال ضد الإمبريالية والنضال ضد إسرائيل، وليس كأعداء طبقيين يجب النضال ضدهم وإسقاطهم.

3. قبولها لنظرية “البؤرة”، التي تضع تركيزًا شبه حصري على الجانب العسكري من النضال، ورفضها الاعتراف بالحاجة إلى تنظيم طليعي ثوري عربي شامل وإخضاع العمليات العسكرية للإستراتيجية السياسية والقيادة السياسية. وهكذا لم تبذل أي جهد لتسييس الجماهير في البلدان العربية المختلفة وتعبئتهم للنضال الثوري، ليس فقط من أجل “تحرير فلسطين”، بل أيضًا من أجل تحرير الشرق العربي بأكمله من الهيمنة الإمبريالية ومن الحكام والأنظمة العربية التي تمارس بهم [الإمبريالية] هيمنتها. إن تركيزها على فصل النضال الفلسطيني عن النضال المحلي في البلدان العربية دفعها إلى تبني سياسة تجاه الجماهير العربية أدت حتى إلى إحباط الجماهير الأردنية واللبنانية وبث التنافر بينها، تلك الجماهير التي كانت تعمل بينها وكان لها قاعدة فيها”.

أدى منطق التركيز على حرب العصابات إلى دفع القوى اليسارية داخل منظمة التحرير الفلسطينية إلى التنافس عسكريًا مع فتح من خلال شن عمليات مسلحة أكثر إذهالًا. ومع ذلك، حتى الجناح الأكثر راديكالية عسكريًا من القومية الثورية كان يرى في نشاط الجماهير مجرد أداة لبناء دولة قومية بدلًا من رؤية إمكانية تحقيق الناس العاديين لتحررهم الذاتي من خلال السيطرة على وسائل الإنتاج. في الواقع، يمكن اكتشاف هذا الموقف في الوثيقة التأسيسية للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لعام 1967، التي دعت الجماهير إلى القيام بدورها كداعم للمقاومة المسلحة:
“الجماهير -أبناء شعبنا البطل- هم روح المقاتلين، ومن خلال مشاركة الجماهير في المعركة نضمن النصر على المدى الطويل. إن الدعم الشعبي للمقاتلين على جميع المستويات وفي كل أرض يشكل أساسًا للنضال الحقيقي والمتين والمتصاعد والثابت، حتى نسحق العدو”.

وفقًا لهذا المنظور، فإن النشاط الجماهيري ليس إلا شرطًا تمكينيًا لعمل مجموعة صغيرة من المقاتلين. فبدلاً من أن يطور العمال قدرتهم الذاتية على الحكم الثوري الذاتي، يُتوقع منهم أن يعملوا بشكل أساسي كداعمين للعمليات العسكرية التي تشنها منظمات حرب العصابات.

من البندقية إلى غصن الزيتون
بعد هزيمة الفصائل الفلسطينية المسلحة في الأردن على يد قوات الملك حسين في سبتمبر 1970، أُجبرت منظمة التحرير الفلسطينية على مغادرة البلاد والانتقال إلى لبنان، حيث سرعان ما تورطت في الحرب الأهلية اللبنانية. كانت تلك نقطة تحول محورية في تطور اليسار الفلسطيني. خلال فترة وجودها في لبنان، شكلت منظمة التحرير كيانًا شبه دولتي، مما أدى إلى مأسسة وبقرطة فصائلها، بما في ذلك الفصائل اليسارية.

أثر ذلك على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، التي تلقت أيضًا تمويلًا عبر قنوات منظمة التحرير الفلسطينية. أصبح النشاط السياسي خاضعًا لـ”الاحترافية”، حيث تطورت الهياكل البيروقراطية وزاد اعتمادها المادي على أموال منظمة التحرير الفلسطينية والدول الراعية. أثرت هذه البيروقراطية “بشكل ضمني على نشاط الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وكانت تمثل عقبة أمام التغيير”، حيث أن أي تغيير من هذا القبيل “سيعرِّض المواقع الراسخة داخل المنظمة للخطر”:
“وعلاوة على ذلك، مثلت الهياكل البيروقراطية أيضًا أداة متاحة للقيادة لممارسة سيطرة أقوى على عضوية الفصيل. ولذلك، فإن حاجة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين للحفاظ على الاندماج داخل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية وبيروقراطية هيكلها … عزّز نهجًا محافظًا في قيادتها”.

أثر الفساد واسع الانتشار في منظمة التحرير الفلسطينية على تياراتها اليسارية من خلال النظام الذي يخصص الأموال بين الفصائل، مما أدى أيضًا إلى مأسسة المنافسة بينها للحصول على أموال من الدول المانحة. وفي نهاية المطاف، كانت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية تسيطر على ميزانية المنظمة، وزادت السيطرة على صنع القرار والتحكم في الميزانية تحت قيادة ياسر عرفات، الذي استخدمها كأداةٍ للتأثير السياسي. انسحبت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين من اللجنة التنفيذية ردًا على الخطوات الأولى لمنظمة التحرير الفلسطينية نحو تبني حل الدولتين، وفقًا لـ”برنامج النقاط العشر” لعام 1974، لكنها عادت بعد سبع سنوات.

انعكس تآكل الديمقراطية الداخلية في منظمة التحرير الفلسطينية في الاتحاد العام لعمال فلسطين، حيث توقفت الانتخابات الداخلية بعد عام 1981، واختيرت قيادته التنفيذية بالتعيين الحزبي. حصلت فتح على ستة من المقاعد المتاحة، وحصلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على ثلاثة، وقررت الأحزاب اليسارية الأخرى توزيع المقاعد الثلاثة المتبقية.

وخلال الثمانينيات، فقدت الصحف المستقلة بعض وزنها، وهي التي كانت من قبل وسائط مهمة لاستقلال اليسار داخل منظمة التحرير الفلسطينية. توقفت نشرة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين باللغة الإنجليزية عن الصدور في عام 1984. وجاءت بعدها نشرة نصف شهرية، “فلسطين الديمقراطية”، لكنها لم تنجح في الاستمرار عقدًا من الزمن. وبعد أن نقلت مقرها إلى سوريا في عام 1986، خضعت صحيفة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الأسبوعية (الهدف) لرقابة نظام الأسد.
كانت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية ما تزال تعمل من المنفى ولم تكن منخرطة بشكل كبير في الأنشطة داخل فلسطين المحتلة. نقلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مقرها إلى دمشق في عام 1982، وأصبح نظام الأسد “شريكها الإقليمي الرئيسي”. قبل منتصف السبعينيات، عندما بدأت الفصائل اليسارية في منظمة التحرير الفلسطينية تلعب دورًا داخل فلسطين المحتلة، كان الفصيل الوحيد لمنظمة التحرير الفلسطينية هناك هو الحزب الشيوعي الفلسطيني الصغير.

في عام 1987، لفتت انتفاضة الحجارة الأولى الانتباه إلى قطاع غزة والضفة الغربية المحتلتين. قاوم الفلسطينيون الاحتلال الإسرائيلي بتعبئات جماهيرية وإضرابات عامة وتنظيم شعبي جذب الناس العاديين حول العالم. حرَّكت لجانٌ أنشأت نفسها ذاتيًا الاحتجاجات والإضرابات والمقاومة الجسدية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلية، وكذلك أنشأت أنظمة صحية وتعليمية سرية. قوبِلَ دور هذه اللجان الشعبية باحتفاءٍ بالغ من بعض العناصر داخل قيادة الحركة الفلسطينية على الأرض في غزة والضفة الغربية. وفي بيان صدر في 28 مايو 1988، حثت القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة الفلسطينية على “بناء أجهزة الحكم الذاتي الشعبي من خلال اللجان الشعبية”. كان ذلك بديلًا محتملًا عن التصور الذاتي لمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها “الممثل الوحيد” للشعب الفلسطيني قد بدأ يظهر، رغم أن اليسار لم يكن راسخًا بشكل متين في الانتفاضة.

من الواضح أن منظمة التحرير الفلسطينية تحت قيادة فتح كانت ستقاوم هذا التطور. دفع خطر استبدال القيادة البديلة الناشئة من القاعدة في غزة والضفة الغربية عرفات إلى مزيد من المفاوضات مع إسرائيل والولايات المتحدة. كان يمكن أن تكون هذه لحظة حاسمة من أجل بديل ثوري يساري. ومع ذلك، رغم أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين تمكنت من بناء وجود شعبي في فلسطين المحتلة من خلال التنظيم السري، فإن قيادتها البيروقراطية في المنفى ظلت مرتبطة بمنظمة التحرير الفلسطينية. ومن ثم، اتخذت موقفًا غامضًا تجاه سياسة عرفات، ما أدى إلى نفور قاعدتها في غزة والضفة الغربية.

لم تكن الطاقات الثورية للانتفاضة الأولى مكبوتةً فقط برغبات فتح البيروقراطية للتعاون والتسوية. لعب التفكك التاريخي للطبقة العاملة الفلسطينية بسبب الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي وتشريد ملايين الفلسطينيين، دورًا حاسمًا في هزيمة الانتفاضة أيضًا. تسببت الإضرابات والتعبئات الجماهيرية من أسفل في مشكلات كبيرة للطبقة الحاكمة الإسرائيلية، مما أدى إلى أزمات عسكرية وسياسية. ومع ذلك، لم تتمكن هذه النضالات وحدها من شل وتفتيت الدولة الإسرائيلية، التي واصلت العمل بفضل استعداد اليهود الإسرائيليين لاستبدال العمالة الفلسطينية والمساعدة العسكرية والاقتصادية المستمرة من الولايات المتحدة.

من منتصف التسعينيات، أدى تشكيل السلطة الفلسطينية كمقاول فرعي للاحتلال باتفاقيات أوسلو إلى توطيد عملية التطبيع بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل وإضفاء الطابع المؤسسي على هذه العملية. وفي بيانات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين والجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، عارضت الجبهتان أوسلو منذ البداية، بل وقادت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين جبهة “الرفض” ضد اتفاقيات أوسلو، والتي انضمت إليها الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. ومع ذلك، فإن اعتماد هياكل الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين على منظمة التحرير الفلسطينية جعلها غير مجهزة -أيديولوجيًا وتنظيميًا وماليًا- للعمل فعليًا وفقًا لموقفها الرافض.

ظهرت حماس كمنافس جديد للقيادة الفلسطينية من خارج إطار منظمة التحرير الفلسطينية. بين عاميّ 1988 و1989، سجلت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين نموًا هائلًا في العضوية، لكن هذا تباطأ بشكل كبير بحلول عام 1991. وبعد عام، توقف النمو تمامًا. تحول عدد من أعضاء الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى حماس، معتبرين إياها المنظمة الجديدة الصاعدة. انخفضت شعبية الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين إلى 3% فقط في عام 1995، عندما وقَّعت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التي شرعت في جولات أخرى من المفاوضات مع إسرائيل، اتفاقية طابا، المعروفة أيضًا باسم “أوسلو 2”. بحلول عام 2006، وفقًا لمركز البحوث السياسية والمسحية الفلسطيني، بلغ الدعم الإجمالي لحماس بين الناخبين الفلسطينيين 38.6%، مقارنةً بـ42.1% لفتح. أظهر نفس الاستطلاع أن الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين حصلت على 4.4% فقط، بينما حصلت الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين على 1.2%. أظهر أحدث استطلاع أجراه مركز البحوث السياسية والمسحية الفلسطيني، الذي اكتمل في ديسمبر 2023، أن دعم حماس بلغ 43%، وفتح 17%، والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين 1% فقط.

كان هناك قطاع واسع من الجماهير الفلسطينية لم ينظر إلى أي من الفصائل اليسارية في منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها بديلًا ثابتًا ومستقلًا عن فتح، وفي المقابل ملأت الفصائل الإسلامية الفراغ.

فشل اليسار الفلسطيني بعد أوسلو في التعافي من سقوطه على مدار العقود القليلة السابقة. ومع ذلك، تستمر الأسئلة الإستراتيجية والسياسية التي أثارها صعوده وانحداره في لعب دور في السياسة الفلسطينية المعاصرة. في الوقت الحاضر، تتمثّل القوى الوطنية المقاومة الرئيسية بشكل كبير في الإسلام السياسي، لكن حركة التحرير الفلسطينية ما تزال تواجه تحديات مماثلة لتلك التي واجهتها الفصائل القومية واليسارية العلمانية في منظمة التحرير الفلسطينية بين الستينيات وأوائل التسعينيات، بما في ذلك قضايا استناد المقاومة على المنطق العسكري وتبعيتها للدول الإقليمية الراعية.

أصبحت إيران الراعي الرئيسي للمقاومة الفلسطينية على مدار العقود القليلة الماضية. وكما ذكرنا أعلاه، فإن الجبهة الشعبية والجبهة الديمقراطية في غزة تشاركان في غرفة العمليات المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية، وهي جزء من محور المقاومة الذي تقوده إيران، وهو تحالف سياسي وعسكري غير رسمي شكلته إيران مع حلفائها ووكلائها في الشرق الأوسط. قبل اغتياله على يد السلطة الفلسطينية، طرح المثقف اليساري الشعبي نزار بنات سؤالاً بلاغيًا في أحد مقاطع الفيديو الخاصة به: “من أين حصلتم على الصواريخ التي تحمي غزة؟”. كانت نقطته، الموجهة إلى الفصائل غير الإسلامية، هي أن الفلسطينيين يجب أن يكونوا ممتنين لأن إيران تزود أيًا من قوى المقاومة بالأسلحة.

ومع ذلك، كما هو الحال دائمًا، هناك شروط مرتبطة بدعم إيران للمقاومة. عندما رفضت حماس تقديم دعم غير مشروط لنظام الأسد المتحالف مع إيران خلال الثورة السورية، خفضت إيران رعايتها المالية من 150 مليون دولار إلى أقل من 75 مليون دولار. وعندما رفضت حركة الجهاد الإسلامي الفلسطيني التعبير عن التضامن مع الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن، انخفضت أموالها وفقًا لذلك وتحوَّلت إلى حركة الصابرين التي انتهت الآن، وهي منظمة شيعية في غزة. في النهاية، امتثلت الجهاد الإسلامي للإملاءات.

في السنوات الأخيرة، أظهرت قيادة حماس التي تعيش في المنفى في قطر علامات على الرغبة في اتباع المسار الذي رسمته بالفعل فتح وقيادة منظمة التحرير الفلسطينية التاريخية: التوافق مع القوى الغربية والنظام الدولي. في عام 2017، تضمن ذلك تعديل ميثاق حماس -الوثيقة التأسيسية للحركة- لإزالة الصياغة التي تستبعد حل الدولتين. قبل الميثاق المعدل لعام 2017 أيضًا بوجود دولة فلسطينية داخل حدود عام 1967 للأراضي الفلسطينية المحتلة. علاوة على ذلك، أعاد مسؤولو حماس تأكيد التزامهم بتسوية الدولتين “مؤقتًا” في أبريل 2024.

تظل حماس منظمةً ممزقة بعدد من التناقضات السياسية والطبقية الداخلية. ومع ذلك، فإن قاعدتها التنظيمية وجناحها العسكري في غزة ملتزمان بمواصلة المقاومة. لقد فاجأت مرونة قاعدتها الشعبية السياسية وتنظيمها العسكري -رغم الحجم الهائل للهجوم الإسرائيلي القاتل- أعداء حماس وكذلك مؤيديها.
أصداء في الشتات

ظهرت من جديد الجدالات القديمة حول إستراتيجيات التحرير مع توسع حركة التضامن الدولية مع فلسطين إلى أبعاد لم تكن متخيلة من قبل في أعقاب الهجوم الذي شنته حماس في 7 أكتوبر والغزو الإسرائيلي الإبادي لغزة.

بسبب التطهير العرقي المتكرر لفلسطين منذ عام 1948، تشكّلت مجتمعات الشتات الفلسطيني من ملايين الأشخاص حول العالم. تختلف هذه المجتمعات من حيث تركيبها الاجتماعي وأماكن نشأتها والبلاد التي هربت منها. وبالمثل، لديهم جميعًا تجارب ملموسة مختلفة مع التحديات التاريخية والمعاصرة التي تواجه الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية و”فلسطين 1948” (أي المنطقة التي تطالب بها إسرائيل رسميًا منذ النكبة) والأردن ولبنان وسوريا ودول الخليج ومناطق أخرى في الشرق الأوسط. وكثيرًا ما تندلع الخلافات والصراعات المتعلقة بالمواقف من حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، والثورات العربية وما تلاها من ثورات مضادة، وإستراتيجيات التحرر الوطني الفلسطيني داخل مجتمعات الشتات وحركة التضامن.

لا ينبغي أن يكون هذا مفاجئًا. مجتمعات المنفى موطن لترسبات عديدة، لكنها أيضًا تميزت بتباينات داخلية. لقد نجت الهياكل القديمة لمنظمة التحرير الفلسطينية في الغرب، وغالبًا ما تقود مجتمعات الشتات أعضاء الطبقة الرأسمالية المنفيين أو كوادر الأحزاب القديمة. بعضهم يعزز العلاقات الدبلوماسية والمالية مع الدول العربية المرتبطة بأحزابهم السياسية. في بعض النواحي، تشبه الهياكل السياسية في الشتات نماذج مصغرة لمنظمة التحرير الفلسطينية. ونظرًا إلى أن التشكيلات السياسية في المنفى كانت نشطة لعقود، فقد حافظ العديد منها على ميزة القيام بدور أكبر قبل ظهور حماس وإنشاء السلطة الفلسطينية. وما يزال البعض يرون منظمة التحرير الفلسطينية على أنها “الممثل الوحيد للشعب الفلسطيني” -كما تسميها كل من الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية- وبالتالي يرون أنفسهم على أنهم الممثلون الوحيدون لمجتمعات الشتات الفلسطينية الخاصة بهم. ومع ذلك، تواجه العديد من هذه الهياكل السياسية في المنفى مشكلاتٍ في إعادة إنتاج منظماتها، وأحيانًا تفقد حتى أبناءها الذين لا يستطيعون التماهي مع هذه المجموعات التراثية إلا على مستوى مجرد.

تشكلت تكوينات جديدة واعدة للشتات الفلسطيني في السنوات الأخيرة، خاصة خلال حركة “حياة السود مهمة” في عام 2020، وبعد تصاعد التضامن عندما قاوم الفلسطينيون العزّل التطهير العرقي في منطقة الشيخ جراح في القدس. ومن الأمثلة على ذلك حركة الشباب الفلسطيني في الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وحركة “فلسطين تتحدث” في ألمانيا. عمومًا، نشأت هذه الهياكل السياسية على يد الجيلين الثاني والثالث من الفلسطينيين في الشتات. أما المواقف السياسية التي يتخذها النشطاء داخل هذه المجموعات بناءً على بعض المفاهيم غير المحددة للهوية الفلسطينية، فهي متنوعة بالضرورة. على سبيل المثال، صرحت حركة الشباب الفلسطيني قائلة: “بغض النظر عن اختلافاتنا السياسية والثقافية والاجتماعية، نسعى لإحياء تقليد الالتزام التعددي تجاه قضيتنا”. وتؤكد المنظمة على استقلاليتها وعدم انتمائها لأي حزب فلسطيني في خطابها العام، وتؤكد كذلك على جهودها لإعادة بناء حركة التحرير الفلسطيني من خلال المشاركة في النضالات إلى جانب مجموعات مضطهدة أخرى. على سبيل المثال، يوثق موقعها على الإنترنت تعبئاتها في التضامن مع من يحتجون ضد خط أنابيب داكوتا ومحاولاتها لرسم الروابط بين النضال الفلسطيني وتجارب السكان الأصليين في أمريكا الشمالية مع الإبادة الجماعية والقمع.

وكما هو الحال في مجموعات الناشطين الشباب الأخرى، فإن نسبة الطلاب عادة ما تكون مرتفعة. العديد من هؤلاء الناشطين الفلسطينيين تشكَّلوا كمواطنين مهاجرين في الدول الغربية قبل أن يُنظَّموا سياسيًا كفلسطينيين. هاجر ناشطون آخرون في هذه المجموعات إلى الغرب مؤخرًا، هربًا على سبيل المثال من الحرب الأهلية السورية وتدمير مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين. إن مسألة تبعية المقاومة الفلسطينية لدولة، لها بعد ملموس بالنسبة لأولئك الناشطين الذين شهدوا قمع القيادة العامة للجبهة الشعبية للمخيم دفاعًا عن نظام الأسد.

تنشأ بطبيعة الحال تحديات في مسائل أخرى داخل هذه التكوينات، بما في ذلك الرؤى المتنافسة لتحرير فلسطين والضغوط نحو أشكال انفصالية بناءً على مفهوم غير واضح للهوية الفلسطينية. علاوة على ذلك، يتمتع العديد من الناشطين الفلسطينيين بالبصيرة لفهم أنه حتى لو تمكنوا بطريقة ما من تنظيم مجتمعهم بالكامل في دولة إمبريالية معينة، فلن يكون ذلك كافيًا لإضعاف دعم تلك الدولة لإسرائيل بشكل كبير.

في هذه السياقات، تميل النقاشات حول تكتيكات الجبهة المتحدة إلى الظهور. وبشكل مفهوم، نظرًا للخيانة التاريخية الموضحة أعلاه، هناك خوف واسع الانتشار بين الناشطين الفلسطينيين مما يسمى بـ”التطبيع”: بناء العلاقات مع الصهاينة والاحتلال. عندما تكون هناك محاولات لتوسيع حركة التضامن، تكون هناك مناقشات حول كيفية التمييز بين تكتيكات الجبهة المتحدة التي تهدف إلى الوصول إلى قاعدة منظمات الطبقة العاملة والأنشطة التي تطبِّع خيانة القضية الفلسطينية.

واحدة من أكثر النقاشات إلحاحًا التي يخوضها الاشتراكيون خلال التعبئات الجماهيرية المستمرة ضد الإبادة الجماعية الإسرائيلية في غزة، تتمحور حول كيفية الارتباط بالحركات والنضالات الأخرى، خاصة حركة العمال. كانت هناك تحركات ملهمة للعمال لوقف شحن الأسلحة إلى إسرائيل في الأشهر الأخيرة. ودفعت مظاهرات يوم العمال العالمي حول العالم التضامن مع فلسطين كواحدة من صيحاتها الحاشدة المركزية. وفي بعض الأماكن، انضم المتظاهرون المؤيدون لفلسطين إلى احتجاجات العمال، وفي أماكن أخرى، رفع العمال والنقابيون مطالب مؤيدة لفلسطين بأنفسهم. وفي بقاع عدة من العالم، قاوم العمال والنشطاء حظر الأعلام الفلسطينية من قبل بيروقراطية نقاباتهم الخاصة. ويشارك الجيل الجديد من الناشطين الفلسطينيين الشباب بشكل متزايد في هذه الصراعات والخبرات السياسية.

يعد بناء حركة تضامن متجذرة في الطبقة العاملة أمرًا مهمًا بشكل خاص نظرًا للقمع المتزايد من الدولة وحملات الشرطة ضد حركة التضامن العالمية مع فلسطين، كما يتضح من الاعتصامات الطلابية في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وهولندا. وفي ظل الهجمات الوحشية من الدولة، هناك مناقشات مكثفة حول التكتيكات المناسبة لمواجهة هذا القمع. يجذب العمل السري والأساليب الاستقلالية للميلشيات كثيرين في ظل هذه الظروف، خاصة أولئك الذين يستلهمون المقاومة المسلحة للفلسطينيين. علاوة على ذلك، يُجبَر النشطاء على اتخاذ موقف بشأن قضايا النضال العسكري على خلفية تشهير الحكومات ووسائل الإعلام بجميع أشكال المقاومة الفلسطينية. وعلاوة على ذلك، فإن تبادل الهجمات بالصواريخ والطائرات المسيرة بين إسرائيل وإيران، وكذلك حصار الحوثيين للشحن الدولي في البحر الأحمر، قد أطلق جولة جديدة من المناقشات حول ما يسمى بمحور المقاومة.

إن تحليل الأحداث التاريخية والأحداث الأخيرة لاتخاذ موقف مستنير بشأن إستراتيجيات التحرير الفلسطيني هو ضرورة للفلسطينيين وحركة التضامن في الخارج. ويمكن أن يساعد فهم النقاشات حول العلاقة بين العمل المسلح والتعبئة الجماهيرية في الماضي في توضيح الإستراتيجيات للمستقبل. وكما هو موضح أعلاه، فإن تجربة التشكيلات التاريخية لليسار الفلسطيني تُظهِر أن الأعمال السرية لقلة من الخبراء لا يمكن أن تكون بديلًا عن القوة الجماعية للنشاط والتضامن الجماعي.
لا يقتصر الجدل الدائر حول تكتيكات حرب العصابات على الناشطين فحسب. ومن المعروف أن عالم البيئة الماركسي السويدي أندرياس مالم يدافع عن إستراتيجيات الفعل المباشر لحركة المناخ. ووفقًا لذلك، في تحليل حديث للهجوم الإبادي الإسرائيلي على غزة، اقترح أن عمليات حرب العصابات التي قادتها حماس في 7 أكتوبر كانت أعظم إنجاز للحركة الفلسطينية حتى الآن، متفوقة على الانتفاضة الأولى. رد بشير أبو منّة، الذي يدرس الأدب الفلسطيني والإسرائيلي، على مالم في مقال نشر في موقع “جاكوبين”، حيث اتهمه عن حق “بتجاهل أن الانتفاضة الأولى كانت أكبر حركة جماهيرية منظمة ذاتيًا ضد الاستعمار في التاريخ الفلسطيني، وأنها أجبرت إسرائيل على تقديم تنازلات سياسية غير مسبوقة”. ترتبط دعاية مالم للفعل غير المسلح بدعاية حرب العصابات المسلحة لأن كلاهما ينبع من شكوك عميقة بشأن قدرة وقوة الطبقة العاملة المنظمة.

ومع ذلك، لا يطرح بشير أبو منّة إلا القليل عن البديل، فبعد أن أحبطته مذبحة الإبادة الجماعية في غزة، يقترح أن حركة التضامن مع فلسطين يجب أن تتعامل مع النضال كقضية قانون دولي لا تميز بين الظالم والمظلوم، المستعمِر والمستعمَر. في نظره، لم تجلب المقاومة المسلحة لحماس سوى الدمار والهزيمة. من وجهة النظر الأممية، فإن هذه الحجة فاشلة. الوضع في غزة مدمر، لكن ممارسات إسرائيل الإبادية تسبق أكتوبر 2023. في عام 2018، أعلنت الأمم المتحدة بالفعل أن قطاع غزة “غير صالح للعيش” بسبب الحصار الإسرائيلي. إن إسرائيل لا تنتقم ببساطة من هجوم 7 أكتوبر، بل تستخدمه كتبرير لرغبتها في محو غزة. في الواقع، لهذه الرغبة جذور عميقة في السياسة الإسرائيلية، ففي عام 1992، قال رئيس الوزراء إسحاق رابين: “أتمنى لو أستيقظ يومًا وأجد أن غزة غرقت في البحر”. علاوة على ذلك، فإن شدة الهجوم على المدنيين الفلسطينيين من جانب القوات الإسرائيلية ليست فريدة مطلقًا، فبين يونيو وأغسطس 1982، قُتل أكثر من 17 ألف شخص في لبنان على يد إسرائيل، بدعوى “الانتقام” من محاولة اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن.

يشرح الكاتب الفلسطيني توفيق حداد أنه قبل 7 أكتوبر، كانت الحركة الوطنية الفلسطينية “في وضع غير مرغوب فيه من تقلص قضيتها تدريجيًا بسبب الانقسامات الداخلية وقيود اتفاقيات أوسلو”، التي تفاقمت بسبب “صفقات التطبيع العربية مع إسرائيل وحقيقة أن لا أحد كان يحاسب إسرائيل فعلًا”. ومع ذلك، فإن الهجوم الإسرائيلي في أعقاب 7 أكتوبر قد أثار حركة تضامن عالمية غير مسبوقة، مع تظاهر المحتجين في الأردن ومصر والمغرب ضد أنظمتهم. بالإضافة إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، كانت هناك أيضًا تعبئات كبيرة لدعم الفلسطينيين في مراكز التحالف الإمبريالي الغربي، بما في ذلك الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا.

ظهرت ديناميكية مماثلة خلال الانتفاضة الثانية التي اندلعت في سبتمبر 2000. بدلاً من التنظيم الشعبي الجماهيري الذي شوهد خلال الانتفاضة الأولى، كانت الانتفاضة الثانية مرتبطة بالعمليات العسكرية النخبوية. ومع ذلك، أثارت أيضًا أعمال تضامن طلابية في مصر، والتي اعتبرت لاحقًا أولى علامات التنظيم الشعبي التي أدت إلى الثورة المصرية في عام 2011، مما هز أحد أعمدة الدعم القوية للدولة الإسرائيلية والإمبريالية بين الأنظمة العربية.

العامل الحاسم في الوضع الحالي هو الصمود العسكري للمقاومة الفلسطينية. يعترف بذلك الآن المحللون العسكريون الإسرائيليون أنفسهم وقسم متزايد من السكان الإسرائيليين. ورغم المزايا الساحقة في القوة النارية والتكنولوجيا العسكرية، فضلاً عن الدعم المتحمس من أقوى الدول على الكوكب، فشل الجيش الإسرائيلي في “القضاء” على حماس. لم تُهزَم الحركة الفلسطينية أيضًا. على العكس من ذلك، أعادت حماس السيطرة السياسية في مناطق من غزة زُعم أن القوات الإسرائيلية قد احتلتها قبل أشهر، مما دفع المسؤولين الإسرائيليين إلى تصور “معركة طويلة الأمد” وتوقع أن قواتهم ستفشل في تحقيق أهدافها العسكرية حتى عام 2026 أو 2027.

حتى عند الجدال ضد إستراتيجية تعتمد فقط على العمل العسكري، لا يمكننا إنكار حقيقة أن المقاومة المسلحة قد أطلقت موجات صادمة لدول في مركز الإمبريالية الغربية. ومع ذلك، تُظهر تجربة الماضي أن النضال المسلح لا يمكن أن يكون بديلًا عن الأممية العمالية والقوة التي يمتلكها العمال في أيديهم ضد النظام العالمي للرأسمالية والإمبريالية. حتى لو كانت تلك القوة مقموعة حاليًا في الشرق الأوسط، فمن المؤكد أن المنطقة المحيطة بفلسطين هي التي لديها أكبر فرصة لتغيير التوازن لصالح الثورة ضد الدولة الإسرائيلية، مما يخلق إمكانيات لتفكيك دائم للآلة الحربية الصهيونية. وكما جادل كُتَّاب آخرون في هذه المجلة (مجلة الاشتراكية الأممية) على مدار سنوات عديدة، فإن الطبقة العاملة المصرية على وجه الخصوص لديها القدرة على تعميق الأزمات الناجمة عن النضال الفلسطيني لكل من الدولة الإسرائيلية والولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. يتمتع العمال المصريون بالقدرة على تهديد استقرار النظام العسكري في مصر، والذي يعد قناةً رئيسية للنفوذ الإمبريالي في المنطقة.

في وقت كتابة هذه السطور، ما تزال ديكتاتورية المشير عبد الفتاح السيسي تفرض الهدوء على شوارع مصر وأماكن العمل، مستخدمة أدوات القمع الوحشي. ومع ذلك، ما تزال تطارد السيسي تجربة الثورة المصرية في عام 2011، التي كانت ذات صلة عضوية مهمة بالنضال الفلسطيني وتضامن الجماهير المصرية مع فلسطين المحتلة.

لم يحاول اليسار الفلسطيني بجدية اتباع إستراتيجية متسقة للتنظيم ولتطوير التنظيم الذاتي للطبقة العاملة وقوتها، سواء داخل فلسطين التاريخية أو في المنطقة الأوسع أو عبر الشتات الفلسطيني. فشلت التشكيلات اليسارية التاريخية في كسر فكرة أن الأعمال البطولية للأقلية المسلحة، بدلًا من النشاط الذاتي للملايين، ستفتح الطريق للتحرير الوطني للشعب الفلسطيني من الاستعمار الاستيطاني.

وكما حاولت أن أبيِّن من خلال هذا التحليل التاريخي لصعود وهزيمة اليسار الفلسطيني، كانت الأزمة التي واجهها اليسار خلال الانتفاضة الأولى أزمة قيادة. اعتمدت قيادة المنظمات اليسارية الفلسطينية على العمليات المسلحة النخبوية ودعم الدول العربية. خلال الانتفاضة، لم يكن هناك حزب ثوري متجذر في الطبقة العاملة يمكن أن يقدم بديلًا واضحًا لاستسلام منظمة التحرير الفلسطينية.

إن الدعم غير المشروط لكل المقاومة الفلسطينية يجب أن يكون مصحوبًا بمشاركة جادة في المناقشات حول كيف يمكن للمقاومة أن تكون أكثر فعالية وكيف يمكنها تحقيق التحرير في نهاية المطاف. نحن بحاجة إلى مناقشة الأخطاء التي ارتُكِبَت في الماضي وإلى الحوار حول الإستراتيجيات التي يمكن أن تنجح. إن الحاجة إلى بناء إستراتيجي لأحزاب ثورية –في فلسطين المحتلة وخارجها– قادرة على الارتقاء إلى مستوى التحدي المتمثل في إطاحة الاستعمار الصهيوني، تتزايد مع مرور كل يوم تتواصل فيه الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني.

* المقال بقلم: رمسيس كيلاني، اشتراكي ثوري في ألمانيا وعضو في مجموعة “الاشتراكية من الأسفل” (Sozialismus von unten).
* منشور في مجلة الاشتراكية الأممية، 26 يونيو 2024



#رمسيس_كيلاني (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين ...


المزيد.....




- شاهد حجم الدمار الذي خلفه انفجار طائرة مسيّرة أطلقها الحوثيو ...
- محكمة العدل الدولية: المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية ...
- أول تلعيق من نتنياهو على رأي محكمة العدل الدولية بشأن المستو ...
- لافروف: دمشق حليف مهم على الصعيد الدولي
- سيناريوهات الرد الإسرائيلي بعد الهجوم -الحوثي- على تل أبيب
- عباس إبراهيم في بلا قيود: الإيرانيون لا يريدون نشوب حرب إقلي ...
- روسيا.. التحقيق في معلومات حول جثث مدنيين في أقبية منازل قتل ...
- مصر.. فيديو جديد للبلوغر هدير عبد الرازق يثير الجدل
- دونيتسك.. RT ترصد عمل المنظومات الجوية
- روسيا وسوريا.. تاريخ وعلاقات تزدهر


المزيد.....

- إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين ... / رمسيس كيلاني
- اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال / غازي الصوراني
- القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال ... / موقع 30 عشت
- معركة الذاكرة الفلسطينية: تحولات المكان وتأصيل الهويات بمحو ... / محمود الصباغ
- القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال ... / موقع 30 عشت
- المؤتمر العام الثامن للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين يصادق ... / الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حماس: تاريخها، تطورها، وجهة نظر نقدية / جوزيف ظاهر
- الفلسطينيون إزاء ظاهرة -معاداة السامية- / ماهر الشريف
- اسرائيل لن تفلت من العقاب طويلا / طلال الربيعي
- المذابح الصهيونية ضد الفلسطينيين / عادل العمري


المزيد.....


الصفحة الرئيسية - القضية الفلسطينية - رمسيس كيلاني - إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطيني